موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ٤ أغسطس / آب ٢٠٢٥
مسرحية "خيال صحرا" من بيروت إلى فلسطين: حين يلمس المسرح الجرح المشترك

بقلم: سند ساحلية :

 

في ليلة بيروتية دافئة، وسط أضواء خافتة في قاعة كازينو لبنان، جلستُ على أحد المقاعد أنتظر عرضًا طالما سمعت عنه، لكنني لم أكن أتوقع أن أخرج منه محمّلًا بكل هذا الثقل والتأمل. "خيال صحرا"، المسرحية التي جمعت للمرة الأولى بين جورج خبّاز وعادل كرم، لم تكن مجرّد عمل فني على خشبة مسرح، بل كانت مواجهة حقيقية مع الذاكرة، مع الحرب، ومع هشاشة الإنسان.

 

تدور المسرحية في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، بين عامي 1975 و1990، وهي الحرب التي حصدت أرواح نحو 120 ألف شخص (التقديرات تختلف قليلا حسب المصادر)، وتركت ندوبًا لم تندمل بعد في وجدان اللبنانيين. من قلب المتاريس، ومن خلف البنادق، تروي المسرحية قصة لقاء عابر بين قنّاصين من معسكرين متنازعين. لقاء يتحوّل، شيئًا فشيئًا، من حالة ترقّب وعداء، إلى لحظة إنسانية نادرة يتبادل فيها الرجلان الحكايات، والشكوك، والذكريات.

 

في تلك اللحظة التي يتحرّر فيها القنّاصان من عبء الاصطفافات والولاءات، ويرقصان سويًا في مشهد حلمي، شعرتُ كأن المسرحية تضرب في جوهر السؤال اللبناني، بل وتتجاوزه إلى أسئلة أكبر عن المصير، والهوية، والانقسام.

 

 

الديكور والموسيقى

 

ما جعل "خيال صحرا" عملًا لافتًا ليس فقط قوّة نصه وأداء ممثليه، بل أيضًا ديكوره المدروس بعناية، الذي رسم مشهدية بصرية تنبض بروح بيروت وتاريخها. كل زاوية على الخشبة بدت وكأنها تحمل ذاكرةً ما؛ رمزًا ثقافيًا، أو أثرًا من ماضٍ لا يزال حيًا في الوجدان. هذا التكوين البصري لم يكن مجرد خلفية، بل امتدادًا للنص المسرحي نفسه، الذي ينسج بين الدراما والكوميديا ونوستالجيا الزمن الجميل، حيث تتداخل لحظات الفرح بالألم، والحنين بالحسرة.

 

الديكور كان عنصرًا سرديًا حيويًا، لم يقتصر على أن يكون خلفية فقط، بل كان بمثابة شخص ثالث على خشبة المسرح. سائلًا، كيف يمكن أن تفسر المسافة بين الشخصيات في مشهد ما؟ أو كيف تنقل زوايا الضوء مشاعر الخوف أو الأمل؟ التفاعل بين الممثلين والديكور خلق عمقًا في المشهد وجعلني أتفاعل بشكل ديناميكي مع كل لحظة.

 

الموسيقى التي ألفها جورج خبّاز كانت جزءًا لا يتجزأ من تلك التجربة، إذ لا يمكن تصور المسرحية بدونها. الموسيقى كانت أشبه بنبض الوطن، تتسارع وتتباطأ مع تغير الأحداث، كأنها تعكس تذبذب اللحظات بين الأمل واليأس. كانت تتصاعد كالموجات في بعض المشاهد، وتخفت في مشاهد أخرى، مما أضاف للمسرحية طابعًا سينمائيًا، وكأنك تشاهد فيلمًا في قلب المسرح. في كل لحظة، كانت الموسيقى تشدك إلى أعماق الصراع الداخلي للشخصيات وتغذي مشاعر الحنين والألم.

 

 

تأمل فلسطيني

 

ما لفتني، بصفتي فلسطينيًا، لم يكن فقط ما عبّرت عنه المسرحية عن لبنان، بل أيضًا ما تركته في الظل عن واقعنا الفلسطيني. لم يكن الربط بين "خيال صحرا" والانقسام الداخلي جزءًا من النص المكتوب، بل وُلد في داخلي أثناء المتابعة، كقراءة ذاتية نابعة من تأملي وانعكاسي الشخصي. في مشهد القنّاصين المتواجهين على طرفي الخندق، لم أرَ فقط لحظة إنسانية نادرة، بل صورة حيّة من واقع نعيشه نحن الفلسطينيين منذ العام 2007. منذ ذلك الانقسام الذي لم يفتت الوطن فقط، بل فرّقنا نفسيًا واجتماعيًا، وأدخلنا في متاريس وهمية لا نكاد نخرج منها. أصبح الخلاف السياسي قطيعة وطنية، وغابت لغة الحوار لتحلّ محلها لغة التخوين، والشيطنة، والتكفير الوطني.

