موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
بدعوة من مجموعة العائلة المقدسة، في كنيسة قلب يسوع، تلاع العلي، قدّم الأب بشير بدر، مدير المركز الرعوي لشؤون العائلة والزواج، محاضرة قيّمة روحيّة ورعوية، بعنوان: "الحوار في العائلة: طريق التواصل ونضوج العلاقة". وتأتي كلقاء روحي ثالث، ضمن السنة اليوبيلية لعدد من العائلات التي تستمر هذا العام لغاية الاحتفال بعيد العائلة المقدسة، أي في الأحد التالي للميلاد، بعدما ابتدأت المسيرة في عيد العائلة المقدسة نهاية العام الماضي.
وفيما يلي النقاط الرئيسة لحديث الأب بشير بدر، الذي تبعه نقاش غني بين المحاضر والعائلات:
الخلق وهبة الكلمة: بلغ الخلق ذروته في الإنسان حيث يسكب الله نفسه، وهو سر محبته اللامتناهي. فالإنسان، على عكس الحيوانات، لديه موهبة الكلام "كائن ناطق" وتستخدم أيضًا كونه من أهل المنطق والعقل. ولكن في قول الكتاب خلق الله الإنسان على "صورته"، "ذكرًا وأنثى خلقهما" (تكوين 1، 26-27)، يحمل الإنسان في كيانه أكثر من قدرته على الكلام، إنه يحمل بصمة الثالوث أي ختم الشركة (Communion): لا يستطيع أن يعيش ويكمل ذاته إن لم يكن في العلاقة، في الانفتاح على الآخر والحوار معه. لذلك كان أجمل تعريف للإنسان بأنه "كائن علاقاتي". وتدعم القطبية الثنائية الأصلية (ذكر وانثى) الدائمة هذا البعد العلائقي الأساسي الذي يؤدي إلى الحاجة إلى التواصل والتحاور مع الآخرين ومع الله نفسه.
أزمة علاقاتية: نعيش في زمن تتضاعف فيه أشكال العلاقات والمحادثات، ولكن نوعيتها وعمقها يتناقصان. ونظرة سريعة إلى مواقع "التواصل" المزدحمة بالمواضيع والكلام توضح كم أننا لم نعد نقول الأساسيات ولا نقرأ أفكارًا عميقة ولا تأملات حياتية. فتكاثر الكلام بلا تقدير يؤدي إلى تحريف الكلمة واختزالها بفقاعات هوائية. ففيما يمكن لكلمتنا أن تكون خلاقة وناقلة للحياة والفرح والأمل والالتزام والحب والمواساة والعطش إلى الحقيقة؛ يمكن أن تكون مدمرة أيضًا وتنتج الشقاق والأكاذيب واللامبالاة والاستياء والكراهية. وعلى الرغم من المظاهر و"التصريحات"، هناك انزعاج "تواصلي" شديد وصعوبة عميقة في إيصال الأفكار والمشاعر والمثل العليا. وهذا "التعب في التواصل" يؤثر أيضا على الأسرة.
الحوار شركة وتواصل: الحوار هو قلب المحبة. في الواقع، هناك ركيزتان أساسيتان للمحبة: الشركة، أي الرابطة التي توحّد شخصين في مسيرة مشاركة كاملة. والتواصل: الذي يترجم إلى الحياة اليومية الالتزام بأن نكون جسدًا واحدًا، مما يساعد الزوجين على النمو معًا. من الواضح أن التواصل ينشأ من الشركة. لكن هذا يظل عقيمًا إذا لم يتغذّ عن طريق التواصل. يتم التعبير عن الحب وتغذيته بالكلمة. بدون حوار دائم وصادق وعميق، يخاطر الحب بالإختناق. ينمو الحب حيث يوجد الحوار المستمر -وليس العرضي- حوار يتعلم فيه الأزواج أن يتشاركوا فرح الرحلة وصعوباتها.
