موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تشكل الزيارة الأولى لجلالة الملك عبدالله الثاني إلى الفاتيكان ولقاء جلالته البابا الجديد لاون الرابع عشر فصلاً جديداً في كتاب العلاقات الممتدة بين المملكة الأردنية الهاشمية وحاضرة الفاتيكان.
تجمع هذه العلاقة بين عمق تاريخي يمتد لعقود وشراكة استراتيجية معاصرة ترتكز على قيم مشتركة في السعي نحو السلام، ووقف نزيف الدماء في غزة، وحماية المقدسات، ودعم الوجود المسيحي التاريخي في المنطقة.
وتأتي هذه الزيارة في إطار الجهود الدبلوماسية الأردنية المستمرة لتوطيد التعاون مع الفاتيكان الذي يشكل ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي.
تعود العلاقات الدبلوماسية بين الأردن والفاتيكان إلى عقود طويلة، حيث كانت زيارة البابا بولس السادس للأردن عام 1964 أولى زيارات البابوات للمملكة، لتبدأ مسيرة من التعاون الوثيق لم تتعرض لأي اهتزاز.
وتوالت زيارات البابوات للأردن بعد ذلك، حيث زار آخر أربعة بابوات المملكة، وهم: البابا بولس السادس، والبابا يوحنا بولس الثاني، والبابا بندكتس السادس عشر، والبابا فرنسيس الذي زار الأردن عام 2014 ضمن جولته للحج إلى الأرض المقدسة، وشملت زيارته موقع عماد السيد المسيح "المغطس".
أما على المستوى الشخصي بين القيادتين، فقد كانت أول زيارة لجلالة الملك عبدالله الثاني للفاتيكان بعد سبعة أشهر فقط من تسلمه سلطاته الدستورية في أيلول 1999، مما يؤكد الأهمية الاستراتيجية التي يوليها الأردن لهذه العلاقة. وقد استمرت هذه الزيارات على مدى سنوات، حيث اجتمع جلالة الملك عبدالله الثاني بالبابا فرنسيس عدة مرات منذ عام 2013 وحتى عام 2024.
ووصف مدير دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي هذه العلاقة بأنها «علاقة صداقة» تميزت بالدفء والمودة، حيث تبادل الطرفان الهدايا في مناسبات عديدة، كما سلّم البابا فرنسيس للملك لوحة فسيفسائية تمثل البركة التي يمنحها في ساحة القديس بطرس.
ومثلت زيارة جلالة الملك عبدالله الثاني لحاضرة الفاتيكان، أمس الثلاثاء، استمرارية للنهج الدبلوماسي الأردني الثابت في تعزيز الشراكة مع الفاتيكان.
وجاء لقاء البابا الجديد لاون الرابع عشر ليناقش مع جلالة الملك أبرز القضايا الإقليمية الملحة، وعلى رأسها الحرب على غزة.
ويتماشى هذا مع المواقف المعلنة للبابا الجديد المؤيدة لوقف فوري لهذه الحرب والعمل على إيجاد حل سلمي عادل يضمن حقوق جميع الأطراف.
وقد تضمنت المباحثات دعوة رسمية من جلالة الملك للبابا لاون الرابع عشر لزيارة الأردن، متابعاً بذلك مسيرة سلفه البابا فرنسيس الذي زار المملكة عام 2014، حيث قام بزيارة موقع المغطس وأقام «رتبة تجديد مواعيد المعمودية ورش المؤمنين بمياه نهر الأردن المباركة».
تشكل قضية حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وإسناد الوجود المسيحي في المنطقة أحد أهم مرتكزات العلاقات الأردنية الفاتيكانية، حيث يتبادل الطرفان وجهات النظر بشكل مستمر ويواصلان التشاور مع القيادات المسيحية في القدس. وقد عبر الطرفان في أكثر من مناسبة عن قلقهما المشترك إزاء الأوضاع في القطاع، حيث تم التأكيد خلال لقاء جلالة الملك عبدالله الثاني بالبابا فرنسيس عام 2024 على «ضرورة نجدة الشعب الفلسطيني» و«أهمية احترام الوضع القائم للأماكن المقدسة في القدس».
وتبرز في هذا الإطار قضية الاعتداءات المتكررة التي يقوم بها مستوطنون إسرائيليون على الكنائس والمقدسات المسيحية في الأراضي المحتلة. ففي تموز 2025، أدان كبار رجال الدين المسيحي ودبلوماسيون، بينهم بطريرك القدس اللاتيني، هجمات المستوطنين التي طالت بلدة الطيبة ذات الأغلبية المسيحية في الضفة الغربية، حيث أشعل مستوطنون النار قرب الكنيسة المحلية. ووصف رؤساء الكنائس هذه الهجمات بأنها «منهجية وموجهة ضد المسيحيين»، مما يضع الوجود المسيحي تحت ضغوط متزايدة.
يشكل موقع عماد السيد المسيح «المغطس» الواقع على الضفة الشرقية لنهر الأردن، أحد أهم المرتكزات المادية للتعاون الأردني الفاتيكاني.
هذا الموقع، الذي تم اكتشافه عام 1996 بعد عمليات تنقيب أثرية واسعة، يقع على بعد 9 كيلومترات شمال البحر الميت، ويضم منطقتين أثريتين رئيسيتين هما «تل الخرار» (المعروف بتلة مار إلياس) ومنطقة كنائس يوحنا المعمدان قرب نهر الأردن.
في عام 2003، قدّم جلالة الملك عبدالله الثاني 30 دونماً لبناء كنيسة كاثوليكية في الموقع لاستقبال الحجاج. وفي عام 2009، وضع البابا بندكتس السادس عشر حجر الأساس لكنيسة ودير المغطس بحضور جلالة الملك.
وفي عام 2015، أدرجت منظمة اليونسكو موقع المغطس على قائمة التراث العالمي، اعترافاً بأهميته التاريخية والدينية بوصفه الموقع الذي تعمّد فيه السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان.
ويعمل الأردن على تطوير موقع المغطس ليكون مقصداً عالمياً للحج المسيحي، حيث يندرج الموقع ضمن لائحة مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو، ويقصده الحجاج من كافة أنحاء العالم لتجربة روحانية في مكان رويت أحداثه في الكتاب المقدس.
تمثل العلاقات الأردنية الفاتيكانية نموذجاً فريداً للشراكة القائمة على القيم المشتركة والاحترام المتبادل والاهتمام بالإنسان أينما كان.
وتأتي زيارة جلالة الملك عبدالله الثاني للبابا لاون الرابع عشر لتعزيز هذه الشراكة التاريخية في مرحلة بالغة الحساسية، حيث تتضافر الجهود الدبلوماسية الأردنية والفاتيكانية من أجل إحلال السلام في المنطقة، والحفاظ على تراثها الديني والإنساني الفريد، وضمان استمرارية الوجود المسيحي العربي الذي يمتد لنحو ألفي عام في أرض الشرق.
وتظل الشراكة بين الأردن والفاتيكان ركيزة أساسية للسلام والاستقرار في المنطقة والعالم.