موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الجمعة، ٤ فبراير / شباط ٢٠٢٢
البابا فرنسيس.. والشتاء الديموغرافي الأوروبي

إميل أمين :

 

يهتمّ البابا فرنسيس وراء جدران الفاتيكان بكثير من القضايا الدينية والزمنية، فهذا الرجل الذي كرس الكثير جدًا من وقت حبريته لقضايا الكوكب الأزرق، يولي كثيرًا من الاهتمام لبعض أعقد الإشكاليات التي تواجه البشرية في حاضرات أيامنا.

 

وكانت الأرض والإنسانية والسلام العالمي، وقبلها كل ما هو متعلق بكرامة الإنسان، شغلاً شاغلاً لبابوات روما، غير أنه منذ عام 2013 أي حين اعتلى فرنسيس السدة البطرسية، بدأ العالم يشعر بتلاحم رؤيوي وخلاق مع أزمات معاصرة في مقدمتها التغيرات المناخية، ومن هنا كانت رسالة فرنسيس التاريخية: «كُن مُسبّحًا»، المتعلقة بشؤون وشجون الكوكب الأزرق، هذا الذي أطلق عليه الأميركي «هال ليندسي» كوكب الأرض، والآن يعلو صوت فرنسيس تجاه تحدٍّ آخر هو ما أسماه كل من «داري لبريكر وجون إيبيستون»، بـ«الكوكب الفراغ»، وضمّناه كتابهما الذي يحمل ذات العنوان.

 

في لقائه الأسبوعي نهار الأربعاء الخامس من كانون الثاني، مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس، أعاد فرنسيس الحديث عن واحدة من أهم وأخطر القضايا التي تعيشها القارة الأوروبية، وبعض مواقع ومواضع أخرى حول العالم، إنها قضية «الشتاء الديموغرافي»، الذي يتهدد حال ومآل أوروبا سكانيًا من جراء نقص الرغبة في الإنجاب، ما جعل معدلات المواليد تتساوى مع معدلات الوفيات، وخلال ثلاثة عقود سيكون الإنجاب أقل من الوفيات، ما يعني أن حضارة وثقافة أوروبا ستصبح عرضة للاندثار.

 

 

الخلل الديموغرافي

 

وفي لقاء الأربعاء ذلك، أشار فرنسيس إلى أن الناس لا يريدون إنجاب الأطفال، وفي أفضل الأحوال يكتفون بطفل واحد فقط لا غير، وكثير من الأزواج ليس لديهم أطفال؛ لأنهم لا يريدون أن ينجبوا من الأصل، في حين أن لديهم كلبين وقطتين.. نعم إن الكلاب تحل محل الأطفال، إنه أمر مضحك بحسب بابا روما، ولكنه للأسف حقيقة.

 

لم يكن فرنسيس يتحدث من فراغ، ولاسيما أن إيطاليا عاصمة الكاثوليكية العالمية، تعطي أسوأ نموذج في هذا الإطار، ففي شهر كانون الأول الماضي، أظهر مكتب الإحصاءات الإيطالية هبوطًا في عدد المواليد في إيطاليا إلى أدنى مستوياته منذ توحيد البلاد عام 1861، وأن مسلسل الهبوط مستمر للعام الثاني عشر على التوالي.

 

وبهذه الطريقة، بات الشتاء الديموغرافي أو السكاني مصدر قلق حقيقي في إيطاليا، وهي مأساة في غير صالح ومصالح الأسر الإيطالية والدولة ومن ورائهما المستقبل بشكل عام. غير أن علامة الاستفهام الحري بنا طرحها: «هل إيطاليا بمفردها هي من يواجه هذا المستقبل السكاني المخيف؟»،

 

يرى فرنسيس أن هذا التوجه هو إنكار للأبوة والأمومة، ويقلل من قيمتنا، ويسلبنا بشريتنا، وبذلك تصبح الحضارة عتيقة، ودون إنسانية؛ لأنها فقدت غنى الأبوة والأمومة، اللذين يمثلان ملء حياة الإنسان.

 

ولعل من المؤكد أن إيطاليا، وإن كانت صاحبة القدر الأكبر من الخلل الديموغرافي، إلا أن الخطر محدق أيضاً بإسباينا وألمانيا، وبولندا، وبدول أخرى منها ما هو آسيوي، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وحتى أميركا اللاتينية أصابها هي أيضاً «فيروس الأنانية»، كما الحال في البيرو.

 

 

عمق الأزمة

 

وثمة أكثر من نموذج أوروبي بدأت تتحقق فيه قراءات البروفيسور «ميشيل شويانيز»، الأستاذ الفخري بالجامعة الكاثوليكية في لوفان، وعضو الأكاديمية الحبرية البابوية للحياة، بشأن «الشتاء الديموغرافي»، وقد كان الرجل أول من صك هذا المصطلح.

 

وعلى سبيل المثال بولندا، فهي نموذج واضح آخر بعد إيطاليا لمدى عمق الأزمة، وتجذر الإشكالية، ذلك أن الهجرة منها إلى خارجها، وانخفاض معدلات المواليد، وزيادة عمر البشر، كلها تعني ارتفاع معدلات الشيخوخة، وهذه المؤشرات جميعها تظهر اليوم تحديات ديموغرافية، باتت تؤثر على الأوضاع المالية العامة في بولندا خاصة، وفي عموم الاتحاد الأوروبي عامة، إلى درجة أن المصروفات المتعلقة بالسن ترتفع بشكل كبير.

