موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١٥ مايو / أيار ٢٠٢٥
بلسان آبائيّ وبقلبٍ مجمعيّ: الأسبوع الأوّل من حبريّة البابا لاون الرابع عشر

الأب عبدالله دبابنه :

 

منذ لحظة ظهوره الأوّل من شرفة كنيسة القدّيس بطرس، لم يتمكّن أحد من إخفاء صدمته من سماع اسم الكاردينال بريفوست. لم يكن اسمًا معروفًا، ولا اسمًا مُتوقّعًا، بل كان اسمًا اختاره الرّوح القدس ليقود مركب الكنيسة في زمنٍ ليس من السّهل قراءته، ووقتٍ لا يمكننا توقّعه.

 

اختار قداسته في الأسبوع الأوّل من حبريّته أن يُوجّه مجموعة من الخطابات واللقاءات التي -وإن بدت في ظاهرها رعويّة بحتة- إلّا أنّها حملت في طيّاتها عُمقًا لاهوتيًّا يستحقّ التّأمّل والتّحليل، واستشهادات آبائيّة ومجمعيّة تكشف عن منهجية تنظُر إلى التقدُّم، بخطواتٍ متجذّرة في قلب التّقليد الكنسيّ الأصيل.

 

اختياره للاسم «لاون»

 

لا يمكنني أن أنكِر بأنّ ذِكرَ اسمه في الصّلاة الإفخارستية، له رونق خاص: إذ تشعر حقّاً بأنّك ابن لكنيسة عمرها مئات السّنين. فاختياره لهذا الاسم بحدّ ذاته يستحقّ التّأمّل: إنّه باختياره هذا أشار بوعيٍ رمزيٍّ إلى أهميّة الخلافة البطرسيّة، مُبيّناً ارتباطه بالبابا لاون الكبير، الذي حسم في مجمع خلقيدونيا (451)، مسألة اتحاد الطبيعتين في المسيح، إذ أعلم آباء المجمع آنذاك «أن بطرس قد تكلّم بفم لاون». هذه الإشارة اللاهوتية المباشرة تؤكّد حبريّةً متجذّرةً في العقيدة الكاثوليكيّة، التي لا تنفصل عن روح المجامع المسكونيّة، ولا تقف عندها، بل تسير بقوّة التّقليد إلى مستقبل أكثر وضوحاً. كما قد عبّر أيضاً عن إعجابه -منذ الصّغر- بشخصيّة البابا لاون الكبير وتأثّره بأقواله وشجاعته في الدّفاع عن الإيمان.

 

كما أشار بوضوح إلى أنّ اختياره جاء تيمُّناً بالبابا لاون الثّالث عشر، لا سيما في نظرته الاجتماعيّة واللاهوتيّة المتوازنة، وجرأته في الانفتاح على قضايا العصر دون أن يُفرّط بجوهر الإيمان، خاصة في تعليمه الاجتماعيّ في الرّسالة العامّة «Rerum Novarum»، والتي لانعكاسها أهميّة كبيرة اليوم في ثورة الذّكاء الاصطناعيّ. إنّ هذا الدّمج بين الرّوح العقائديّة العميقة عند لاون الكبير، والبُعد الاجتماعيّ الرّعويّ عند لاون الثّالث عشر، يعكس نظرة آبائيّة مجمعيّة عميقة، قادرة أن ترسم خطوطاً أوضح للواقع الذي نعيشه.

 

هذا الأمر الذي بدا واضحاً خلال خطابه الأول مبتدئاً بالسّلام، ومُنادياً بالسّلام العالميّ، وأيضاً بات أكثر وضوحاً في صلاة «إفرحي يا ملكة السّماء»؛ إذ شددّ على أنّ سلام المسيح يجب أن يسود هذا العالم المليء بالحروب والنّزاعات. وقد أشار أيضاً في لقائه مع الصّحفيين، إلى أنّ السّلام لا يمكن أن يتحقّق دون الحقيقة، ودون حريّة التّعبير عن الرّأي، وضرورة أن نقول «لا» للحروب.

إطلالته الأولى: خوفٌ مقدّس

 

إنّ الوعي لفكرة أن الكاهن مسؤول عن شعب الله أمام الله، هي فكرة تُخيف كثيراً، فمسؤوليّة رعاية قطيع الله ليست بالمسؤوليّة السّهلة. فماذا يكون حال البابا، الّذي يحمل على كتفيه ثِقَل الكنيسة كلّها: بأفراحها وأحزانها وآلامها وآمالها؟ لقد ظهر البابا على شُرفته مُرتبكاً، يحاول أن يستجمع قِواه، ويُحيّي الشّعب تحيّة المسيح القائم: «السّلام عليكم»، ثم أشار إلى دوره ودور كلّ مسيحيّ في بناء الجسور (Pontifex)، وهو المعنى الحرفيّ "للحَبر" باللغة اللّاتينيّة.

