موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
بالنسبة للفيلسوف الفرنسي بليز باسكال، فإنّ "الشرّ سهل، وله أشكال لا حصر لها، بينما الخير فريد في معظمه"، وهي عبارة تختصر بإيجاز لا إنسانية الإنسان تجاه أخيه الإنسان. فبعيدًا عن الكوارث الطبيعية، وفي زمن نعيش فيه كوارث من صنع البشر، يجدر بنا أن نتذكّر أولئك الذين وقفوا في وجه المجرمين، عازمين على هزيمة الشرّ، والذين، رغم المآسي التي لا توصف، جسّدوا الفضيلة.
إغناطيوس مالويان، الأسقف الذي استشهد خلال الإبادة الجماعية للأرمن، واجه الشرّ، وقَبِل الشهادة، وانتصر على الحقد. وقد طوّب البابا يوحنا بولس الثاني مالويان شهيدًا عام 2001، فيما وافق البابا فرنسيس على إعلان قداسته في وقت سابق من هذا العام، على أن يُحتفل بإعلانه قدّيسًا في قداس احتفالي يترأسه البابا لاون الرابع عشر في 19 تشرين الأول 2025 في الفاتيكان. وهكذا سيُدرج اسم مالويان في اللائحة الرسمية للقديسين، اعترافًا بحياته البطولية والفضيلة التي تحلّى بها، ولإلهام المؤمنين بأنّ الشرّ يمكن ويجب أن يُهزَم.
من اللافت أنّ مالويان نال قداسته لأنه قدّم العون لرعيّته في ذروة أوّل إبادة جماعية في القرن العشرين، والتي هدفت إلى محو أمّة بأكملها. فقد تعرّضت كنيسته للتخريب، وصادرت السلطات العثمانية أرشيف أبرشيته بحجّة البحث عن أسلحة. وفي النهاية، لم يُعثر على أي سلاح، لأنّه لم يكن هناك أسلحة أصلًا، ولم تنجح توسلات مالويان في إقناع المنفّذين المصمّمين على المضي في التطهير العرقي تحت ذرائع كاذبة. إنّ الطريقة التي واجه بها ابن ماردين (الواقعة اليوم في تركيا) الشرّ هي قصّة تستحق أن تُروى، أمّا الطريقة التي تقبّل بها مصيره فهي قصة أعظم وأبقى.
وُلد مالويان في 15 نيسان 1869 باسم شكرالله ملكون، والتحق بدير الأرمن الكاثوليك في بزمار، لبنان، عام 1883، وكان حينها في الرابعة عشرة من عمره. رأى هذا الشاب في الدير "رجاء الأمة"، وفي بستانه "رجاء أرمينيا"، واعتبر من أتيح لهم الاقتراب منهما محظوظين، لأنهم شهدوا الفرح الخالص. وقد أصبح دير بزمار، الذي صار مقرّ الكرسي للأرمن الكاثوليك منذ عام 1749، مدرسة له في اللاهوت والفلسفة، وغرس فيه حبّ الفضيلة. هناك تعلّم الصلاة، وفهم الكتاب المقدّس، والتواصل مع المؤمنين الآخرين. وبالإضافة إلى لغته الأم الأرمنية، أتقن خمس لغات أخرى: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية، والتركية، وتمكّن من التبشير بالإنجيل. أخذ اسم "إغناطيوس" عندما سيم كاهنًا كاثوليكيًا أرمنيًا سنة 1896، وخدم في كلّ من القاهرة والإسكندرية في مصر، وكذلك في القسطنطينية (التي أصبحت اسطنبول عام 1930)، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه. وقد تمّت رسامته أسقفًا على ماردين في تشرين الأول 1911.
