موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مساء الخميس 8 أيار 2025، شهد العالم حدثًا مفرحًا أسر العيون والقلوب والوجدان فتسمّرت على شرفة بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان التي أُعلن منها انتخاب-اختيار الكاردينال الأميركي روبرت بريفوست بابا جديدًا خليفة القديس بطرس. فعند السادسة وثمان دقائق تصاعد الدخان الأبيض من مدخنة كنيسة سيستينا، إيذانًا بأنَّ راعيًا جديدًا سيجلِسُ على كرسيّ بطرس ويقودُ كنيسةَ المسيح في مسيرتها عبر الأجيال، هو لاون الرابع عشر، أول بابا أميركي في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، الذي وجه "نداء سلام إلى جميع الشعوب" في أول إطلالة له على العالم المتخبط بأزمات لا تحصى... فكان كلامُه بسيطًا ولكنه مليء بالمعاني والعِبر.
ذُهل العالم بالسرعة في انتخاب-اختيار البابا، إذ استغرق الأمر يومين، ما يدلّ على أن هناك اتحادًا بين الكرادلة واتفاقًا بينهم، مبنيًّا على همِّ الكنيسة واستمرايَّتها، وحضور الروح القدس، من هنا كان الخيار جيدًا لراعٍ صالح ينطلق من الإنجيل لخدمة البشرية والتبشير بكلمة الله في العالم أجمع... ما يعطي ثقة للناس بأن كنيسة يسوع المسيح لا تُهزم، لأنه هو من أسسها وأعطاها لبطرس وقال له: "إرعَ خرافي إرعَ نعاجي". أوليس هو الراعي الصالح؟
البابا الذي هو من أصول أميركية (ولد في 14 أيلول 1955 من أم اسبانية وأب فرنسي، تخصَّص في علوم الرياضيَّات ومن ثم في اللاهوت والقانون الكنسي)، خدم في البيرو 20 سنة ككاهن وعاش مع المُهمَّشين، الفقراء، الأغنياء والأصحاء، ومن ثم تولى منصب رئيس عام لرهبنة القديس أوغسطينوس، بعد ذلك عيّنه البابا فرنسيس رئيس أساقفة على أبرشيَّة تشيكلايو (البيرو)، وعضوًا في مجمع الإكليروس في روما، وعضوًا في مجمع الأساقفة (عميد دائرة الأساقفة)، أي أنه جمع بين إدارة الكنيسة والعمل الرعوي والرسولي والتبشيري، ما يؤهله ليقودَ السفينة مع الكرادلة والأساقفة والمؤمنين والعلمانيين، ويكونَ في خدمة الكلمة، فكنيسةُ يسوع المسيح طبعًا هي كنيسة من البشر، ولكنه الرأس ونحن الأعضاء.
من خلال محطّات حياته التي عاشها في البيرو، واختباره الحياة الرهبانيَّة (ترأس مرتين الرهبانيَّة الأغوسطينية)، والكهنوتية والاجتماعيَّة والإداريَّة في الفاتيكان، يستطيع لاون الرابع عشر تحمُّل مسؤولية إيمانيَّة وراعويَّة واخلاقيَّة واجتماعيَّة، تساعده ليفهم ويصغي. يُحكى عنه أنه يُصغي ولا يتكلَّم كثيرًا، فالبابا لم يكن وجهًا إعلاميًّا ولم يُطلق مواقف، بل عاش في الظلّ ولكن هذا الظلّ شكَّل حُضورًا فاعلًا، خصوصًا عندما شغل مناصب في الدوائر الفاتيكانيَّة، ما يخوِّلُه الاستمرار في مسيرة الإصلاح التي تتوق إليها الكنيسة، وإيجاد حلول للمُعضلات التي يعاني منها العالم، لا سيما الحرب والسلام والفساد...
