موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١
البابا يستقبل أعضاء الكورية الرومانية لتبادل التهاني بمناسبة حلول عيد الميلاد

فاتيكان نيوز :

 

استقبل البابا فرنسيس أعضاء الكورية الرومانية لتبادل التهاني بحلول الأعياد الميلادية.

 

ووجه الحبر الأعظم خطابًا مسهبًا استهله مشيرًا إلى أن اللقاء الذي يجمعه بأعضاء الكورية الرومانية يشكل مناسبة لتبادل التهاني لمناسبة عيد الميلاد بطريقة أخوية، كما أنه يقدم فرصة للتأمل وفحص الضمير، كي يذكّرنا نور "الكلمة" الذي تجسد وصار إنساناً بهويتنا ورسالتنا. بعدها أكد البابا أن سر الميلاد هو سرّ الله الذي يأتي إلى هذا العالم من خلال التواضع، في وقت يبدو فيه أن أناس زماننا الحاضر نسوا التواضع وأفرغوه من محتواه.

 

ولفت إلى أن الأناجيل تقدم لنا صورة عن الفقر، والتقشف، وتصوّر لنا بيئة غير ملائمة لامرأة حامل تريد أن تضع مولودها. ومع ذلك جاء ملك الملوك إلى هذا العالم بعيدا عن الأنظار، لكنه عرف كيف يجذب قلوب الأشخاص وكان التواضع باب دخوله إلى هذا العالم وهو يدعونا إلى عبور الباب نفسه. وأوضح البابا في هذا السياق أن التواضع هو عبارة عن تبدّل، يُحدثه الروح القدس الذي يعمل بداخلنا، كما حصل –على سبيل المثال– مع نعمان السرياني، الذي كان يحظى بشهرة كبيرة أيام النبي أليشع، وكان قائدا للجيش، وقد أظهر في مناسبات عدة قيمته وشجاعته. ومع ذلك كان يعيش مع مأساة رهيبة، ألا وهي داء البرص. وكان الدرع الذي يلبسه يُخفي وراءه الهشاشة البشرية، وهذا التناقض نراه غالبا في حياتنا.

 

مضى البابا إلى القول إن نعمان السرياني أدرك حقيقة جوهرية، أي أنه لا نستطيع أن نعيش حياة مخبأة وراء الدروع، أو وراء جاه هذا العالم. وهذا الأمر دفع به للبحث عن شخص يساعده، فأخبرته خادمة عبرانية عن الله القادر على شفائه. فما كان عليه إلا أن ذهب –محملا بالفضة والذهب– لملاقاة النبي أليشع، الذي طلب منه أن يغسل نفسه سبع مرات في نهر الأردن، بعيدا عن الشهرة والجاه والذهب والفضة، لأن نعمة الله التي تشفي هي مجانية، ولا يمكن شراؤها بما يقدّمه هذا العالم. بعد التردد فعل نعمان ما طلبه منه النبي، وشفي من البرص. إن التواضع أظهر إنسانيته المجردة أمام الله ونال منه الشفاء.

 

بعدها لفت البابا إلى أن قصة نعمان السرياني تذكّرنا بأن الميلاد يحمل كل واحد منا على التخلي عن دروعه، كي يلبس التواضع، وذلك اقتداء بمثل الرب نفسه الذي جاء إلى هذا العالم مضجعا في مذود. وأضاف البابا أن الرب يسوع نفسه يقول لنا "ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه؟". وحذّر فرنسيس في هذا السياق مما سماه بـ"الدنيوية الروحية" والعجرفة، داعيا إلى عيش إنسانيتنا بتواضع وواقعية وفرح ورجاء، لأن الله يحب هذه الإنسانية ويباركها. وهنا لا بد أن ندرك أنه لا يجب أن نخجل من هشاشتنا، إذ إن يسوع يعلمنا أن ننظر إلى بؤسنا بمحبة وحنان كمن ينظر إلى طفل صغير وضعيف ويحتاج إلى كل شيء. وبدون تواضع يبحث الإنسان عن التطمينات التي هي ثمرة "الدنيوية الروحية"، التي تعكس نقصا في الإيمان والرجاء والمحبة، ويصبح الإنسان عاجزا عن تمييز حقيقة الأشياء.

 

ثم توقف البابا عند ما هو عكس التواضع، أي الغرور، لافتا إلى أن النبي ملاخيا يقول إن جميع الأشخاص المغرورين سيكونون كالقش الذي تلتهمها النيران، ولا يبقى له أثر. وقال فرنسيس إن القشة وعندما تشتعل تصبح رماداً وتختفي. تماما كالإنسان المغرور الذي يفقد كل ما لديه، ولا يبقى له ماض أو مستقبل، ويعيش مرارة الحزن العقيم الذي يسيطر على القلب. أما الشخص المتواضع فيعيش الانفتاح الفرح للخصوبة. وأشار البابا إلى أهمية أن نتذكر ماضينا وتاريخنا وتقاليدنا، والتذكار لا يعني التكرار، بل الحفاظ على الكنوز التي نملكها والاستسلام إلى قوة الروح القدس الذي يُضرم النار في القلوب، تماما كما فعل مع التلامذة الأوائل.

