موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مُقدّمة
زمن مجيء مُبارك أيّها القُراء الأفاضل.
في هذا الزمن الّذي تطلق عليه الليتورجيّة زمن المجيء أو زمن الإستعداد والّذي يعود أصل إلى لفظ Adventus من اللغة اللّاتينية. كان يستخدم هذا اللفظ في القدم عند مجيء ملك او إمبراطور لزيارة مملكته. ولاحقًا تمّ الإستعانة به كرمز كتابي يشير لمجيء "ابن الله -الملك" الّذي في الخامس والعشرون من الشهر ديسمبر من كلّ عام نحتفل بذكرى مجئيه الأوّل لعالمنا البشري أيّ "سرّ تجسّد يسوع" ونحن بمثابة مملكته الّتي يملك عليها. ماذا ننتظر من هذه الأسابيع الاربعة؟ فهي ستساعدنا كوقت للإصغاء النصوص الكتابيّة لنستعد لهذا المجئ بما يتناسب مع ملكنا. نتوقف كمؤمنين، في هذا العام، للإستعداد من خلال مسيرة صغيرة كتابيّة أطلقنا عليها "سًّلاما في الأرض" ومصدرها هو تهليل الملائكة أمام طفل المغارة قائلين: «الـمَجدُ للهِ في العُلى! والسًّلام في الأَرضِ لِلنَّاسِ فإنَّهم أَهْلُ رِضاه!» (لو 2: 14). والسبب في إختيارنا هذا العنوان هو واقعنا المجروح من اللاسًّلام. نعم، تعاني بعض البلاد حاليًا من مواجهة شر الحرب البشعة، وهناك بعض القلوب البشريّة الّتي تحارب لتسعيد سًّلامها، هناك بعض الأُسر الّتي سُرق من أعضائها نعمة السًّلام. لذا بما إننا جميعًا مدعوين لإستعادة هذه النعمة وفي ذات الوقت واثقين بأنّ الله الآب أرسل إبنه ووحيده ليُعيد السًّلام لبشريتنا، سنستعد ليُعيد الرّبّ سًّلامه ونقبل نحن نعمة السًّلام الإلهيّة.
نحن بثقة في إلهنا نستمر في السّير على ضوء كلمته الإلهيّة الّتي يناديّ باليقظة اليّوم لنصراع، بقوة كلمته، ضد تيارات وأشكال الحرب بأنواعها مبتدئين بإستعادة "سًّلام القلب" الّذي سنناله بالإصغاء لكلمته. في هذا الأسبوع تحمل كلمات النبي اشعيا (63: 16- 64: 7) نداء يوقظنا من غفلة قلبيّة. وعلى مثاله نستمر لنسمع كلمات يسوع الّذي يحذرنا بنبرة قويّة بحسب بشارة مار مرقس (13: 33-37)، لنتيقّظ من غفوتنا لئلا ينال منا عدو الخير. نهدف من خلال مقالنا هذا قبول الدعوة الّتي يحملها هذيّن النصييّن فهما يدعونا للإنتباه للظلام الّذي يسود على ليل قلوبنا مما يحرمنا اليقظة الباطنية.
1. يقظة الأبناء أمام أبيهم (اش 63: 16- 64: 7)
نتفاجأ عند قراءتنا لنص اشعيا (أش 63: 16 – 64: 7)، أبوة الله تتضح كثيراً في العهد الثاني ولكن أصداها بالعهد الأوّل في هذا المقطع إذ نجد أن كلماته تحمل نداءً صادقًا موجهًا إلى الله الآب لكي يأتي ويستعيد العلاقة بشعبه. نعم تضرع النبي إلى الله بفضل عمله في تاريخ بني إسرائيل، مما جعل النبي، يُذكر الله بعنصر هام مناديًا ومكرراً مراراً إياه "أبونا": «فإِنَّكَ أَنتَ أَبونا إِبْراهيمُ لم يَعرِفْنا وإِسْرائيلُ لم يَعلَمْ بِنا. أَنتَ يا رَبُّ أَبونا مُنذُ الأَزَلِ اسمُكَ فادينا [...] والآنَ يا رَبُّ أَنتَ أَبونا» (اش 63: 16؛ 64: 7).
هذه الكلمات تُذكرنا ليس فقط ببنوة الله ودوره الأبوي نحونا كأبناء بل ببنوتنا أيضًا. فنحن قد ننسى أو نتناسى أنّ الله أبونا وبأنّ أعماله تسبق كل شيء مما يجعل أساس "يقظتنا" لأبوته من جانب ومن الجانب الآخر لأمانته كأب. واعين بإنّ يقظتنا لنّ تكون عبثًا حينما نحيا اليقظة من خلال "أبوة الله" لنا بشكل دائم.