لماذا اختار البابا اسم لاون الرابع عشر؟
لأنّه تأثر بالبابا لاون الثالث عشر (1810-1903) وهو أول بابا وجَّه رسالة عامة حول العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان (Rerum Novarum أي الأُمور الجديدة)، وأول بابا طالب بحقوق العمَّال والمُهمَّشين. هنا يكمن دور الكنيسة في إيصال صوت الناس والمُطالبة بحقوقهم أمام المحاكِم المدنيَّة والمسؤولين السياسيين الذين يضعون سياسة العالم الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، فالبابا هو صوت صارخ ينادي بحقوق الإنسان وبكرامته ويحافظ على الأمان والسلام في العالم الذي يحتاج، اليوم، إلى توزيع الموارد البشرية والثروات الطبيعية بشكل عادل، وإلى أن تأخذ الكنيسة على عاتقها الفقراء والمُهَّمشين والعمال والمهاجرين، وتطالب وتناضل وتكافح وتعطي حلولًا عملانية وعلمية قدر المستطاع. تتطلع الكنيسة إلى الغد من دون أن تنسى جُذور رسالتِها.
في رسالته الأولى طالب البابا بوقف الحرب، وعدم التسلُّح، وبالسلام غير المُسلَّح، وبإلغاء السِّلاح. صحيح أن كلمته الأولى مُقتضبة لكنها تضمَّنت عناوين حول خطَّة عمله، فهو لديه استحقاقات وتحديَّات كبيرة، ومع استلهامات الروح القدس يستطيع إدارة الكنيسة الكاثوليكية وإيصال الحقّ والحقيقة إلى الآخرين، من خلال تعاليمه وأدائه واستراتيجيته وتصرفاته، خصوصًا قربه من الناس، فالبابوية مع البابا فرنسيس نزلت إلى الساحة، وصارت ساحة ومساحة للناس، ولم تعد برجًا يستحيل الاقتراب منه. عندما ظهر على الشرفة لاحظنا أن البابا لديه نوع من الامحاء، لا يحب فرض نفسه، بل يبقى في الظل ولكن ظلَّه منير، على أمل أن نستفيد من هذا الوجود الكنسي الفاعل الاجتماعي الروحاني اللاهوتي. بالتأكيد سيحمل البابا الكنيسة جمعاء في قلبه وعقله، ويحضُن الناس بحنان ورأفة ومحبَّة، ويُدافع عن المُهمشين والفقراء لأنه يتكلم باسم يسوع. وهو المتواضع والحاضر والقريب من الجميع. إنه يسمع صوت الربّ وتأتي كلماته مطابقة لكلام يسوع والإنجيل المقدس.
للبابا نسق معين، في قيادة مليار و400 مليون كاثوليكي في العالم، ومن الطبيعي أن يختلف عن نسق البابا فرنسيس الذي كان عفويًا وطبيعيًا وركز اهتمامه على الفقراء والمهمشين والمسجونين الذين كان يزورهم دائمًا، وقبيل وفاته زار سجن روما رغم حالته الصحية. قد لا يزور البابا الحالي السجون كثيرًا لكن لا يعني ذلك أنه لا يهتم بها، إنما يوزع اهتماماته على المسنين، الأطفال، الفقراء، الخطأة، المتألمين، الكهنة... هذا دور بابا روما اليوم أن يكون مُرشِدًا وحكمًا لكلّ الناس وجامعًا لهم، فضلًا عن مواجهته تحديَّات كبيرة، أولها إكمال الإصلاحات داخل الكنيسة، ما يعطي ثقة للناس بمُعالجة الانتهاكات ضد الأخلاق في الكنيسة، والمطالبة بمعالجة القضايا العالميَّة الشائكة من بينها: البيئة والسلام والفساد... يعتمد البابا سياسة مُنفتحة وإنسانيَّة من خلال قدرته التنظيمية والانضباطيَّة في ظلّ قيادة حكيمة وموحَّدة.
إذًا للبابا رسالة ودور ومهمة كبيرة عبر الاستراتيجيَّة التي يعتمدها، ليحافظ على وحدة الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة الجامعة حول يسوع المسيح، وحول مواضيع خلافيَّة مثل الطلاق، الإجهاض، المثليين، بركة المثليين، دور المرأه في الكنيسه، فضلًا عن مُتابعة العمل السينودوسي، العمل معًا والشراكة بين الأساقفة والكرادلة والكهنة، هذا المسار بدأه الباباوات ولكن البابا فرنسيس وضعه في قالب جديد لتعيش الكنيسة السينودسيَّة والمشاركة والشركة، وليكون هنالك وحدة حال بين الأشخاص الذين يؤمنون بيسوع المسيح.
