موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
افتُتح في بازيليك القديس يوحنا اللاتران في العاصمة الإيطالية روما، الأحد 26 تشرين الأول، المؤتمر الدولي الذي تُنظمه جمعية سانت إيجيديو، تحت عنوان "شجاعة الجرأة لتحقيق السلام"، بقداس إلهي ترأسه الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين.
ومتطرقًا إلى مَثَل الفريسي والعشّار (لوقا 18: 9-14)، أشار البطريرك بيتسابالا في عظته إلى أن "موقف الفريسي يبدو أوسع انتشارًا. إنه موقف الذين يثقون بالقوة، أو بالتفوق الأخلاقي، أو بالافتراض بأنهم على صواب. أولئك الذين، نتيجة لذلك، يمنحون لأنفسهم الحق في حكم الآخرين وتفسيرهم كما يشاءون: «اللَّهُمَّ، شُكرًا لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالِمينَ الفاسِقين، ولا مِثْلَ هٰذا الجابي»".
ولفت إلى أنّ "هذا الموقف يمكن أن يكمن ليس فقط في قلوب الناس، بل أيضًا في العديد من المؤسسات، بما في ذلك مؤسساتنا نحن. بدلًا من بناء علاقات مع الله وصياغة روابط عادلة مع الآخرين، يبني هذا الموقف الحواجز، ويولّد سوء الفهم، ويغذّي العنف. كم من المعاناة يمكن أن يُسبّب باسم فكرة المرء الخاصة عن العدالة، المفروضة خارج سياق الاحترام والاستماع!".
وقال: "أُفكر، في هذه اللحظة، في أرضنا المقدّسة. فقد اجتاحنا كراهية عميقة ومدمّرة، مخلفة انقسامات بين الشعوب وداخل الشعوب نفسها. تتحوّل الآراء المختلفة، المشروعة، إلى أحكام قاسية تجرح العلاقات بعمق. ومثل الفريسي، يضع الكثيرون اليوم أنفسهم قضاة، مقتنعين بأنهم على صواب. لكن الإنجيل يذكّرنا بأنّ قوة حكمنا ليست ليست هي ما يُبرّرنا، بل صدق قلوبنا أمام الله".
وأضاف الكاردينال بيتسابالا: "تسود فكرة أن القوة شرط أساسي لبناء السلام، وأنّه لا يمكن فرض حل عادل للنزاعات إلا بالسلاح، وأنّ تحقيق العدالة تتطلب القضاء على الخصم. ومع ذلك، فقد رأينا ما أحدثه كل هذا من دمار مادي وبشري وروحي. يبدو أن زماننا موسومًا بالنزاعات، بالجراح المفتوحة، وبشعوب تنظر إلى بعضها البعض بشكّ أو خوف. الجميع مقتنع بأنه على صواب، وأن ما قاموا به ويستمرون في فعله مشروع، بل وضروري. إنها حلقة مفرغة يصعب كسرها".
وأكد نيافته: "بالطبع، هناك أيضًا الكثير من الألم. معاناة حقيقية، تستحق الاحترام والاهتمام، ولا يحق لأحد أن يقلل من شأنها. ولكن هذا ليس وقت التحليل السياسي أو الاجتماعي. نحن هنا لنسأل أنفسنا ما الذي يقترحه إنجيل اليوم على تفكيرنا في هذا اليوم المخصص لشجاعة الجرأة نحو السلام".
وأوضح بطريرك القدس للاتين أنّ "يسوع يُظهر لنا طريقة مختلفة للوقوف أمام الله وأمام الإنسان. طريقة لا تقوم على قوة أو تفوق أخلاقي، بل على صدق القلب. ففقط أولئك الذين يعترفون بضعفهم وحاجتهم إلى الرحمة يمكن أن يصبحوا أدوات للمصالحة".
وأشار إلى أنّ "السلام مبني على الإيمان والتوبة إلى الله، على الوقوف أمامه بالطريقة الصحيحة، كما فعل العشّار، وليس كما فعل الفريسي. عندما نعترف أننا بدون الله لا نستطيع شيئًا. أما إذا بنينا التعايش الإنساني على نماذج بشرية بحتة، وعلى فكرة القوة والتفوق، فنحن نبني على الرمل، وهو بناء سينهار في النهاية. عندما يصبح الإنسان سيد نفسه، ينتهي به المطاف إلى الهلاك. وعندما تشعر المؤسسات، بدلًا من خدمة مجتمعاتها، بأنها أعلى وأكتفى بذاتها، فإنها تجلب الخراب".
وأكد الكاردينال بيتسابالا أنّ "السلام لا يُبنى بالتصريحات، بل بالقلوب التي تسمح لنفسها بأن تمسّها يد الله ويد الآخرين. قلوب منفتحة على رغبة الحقيقة، قادرة على الحوار، حتى الحوار الجدلي. الاعتراف بضعفنا يسمح لله أن يعمل فينا. وعندما نعترف بحاجتنا إلى الرحمة، فإننا أيضًا نسمح للآخرين أن يظهروا لنا الرحمة. والرحمة هي أساس كل عدالة، التي يمكن على أساسها بناء سلام متين وحقيقي".