يكرر النبي الكثير من التعبيرات الّتي يرجو بها الله ليرجع إلى شعبه قائلاً: «إِرجِعْ إِلَينا مِن أَجْلِ عَبيدِكَ أَسْباطِ ميراثِكَ. وَقتاً قَليلاً وَرِثَ شَعبُ قُدسِكَ أَعْداؤُنا داسوا مَقدِسَكَ» (63: 17-18). على ضوء هذه الأبوة الإلهيّة الّتي تجعل النبي بصوت الابن اليقظ يطالب الله بعودته إلى ابناءه فهو يعيّ أبوة الله لبني إسرائيل. في العهد الثاني نصغي لصوت يسوع وهو الإبن الواعي واليّقظ لأبوة الله فيأتي لإخوته مُحذرا ومنبهًا باليقظة والتنبه لما يُعاش في الوقت المناسب.
2. وقت عودة السيّد (مر 13: 33-37)
تيَّقظوا-إنتبهوا! إنها كلمة يسوع الجوهريّة الّتي يدور حولها حواره مع تلاميذه بحسب مرقس. اليقظة هي الكلمة الّتي سيفتتح مقالنا الأوّل زمن المجيء كإستعداد لتجسد الرّبّ. اليقظة إنها الكلمة الأوّلى والأخيرة الّتي يبدأ ويختم ايضًا يسوع بها هذا المقطع. يأتي نداء يسوع إلى اليقظة كتحذير يتركه يسوع لتلاميذه ولنا اليّوم من خلال البشارة المرقسيّة وهي الّتي ستُمهد لسياق روايّة آلامه الّتي تليّ مباشرة هذا النص وقبل دخوله إلى أورشليم. تصير اليقظة الكلمة الّتي يشجع بها يسوع تلاميذه في الزمن الّذي سيعيشون فيه الأيام الصعبة وهي أيام آلامه (راج مر 14: 34، 37، 38)، وأيضًا في فترة غياب العريس أي ّمُنذ عيد الفصح وحتى عودته ثانية في مجده.
إن نصيّ مقالنا لهذا الأسبوع الأوّل من زمن المجيء يساعدنا على فهم كلمة أساسية للحياة المسيحية، والّتي ربما نسيناها جزئيًا، على الرغم من أنها غالبًا ما تكون على شفاهنا. بمتابعتنا للنص المرقس نجد الرّبّ الّذي سيعود بحسب إنجيل مرقس هو السيد الّذي غادر في رحلة طويلة وصارت عودته مجهولة لعبيده الّذين يجب عليهم في هذه الأثناء الإعتناء ببيته. أثناء غيابه، عهدّ السيد إلى خدمه بمسؤوليات مختلفة، لقد أوّكلّ مهمة ما إلى كلّ من خدمه.كل شخص لديه مهمة في منزل سيده ولا يمكن لأحد أن يحل محل آخر في القيام بالمسؤولية التي أوكلها إليه سيده. وأيضًا لا أحد يستطيع التنبؤ بمجيء السيّد أو ميعاد عودته. فكلّ خادم علي باليقظة لإتمام مهامه لأن وقت السيّد غير محدد، وليس من حق أحد أنّ يعرفه. يجب على كل خادم أنّ يقوم بواجبه بغض النظر عن معرفة موعد عودة سيدهم. في الواقع، يمكن للسيّد أنّ يصل «أَفي المَساء أَم في مُنتَصَفِ اللَّيل أَم عِندَ صِياحِ الدَّيك أَم في الصَّباح» (مر 13: 35). هذه هي المراجع الزمنيّة الّذي يقدمها لنا السياق المرقسيّ. للوهلة الأوّلى، قد يبدو أن هذه الإشارات الزمنية تشير ببساطة إلى وقت غير محدد أيّ مجهول. قد لا تؤدي هذه الكلمات إلّا إلى التأكيد على أنه لا أحد يعرف متى سيعود السيّد. ومع ذلك، إذا قرأنا بعناية نجد أنّ "ساعات" الليل هذه ليست عرضية. والحقيقة أننا نجدهما متطابقين في روايّة آلام الابن الّذي سنحيا سرّ تجسده بعد أيام ليست بكثيرة. كان بإمكان المعلم أنّ يأتي في المساء عندما أسلمه يهوذا، أحد تلاميذه، مقابل المال، إلى أيدي أعدائه، أولئك الّذين حاولوا إعتقاله (راج مر 14: 17). كما يمكن للسيّد أن يعود في منتصف الليل أي في قلب الظلام فهو ذات الوقت الّذي تمّ فيه محاكمة يسوع (مر 14: 60-62) من قبل السنهدريم، أمام رئيس الكهنة. كما كان بإمكان رّبّ البيت أنّ يعود عند صياح الديك وهو وقت إنكار بطرس له ثلاث مرات فهو بمثابة الصديق الّذي وثّق به (مز 40: 10) وفوجيء بأنكاره له أمام الناس (راج مت 10: 33)! أخيرًا، يستطيع رّبّ البيت العودة في الصباح، عندما أسلمه رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة والسنهدريم كله إلى يديّ بيلاطس (راج مر 15: 1)، وبهذا تم تسليمه إلى محكمة وثنية. سواء الليل أم المساء، الصباح أو عند صياح الديك، هو زمن قد يكون له معنى باطني، أو كنسي أو سياسي بشكل يعم العالم من خلال الحرب الّتي تسرق السًّلام. فنحن مدعوين لليقظة من زمن الحرب والفراغ الباطني والتفكك الأسريّ والخروج من دائرة الأنانيّة وقبول السَّام الباطني الّذي يجعلنا نستفيق ليعم السًّلام في محيطنا.
