موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٩ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥
رجل أعمال على طريق القداسة: الفاتيكان يفتح باب تطويب إنريكي إرنستو شو

أبونا :

 

في إنجيل متّى، يقول يسوع لتلاميذه «أَن يَمُرَّ الجَملُ مِن ثَقْبِ الإِبرةِ أَيسَرُ مِن أَن يَدخُلَ الغَنِيُّ مَلكوتَ الله». وقد ترددت هذه الكلمات عبر القرون كتنبيه وتحدٍّ في آن، لا لأن الخلاص مستحيل على الأغنياء، بل لأنه يتطلّب جهدًا ومسؤولية خاصتين.

 

في 18 كانون الأول، أكّد الفاتيكان أن علمانيًا أرجنتينيًا واحدًا واجه هذا التحدي، معلنًا أن البابا لاون الرابع عشر صادق على معجزة نُسبت إلى شفاعة المكرَّم إنريكي إرنستو شو، ما يفتح لطريق أمام إعلان تطويبه، تمهيدًا لإمكانية إعلان قداسته في المستقبل.

 

شو، الذي توفي عام 1962 عن عمر 41 عامًا، لم يكن كاهنًا ولا راهبًا. بل كان زوجًا وأبًا لتسعة أبناء، وضابطًا بحريًا ورجل أعمال توفي وهو ميسور الحال. غير أن حياته، التي تميّزت بانسجام نادر بين الإيمان والعمل، جعلته من أبرز المرشحين القديسين القادمين في الأرجنتين.

 

وُلد شو عام 1921 في فندق الريتز في باريس لعائلة أرجنتينية، ونشأ في كنف النعيم، لكنه اختار مسارًا اتسم بالانضباط والخدمة والصلاة. أمضى معظم طفولته في الأرجنتين، لكنه عاش عامًا واحدًا في الولايات المتحدة مع والده وشقيقه بعد وفاة والدته وهو في الرابعة من عمره. وهناك نال سر التثبيت.

 

وعلى الرغم من أن والده كان كاثوليكيًا غير ممارس، فإنه أوفى بالوعد الذي قطعه لزوجته المحتضرة بتربية أولاده على الإيمان. ولا يزال شو أصغر خريج في تاريخ المدرسة البحرية الأرجنتينية، إذ التحق بها في سن الرابعة عشرة. وبحلول تقاعده في الرابعة والعشرين، كان قد بلغ رتبة ملازم.

 

سافر شو إلى الولايات المتحدة عدة مرات، لكن رحلة مفصلية جاءت عام 1945 عندما أوفدته البحرية الأرجنتينية لدراسة علم الأرصاد الجوية. وصل إلى نيويورك في 2 أيلول 1945، وهو اليوم الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية، وكان قد بدأ بالفعل مسار تحوّل داخلي. وخلال الرحلة، أجرى عدة حوارات مع المونسنيور رينولد هيلنبراند، كاهن من شيكاغو عُرف بتنشئة القادة الكاثوليك من خلال الانخراط الاجتماعي والعمل النقابي. أقنعه المونسنيور هيلنبراند بأنه لن يكون «مجرد عامل عادي»، بل قادرًا على إحداث فرق كرجل أعمال.

 

وبإرشاده، ترك شو البحرية ودخل عالم الأعمال، مقتنعًا بأن الحياة الاقتصادية ليست منفصلة عن الإنجيل، بل تشكّل أحد أكثر ميادينه تطلّبًا. وقد لفت هذا الربط انتباه البابا لاون الرابع عشر، ابن شيكاغو أيضًا. ففي رسالة وجّهها إلى المؤتمر الصناعي الحادي والثلاثين في الأرجنتين، كتب البابا أن حياة شو تُظهر أنه «من الممكن أن يكون الإنسان رجل أعمال وقديسًا في آن، وأن الكفاءة الاقتصادية والأمانة للإنجيل ليستا متعارضتين، وأن عمل الخير قادر أن يتغلغل حتى إلى البنى الصناعية والمالية».

