موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لوحات مايكل أنجلو الجدارية، وألوان القباب الزاهية، وروعة مشهد يوم الدينونة مع الإصبعين -إصبع الله وإصبع الإنسان- اللذين يكادان يلتقيان. صورة تعبّر جيدًا عمّا حدث في كنيسة سيستين، حيث الكنيسة الكاثوليكية وكنيسة إنجلترا، العضو في الاتحاد الأنغليكاني، ترفعان الصلوات معًا وتُسبحان الرب. حقيقتان تجسّدهما حضور البابا لاون الرابع عشر والملك تشارلز، القريبان في الحوار والسير على درب الوحدة. إنها لحظة تاريخية للكنيستين لم يشهدها العالم منذ خمسمئة عام.
وصل الملك تشارلز الثالث والملكة كاميلا إلى الفاتيكان عند الساعة 10:50 صباح اليوم الخميس 23 تشرين الأول 2025، بعد عبورهما قوس الأجراس، حيث جرت مراسم الاستقبال الرسمي في باحة سان دامازو، وفقًا للبروتوكول المتّبع في الزيارات الرسمية.
وعزفت الفرقة الموسيقية التابعة لقوات الدرك الفاتيكاني النشيد الوطني البريطاني (God Save the King)، فيما كان الحرس السويسري مصطفًّا لتحية الضيفين. بعد ذلك، دخل الملك تشارلز الثالث والملكة كاميلا إلى القصر الرسولي.
وعقب لقاء البابا لاون الرابع عشر بالملكين، بحسب ما أفاد به بيان صادر عن دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي، جرت لقاءات موازية؛ إذ زارت الملكة كاميلا كابيلا باولينا، فيما التقى الملك تشارلز في أمانة سرّ دولة الفاتيكان بالكاردينال بييترو بارولين ورئيس الأساقفة بول ريتشارد غالاغر، أمين سرّ العلاقات مع الدول والمنظمات الدولية.
وتناول اللقاء "العلاقات الثنائية الجيدّة بين الجانبين"، إلى جانب عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، مثل حماية البيئة ومكافحة الفقر. كما أولي اهتمام خاص بـ"الالتزام المشترك في تعزيز السلام والأمن في مواجهة التحديات العالمية". وفي الختام، ومع استحضار تاريخ الكنيسة في المملكة المتحدة، جرى التأكيد على أهمية مواصلة تعزيز الحوار المسكوني بين الكنيستين.
بدأت الصلاة المسكونية التي أُقيمت، باللغتين اللاتينية والإنجليزية عند الساعة 12:20 ظهرًا، لتكون بمثابة خاتمة رمزية للعلاقات الطيبة بين الجانبين، وتجسيدًا لرغبة الملك البريطاني، بصفته الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا، في أن تحمل زيارته الرسمية إلى الفاتيكان بُعدًا روحيًا عميقًا، خاصة في إطار يوبيل الرجاء.
وكانت الزيارة قد أُدرجت في الأصل لشهر نيسان الماضي، لكنها أُلغيت بسبب وفاة البابا فرنسيس. وقد أراد الملك تشارلز من خلالها أيضًا تسليط الضوء على الالتزام المشترك من أجل حماية الخليقة، وهو الموضوع الذي جمعه بالبابا الراحل فرنسيس، بعد مرور عشر سنوات على صدور الرسالة العامة "كن مسبَّحًا". وقد حرص البابا لاون الرابع عشر على مواصلة هذا النهج وتعزيزه، مؤكدًا أن رعاية الخليقة تبقى من أولويات رسالة الكنيسة الكاثوليكية في العالم اليوم.
عكس الطابع المسكوني للاحتفال منذ البداية في النشيد الذي استهلّ الصلاة، إذ كان النصّ من تأليف القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو، أحد معلّمي الكنيسة، وأُنشد بترجمة إنجليزية وضعها القديس جون هنري نيومان، الذي عاش نصف حياته أنغليكانيًا والنصف الآخر كاثوليكيًا. هذا اللاهوتي الإنجليزي الذي عاش في القرن التاسع عشر سيُعلَن "معلّمًا للكنيسة" في الأول من تشرين الثاني. وكان الملك تشارلز قد شارك في قداس إعلان قداسته في ساحة القديس بطرس يوم 13 تشرين الأول 2019.
