موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
”أنت رجائي“ (راجع مزمور 70، 5)
1. "أَنتَ أَيُّها السَّيِّدُ رَجائي" (مزمور 70، 5). تدفّقت هذه الكلمات من قلبٍ مظلومٍ أثقلته صعاب جسيمة. قال صاحب المزامير: "أَنتَ الَّذي أَراني كَثيرًا، مَضايِقَ كَثيرةً وشُرورًا" (الآية 20). بالرّغم من هذا، فإنّ روحه منفتحة وواثقة، لأنّ إيمانه راسخ، وهو يعرف أنّ معونته من عند الله، وهو يعترف بذلك. "كُنْ لي صَخرَةَ حِصْنٍ" (الآية 3). من هنا تتدفّق ثقته التي لا تُقهَر بأنَّ رجاءه لن يَخِيب: "بِكَ يا رَبِّ اعتَصَمتُ، فلا أَخزَ لِلأَبَد" (الآية 1).
في وسط محن الحياة، يبقى الرّجاء منتعشًا بيقين محبّة الله الرّاسخ والمُشجّع، الذي يُفيضه الرّوح القدس في القلوب. لذلك، فإنّ "الرّجاء لا يُخَيِّبُ" (رومة 5، 5). كتب القدّيس بولس إلى طيموتاوس: "نحن نَتعَبُ ونُجاهِدُ لِأَنَّنا جَعَلْنا رَجاءَنا في اللهِ الحَيّ" (1 طيموتاوس 4، 10). والله الحيّ هو في الواقع "إله الرّجاء" (رومة 15، 13)، الذي أصبح في المسيح، بموته وقيامته، "رجاءنا" (1 طيموتاوس 1، 1). لا يمكن أن ننسى أنّنا خُلِّصْنا بهذا الرّجاء، الذي يجب أن نبقى فيه راسخين.
2. يمكن للفقراء أن يصيروا شهودًا لرجاءٍ قويٍّ وموثوق، لأنّهم فقراء ويعيشون في ظروفٍ معيشيّةٍ هشّة، قوامها الحرمان والهشاشة والتّهميش. فهم لا يعتمدون على ضمانات السّلطة والامتلاك، بل على العكس، هم غالبًا ضحايا السّلطة وأصحاب الملك. أُسُسُ رجائهم أمر آخر. إذا أدرَكْنا أنّ الله هو رجاؤنا الأوّل والوحيد، ننتقل نحن أيضًا من الآمال الزّائلة إلى الرّجاء الباقي. فعندما نرغب في أن يكون الله رفيق دربنا، نعيد الحجم الصّحيح لثرواتنا، لأنّنا نكتشف إذّاك الكنز الحقيقي الذي نحتاج إليه حقًّا. فيما تدَوِّي فينا عاليَةً وواضحةً كلمات الرّبّ يسوع التي وجَّهها إلى تلاميذه: "لا تَكنِزوا لِأَنفُسِكُم كُنوزًا في الأَرض، حَيثُ يُفسِدُ السُّوسُ والعُثّ، ويَنقُبُ السَّارِقونَ فيَسرِقون. بلِ اكنِزوا لِأَنفُسِكُم كُنوزًا في السَّماء، حَيثُ لا يُفْسِدُ السُّوسُ والصَّدَأ، ولا يَنقُبُ السَّارِقونَ فيَسرِقوا" (متّى 6، 19-20).
3. أعظم فقر هو عدم معرفة الله. هذا ما ذكّرنا به البابا فرنسيس عندما كتب في رسالته ”فرح الإنجيل“: "إنّ أسوأ تمييز يعاني منه الفقراء هو نقص في الرّعاية الرّوحيّة. فالغالبيّة العظمى من الفقراء، ولأنّهم فقراء، منفتحون على الإيمان. إنّهم بحاجة إلى الله، ولا يسعنا إلّا أن نقدِّمَ لهم صداقته، وبركته، وكلمته، والاحتفال بالأسرار المقدّسة، وإرشادهم في طريق تنمية ونضوج في الإيمان" (رقم 200). في هذا يكمن وعيّ أساسي وأصيل يبيِّن لنا كيف نجِدُ كنزنا في الله. في الواقع، يؤكِّد الرّسول يوحنّا فيقول: "إِذا قالَ أَحَد: «إِنِّي أُحِبُّ الله وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا، لِأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه، لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنّا 4، 20).
