موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ١٥ يونيو / حزيران ٢٠٢٥
الأب فراس عبد ربه يكتب في عيد الثالوث الأقدس

الأب فراس عبد ربه :

 

نحتفل في هذا اليوم بعيد الثالوث الأقدس، وهو يوم الأحد الأول الذي يلي أحد العنصرة في التقويم الليتورجي للكنيسة اللاتينية.

 

الله في ذاته: الله الأزلي القادر على كل شيء والعالِم بكل شيء: الواحد ومثلث الأقانيم.

 

ما الذي يميّز هذا الاحتفال؟

 

إنّه اليوم الذي فيه تحتفل ليتورجية الكنيسة بالله "لذاته"، "لما هو عليه"، "في جوهره وفي ذاته ولأجل ذاته" (Deus per Se)، لكونه المحبة الأزلية. ولكونه القادر على كلّ شيء. ولكونه العالِمُ بكل شيء... أي بكل بساطة: لكونه الله! الواحد والأحد، وأيضاً مثلَّث الأقانيم.

 

أمّا أن الله واحد أحد، فهو جوهر الإيمان بالله في الكتاب المقدس، بعهديه. فإن عقيدة "التوحيد"، أي وجود إله واحد، لا مجموعة من الآلهة، هي عقيدة تقع في مركز الإيمان اليهودي والمسيحي بالله، مقارنة بالكثير من الديانات الأخرى غير الموحّدة. وهي أيضًا العقيدة التي ستبرز كمكوّن مؤسِّس وأساسي للإسلام لاحقًا.

 

لكن، في المسيحية، وعلى خلاف مفهوم "التوحيد الصارم" في اليهودية والإسلام، فإنّ وحدانية الله ليست جمودًا، بل مصدر حياة وحركة منبعها حب أزلي وحيّ هو في جوهر الله، وهو جوهر الله بالذات. فقد كشف يسوع لتلاميذ بكل وضوح، أن "الله محبّة" (1 يوحنا 4: 16). ولم يكتفي بهذا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك في كشفه عن سرّ الله في ذاته، مشيرًا إلى وجود نوع من "العلاقات" داخل الحياة الإلهية، عبر عنها مستخدمًا مصطلحات الأب، والإبن، والروح القدس.

 

لاحقًا، في تاريخ الكنيسة المبكر، رأى المسيحيون ضرورة توضيح هذه الحقيقة، وتثبيتها كعقيدة، من خلال المجامع المسكونية، محاولين إيجاد أنسب وأقرب المصطلحات البشرية للتعبير عن هذا "السرّ"، بناء على معطيات حقيقية أتتنا من خلال الوحي الذي كشفه لنا يسوع المسيح. وقد اتفق المسيحيون على تسمية هذه الحقيقة "بالثالوث الأقدس"، معلنينها عقيدة ايمانية، وهو ما درجت عليه الكنائس المسيحية الرسولية حتى يومنا هذا.

 

وإن هذه العقيدة أصبحت نواة استخدمتها الكنيسة، في مجمعي نيقية (325 ميلادي) والقسطنطينية (381 ميلادي)، لتبني من حولها هيكلية قانون إيمانها ومحتواه، الذي يعلنه كل المسيحيين في كنائسهم منذ 1700 عام (هذا العام هو سنة يوبيل).

 

"الله من أجلنا": "من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا" (قانون الإيمان)

 

هل الله موجود حقًا؟ من هو الله؟ ما هو شكل علاقتنا به؟ ما هي مكانته الصحيحة في حياتنا؟

 

أسئلة كثيرة، تمت محاولة تقديم إجابات عليها على مر الأجيال، ولكن أيًّا من هذه الإجابات يبدو حتى اليوم جوابًا شاملاً ووافيًا أو مقنعًا للجميع. ولهذا ندعوه في النهاية "بسرّ الله". قد نفهم منه شيئًا، لكننا أبدًا لن نفهمه بالكامل. "نحن نبحث عن الله لأننا وجدناه" يقول القديس أغوسطينوس. لذلك، فإن كل الديانات، بما فيها ديانتنا المسيحية، قد أطلقت على الوسيلة التي يصل فيها الإنسان إلى "معرفة" الله، بــ"الإيمان". والإيمان، أي التصديق أو الثقة، لا يأتي من جهد عقلي فقط، بل وأيضًا من "اختبار وعلاقة": أنا أثق بشخص ما، على سبيل المثال، و"أومن به" نتيجة لخبرة عشتها معه واختبار وجداني وملموس، وتواصل وعلاقة، تفوق الحُجَجَ العقلية المجرّدة.

 

وكذلك حالنا مع الله! "ذاك الذي كان منذ البدء ذاك الذي سمعناه ذاك الذي رأيناه بعينينا ذاك الذي تأملناه ولمسته يدانا من كلمة الحياة, لأن الحياة ظهرت فرأينا ونشهد ونبشركم بتلك الحياة الأبدية التي كانت لدى الآب فتجلت لنا ذاك الذي رأيناه وسمعناه ,نبشركم به أنتم أيضًا لتكون لكم أيضًا مشاركة معنا ومشاركتنا هي مشاركة للآب ولابنه يسوع المسيح" (1 يوحنا 1: 1–3).

 

هذا هو الله عندما "يخرج من ذاته". الله الذي خلق العالم، الله الذي يعتني بخلقه، الله الذي يدعو خليقته من بني البشر إلى مشاركته حياته الإلهية في ذاته. هذا هو "الله من أجلنا" (Deus pro nobis). "ففيه حياتنا وحركتنا وكياننا" (أعمال الرسل 17: 28).

 

أن نعيد لله مكانته في عالمنا، يعني أولاً أن نحيا منه ونتحرك بقوته ونبني وجودنا عليه: التبشير الجديد.

 

نسمع في القراءة الثانية: "لَمّا نِلنا البِرَّ بالإيمان، نَعِمنا بالسَّلامِ مع اللّه بِفَضلِ رَبِّنا يسوعَ المَسيح، وبِفَضلِهِ أيضًا بَلَغَتْنا بِالإِيمانِ هذِه النِّعمَة، الَّتي فيها نَحنُ قائِمون". هذا هو التبشير الجديد لعصرنا. لا محاولة "إقناع" العالم بسلسلة من "المسلمات العقائدية" أو "الاثباتات" العقلية والفكرية (وهي مهمة جدًا، لكنها غير كافية)، ولكن قبل كل شيء، إقناع العالم بأسلوب حياتنا المبنية على الله، من خلال شهادة حياة تتمتع "بالمصداقية". "أنتم نور العالم.. أنتم ملح الأرض.. يرى الناس أعمالكم الصالحة فيمجدون أباكم الذي في السموات".

 

لذلك فإن أي تبشير جديد نحو الخارج (Ad extra) هو بالضرورة نتيجة لتبشير جديد أولاً نحو الداخل(Ad intra) . وهذا الأخير، يتم عند أقدام الرب، في الصلاة المستمرة، والسجود أمام سرّه الإلهي، والإصغاء إلى ما يكشفه لنا الروح القدس باستمرار: "لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها. فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لا يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث. سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُطلِعُكُم عَلَيه. جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُطلِعُكُم عَلَيه". آمين.