 

أسّس شو الرابطة المسيحية لرجال الأعمال التنفيذيين في الأرجنتين. واستلهامًا من التنشئة التي نالها في كلية هارفارد للأعمال -حيث درس بدعوة خاصة من دون أن يتقدّم بطلب- ساهم أيضًا في تأسيس الجامعة البابوية في بلاده. وفي الوقت نفسه، تولّى منصب المدير التنفيذي لشركة عائلة زوجته «ريغوليو للأعمال الزجاجية»، ورُزق بتسعة أبناء، وترأس فرع الرجال في العمل الكاثوليكي في الأرجنتين، وساهم في تأسيس مكتب كاريتاس المحلي. وفي شركة ريغوليو، أنشأ صندوق تقاعد ونظام رعاية صحية لـ3400 عامل، موفّرًا لهم الرعاية الطبية والدعم المالي في حالات المرض وقروضًا للمناسبات المهمّة في حياتهم.

 

وجرى كل ذلك قبل وفاة شو بالسرطان عن عمر 41 عامًا، بعد صراع دام ست سنوات. وقد تبرع نحو 260 عاملًا بدمهم لمساعدة الرجل الذي كان يعرفهم بأسمائهم، ويسأل بانتظام عن عائلاتهم، ويحمل دفترًا صغيرًا يدوّن فيه احتياجاتهم. وقبيل وفاته، شكرهم قائلًا: «أستطيع أن أقول لكم إن معظم الدم الذي يجري الآن في عروقي هو دم العمال. وهكذا أصبحت، أكثر من أي وقت مضى، متحدًا بكم، أنتم الذين أحببتكم دائمًا واعتبرتكم لا مجرد منفذين، بل أيضًا شركاء في المسؤولية».

 

كان شو يفهم الأعمال لا كآلة ربح، بل كجماعة أشخاص. وإذ كان مقتنعًا بأن العمل يجب أن يخدم الكرامة الإنسانية، روّج لعلاقات عمل قائمة على الحوار والعدالة والاحترام، حتى وسط الصراعات الاجتماعية والسياسية الحادة التي شهدتها الأرجنتين في خمسينيات القرن الماضي. وقد قادته قناعاته إلى قرارات ملموسة. فكان من أبرز الداعمين لمفهوم «الأجر العائلي» في الأرجنتين، وهو جهد ريادي يهدف إلى ضمان أن تعكس الرواتب ليس فقط الإنتاجية، بل الاحتياجات الحقيقية لإعالة الأسرة. وبالنسبة إلى شو، لم يكن الأجر يومًا رقمًا مجردًا، بل وسيلة لعيش حياة كريمة.

 

وكان لالتزامه العلني بالإيمان ثمنه. ففي عام 1955، وخلال اضطهاد ديني شديد أعقب حرق الكنائس والمواجهة بين الدولة -بقيادة الرئيس خوان دومينغو بيرون- والكنيسة، اعتُقل شو مرتين بسبب نشاطه في العمل الكاثوليكي. وقد واجه المعارضة بسلام داخلي، من دون أن يفصل يومًا بين التقوى الشخصية والمسؤولية العامة. وبدعم من الراحل البابا الأرجنتيني فرنسيس، تقدّمت قضيته ببطء ولكن بثبات. غير أن ما فتح الباب النهائي كان شفاءً عجز الطب عن تفسيره.

 

في 21 حزيران 2015، تعرّض طفل في الخامسة من عمره لإصابة خطيرة في الرأس بعد أن ركله حصان قرب بلدة سويباتشا، خارج بوينس آيرس. وحذّر الأطباء العائلة من أن حالته بالغة السوء إلى حد قد يجعل الجراحة غير ممكنة. وأمام هذا التشخيص القاتم، أوكل الوالدان ابنهما إلى شفاعة شو.

 

نجا الطفل، وهو اليوم مراهق يعيش حياة طبيعية من دون أي آثار دائمة. وقد اعترفت الكنيسة رسميًا بالشفاء كمعجزة، ونشرت المرسوم في 18 كانون الأول بموافقة البابا لاون الرابع عشر. وقال فرنان دي إليثالدي، المشرف على الدعوى، إنه في اللحظة الحرجة صلّى والد الطفل قائلًا: «استبدل قداستك بصحة ابني».

 

ويشكّل هذا الإقرار محطة مهمة، ليس للأرجنتين فحسب، بل للكنيسة الجامعة التي تولي اهتمامًا متزايدًا لدعوة العلمانيين. وتقدّم حياة شو جوابًا ملموسًا عن أحد التحديّات الدائمة في المسيحية: كيف يُمكن للمرء أن يحيا في رغد العيش، وأن يتحمّل مسؤولياته، وأن ينعم بالثروة والسلطة دون أن يخسر نفسه؟