 

أعلن بخطابه القصير، لاهوتاً إكليزيولوجيّاً (كنسيّاً) مختَصراً، ومؤكّداً أنّنا كنيسة واحدة مقدّسة جامعة رسولية ومُرسَلة. وأكمل أيضاً مؤكّداً البُعد الإسكاتولوجيّ (الأَخرَويّ) للكنيسة، بأنّنا «نسير معاً، إلى الموطِن الذي أعدَّه الله لنا».

خطابه إلى الكرادلة: الخدمة البطرسيّة

 

في أول لقاء له مع الكرادلة، أكّد في أولى كلماته دور الخدمة البطرسيّة في وحدة الكنيسة، إن خطاباً كهذا يؤكّد على توجّهاً واضحاً نحو التّجذّر في التّقليد الكنسيّ. فالبابا لا يكتفي بالاستشهاد الإنجيليّ فحسب، بل يُسقِط عليه فهماً كنسيّاً مستمدّاً من التّقليد الآبائيّ والمجمعيّ، كما قد استعان أيضاً بقول القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ الذي وصف كنيسة روما بأنّها «ترأس بالمحبّة»، ومن شأن هذا الاقتباس، تحديد طبيعة الخدمة البطرسيّة بوصفها خدمة للمحبّة والوحدة، لا سلطة فوقيّة.

 

ولا يتوقّف عند المجامع المسكونيّة الأولى، بل يستشهد أيضاً بالمجمع الفاتيكانيّ الثّاني، بالأخص وثيقتيّ نور الأمم وفرح ورجاء، ليُعبّر عن دور الكنيسة ويوضّح هيكليّتها. لا بل باستشهاده بالقديس إغناطيوس الأنطاكيّ مرّة أُخرى: «لن أكون تلميذاً حقيقياً للمسيح ما لم يعُد العالم يرى جسدي» ويؤّكد أن الخدمة البطرسيّة، خدمة تُمارَس بالتّضحية والتواضع.

 

وبخاطبه البعيد كلّ البُعد عن الإداريّة، عبّر عن دور روحيّ أعمق يمارسه الكرادلة في الكنيسة، وأضاف بهذا مفهموماً أعمق للسّينودوسيّة والعمل الجماعيّ، لتكون الكنيسة أُمّاً تُنجب أبناءً في الإيمان، ونوراً يُضيء ظلمة العالم، هذا الصورة الّتي نجدها عند أغسطينوس ويوحنّا الذّهبيّ الفمّ.

الأحد الأوّل: أحد الرّاعي الصّالح

 

في أوّل أحدٍ له كأسقف لروما، قُرئ نصّ الرّاعي الصّالح. وفي قُدّاسه الذي أقامه على قبر القديس بطرس، هامة الرّسل، أكّد أنّ خدمته الأسقفيّة هي مشاركة في خدمة المسيح الرّاعي، وهذا ما يُعبّر عنه المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في نور الأمم (21)، الّذي يوضّح دور الأسقف: المشاركة في خدمة المسيح الرّاعي.

 

نحن أمام تعليم عقائديّ اجتماعيّ عميق، يضرب جذوره في عراقة الماضي، وغنى التّقليد المقدّس. وقد أشار في أكثر من مرّة خلال خاطباته الأولى، أنّ الدّعوات للكهنوت وللحياة المكرّسة هي نداء حقيقيّ، لا يتحقّق إلّا بالإصغاء الحقيقيّ إلى صوت الرّاعي الصّالح، وبمشاركة حقيقيّة ودعم قوّي من كلّ أعضاء الكنيسة المقدّسة.

نحو خطاب لاهوتيّ رعويّ

 

في أسبوعه الأوّل، تمكّن البابا لاون الرّابع عشر من أن يُبهر العالم أجمع، وبخاصّة المسيحيّ، بعمق ثقافته وإطّلاعه الكبير على تعليم الكنيسة بجذوره، وقدرته الرّهيبة على أن يتحدّث باللّاهوت دونما تكلُّف أو ادّعاء. كلّ هذه علامات رجاء في بداية حبّريّته، ويبدو بأنّ حبريّته ستكون حبريّة الرّجاء المؤسَّس على عقيدة متينة، وحوار لا يساوِم على الإيمان، حبريّة وديعة، تُقدِّم الحقيقة بمحبّة.

 

هذه ليست بداية عاديّة، بل انطلاقة تبشّر بمسيرة يقودها قلب لاهوتيّ وروح رعويّة في آنٍ واحد.