موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥
إعادة افتتاح كنيسة مار توما وكنيسة الطاهرة في الموصل بعد دمار داعش

أبونا :

 

عندما استولى تنظيم "داعش" على شمال العراق عام 2014، تحوّلت مدينة الموصل -ثاني أكبر المدن عراقية والمبنية على أنقاض نينوى القديمة- إلى عاصمة له للتنظيم المتطرّف. في تلك السنوات القاتمة، دُنّست الأماكن المقدسة للأقليات الدينية المتجذّرة في أرض الرافدين، من المسيحيين والإيزيديين وغيرهم، واضطر المؤمنون إلى الفرار تاركين خلفهم منازلهم وكنائسهم وأحلامهم.

 

وحين تحرّرت المدينة عام 2017، بعد حصار مرير دام عامًا، كانت الموصل تقف على أنقاضها. المنازل مهدّمة، والكنائس محروقة، والذاكرة مثقلة برائحة الرماد. لكن وسط هذا الركام، ظلّ بصيص الأمل يتوهّج في عيون من آمنوا أن القيامة ممكنة.

 

إعادة تدشين كنيسة مار توما للسريان الأرثوذكس

بصيص أمل يتحوّل إلى واقع

 

بعد سنوات من العمل الدؤوب، شهد يوم الأربعاء 15 تشرين الأول 2025، حدثًا استثنائيًا في قلب الموصل القديمة: افتتاح كنيستين تاريخيتين مُرمّمتين هما كنيسة مار توما للسريان الأرثوذكس (تعود إلى القرن السابع) وكنيسة الطاهرة الكلدانية (القرن الثامن عشر).

 

وقال الكاردينال لويس رافائيل ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية، بكلمات مؤثرة:

 

"هذه الكنائس هي جذورنا وتاريخنا.. علينا أن نحافظ عليها".

 

احتشد المئات من أبناء المدينة، ورجال الدين، والساسيين المحليين، أمام حجارة الكنائس العتيقة التي استعادت أنفاسها من جديد. وكانت كنيسة مار توما قد استُخدمت كسجن من قِبل ما يُسمى بـ"تنظيم الدولة الإسلامية"، الذي ألحق أضرارًا فادحة بباب الرسل الاثني –المنحوت من الرخام المحلي في القرن القرن الثالث عشر، قبل أن يُعاد ترميمه بجهود عراقية وفرنسية مشتركة.

تدرّب فادي لمدة ثلاث سنوات قبل أن يساعد في ترميم بوابة الرسل الاثني عشر

"علامة أمل"

 

فادي، البالغ من العمر 27 عامًا، أحد شباب الموصل الذين شاركوا في ترميم الباب التاريخي، قال لوكالة فاتيكان نيوز: "إعادة فتح الكنائس علامة أمل... إنّها تُظهر للمسيحيين المقيمين في الخارج أن الأمور أفضل الآن، وأنهم يستطيعون العودة إلى ديارهم".

 

فادي، وهو مسيحي من أبناء المدينة، أمضى ثلاث سنوات في التدريب على تقنيات الترميم قبل أن يشارك في المشروع، ليتحوّل عمله إلى شهادة حيّة على إرادة الموصل في النهوض من جديد.

البطريرك ساكو يكرس مذبح كنيسة الطاهرة ويحتفل بالقداس فيها

أعمال الترميم والتكريس

 

بدأ مشروع الترميم عام 2022 بتمويل من صندوق "ألف" (ALIPH)، المُخصّص لحماية وإعادة تأهيل التراث الثقافي العالمي، بالتعاون مع مؤسّسة "لوفر دوريان – عمل المشرق" الكاثوليكية الفرنسية، التي تُعنى بخدمة المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط.

 

وقد أُعيد تكريس كنيسة مار توما في احتفال أرثوذكسي الأسبوع الماضي، بينما جرى تكريس كنيسة الطاهرة يوم الخميس، في احتفال مهيب ترأسه الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بمشاركة راعي الأبرشية المطران نجيب ميخائيل، والمعاون البطريركي المطران باسيليوس يلدو، ومدير مؤسّسة "عمل المشرق" المونسنيور هوغ دو ويليمونت، وعدد من الكهنة والرهبان والراهبات، وحضور غفير من المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم بالفرح والدموع.

 

وقال مدير مؤسّسة "عمل المشرق": "اليوم احتفال عظيم ليس فقط لمسيحيي الموصل، بل لجميع سكانها". وأضاف: "ستبدأ العبادة من جديد هنا... وستعود أجراس الكنائس" -التي كانت ذات يوم سمة معروفة للمشهد الصوتي في الموصل- "لتقرع من جديد".

بوابة الرسل الاثني عشر

الموصل تنهض من رمادها

 

إنّ عودة الأجراس إلى الموصل ليست مجرد حدث رمزي، بل علامة على ولادة جديدة لمدينةٍ حاول الإرهاب محو ذاكرتها. من بين الحجارة المتعبة تنهض الكنائس شاهدةً على أن الإيمان أقوى من الدمار، وأن النور، مهما تأخر، لا بدّ أن يعود ليملأ المآذن والقباب معًا.

 

ففي الموصل اليوم، لا تُرمَّم الكنائس فحسب، بل تُرمَّم الروح العراقية نفسها - تلك التي تجمع أبناءها رغم اختلافهم، وتقول للعالم من جديد: هنا كانت نينوى، وهنا ما زال الإنسان يؤمن بالرجاء. هنا تصلي المآذن إلى جوار الأجراس، ويتعانق الصوتان في نشيدٍ واحد: أن الحياة أقوى من الخوف، وأن الله لا يترك أرضه أبدًا.