إنّها قاعدة الإيمان وسرّ الرّجاء: كلّ خيرات هذه الأرض، وكلّ الماديات، وملذّات الدّنيا، والرّخاء الاقتصادي، مهما كانت أهمّيّتها، لا تكفي لإسعاد القلب. الثّروات تخدعنا مرارًا وتؤدّي بنا إلى حالات فقرٍ مُريعة، وأوّلها الاعتقاد بأنّنا لسنا بحاجة إلى الله وأنّنا نقدر أن نعيش حياتنا من دون الله. وهنا تتبادر إلى ذهني كلمات القدّيس أغسطينس: "ليكن كلّ رجائكم في الله: اشعروا بالحاجة إليه، لتغتنوا به. فبدونه، مهما كان لكم من أملاك، ستزدادون بها فراغًا" (تفسير المزامير، المزمور 85، 3).
4. الرّجاء المسيحيّ، الذي تشير إليه كلمة الله، هو يقينٌ في أثناء رحلة الحياة، لأنّه لا يعتمد على القوّة البشريّة، بل على وعد الله الأمين دائمًا. ولذلك، سعى المسيحيّون، منذ البداية، إلى ربط الرّجاء برمز المرساة، الذي يوفّر الاستقرار والأمان. فالرّجاء المسيحيّ أشبه بمرساة تُثبّت قلوبنا في وعد الرّبّ يسوع، الذي خلّصنا بموته وقيامته، والذي سيعود إلينا. ويستمرّ هذا الرّجاء في الإشارة إلى ”السّماوات الجديدة“ و”الأرض الجديدة“ (راجع 2 بطرس 3، 13) كأفقٍ حقيقيّ للحياة، حيث تجد جميع المخلوقات معناها الحقيقيّ، لأنّ وطننا الحقيقيّ هو في السّماء (راجع فيلبي 3، 20).
مدينة الله، إذًا، تُلزمنا بمدن البشر. وعليها أن تتشبّه بها منذ الآن. فالرّجاء، مدعومًا بمحبّة الله المُفاضة في قلوبنا بالرّوح القدس (راجع رومة 5، 5)، يُحوّل قلب الإنسان إلى تربة خصبة، حيث تنبت المحبّة من أجل حياة العالم. ويؤكّد تقليد الكنيسة باستمرار التّرابط بين الفضائل الإلهيّة الثّلاث: الإيمان والرّجاء والمحبّة. فالرّجاء يولد من الإيمان الذي يُغذِّيه ويدعمه، على أساس المحبّة أُمِّ الفضائل. ونحن بحاجة إلى المحبّة اليوم، والآن. ليست وعدًا، بل هي واقع ننظر إليها بفرح ومسؤوليّة: إنّها تُشركنا، وتُوجّه قراراتنا نحو الخير العام. أمّا من يفتقر إلى المحبّة، فلا يفتقر إلى الإيمان والرّجاء فحسب، بل يحرم قريبه أيضًا من الرّجاء.
5. لذا، فإنّ دعوة الكتاب المقدّس إلى الأمّل تحمل معها واجبَ تحمُّلِ مسؤوليّاتٍ متماسكة في التّاريخ، دون تأخير. فالمحبّة، في الواقع، "هي أعظم الوصايا الاجتماعيّة" (التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 1889). للفقر أسباب هيكليّة يجب معالجتها والقضاء عليها. وإلى أن يحدث هذا، إنّنا جميعًا مدعُوُّون إلى خلق بوادر أمّل جديدة تشهد على المحبّة المسيحيّة، كما فعل العديد من القدّيسين في كلّ عصر. المستشفيّات والمدارس، على سبيل المثال، مؤسّسات أُنشئت للتعبير عن ترحيبها بالضّعفاء والمهمّشين. يجب أن تكون الآن جزءًا من السّياسات العامّة لكلّ بلد، لكن الحروب وعدم المساواة غالبًا ما يحولان دون ذلك. وبشكل متزايد، صارت بوادر الأمل بيوتًا للعائلات، وجماعات تأوي القاصرين، ومراكز استماع واستقبال، وموائد للفقراء، ومنامات للطّلاب، ومدارس شعبيّة: كم من البوادر المخفيّة غالبًا، وربّما لا ننتبه إليها، ومع ذلك فهي بالغة الأهمّيّة للتخلّص من اللامبالاة ولتحفيز الالتزام في مختلف أشكال التّطوّع!
