موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٩ مايو / أيار ٢٠٢٥

"قلب الراعيّ الحقيقيّ" بين كاتبي سفر الـمزامير والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 99؛  يو 10: 27- 30)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 99؛ يو 10: 27- 30)

 

الأحدُ الرابع من زمن القيامة الـمجيدة (ج)

 

مُقدّمة

 

في هذا الأسبوع الرابع الّذي نحتفل فيه بزّمن الفصح الـمُقدّس، سنتابع مسيرتنا الكتابيّة فيما بين العهدَّين بين سفر الـمزامير وأحد النصوص الإنجيليّة. "قلب الراعيّ الحقيقيّ" هو مضمون نصيّ هذا الـمقال، ففي الـمزمور الـ 99 نقرأ كلمات الكاتب الّذي يدعونا إلى الحمد والتسبيح والسبب هو أمانة الله الراعي لغنمه وهو شعبه الّذي نُمثله نحن اليّوم. فيكشف لنا كاتب سفر الـمزامير بأنّ الرّبّ ليس فقط خالقنا بلّ هو أيضًا راعينا الحنون. على ضوء هذه الكلمات سنحلل في مرحلة أخرى كلمات كاتب الإنجيل الرابع (يو 10: 27- 30) والّذي يُدهشنا الإنجيلي بآيات قليلة ليكشف عن هويّة الراعي من جانب وأمانته تجاه خرافه الّذي يتميز بخصائص علائقيّة مع راعيه الإلهيّ. فالراعي الإلهيّ لازال يتكلم، ورعيته الّتي تتكون مني ومنك تُميز صوته لأنّها تنتمي له. نهدف في مقالنا هذا للتميّيز لصوت هذا الراعيّ الجميل الّذي يكشف عن حبه وهبته لحياته الأبديّة لخرافه الّتي تعرفه.

 

1. غنم الراعيّ (مز 99 "100")

 

يفتتح كاتب سفر الـمزامير هذا النشيد، الّذي ينتمي لأناشيد التسبيح والحمد للرّبّ، بدعوتنا للتهليل والهتاف للرّبّ الّذي يشبهه بصورة الراعي قائلاً: «اِهتِفوا لِلرَّبِّ يا أَهلَ الأَرضِ جَميعًا أُعبُدوا الرَّبَّ بِالفرَح أُدخُلوا إِلى أَمامِه بِالتَّهْليل» (مز 99: 2).  هذا الجو الّذي يتميز بالهتاف والفرح والتهليل في حضرة الرّبّ، من قِبلنا كشعب ننتمي لله، في هذا الزّمن الفصحي الّذي نشهد فيه بعمل الله لخلاصنا. ويدعونا الكاتب بالرجوع بذاكرتنا للوراء، مُذكراً إيانا بالتعرف على حقيقة الرّبّ إلهنا كراعي لنا، حيث يقول: «إِعلَموا أَنَّ الرَّبَّ هو الله هو صَنَعَنا ونَحنُ لَه نَحنُ شَعبُه وغَنَمُ مَرْعاه» (مز 99: 3). حين يسمع الغنم لصوت راعيها الإلهي لأنّه راعي حقيقي لا غش فيه تتمكن من التهليل بسبب الشعور بالأمان والإستقرار مع الراعي الـُمحب لها. لذا يختتم الكاتب بالتركيز على أمانة وجمال وصلاح الرب الّدائميّن للأبد قائلاً: «فانَّ الرَّبَّ صالِحٌ وللأبدِ رَحمَتُه وإِلى جيلٍ فجيل أَمانَتُه» (مز 99: 5).  على ضوء كلمات كاتب سفر الـمزامير سنرى صفات الراعيّ الحقيقيّ.