الحوار والحياة الزوجية: لذلك فالحوار هو أحد الركائز الأساسية للحياة الزوجية. الحوار هو الفضاء الحيوي الذي يمكن للجميع أن يكشف فيه من نفسه وعن نفسه: كل شخص مدعو للدخول إلى نفسه لكي يفهم ويعبر عن عالمه الداخلي، ورغباته، وتوقعاته. من خلال الحوار ينمو كل شخص وينضج. الحوار يساعد الزوجين على عدم إغفال المعنى الأساسي للزوجين. من السهل جدا اختزال التجربة الزوجية إلى "فعل": إدارة حياة الأسرة، وتقسيم المهام الحياتية من واجبات تعليمية ومادية. من ناحية أخرى، يُدعى الزوجان ليكونا قلبًا واحدًا وروحًا واحدة، يتشاركان الأفراح والأحزان. عن طريق الحوار يدخل كل واحد في حياة الآخر ويظهر حياته أو حياتها؛ كل واحد يرحب بالآخر ويعطي نفسه للآخر. من هذه الهبة المتبادلة، تولد الرحلة الزوجية وتتجدّد واهبة للحياة. لا يمكن للزوجين أن يعيشا في شركة بدون حوار، ولا يمكنهما أن ينموا في الشركة. التواصل في خدمة المشاركة: إنه ليس مجرد تبادل للأفكار، بل تعلم مشاركة كل شيء مع بعضنا البعض. على كل من الزوجين أن يتعهد بعدم إخفاء أي شيء عن الآخر، حتى بحجة أنه لا يريد أن يثقل كاهله. يعني تقاسم تحمل أعباء بعضنا البعض.
ربما يكون من المناسب إعطاء بعض الدلالات لعيش تجربة الحوار الزوجي. إجراء حوار ليس بالأمر السهل على الإطلاق، خاصة عندما تعتقد أنك تعرف الآخر. في الواقع، قد يكون كل منكما لغزًا أو سرًا للآخر. ولا بدّ للحوار من تعلم كيف تنظر إلى الداخل وتتعرف على العيوب والوخزات التي لا تعد ولا تحصى التي تؤذي الحب: الإهمال، والانغلاق، والسطحية... أحيانًا يموت الحب شيئًا فشيئًا، ويختنق بنواقص صغيرة. إن الوعي بخيانة الحب، حتى لو كان ذلك بسبب حقيقة أننا نحب قليلاً، يجعلنا أكثر انفتاحًا على الحوار. من الضروري ألا يصبح أحد قاضيًا للآخر، بل يضع كلا منا نفسه تحت نظر الله الرحيم.
مثال يسوع: يخبرنا يسوع نفسه أن الصداقة تتمثل في الكشف عن علاقته الحميمة مع الآب للتلاميذ: "لقد دعوتكم أحبائي، لأني أطلعتكم على كل ما سمعته من الآب" (يو 15 ، 15). لذا فإن الحوار الزوجي هو تعبير عن تلك الصداقة الخاصة التي تنبع من الحب: صداقة حصرية يعطي فيها كل منهما نفسه للآخر ويرحب بالآخر دون تحفظ ؛ صداقة مخلصة وعميقة يتعلم فيها الشريك ليس فقط مشاركة الأشياء ولكن أيضًا وقبل كل شيء المثل العليا مع الآخر؛ صداقة مليئة بالعذوبة يتعلم فيها كل واحد أن يحمل ثقل الآخر بالحب.
الحوار: وفي تعريفه الحوار قال الأب بدر، لنحاول تعريف الحوار بما هو ليس حوارًا.
- الحوار ليس مناقشة الأفكار للبحث عمن هو على حق أو عن كيفية الجمع بين آراء الطرفين، لأن الحوار هو بحث عن الحقيقة.
- الحوار ليس تحدثا عن الآخرين، حتى بدون روح ناقدة، لأنه حديث عن الشريكين.
- الحوار ليس إعطاء معلومات بسيطة عن الأشياء والأمور التي جرت أو عن الأحداث المتوقعة. إنه شيء مختلف تمامًا عن موجز أو نشرة الأخبار. إنه مشاركة.
- الحوار ليس عتابًا ولا "مونولوج" أي شخص يتحدث بشكل منفرد والآخر يسمع (حتى لو كان ديو متبادل)، لأنه أخذ وعطاء وحديث وإصغاء dialogue.
- الحوار ليس نتيجة "تقنية" technique يطبق، بل هو ثمرة التجربة والمواقف والتمارين.
مشاركة الحضور: الحوار أكبر وأعمق من مجرّد فعلين أو موقفين: التحدّث والاستماع أو حتى المناقشة لتجنب النزاعات. الحياة الزوجية والعائلية هي عيش "مع الأخر" وليس عيشًا "بجوار الآخر". يستمر العيش مع مرور الوقت إذا كان هناك تواصل جيد وهذا يعتمد على الوحوار والأمانة، مما يعني ضمناً العطاء الذاتي الصادق والثقة والقبول المتبادلين. التواصل والحوار بين الزوجين ضروري لفهم ودعم بعضهما البعض دون محاولة فرض الذات.