 

ولا بد أن تقترن الذاكرة بالعمل من أجل المستقبل لأن الشخص المتواضع يحرص أيضا على المستقبل، لأنه يعرف كيف ينظر إلى الأمام، إلى براعم البذور التي يزرعها، فيما الشخص المغرور يتصلب في مواقفه وينغلق ضمن دوامة التكرار، ويشعر بالأمان حيال ما يعرفه ويخشى كل ما هو جديد لأنه لا يستطيع أن يسيطر عليه. أما الشخص المتواضع فيقبل أن يكون موضع نقاش، ينفتح على الحداثة، ويشعر بقوة ماضيه وجذوره وانتمائه. فحاضره يقطنه ماضٍ يجعله منفتحا على المستقبل برجاء. وقال البابا في هذا السياق لأعضاء الكورية الرومانية إننا جميعنا مدعوون لعيش التواضع ولإيجاد التوازن المطلوب بين الماضي والمستقبل، بين جذور الأمس وبراعم الغد. ويسوع – الذي يأتي إلى العالم متواضعا – يفتح أمامنا درب التواضع ويُظهر لنا الهدف.

 

تابع البابا خطابه مؤكدا أنه من دون التواضع لا نستطيع أن نلتقي بالله، وأن نختبر الخلاص، كما نعجز أيضا عن اللقاء بالقريب، بالأخوة والأخوات الموجودين من حولنا. وذكّر أنه في السابع عشر من تشرين الأول أكتوبر الماضي أُطلقت المسيرة السينوسية التي ستستغرق سنتين، وقال إننا نحتاج هنا أيضا إلى التواضع الذي يساعدنا على اللقاء والإصغاء والحوار والتمييز، لأنه إذا ظل كل واحد منغلقا في عالمه الخاص يصبح من الصعب جدا أن تنشأ فسحات لاختبار الروح القدس. وتوقف البابا عند مفهوم السينوسية، أو السير معا، الذي ينبغي أن نرتد إليه إذا ما شئنا أن نعيش خبرة خدمة الكنيسة الجامعة من خلال العمل في الكورية الرومانية. وقال فرنسيس في هذا السياق إن الكورية ليست مجرد أداة لوجستية وبيروقراطية لتلبية احتياجات الكنيسة، إنها في الواقع الهيئة الأولى المدعوة إلى الشهادة، لذا لا بد أن تواجه تحديات الإرتداد السينودسي. وهذا الأمر يتطلب عيش المبادئ الإنجيلية، كالفقر والتقشف والعدالة والشفافية، فضلا عن التعاون والشركة، وكل هذا يتحقق من خلال التواضع.

 

وتوقف البابا بعدها عند الكلمات الدالّة الثلاث التي افتتح بها الجمعية السينودسية ألا وهي: مشاركة، شركة ورسالة. وهذه المفاهيم تساعد على جعل درب التواضع واقعية وملموسة وقابلة للتطبيق. فيما يتعلق بالمشاركة، لا بد أن يتقاسم الجميع المسؤوليات، في إطار تنوع الأدوار والخدمات، فينبغي أن يشعر كل شخص أنه قادر على الإسهام في هذه النشاطات. وشجع البابا الحاضرين على العمل في هذا الاتجاه، مؤكدا أن السلطة تتحول إلى خدمة عندما تكون هناك مقاسمة. أما الشركة، فهي ليست عبارة عن أكثرية وأقلية، لأنها تولد من العلاقة مع الرب. كما أن تمتين الشركة يتطلب الصلاة معا والإصغاء معا إلى كلمة الله، ونسج علاقات ضمن التعاون المتبادل، تحركنا مصلحة الآخرين، مع الإقرار بالاختلافات التي هي عطية من الروح القدس. أما الرسالة – مضى البابا يقول – فهي تساعدنا على عدم الانغلاق على ذواتنا، كما أنها تتطلب شغفاً حيال الفقراء، الذين هم بحاجة إلى الأمور المادية والروحية والعاطفية والمعنوية، وهذه هي دعوة الكنيسة.

 

في ختام خطابه إلى أعضاء الكورية الرومانية تمنى البابا فرنسيس للجميع عيداً سعيدا، طالبا منهم أن يتعلموا من تواضع الطفل يسوع، ويبتعدوا عن الأمور الدنيوية ويعتبروا عملهم خدمة. وشدد على أهمية السجود للرب بتواضعه، مذكرا بأن عيد الميلاد يعلمنا التواضع الذي هو شرط أساسي للإيمان وللحياة الروحية والقداسة. وطلب من الجميع أن يصلوا من أجله.