وشدّد على أنّ "السلام ليس مجرد اتفاقية اجتماعية، أو هدنة، أو اتفاق مؤقت، أو غياب الحرب، مهما كانت الجهود الدبلوماسية أو التوازنات الجيوسياسية ضرورية. السلام هو الاعتراف بالحقيقة وبكرامة كل إنسان؛ هو معرفة كيفية رؤية وجه الله في الآخرين. عندما يختفي وجه الآخر، يختفي وجه الله أيضًا، ومعه تختفي إمكانية السلام الحقيقي. لا أحد يعيش في جزيرة: تدمير وجه الآخر يعني تدمير وجهنا".
وأكد غبطته أنّ "لبناء السلام، لا بد من معرفة كيفية رؤية الآخر، ولكن أيضًا التساؤل عن كيفية نظرنا إليه، خاصة فيما يتعلق بالفقراء والمظلومين. هذه هي مهمة الكنيسة: لفت نظر العالم إلى حياة أولئك الذين يفضل الكثيرون عدم رؤيتهم أو مقابلتهم، لكنهم موجودون، وهم حقيقيون، وينتظرون استجابتنا".
ولفت إلى أنّ "السلام هو ثمرة العدالة والحقيقة والرحمة. إنه وجه الله المنعكس في وجوهنا عندما نسمح لأنفسنا بأن نتصالح معه ومع بعضنا البعض". وأشار إلى أنّ "الرحمة، والعدالة، والحق، والسلام: كلمات مركزية لحياة العالم، لكنها قد تبدو بعيدة عن التجربة الملموسة للعديد من الشعوب. كلمات مُلّحة، لكنها في الأرض المقدّسة –التي أتيتُ منها– أحيانًا تسبب الإزعاج، لأنها تبدو شعارات، كلمات خاوية، بعيدة عن واقع أولئك الذين سحقهم صراع قديم".
وأوضح الكاردينال بيتسابالا أن "شهادة الأشخاص الشجعان –عشّار اليوم– حتى في مأساة زماننا، قد أعادت لهذه الكلمات واقعيتها وصدقها. إنها شهادة أولئك الذين يعرفون كيف يقرعون صدورهم (لوقا 18:13)، ويعترفون بأنهم بحاجة إلى الرحمة، وبالتالي قادرون على تقديمها؛ أولئك الذين يميلون نحو جراح الآخرين؛ الذين يرون وجه الله في الآخرين".
وأشار إلى أنّ "الشباب الذين، في السابع من أكتوبر، فقدوا معظم عائلاتهم وأصبحوا يكرسون وقتهم لمساعدة العائلات الأخرى التي دمرها ذلك اليوم. آخرون يقدمون الحماية تحت القصف. عائلات جائعة تشارك القليل الذي لديها مع من فقد كل شيء. شباب يغامرون بحياتهم لمساعدة الجرحى والمرضى. أمهات يتعاونّ للاعتناء بالأطفال الذين تُركوا وحيدين. معلمون بلا مدارس لا يستسلمون في البحث عن طلابهم لمواصلة تعليمهم. والعديد غيرهم".
وتابع: "نحن بحاجة إلى هؤلاء الشهود. بحاجة إلى من يضعون أنفسهم بتواضع في خدمة الله والإنسانية، حتى وسط الدمار البشري الذي شهدناه خلال الأشهر الماضية. لقد قابلنا العديد من هؤلاء الأشخاص. لقد كانوا، ويستمرون في كونهم، أدوات لا غنى عنها للتعزية والرجاء لكثيرين. وهم الذين سيعيدون بناء نماذج جديدة للتعايش من بين أنقاض هذا الزمن".
وأكد غبطته أنّه "لم يضَع كل شيء بعد. لا يزال هناك أناس صالحون قادرون على تحقيق العدالة الإلهية، وجلب المصالحة والتعزية، والاعتراف ببعضهم البعض كإخوة وأخوات، كأبناء محبوبين، والمجازفة بأنفسهم للحفاظ على صورة الله في العالم. طالما أنهم موجودون، سيكون من الممكن أن تُعطى كلمات مثل العدالة، والغفران، والحق، والسلام مضمونها الحقيقي. وأن نؤمن بعد بأنها ممكنة، حتى في الأرض المقدّسة".
ودعا البطريرك الحضور قائلاً: ""دعونا نطلب من الرب اليوم أن يمنحنا قلبًا جديدًا. قلبًا يعرف كيف يبكي على آلام العالم، لا ينغلق على نفسه خوفًا، بل يفتح نفسه للثقة. قلبًا يعرف، مثل قلب العشّار، كيف يقول: «يا الله، ارحمني أنا الخاطئ»، ويبدأ من هناك من جديد.
وخلص بطريرك القدس للاتين إلى القول: "نشكر جماعة سانت إيجيديو على التزامها الدؤوب ببناء جسور السلام حيث يقيم العالم الجدران. فقط القلوب المتصالحة تستطيع أن تصالح. فقط القلوب المُبررة تستطيع أن تُبرّر. فقط القلوب المُسالمة تستطيع أن تجرؤ على صنع السلام".