ورافق البابا لاون الرابع عشر، رئيس أساقفة كنيسة إنجلترا، رئيس أساقفة يورك ستيفن كوتريل. ورافق الملكين في الاحتفال كلٌّ من منسق الجمعية العامة لهذا العام القس روزي فرو، ورئيس أساقفة ويستمنستر ورئيس مجلس الأساقفة الكاثوليك في إنجلترا وويلز الكاردينال فينسنت نيكولز، ورئيس أساقفة سانت أندروز وإدنبره ليو كوشلي ممثلًا عن أساقفة أسكتلندا.
الجوقات والطقوس
ومن علامات المسكونية الروحية أيضًا مشاركة جوقات من كلا التقليدين الكاثوليكي والأنغليكاني: فقد أنشد أطفال جوقة الكنيسة الملكية في قصر سانت جيمس بلندن، وجوقة كنيسة القديس جورج في قلعة وندسور المكوّنة من بالغين، بدعوة من الملك تشارلز والملكة كاميلا، إلى جانب جوقة كابيلا سيستين البابوية.
وتتابعت الصلاة بتلاوة المزمور الثامن، ثم المزمور الرابع والستين، وأُضيفت قراءة من رسالة القديس بولس إلى أهل روما بالإنجليزية، محورها الرجاء، وهو الخيط الروحي الذي يجمع تراتيل الاحتفال وليتورجيّته المتمحورة حول تسبيح عظمة الله الخالق.
وقبل ختام الصلاة، عزف نشيد "If ye love me" لتوماس تاليس، المؤلَّف عام 1565 والمستوحى من إنجيل يوحنا (14: 15): «إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي. وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّدًا آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد». ويُعدّ تاليس أحد أبرز مؤلفي الموسيقى الكنسية في تاريخ إنجلترا، إذ خدم كعازف وملحّن في الكنيسة الملكية لأكثر من أربعين عامًا، وأبدع أعمالًا لكلٍّ من الليتورجيا الرومانية وكتاب الصلاة المشترك الإنكليزي.
وفي ختام الاحتفال، تلا البابا لاون الرابع عشر ورئيس أساقفة يورك ستيفن كوتريل معًا صلاة إلى الله الخالق: «نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس، لتكن معنا دائمًا». ثم خرج البابا والملك تشارلز معًا من كنيسة سيستين، في مشهد عكس المسيرة المشترك على طريق الحوار والوحدة رغم الاختلافات.
وفي القاعة الملكية، شارك البابا لاون الرابع عشر والملك تشارلز الثالث في لقاءٍ خُصّص لموضوع الاستدامة البيئية، افتتحته الأخت أليساندرا سميريلي، أمينة دائرة خدمة التنمية البشرية المتكاملة. تخلّل اللقاء تبادل رمزي لنبتتين متطابقتين من نوع "سيمبيديوم"، وهي من فصيلة الأوركيد، بين البابا والملك. هذا التبادل حمل معنى الالتزام المشترك بحماية البيئة والعناية بخليقة الله. فهذه الزهرة معروفة بقوّتها وقدرتها على الصمود والازدهار حتى في الظروف القاسية، لتصبح رمزًا للأمل والعزم والمسؤولية المشتركة لبناء مستقبلٍ أكثر استدامةٍ وانسجامًا مع البيت المشترك.
وفي فترة بعد الظهر، توجّه الملك والملكة إلى بازيليك القديس بولس خارج الأسوار، التي ترتبط تاريخيًا بعلاقات وثيقة مع التاج البريطاني ومع الدير البندكتي الملحق بها. واعترافًا بهذه الروابط التاريخية وبالخطوات التي أُحرزت على طريق المصالحة بين كنيسة روما وكنيسة إنكلترا، منح رئيس كهنة البازيليك ورئيس الدير، وبموافقة البابا لاون الرابع عشر، لقب "الأخ الملكي للقديس بولس" للملك تشارلز الثالث. وبهذه المناسبة، أُعِدّ مقعد مزيّن بشعار الملك وإلى جانبه العبارة اللاتينية «Ut unum sint» - أي «ليكونوا واحدًا» (يوحنا 17: 21)، تعبيرًا عن الدعوة الإنجيلية الدائمة إلى الوحدة بين المؤمنين.