 

كما شرخت الحرب الأهلية في لبنان نسيجه الاجتماعي، شرخ الانقسام الفلسطيني الحلم الجمعي، وأعاد تشكيل وعينا على أساس الانفصال بدلًا من الوحدة. ومع أن "خيال صحرا" لا تتناول هذا الواقع الفلسطيني بشكل صريح، فإن ما قرأته بين السطور كان صدىً لتجربتي الخاصة. لم يكن النص يتحدث عن فلسطين، لكنه لامسها في العمق؛ كأن الحرب هناك تذكر بالحرب هنا، وكأن الخنادق، مهما اختلفت جغرافيتها، تتشابه في قدرتها على عزلنا عن بعضنا البعض، وعلى حجب ملامح الآخر خلف التصنيفات والخوف.

 

لقد شاهدتُ المسرحية من مقعدي في القاعة، لكنني كنت أحمل وطني في داخلي. وكل مشهد بدا وكأنه يوجّه إليّ سؤالًا شخصيًا: هل نجرؤ نحن، مثل القنّاصَين، على أن نضع البنادق جانبًا ونصغي إلى بعضنا البعض؟

 

 

الطوائف في خلفية الحرب

 

ورغم أن المسرحية لا تذكر الطوائف صراحة، إلا أن خلفية الحرب الأهلية التي تنتمي إليها الشخصيات تفتح الباب لقراءات اجتماعية أعمق. القنّاصان، في صمتهما وترددهما وخوفهما، يمكن أن يكونا مرآة لجماعات لبنانية عديدة، ومن بينها المسيحيون الذين عاشوا خلال الحرب ما يشبه القلق الوجودي، والخوف من الزوال، والبحث عن ملاذ في وطنٍ بدأ يبدو غريبًا أو متحوّلًا.

 

وهذا القلق، بوجوهه المختلفة، ليس حكرًا على الماضي اللبناني. فبوصفي فلسطينيًا مسيحيًا، لم أستطع أن أتجاهل كيف تعكس تلك المشاعر اليومَ بعضًا من واقعنا نحن أيضًا. وسط التحولات العميقة والصراعات المتعددة التي تعصف بالمنطقة، نعيش نحن المسيحيين الفلسطينيين قلقًا مشابهًا، قلقًا على المصير والحضور والهوية، على قدرتنا على البقاء، لا كمجرد أفراد، بل كجماعة أصيلة متجذرة في هذه الأرض.

 

المسرحية لا تُحمّل طائفة واحدة مسؤولية ما جرى، ولا تدين فئة بعينها، لكنها تمنح لكل متفرّج، أيًّا كانت خلفيته، فرصة أن يرى في الشخصيات ظلّه، أو ملامح من خشيهم، أو ربما من فقدهم. إنها لا تُصدر أحكامًا، بل تتيح مساحة للتأمل الحر، حيث يمكن لكل واحد أن يجد في هذا النص شيئًا من نفسه، أو من خيبته، أو من رجائه الصامت.

 

 

الفن كجسر

 

في نهاية العرض، لم أصفّق فقط لما رأيته على الخشبة، بل لما فكّكني من الداخل. "خيال صحرا" ليست مجرد مسرحية عن الحرب، بل عن المسافة بيننا. عن الخوف من الآخر، ثم اكتشاف أننا لسنا مختلفين بقدر ما قيل لنا. هي تذكير بأن الفن قادر على أن يفتح نوافذ للحوار، حين تُغلَق كل الأبواب.

 

كم كنت أتمنى أن تُعرض هذه المسرحية في غزة، أو في رام الله، أو نابلس، أو جنين. ربما، مثلما حصل مع القنّاصَين، سنجد نحن أيضًا طريقة للرقص معًا – ولو على أطراف الجراح.

 

 

رقصة الإعتراف

 

خرجتُ من المسرح وأنا أحمل في داخلي سؤالًا بسيطًا في ظاهره، معقّدًا في جوهره: هل يمكن أن نرقص نحن الفلسطينيين أيضًا، رقصة تشبه تلك التي رقصها القنّاصان؟ رقصة لا تُعبّر عن فرحٍ عابر، بل عن اعترافٍ متبادل بإنسانية الآخر، عن رغبة صامتة في كسر المتاريس النفسية قبل السياسية. رقصة لا تُنكر الخلاف، لكنها تتجاوزه، وتفتح نافذة نحو مساحة أوسع من الشعارات، نحو جوهر مشترك اسمه الكرامة، اسمه الإنسان.

 

"خيال صحرا" لم تمنحنا إجابات جاهزة، لكنها زرعت فينا ذلك الشك النبيل – الشك الذي لا يهدم، بل يدفعك لتفكيك يقينك، لتعيد النظر فيما حسبته واضحًا. شك يجعلك تُنصت بصدق، للحظة، وللآخر، بصمت لا يُضعف، واحترام لا يتصنّع.

 

وفي زمنٍ تُغرقه الضوضاء، قد يكون الإنصات وحده فعلًا كافيًا للنجاة.