 

2. قلب الراعي الحقيقيّ (يو 10: 27- 30)

 

نسمع صوت يسوع بالإصحاح العاشر من الإنجيل الرابع وهو يتحاور مع اليهود الـمُتسائلين عن هويته الحقيقيّة. بفصل الشتاء وبالتحديد من الهيكل في مناسبة عيد تجديده (راج يو 10: 1). هذا الهيكل الّذي بناه سليمان الـملك إكرامًا لحفظ كلمات الرّبّ العشر وتعبيراً عن حضور الإلهيّ وسط الشعب من خلال كلماته (راج 2مل 1مل 6: 1ت). بعد خطاب طويل، من يسوع، عن علاقة الراعي برعيته وكشف الأخطار الّتي تأتي من السارق والأجير الّذين يستغلا ولا يهتما حقيقة بالقطيع. يجيب يسوع على بعض اليهود الباحثيّن عن إجابة قائلين: «حَتَّامَ تُدخِلُ الحَيرَةَ في نُفوسِنا؟ إِن كُنتَ المَسيح، فقُلْه لَنا صَراحَةً؟» (يو 10: 24). وهنا يأتي كشف يسوع الجديد عن ذاته مُستعينًا بصورة الراعي من خلال الحياة الزراعيّة الّتي تعتمد على تربية الخراف والإهتمام بالحقول في المحتمعات الـمعاصرة لزمن يسوع. بالرغم من حدّة وقساوة قلب اليهود المتسائلين وعنّدهم الباطني إذ لا يقبلون يسوع وهنا يكشف يسوع  هويته كاشفًا معها معاناتهم: «قُلتُه لَكُم ولكنَّكُم لا تُؤمِنون. إِنَّ الأَعمالَ الَّتي أَعمَلُها بِاسمِ أَبي هي تَشهَدُ لي. ولكِنَّكُم لا تُؤمِنون لأَنَّكُم لستُم مِن خِرافي» (يو 10: 25- 26). فيكشف يوحنّا في لّاهوته أنّ قلب الراعيّ لازال يتكلم وهناك مَن يصغي ويتبعه وهناك مَن يرفض برغبته وحريته وهو لا يجبر أحداً بالرغم من وضوح كلماته بشكل مباشر. من خلال الآيات الـمُستقطعة من هذا الإصحاح، وهذا أمر يزعجنيّ كثيراً بسبب إستقطاع الليتورجييّن قليلاً من الآيات من المقطع الطويل بالنص ولا يساعدنا على فهم مضمون النص (10: 22- 39). يمكننا أنّ نستشف بأنّ رسالة يسوع في هذا الزمن الّذي نُحييّ قيامته المجيدة إنّه لازال ينتمي كراعي للخراف الّتي تقبله كراعي ويستمر في رعايتها والإهتمام بها فهو لن يتركها.

 

من الجدير بالذكر، حينما نقرأ كلمات يسوع في زمن القيامة هذا وإستعادتنا لهذه الآيات بالتحديد يجعلنا نقرأها، على ضوء قيامته، فهو تعليم أعلّنه قبل عبوره لسرّه الفصحيّ. يُشدد يسوع في هذا النص، بالـمقطع الإنجيليّ (يو 10: 27- 30)، على حياة القطيع الأبديّة الّتي يضمنها راعيهم فقط، وهذا يجسده فقط بعد قيامته إذ فتح أبواب الحياة الأبديّة وحقّق  ما أعلنه قبل موته وقيامته. نوّد أنّ نتوقف على نقطتين هامين بحسب اللّاهوت اليوحناويّ إذ يتكررا في هذا الإصحاح مراراً من خلال فعليّ "يعرف" و "يؤمن".

 

3. معرفة الراعيّ (يو 10: 27-28)

 