الفقراء ليسوا للكنيسة مجرّد وسيلة للفت النّظر، بل هم أعزّ الإخوة والأخوات، لأنّ كلّ واحد منهم، بوجوده وبما يحمله من كلمات وحكمة، يحثّنا على أن نلمَسَ لَمسَ اليد حقيقة الإنجيل. لذلك، يهدف اليوم العالمي للفقراء إلى تذكير جماعاتنا بأنّ الفقراء هم محور كلّ عمل رعوي، ليس فقط لأنّه عمل محبّة، بل هو ما تحتفل به وتبشِّرُ به الكنيسة. الله اتّخذ على نفسه فقرهم ليُغنينا بأصواتهم وقصّصهم ووجوههم. جميع أشكال الفقر، دون استثناء، هي دعوة إلى أن نعيش الإنجيل بصورة عمليّة ونعطي بوادر أمل فعّالة.
6. هذه هي الرّسالة التي تأتينا من الاحتفال باليوبيل. وليس صدفةً أن يُحتفل باليوم العالمي للفقراء في نهاية سنة النّعمة هذه. فعندما يُغلَقُ الباب المقدّس، علينا أن نحفظ وننقل العطايا الإلهيّة التي أُغدقت علينا طوال سنة كاملة من الصّلاة والتّوبة والشّهادة للإيمان. الفقراء ليسوا موضوع رعايتنا الرّعويّة، بل هم أشخاص مبدعون يتحدُّوْنَنا لإيجاد طرق جديدة لعيش الإنجيل اليوم. أمام موجات الفقر المتتالية، يبقى خطر التعوّد والاستسلام يهدِّدُنا. نلتقي بالفقراء أو الذين صاروا فقراء كلّ يوم، وقد يحدث أحيانًا أنّنا نفقد نحن ممّا كنّا نملك ونظُنُّه آمِنًا: البيت، أو الطّعام الكافي ليومنا، أو الوصول إلى الرّعاية الصّحّيّة، أو مستوى تعليمي أو إعلامي جيّد، والحرّيّة الدّينيّة، وحرّيّة التّعبير.
عندما نعمل من أجل الخير العام، فإنّ مسؤوليّتنا الاجتماعيّة تستمدّ أساسها من عمل الله الخالق، الذي يعطي خيرات الأرض للجميع. ومثل هذه الخيرات، كذلك يجب أن تكون ثمار عمل الإنسان أيضًا في متناول الجميع بصورة متساوية. في الواقع، مساعدة الفقير هي أوّلًا مسألة عدل قبل أن تكون مسألة محبّة. قال القدّيس أغسطينس: "أنت تُعطي خبزًا للجائع، لكن الأفضل هو ألّا يجوع أحد، حتّى لو لم يبقَ حينها أحد تعطيه. أنت تقدِّم الملابس للعريان، لكن كم هو من الأفضل لو كان للجميع ما يلبسون، ولم يكن أحد محتاجًا" (شرح في رسالة يوحنّا الأولى، 8، 5).
لذا، آمل أن تُشجّع سنة اليوبيل هذه على وضع سياسات لمكافحة أشكال الفقر القديمة والجديدة، وعلى اتّخاذ مبادرات جديدة لدعم ومساعدة أفقر الفقراء. العمل والتّعليم والسّكن والصّحّة هي شروط الأمن الذي لن يتحقّق أبدًا بقوّة السّلاح. أهنئكم على المبادرات القائمة والالتزام الذي يُقدّمه يوميًّا على المستوى الدّولي عدد كبير من الرّجال والنّساء ذوي النّوايا الحسنة.
فلنضع ثقتنا في مريم الكاملة القداسة، ومعزيّة الحزانى، ولنرفع معها نشيد الأمل، مع كلمات النّشيد ”اللّهُمَّ نَمْدَحُكْ“: "توكَّلْتُ عليكَ، يا رَبّ، فلا أَخزَى إلى الأَبد".