ومن أجل المشاركة في الأراء، تم تقسيم الحضور إلى مجموعات لمناقشة بعض الإعتبارات العملية لتحقيق حوار ثنائي فعال:
1. الإستعداد للحوار: وهو الرغبة فيه، وهو البحث عنه، وهو أن يكون منتبهًا بما يكفي للآخر لإرضائه بما قد يرغب فيه.
- هل نؤمن بفاعلية الحوار وهل نحن مستعدون لقبول مطالبه مقدما؟
- عندما تتحدث / تتحدثين مع زوجك ماذا تريد /ين؟
- هل نحن على استعداد لقبول الحقيقة والخير كما يعيشها الآخر أو يشعر بها، وليس كما تبدو لي؟
2. الإصغاء: الاصغاء يتطلّب موقفًا متقبلاً. الاصغاء أكثر من السمع، إنه يفتح في الداخل. فالاصغاء يتطلب التواضع والصبر، لأن الحقيقة الكاملة لا يمتلكها أحد. يتطلب الاصغاء قبل كل شيء الحب، في الإيماءات، في المظهر، في موقف الشخص.
- هل تعتقد أن لدى الآخر دائمًا شيئا مثيرا للاهتمام ليساهم به؟
- هل تعتقد أنك على حق أكثر من زوجك - زوجتك؟
- هل تحاول دائمًا فهم ما يقوله الآخر؟
3. أسلوب الحوار (التعبير): أفضل حوار يحدث عندما تُقال الأشياء كما تُرى وتُشعر، بحثًا عن التعبيرات التي، رغم وضوحها، هي في نفس الوقت محبة.
- هل كلامك فرض أم دفاعي أم اتهامي؟
- وهل يحدث من حين لآخر أن ينتهي بكم الأمر بالغضب؟
- هل طريقتك في الكلام تشجع الحوار أم تقطع الثقة؟
- هل أنت عنيد في أفكارك، وهل هناك سخرية في تعابيرك؟
4. المشاركة والتفاعل: يجعل الحوار تلك العلاقة بين الأشخاص واعية ومعبرة، والتي، لأنها تأتي من الحب، ليس لها حدود. تكمن فعالية الحوار في إيصال المشاعر بأكبر قدر من البساطة والواقعية، ودائمًا في موقف الحب.
- كيف يساعد الحوار في اكتشاف الآخر والتعرف عليه؟
- هل هناك ثقة كافية ليكون الحوار حقيقيًا؟
- ما هي الوسائل الأخرى الموجودة في الحوار غير الكلمة؟
5. التكيف والإنفتاح: يحتاج الحوار إلى وقت ويتطلب اختيار الزمان والمكان المناسبين. روتين الحياة يخفي الكثير من الأشياء الجميلة ويساعد الحوار على اكتشافها. يتطلب تقدير الآخر أن تُكتسب الثقة قبل المطالبة بها.
- ما هي الأوقات والأماكن أو اللحظات التي تساعدك أكثر على الانفتاح في الحوار؟
- هل نحترم الحالة الشخصية لكل فرد لنتأكد من وجود المناخ المناسب الذي يدعو للحوار؟
- هل يحدث أحيانًا أنك قبل أن يتحدث الآخر قللت من شأن ما سيقوله؟
وفي النهاية، دعا الأب بشير للعودة إلى الإرشاد الرسولي فرح الحب للبابا فرنسيس حيث يقدم في الفصل الرابع عرضا جميلا لمعنى الحوار الزوجي والعائلي الذي يُدعى فيه الأزواج إلى إعطاء الوقت النوعي لبعضهم حيث يكتشفون أهمية حضور الآخر وقيمة شخصه ويتقذون حبهم من خطر الإنغلاق أو إعتبار الآخر منافسا يجب الفوز عليه. وكل ذلك لا يتأتى بعيدًا عن الغنى الداخلي والقراءة والتأمل والصلاة والإنفتاح (فرح الحب الفقرات: 136-141).
وختم الأب بشير بقوله، إن الحوار هو أسلوب الله في علاقته الداخلية والخارجية بإمتياز. فهو من خلال الوحي، أقام حوارًا مستمرًا مع البشرية، وحوارًا كاملاً لأنه لا يتوقف على إرسال الأوامر ولا على تبادل الأفكار، بل على إعطاء الحياة... فالزواج الصامت "لأخرس" لا يتحاور لا يتبادل الأفكار ولا يعطي حياة. قال يسوع: "أتيت لتكون لهم الحياة، ولتفيض فيهم" (يوحنا 10:10).