أكيد للبابا دور كبير في بث الأمل والرجاء، وكم نحن اليوم في حاجة إليهما، لأن أغلب الناس، لا سيما الشباب، محبطون متروكون لحالهم. تكلَّم عن الذكاء الاصطناعي وعن التسلُّط وبناء الجسور والحوار، وعن أمور كثيرة، فهو الصوت الصارخ في برية العالم لقول الحقيقة والحقّ وتوعية المسؤولين السياسيين للعودة إلى ضمائرهم، وتوعية الناس إلى مطالبهم وحقوقهم وتكاتفهم ليعيش العالم بسلام وأمان ومحبة، وتعزيز التنمية المستدامة التي تدعو إليها الكنيسة، خاصة البيئة التي يعمل عالمنا اليوم على هدمها، للأسف. بالتأكيد سيُحافظ البابا على التقاليد مع إحداث تجدُّد داخل الكنيسة.
إذاً دور الكنيسة التوعية والتبشير ونقل الرسالة والفرح والإيمان إلى الآخرين من خلال عيشها وممارستها. تصرُّف البابا والكهنة والأساقفة دليل على أن الله موجود في عمل الرحمة والمحبة والمُسامحة والتضامن وفي مسيرة عيشهم. علينا النظر إلى الجوهر، إلى الأساس، إلى العمق، لا التوقف عند المظاهر الخارجية.
البابا اليوم بحاجة إلى أن نُصغي إليه ونتعاون مع بعضنا البعض لتنجح مسيرة الكنيسة ورسالتها التي هي إعلان فرح الحُبّ وفرح الإنجيل، الذي سيجعلنا نعيش بأمان وسلام داخلي، وكم نحن بحاجة إليهما لأننا نخشى من الغد. نريد أن نتَّكل على الروح القدس ونبث في قلبنا الرجاء بسنة اليوبيل التي أعلنها البابا فرنسيس سنة الرجاء والأمل.
بالمطلق، هذه أمور أساسية لا يمكن التفرُّد فيها، من هنا كان انعقاد السينودس كلّ سنتين، وإنشاء البابا فرنسيس مجلس كرادلة لمعاونته في إدارة الكنيسة، تحت شعار الشراكة والشركة، لتكون قراراته صحيحة وسليمة ويمكن تطبيقها. طبعًا هنالك أشخاص ليبراليون وآخرون محافظون، ومهمة البابا أن يكون في الوسط لأنه يحافظ على روحانية الكنيسة، أما العقيدة فلا خلاف عليها. لكن تبقى أمور جدليَّة مثل الطلاق، الإجهاض، دور المرأة، السينودسية (كنيسة سينودوسيَّة أي كنيسة تمشي وتسعى دائمًا إلى السلام والمحبة)... هنا يستقي البابا من الإنجيل ومن روح الله ليوصل الرسالة.
نشكر الله على وصول "رجال-أنبياء" قادرين يطمئنوننا بأن الكنيسة موجودة ومُستمرَّة ولن تقوى عليها أبواب الجحيم، لأنها كنيسه يسوع المسيح يُديرها بشر بالهامات الروح القدس. علينا، ليس أن نصلي فحسب، بل أن نبني السلام مع بعضنا البعض، ولا شكّ في أن السلام الداخلي يساعدنا لنبني السلام الخارجي، هكذا تتحقق العدالة والرحمة التي هي "جمعية عدل ورحمة". نعم، تُتابع الكنيسة الكاثوليكيَّة من خلال اختيار البابا لاون الربع عشر التبشير الجديد بنقل الإيمان المسيحي عبر طرق جديدة، لمُجابهة الظروف الجديدة بهدف اللقاء بالمسيح والشركة معه.