موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ٢٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥
عيد الميلاد ليس مجرد عيد وطني... من يختزل الميلاد يختزل هويتنا

بقلم: سند ساحلية :

 

عيد الميلاد المجيد في فلسطين ليس مجرد احتفال موسمي أو مناسبة وطنية تُدرج في رزنامة الفعاليات العامة، بل هو سرّ كنسي عظيم يُعلن حضور الله المتجسد في هذه الأرض، حيث اتحد اللاهوت بالناسوت ليبدأ تاريخ الخلاص من بيت لحم، ليصبح حدثًا خلاصيًا يضيء قداسة الإنسان والمكان معًا. إنه حضور حي لإيمان يتجدد في قلب المعاناة الفلسطينية، وتجسيد لهويتنا وإرثنا في الطقوس والصلوات كما في الشوارع والساحات.

 

وفي هذا الإطار، تأتي المظاهر الشعبية المرتبطة بالعيد كامتداد حي للإيمان؛ فإضاءة الشجرة، والمواكب الكشفية، والترانيم، والاحتفالات الشعبية ليست مجرد فعاليات شكلية، بل ترجمة حية للمعنى الروحي للعيد. كما "شجرة مغروسة عند مجاري المياه"، جذورها ممتدة في صخر الأرض، ثابتة رغم العواصف، هكذا تتجذر هويتنا المسيحية في فلسطين. كل ترنيمة تُرتّل، وكل شجرة تُضاء، وكل موكب يسير، هو شهادة إيمان وصمود تؤكد أنّ المسيحيين الفلسطينيين ما زالوا هنا، حراسًا للقداسة، وشهودًا للرجاء في أرضهم المقدسة.

 

التنصّل من هذا الإرث أو التقليل من قيمته ليس أمرًا عابرًا، بل يمثل مساسًا مباشرًا بجذورنا التاريخية. كل خطوة تُضعف حضور الميلاد أو تُفرغه من معناه، بما في ذلك المظاهر الشعبية المصاحبة له، تُسهِم، ولو عن غير قصد، في مشروع يهدف إلى طمس هويتنا ومحو تاريخنا وتراثنا في أرضنا المقدسة، فلسطين. هذا يعادل الوقوف في صفّ القوى التي تعمل على محو حضورنا وحقوقنا التاريخية. ومن هنا ينبثق التحدي الأساسي: كيف نوازن بين الاحتفال بالعيد كحدث كنسي مقدس، وبين الاعتراف بأهميته الوطنية والاجتماعية، مع الحفاظ على جوهره الروحي وهويته وتراثه المسيحي الأصيل؟

 

 

بين القداسة والوطنية

 

في فلسطين، يتجدد كل عام الجدل وتتزاحم الاجتهادات حول كيفية الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، لا سيما في أوقات التوتر الأمني والسياسي. جوهر السؤال المطروح: هل يُحتفل به كعيد كنسي مقدس، أم يُنظر إليه كمناسبة وطنية يمكن التعامل معها كفعالية عامة؟ لا شك أن الميلاد في فلسطين يحمل بعدًا وطنيًا جامعًا يجب التأكيد عليه، فهو يُظهر فلسطين للعالم بتنوعها الثقافي والديني ويعزز حضورها التاريخي والاجتماعي والسياحي.

 

إلا أن الخلط بين البُعد الكنسي والوطني لا يقتصر على اللغة أو المصطلحات، بل يمس جوهر الإيمان والهوية، ويكشف عن خطر حقيقي يهدد قدسية الميلاد إذا ما حُوّل إلى مجرد احتفال مدني. في بلادنا، حيث يتداخل الدين بالسياسة، يصعب أحيانًا التمييز بين ما هو عبادة وما هو فعالية رسمية. حتى قُدَّاس عيد الميلاد قد يُنظر إليه أحيانًا على أنه حدث بروتوكولي ضمن جدول المناسبات العامة، بدل أن يبقى محور الاحتفال الروحي الذي يربط المؤمنين مباشرة بسرّ التجسد.

 

أليست المفارقة واضحة؟ من كان يرى في المشاركة في افتتاح المرافق العامة والاقتصادية، أو في المهرجانات الغنائية والفنية والرياضية، فعلًا من أفعال المقاومة والحفاظ على الهوية والصمود، ورمزًا للبقاء على الأرض، أصبح اليوم يُعتبر أن فعاليات الميلاد، التي تجسّد إرثنا الاجتماعي والثقافي، غير مناسبة للظروف أو مناقضة لفكرة الصمود. هنا يظهر بوضوح الرابط بين البعد الكنسي والوطني، حيث تتحول الرموز الشعبية إلى اختبار حي للتمسك بالإيمان والهوية في مواجهة الظروف السياسية والاجتماعية الصعبة.

 

الاحتفالات الشعبية ليست فرحًا عابرًا، بل صرخة حياة ووجود: نحن هنا، متمسكون بإيماننا، صامدون على تراثنا، ومؤمنون بحقنا في أرضنا وهويتنا. الحفاظ على هذا الإرث ليس رفاهية، بل واجب وطني وديني مقدس، وسلاح أساسي في مواجهة محاولات التهميش والطَمس الثقافي وتشويه هويتنا في فلسطين والمشرق. وهكذا يصبح كل عنصر من عناصر الاحتفال، حلقة مترابطة بين الإيمان الفردي، والتراث الجماعي، والبعد الوطني، موضحًا أن الحفاظ على الهوية الدينية والاجتماعية جزء لا يتجزأ من صمودنا.

 

 

تحديد معنى العيد

 

الكلمات ليست مجرد أدوات وصف؛ هي بوابة لفهم العيد وتحديد هويته. عندما نصف الميلاد بأنه "عيد وطني"، نفتح الباب لجعله شأنًا إداريًا خاضعًا للظروف والسياسات. أما اعتباره "عيدًا كنسيًا مقدسًا"، فنؤكد أنه مرتبط بالإيمان والعبادة والهوية، ولا يجوز اختزاله أو تهميش رمزيته. لذلك، على المسيحيين أن يكونوا حذرين ودقيقين في استخدام هذه المصطلحات، وألا يسمحوا بتضييع معنى الميلاد كما ضاعت كثير من القيم الروحية في زحمة السياسة والإدارة.

 

عيد الميلاد ليس مجرد احتفال؛ إنه إعلان حضور حي لإيماننا وهويتنا، ورسالة خلاص، وتجسيد حي لقدسية المكان والزمن. الحفاظ على قدسيته إلى جانب الاحتفالات الشعبية المرتبطة به هو واجب ديني ووطني وحقوقي، ومظهر من مظاهر الصمود أمام محاولات الطمس الثقافي والتاريخي والسياسي.