في قول يسوع: «إِنَّ خِرافي تُصْغي إِلى صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني وأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة فلا تَهلِكُ أَبداً ولا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي» (يو 10: 27- 28). نكتشف أنّ الراعيّ وهو الراعي الجميل هو الّذي يعطي وقته وحبه وإهتمامه ومن حياته لرعيته بشكل كامل، لم يُفهم هذا قبل عبوره ولكن بموته وقيامته جسّد ما أعلنه قبلاً. خاصة إذ يهب لهم حياة ليس حياة أفضل فقط (راج يو 10: 10)، بل ملء الحياة وهي الحياة الأبديّة أي حياة الآب ذاته. الراعي الّذي يعرف رعيته، وهي الّتي تتميز بمعرفة صوته أي بتميّيز صوته بين أصوات كثيرة وهذا بدافع إيمانهم به. هذا ما حذّر منه يسوع مُتسأليه كما أشرنا قبلاً، عدم إيمانهم لم يساعدهم ليعرفوا هويته الحقّة بل الخراف البسيطة الّتي قبلت يسوع وتبعته وهبّ لها الحياة بمجانيّة. هذه هي النقطة الجوهريّة الّتي يُشدد عليها الإنجيليّ الّذي يربط بين الإيمان والـمعرفة من جانب الخراف نحو راعيها، فالخراف الّتي نجحت في التعّرف على صوت يسوع راعيًا لها تعلن إيمانها به وتتبعه عن وعي كراعي لها. مدعوين أنّ نستعيد علاقتنا بيسوع الراعي الجميل الّذي وهبنا حياته بفضل موته وقيامته وما علينا إلّا أنّ نجدد إيماننا به ونتدرب على معرفته كما هو في حقيقته كابن الله وواهب الحياة الأبديّة

 

يستخدم يسوع لفظ "صوتي" بضمير المتكلم (راج يو 10: 3- 4. 16)، وصوته هو السبب في "تبعيّة خرافه"، الخراف الّتي تسمع صوت يسوع تتبعه. وحتى مواضع الفعل "يسمع" ولفظ "صوت" الّتي تتكرر بالإصحاح العاشر ترافق بفعل "يتبع". لذلك علينا كخراف أنّ نستمع صوت ونتبع أقدام راعينا الحقيقيّ. ولكن ما هو الأساس في سماع صوت الراعيّ وتبعيّة خرافه؟ الجواب على هذا السؤال نجده في الأفعال الّتي يكون فيها يسوع هو الفاعل، فهو يعرف الخراف ويعطيها الحياة الأبديّة. إذا كان هناك إرتباط بين الاستماع والإتباع بالنسبة للخراف، فإنّ النص يخلق أيضًا ارتباطًا بين المعرفة والتضحية بالحياة (بكل من المعنيين) من أجل يسوع. في الكتاب المقدس المعرفة ليست حقيقة عقلانيّة بل تتعلق بشيء علائقي. نعرف شيئًا ما عندما نمر بتجربة ما أو بختبر علاقة مع شخص ما ونتأثر بها. لذا فأنّ "المعرفة" تنتمي إلى مفردات العلاقة. يعرفنا يسوع كخرافه لأنّه يحبنا إلى درجة "التضحية" بحياته وبالتالي "إعطائنا" الحياة الأبديّة. إنّها علاقة متبادلة مبنيّة على حبّ يسوع لخرافه أي نحن، حتى إنّه قدم حياته مُضحيًا بها. بالنسبة ليسوع فأنّ معرفة الخراف تعني بذل حياته من أجلهم حتى تكون لهم الحياة الأبديّة.

 

4. الرّبّ هو الراعيّ (يو 10: 29- 30)

 