 

والشاهد أنه إذا كان فرنسيس قد حذر قبل أسابيع من احتمالات سكانية أوروبية مخيفة، إلا أنه للأمانة العلمية البحثية والموضوعية، قد سبقته أيضاً أصوات كثيرة في هذا السياق، منها على وجه التحديد صيحة أو صرخة رئيس وزراء فرنسا، ميشيل روكار، عام 1989، خلال مؤتمر أطلق عليه اسم العائلات جرى في 20 يناير من ذلك العام، أي قبل نحو ثلاثة عقود من الآن، وقال فيه: «إن معظم دول أوروبا الغربية في طريقها إلى الانتحار بسبب التركيبة السكانية»، مضيفاً أن «كثيراً من الأوروبيين محكوم عليهم بمستقبل سيكونون فيه مسنين دون أطفال أو أحفاد وحتى دون أبناء أو إخوة، كما أن الهجرة ليست حلاً كافياً للتخفيف من أزمة الخصوبة المخفضة في غالبية بل كل دول أوروبا».

 

 

حرية مزيفة

 

والسؤال: ما السبب الرئيس في نشوء ظاهرة «الشتاء الديموغرافي» أوروبياً؟..

 

يمكن القطع بأن الحرية المطلقة، والمتحللة من أي قيود أخلاقية أو مجتمعية، هي السبب المباشر، ويبدو غالبية الشباب الأوروبي في العقود الأخيرة ميالين إلى عدم الارتباط بأطفال ما يمثل بالنسبة لهم قيوداً ضد حركتهم وتنقلاتهم، بل ضد تغيير موجات حياتهم، ولهذا فإن السبب الأساسي في الأزمة يمكننا أن نعزيه إلى تلاشي قيم ثقافية مجتمعية، في مقدمتها مفهوم الأسرة وأهميتها بالنسبة للمجتمعات في المقام الأول، وللإنسانية بشكل أوسع.

 

والحال أن الذين لا يريدون الأطفال هم باحثون عن حرية مزيفة، وهؤلاء لا ينتظمون في أي من المنظومات الثقافية أو الدينية، والتدهور الخطير لهذه القيم، هو ما ولّد ظهور وتعميم القيم المضادة. وهكذا أضحت غالبية المجتمعات الأوربية في العصر الحديث، شديدة القرب من مفهوم الرواقيين الذين عرفتهم أثينا القديمة في أوج حضارتها، وكان شعار هؤلاء: «فلنأكل ولنشرب فإنا غداً نموت». وساعد على تمدد زمن «الشتاء الديموغرافي»، بحسب البروفيسور «ألبان دينتر يممونت»، أستاذ علم الجغرافيا الأوروبية في جامعة نافارا في إسبانيا، ظهور مفاهيم تستلزم إضفاء الصفة الرسمية والموافقة الاجتماعية على بدائل لفكرة الأسرة المترابطة التقليدية.

 

 

مخالفة النواميس

 

فهل بات التقدم العلمي سلاحاً ذا حدين، فكما يغني البشرية، يمكن أيضاً أن يفقرها أخلاقياً وإنسانياً؟

 

يبدو أن الأمر كذلك، ولاسيما أن البدائل غير الطبيعية للتكاثر البشري، بدأت تشغل حيزاً مخالفاً للنواميس الطبيعية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن التلاعب الجيني والتخصيب في المختبرات والاستنساخ، تطرح فيما يتعلق بالجنس البشري والزواج والأسرة، عنصراً جديداً ومقلقاً من التفكك الشخصي والاجتماعي.

 

 

هل من عواقب مباشرة؟

 

الجواب على صعيدين، إنساني ثقافي المقام الأول، واقتصادي مالي في الدرجة الثانية.

 

لأن الشتاء الديموغرافي يعني اندثار الثقافة الأوروبية، مع خسارة صافية لملايين السكان الأوروبيين في النصف الأول من هذا القرن، عطفاً على شيخوخة مزعجة من السكان.

 

ثانياً، وعلى الجانب المالي سترتفع رسوم الضمان الاجتماعي، وستطفو على السطح اختلالات خطيرة في هياكل الإنتاج والاستهلاك.

 

على أن الكارثة الأكبر بالنسبة للعالم برمته وليس للأوروبيين فقط، قد تتمثل في إمكانية الوصول إلى نقطة زمنية تصل فيها الحضارة الأوروبية التنويرية، إلى الاضمحلال، كما جرى لحضارات إنسانية سابقة رومانية ويونانية وفرعونية.

 

 

التغيير العميق

 

المؤكد أنه لا يمكن تغيير الخلل العميق في واقع أوروبا الديموغرافي إلا من خلال تغيير عميق في الموقف تجاه واقع الشخص، السلوك، الزواج، الإنجاب، الأسرة، وفي نهاية المطاف، أمام الواقع الأعمق لما تستتبعه الحالة الإنسانية لجوهرها وأهدافها النهائية.

 

وفي كل الأحوال، يبدو صوت فرنسيس صيحة لتنبيه الباحثين عن هياكل أخرى مختلفة عن الأسرة التقليدية، ما يؤدي بالضرورة إلى تناقضات جوهرية في البنية التكتونية البشرية، تناقضات لا يمكن التخلص منها إلا من خلال استعادة القيم التي تعزز الأسرة كنواة لمجتمع بشري صالح وطبيعي.

 

(الاتحاد الإماراتية)