كانت ماردين مدينة عالميّة نسبيًا في الأناضول، مقرّ الكنيسة السريانية الكاثوليكية، وفيها بطريركية اليعاقبة [السريان الأرثوذكس]، إلى جانب الأسقفيات الكلدانية والأرمنية الكاثوليكية. وكانت أيضًا مركزًا إداريًا عثمانيًا (متصرّفية)، وتضمّ ثلاثة مساجد بارزة نظرًا لأن ما يقارب نصف سكّانها كانوا مسلمين. وقد عاشت كل هذه المكوّنات في انسجام أساسي يثير الدهشة عند النظر إلى الوراء. أمّا ما حدث لانفتاح أذهان سكانها خلال المذابح التي تلت فهو أمر يصعب تفسيره. ومع ذلك، وكغالبية رعايا الدولة العثمانية، كان الأرمن والسريان واليونان مخلصين للبابا، ولم يكن مالويان استثناءً. والمفارقة أنّه تلقّى فرمانًا (أمرًا سلطانيًا) منحه وسامًا في 20 نيسان 1915، أي قبل أربعة أيام فقط من الحملة التي هدفت إلى قطع رأس الأمة الأرمنية عبر اعتقال وإعدام أبرز مثقفيها. ولم يكن يدري أنّه هو نفسه، مع والدته وشقيقه وأحد أبناء عمومته على الأقل، سيقعون ضحية الغضب العثماني، ما حوّل العائلة بأكملها إلى بيت من الشهداء.
مع أنّ القليلين أدركوا ما كان سيحلّ بالأمة، شعر الأسقف منذ أيار 1915 أنّ كارثة وشيكة ستنزل بماردين، ولهذا شارك وصيّته الروحية مع كهنته. في خضمّ الشائعات التي زرعت الشقاق بين العثمانيين، ومكّنت أعضاء "جمعية الاتحاد والترقي" – الحزب الثوري الذي سعى إلى تطهير الإمبراطورية من أقليّاتها – تم اعتقال مالويان في 3 حزيران 1915.
تعرّض لاستجواب قاسٍ وتعذيب شديد، وعُرض عليه اعتناق الإسلام، فرفض ذلك رفضًا قاطعًا. وقد شهد الناجون من المعتقل أنّ الأسقف ضُرب واقتُلعت أظافر قدميه، لكن سُمح له بتوديع والدته. والمذهل أنّه طلب منها أن تجلب له حذاءً أكبر بمقاسين من مقاسه المعتاد، على ما يبدو ليستطيع تحمّل المسيرة التي كان سيُجبر عليها، لكن في الحقيقة ليخفي قدميه المتورّمتين نتيجة الجلد المبرح على باطن القدمين.
في 11 حزيران 1915، أُلحِق مالويان، ومعه 417 من الأرمن والسريان، بينهم 16 كاهنًا وعدد من الراهبات، بقافلة من المواطنين العثمانيين المهجّرين –ومن المهم التشديد أنّهم كانوا مواطنين عثمانيين– ورُحِّلوا باتجاه دياربكر. وفي ذلك اليوم نفسه، أُعدم مالويان على يد ضابط عثماني معروف الاسم، لكن لا يستحقّ ذكره. كان عمره آنذاك 46 عامًا.
في سعيها لإثبات وجودها، أقدمت السلطات العثمانية على معاقبة ما لم تستطع حتى تحديد هويتهم: أعداء الإمبراطورية المحتضرة. ففي مطلع عام 1915، لم تحدّد حكومة القسطنطينية هوية "الخونة" المزعومين ولا طبيعة "جرائمهم" المزعومة. لكن سرعان ما اتّضح أنّ قادة "جمعية الاتحاد والترقي" خطّطوا –وسرعان ما شرعوا– في تنفيذ عملية تطهير عرقي واسعة النطاق لغير المسلمين، وبالأخص الأرمن والسريان واليونانيين. ولم يُدرك سوى قلّة في ذلك الوقت أنّ ما جرى التخطيط له كان إبادة جماعية بكل ما للكلمة من معنى.
وعلى مدى قرن من الزمن، أنضم عدد من الأكاديميين الأتراك بأصواتهم الخجولة إلى سلسلة من التقييمات المحايدة التي أجراها كبار الباحثين الدوليين، لتأكيد أنّ ما حدث كان في الواقع إبادة جماعية استهدفت القضاء على شعوب بأكملها. ومع ذلك، ورغم المذبحة، فشل هذا المشروع في تدمير هذه الأمم التي نجت بأعجوبة، ثم ازدهرت لاحقًا في بيئات أكثر تسامحًا. فقد قُتل ما لا يقلّ عن مليوني شخص بين عامي 1894 و1923، لكنّ الأرمن والسريان واليونان استمروا في الحياة ونموا وازدهروا. وقد وجد آلاف الناجين ملاذات آمنة في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين ومصر، فيما استقبل المئات في الجزيرة العربية، ومن بينهم من لقي الترحيب لدى عدد من أفراد أسرة آل سعود الذين فتحوا لهم بيوتهم بكرم وسخاء.
(نقلها إلى العربيّة: موقع أبونا)