كما إكتشفنا من كلمات كاتب سفر الـمزامير (99) والّذي قارن علاقة الله بشعبه كعلاقة الراعي بغنمه. هي ذات الصورة الّتي تعلن رعاية كاملة الله من خلال إبنه الّذي أرسله لتستمر رعياته لقطيعه البشري. يكشف يسوع صراحة أن ما بثّه له الله الآب وما إئتمنه عليه من رعايّة القطيع في كلماته الّتي يتغنى بها إذ يرانا كهبة من الله الآب له قائلاً: «إِنَّ أَبي الَّذي وَهَبَها لي أَعظمُ مِن كُلِّ مَوجود. ما مِن أَحَدٍ يستطيعُ أَن يَختَطِفَ مِن يَدِ الآبِ شَيئاً. أَنا والآبُ واحِد» (يو 10: 29- 30). يلّح يسوع على عظمة الله الآب الّذي يضمن حياة الابن الإلهيّ وحياتنا كأبناء له من خلال وحدتهم الحقيقيّة. هذه الوحدة بين الآب والابن تضمن الإستقرار والأمان لنا كخراف إذ لا يستطيع سارق أو أجير أنّ يختطف أي منا لأننا محفوظين في يد الآب ذاته. لذا حينما سلّمنا الآب لإبنه، إستودعنا كإخوة لأخينا البكر الّذي وهب حياته لأجلنا بقيامته. هذا ما يعلنه إيماننا بيسوع الابن الّذي مات وقام، وبالله الآب الّذي وهبنا ابنه من سخائه وفيض حبه خلاص الابن، وبقوة الرّوح القدس الّذي وحدّ الآب بالابن إذ وهبنا حياتهم الأبديّة بعمل الرّوح القدس. مدعويّن كرعيّة أنّ نقبل هذا الحبّ الثالوثي الّذي يفتحنا على الحياة الّتي وخبنا يسوع إياها بموته وقيامته وهي الحياة الأبديّة.

 

بالرغم من هذا الكشف الإلهي من قِبل يسوع، يأتينا ردّ فعل اليهود الغير مقتنعيّن بكلام يسوع بسبب عدم إيمانهم وتمييّز صوته إذ يكشف الإنجيليّ عن فعلهم قائلاً: «فَأَتى اليَهودُ بِحِجارَةٍ ثانِيَةً لِيَرجُموه [...] فحاوَلوا مرَّةً أُخرى أَن يُمسِكوه، فأَفلَتَ مِن أَيديِهم» (يو 10: 31- 39). بالرغم من تحذير يسوع العلنيّ لليهود إلّا إنهم إستمروا في رفضهم لهذه الحياة الأبديّة بعدم الإيمان بابن الله. لنمتحن قلوبنا لئلا يسيطر التديّن الزائف أو الإستمرار في قساوة القلّب فنرفض بجهلنا الحياة الأبديّة وهي حياة الثالوث.

 

الخلّاصة

 

من خلال تعمقنا في مزمور (99) الّذي يدعونا فيه الكاتب للتهليلي والفرح بالله راعيّنا، قرأنا جمال وحقيقة قلب الراعي الحقيقي الّذي أعلنه يسوع وهو الراعي الجميل بحسب يوحنّا (10: 27-30). وأدركنا في هذا النص ميزة أساسية لعيد الفصح حيث رأينا يسوع  القائم في صورة "الراعي الحقيقي" الّذي حقّق ما قاله بموته وقيامته. لكن تنصيبه راعيًا يأتي من الآب بفضل الحياة الّتي بذلها، وهو حدث مختوم نهائيًا بالقيامة. إنها علاقة متبادلة لا رجعة فيها. العلاقة الأبديّة تمّـت بفضل يسوع القائم الّذي وهبنا حياته وجعل علاقة بينه وبيننا كخرافه، فهو راعي لأنّه الحمل الّذي بذل حياته تعرفنا على السبب الّذي جعل يسوع أنّ يمنح "الحياة الأبديّة" لنا كخراف غير قابلة للمحو وهي حياة نهائية فهو يجذبنا إلى العلاقة بينه وبين الآب. يتطلب هذا الحبّ قبولنا لحياة الله الّذي بمشاركتنا في هذه العلاقة سنعيش علاقتنا مع الله الآب في يسوع بقوة الرّوح، فندرك أنّ حياتنا لديّها بالفعل وجه الأبدية. لكي ندرك كل ثراء هذين النصيّن يتعين علينا أنّ نقرأ كلّا منهما في سياقه الكتابي. إنّ إحدى ثمار الفصح الّتي تلقي ضوءًا جديدًا على تاريخنا هي بالتحديد إقامة يسوع راعيًا حقيقيّا يحاورنا بقلب الراعي الـمحب لنا فنحن خرافه. دُمنا خراف تسمع وتميّز صوت راعينا الحقيقيّ.