موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تحدث قداسة البابا لاون الرابع عشر، اليوم الأربعاء، في المقابلة العامة مع المؤمنين، عن سر يوم السبت المقدس، وذلك في إطار تعليمه حول موضوع "يسوع المسيح هو رجاؤنا".
وأوضح أن المسيح أتم في يوم السبت المقدس عمل خلاص غير منظور، بنزوله إلى الجحيم ليعلن القيامة من بين الأموات لكل الذين هم في الظلمات وظلال الموت. وأكد أن هذا الحدث يكشف عمق محبة الله للإنسان، إذ لم يتوقف أمام خطيئته، بل جاء ليبحث عنه في هوة الجحيم ليحرره ويقيمه.
وأشار إلى أن الجحيم لا يمثل فقط حالة الذين ماتوا، بل أيضًا حالة الذين يعيشون الموت بسبب الشر والخطيئة. وأضاف أن المسيح يدخل في كل جوانب حياتنا المظلمة ليشهد لنا على محبة الآب ويخلصنا، فهو لم يخلص نفسه فقط، ولم يرجع إلى الحياة وحده، بل أحيا معه البشرية كلها.
وختم البابا لاون الرابع عشر تعليمه بالقول إن السبت المقدس هو اليوم الذي تمس فيه رحمة الله تاريخ البشر بأسره، وهو اليوم الصامت الذي فيه يقدّم المسيح الخليقة كلها إلى الآب ليضعها من جديد في تدبيره الخلاصي.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
اليوم أيضًا نتوقّف عند سرّ يوم السّبت المقدّس. إنّه يوم السّرّ الفصحيّ الذي بدا فيه كلّ شيء ساكنًا وصامتًا، وفي الحقيقة تحقّق فيه عمل خلاصٍ غير منظور: نزل المسيح إلى مملكة الجحيم ليحمل إعلان القيامة من بين الأموات إلى كلّ الذين كانوا في الظّلمات وظلال الموت.
هذا الحدث، الذي سلّمته إلينا الليتورجيّا والتّقليد، هو أعمق علامة ودلالة على محبّة الله للبشريّة. في الواقع، لا يكفي أن نقول أو أن نؤمن بأنّ يسوع مات من أجلنا: بل من الضّروري أن ندرك أنّ أمانة حبّه شاءت أن تبحث عنّا، هناك حيث نحن ضللنا، وهناك حيث لا يمكن أن تصل إلّا قوّة النّور القادر على أن يخترق سلطان الظّلمات.
الجحيم، بحسب مفهوم الكتاب المقدّس، ليس مكانًا بقدر ما هو حالة حياتيّة: تلك الحالة التي فيها تضعف الحياة، ويسودها الألم والعزلة والشّعور بالذّنب والانفصال عن الله وعن الآخرين. المسيح يصل إلينا في هذه الهاوية أيضًا، ويعبر أبواب ملكوت الظّلام. يدخل، إن صحّ التّعبير، إلى بيت الموت نفسه، ليُفرغه، وليُحرّر سكّانه، فيأخذهم بيدهم واحدًا واحدًا. إنّه تواضع إله لا يتوقّف أمام خطيئتنا، ولا يخشى رفض الإنسان الأقصى له.
بطرس الرّسول، في المقطع القصير من رسالته الأولى الذي أصغينا إليه، يقول لنا إنّ يسوع، الذي أُحيِيَ بالرّوح القدس، ذهب ليحمل بشرى الخلاص إلى "الأَرواحِ الَّتي في السِّجْنِ أَيضًا" (1 بطرس 3، 19). إنّها صورة مؤثّرة جدًّا، لا نجدها في الأناجيل القانونيّة، بل في نصٍّ منحول يُدعى إنجيل نيقوديمُس. بحسب هذا التّقليد، دخل ابن الله في أحلك الظّلمات ليصل أيضًا إلى آخر أخٍ وأختٍ له، وليحمل أيضًا نوره إلى هناك. في هذه العلامة تكمن كلّ قوّة وحنان الإعلان الفصحيّ: الموت لن يكون له أبدًا الكلمة الأخيرة.
أيّها الأعزّاء، نزول المسيح إلى الجحيم لا يمسُّ فقط الماضي، بل يمسُّ حياة كلّ واحد منّا. فالجحيم ليس فقط حالة الذين ماتوا، بل أيضًا حالة الذين يعيشون الموت بسبب الشّرّ والخطيئة. إنّه أيضًا جحيم العزلة اليوميّ، والخجل، وترك النّاس لنا، وصعوبة العيش. المسيح يدخل في كلّ هذه الحقائق المظلمة ليشهد لنا على محبّة الآب. لا ليديننا، بل ليحرّرنا. ولا ليحكم علينا، بل ليخلّصنا. هو يقوم بذلك بدون ضجيج، وبخطوات خفيفة، مثل الذي يدخل إلى غرفة في المستشفى ليقدّم العزاء والمساعدة.
وصف آباء الكنيسة، في صفحات رائعة الجمال، هذه اللحظة كأنّها لقاء: اللقاء بين المسيح وآدم. لقاء يرمز إلى جميع اللقاءات الممكنة بين الله والإنسان. الرّبّ يسوع ينزل هناك حيث يختبئ الإنسان من الخوف، ويدعوه باسمه، ويأخذه بيده، ويُقيمه، ويُعيده إلى النّور. هو يقوم بذلك بسلطان كامل، ووداعة غير متناهية أيضًا، مثل الأب مع ابنه الذي يخشى ألّا يحبّه ابنه.
في أيقونات القيامة الشّرقيّة، المسيح يُصوَّر وهو يحطّم أبواب الجحيم، ويبسط ذراعيه ويمسك بمعصمَي آدم وحوّاء. لم يخلّص نفسه فقط، ولم يرجع إلى الحياة وحده، بل جلب معه كلّ البشريّة. هذا هو المجد القائم من بين الأموات الحقيقيّ: إنّه سلطان المحبّة، وتضامن الإله الذي لا يريد أن يخلّص نفسه من دوننا، بل معنا، فقط. إنّه إله لا يقوم من بين الأموات إن لم يعانق بؤسنا ويُقيمنا لحياة جديدة.
إذًا، يوم السّبت المقدّس هو اليوم الذي تزور فيه السّماءُ الأرضَ في أعماقها. هو الوقت الذي يلمس فيه نور الفصح كلّ زاوية من تاريخ البشريّة. وإن استطاع المسيح أن ينزل إلى هناك، فلا يُمكن أن يُستبعد أيّ شيء من فدائه. ولا ليالينا، ولا خطايانا القديمة، ولا علاقاتنا المتكسّرة. لا يوجد ماضٍ مدمَّر، ولا تاريخ متضرّر لا يمكن أن تمسّه الرّحمة.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، بالنّسبة لله، النّزول إلى الجحيم ليس هزيمة، بل تحقيق لمحبّته. وليس فشلًا، بل هو الطّريق الذي يبيِّن أنّه لا يوجد مكان بعيد جدًّا، ولا يوجد قلب مغلق جدًّا، ولا يوجد قبر مختوم بإحكام أمام محبّته. هذا الأمر يعزّينا، ويسندنا. وإن بدا لنا أحيانًا أنّنا على الحضيض، لنتذكّر: ذلك هو المكان الذي يستطيع الله به أن يبدأ فينا خلقًا جديدًا، وفي أشخاص يقيمهم، وقلوب يغفر لها، ودموع يمسحها. يوم السّبت المقدّس هو العناق الصّامت الذي به يقدّم المسيح كلّ الخليقة إلى الآب ليضعها من جديد في تدبيره الخلاصيّ.