3. اليقظة (مر 13: 33- 37)
ندرك من خلال كلمات يسوع إن هذه الإشارات الزمنية، الصباح، المساء، منتصف الليل، عند صياح الديك الّتي يسردها مرقس ليست سوى أوقات ترمز إلى مراحل آلام يسوع، لكن آلامه ليست فقط تلك التاريخيّة الّتي عاشها الرّبّ بل عاشها تلاميذه أيضًا ولازلنا نعيشها. فهي أوقات آلامه المستمرة عبر تاريخنا البشري حتى يّومنا. وهكذا، أصبحت كلمة يسوع الأخيرة "تيقظوا" أو "تنتبهوا" قادرة على تفسير كل لحظة من حاضرنا كتلاميذه، في عصرنا وفي كل العصور، وما علينا سوى أنّ نخاطر بعيش السًّلام "في المساء أو في منتصف الليل أو عند صياح الديك أو في الصباح".
قرار اليقظة ليس موقف غير مُـتجسد لـمَن ينتظر مَن يعرف إنّه سيأتي في نهاية الوقت، بل موقف الشخص الّذي يعرف كيف يميّز مجيئه، وحضوره في الآلام التي تستمر في تاريخ البشريّة، لذا كررّ يسوع ندائه: «فَاحذَروا واسهَروا، لِأَنَّكم لا تَعلَمونَ متى يَكونُ الوَقْت» (مر 13: 33). لفظ اسهروا هو السلوك الّذي يميّز حضور الرّبّ في وقت الألم الّذي يستمر في تاريخ البشريّة. السهر أو اليقظة كليهما كلمة تُرافق كل خطوة من حياتنا كتلاميذ قررنا أنّ نسير خلف معلمنا في الأوقات الصعبة. مدعوين بالتحلي باليقظة خاصة في وقت غياب العريس فيصير وقت اللقاء والمثابرة: «فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ متى يأتي رَبُّ البَيت: لِئَلاَّ يَأتيَ بَغتَةً فَيجِدَكُم نائمين. وما أَقولُه لَكم أَقولُه لِلنَّاسِ أَجمَعين: اِسهَروا» (مر 33: 35- 36).
الخلّاصة
لقد أوضح اشعيا (63: 16- 64: 17) أنّ أبوّة الله هي مصدر سًّلامنا الباطني، إذن فلنتمسك بهذه النعمة في هذه الاسابيع الأربعة صاغيين لندائه. وكما أنّ الليل هو رمز لـمَن لا رجاء له، ولـمَن لا يجد سبب يحيا لأجله. علينا التمسك برّوح اليقظة بوعي فهي عطية يجب قبولها وترتكز على أمانة الآب. وكما أنّ صرخة يسوع التحذيريّة بحسب مرقس (13: 33-37)، هي الّتي تفتتح زمن المجيء، ليست تأكيدًا لغيابه بل إشارة لحضور خفي في كلّ مساء، في كلّ ليل، عند الفجر، عند صياح الديك أي في كلّ أوقاتنا البشريّة. حضور يسوع الخفي يمكن أنّ يصبح لقاء، بالتحديد في زمن المجيء هذا.
يكشف لنا هذيّن النصيين الكتابيّين بأنّ المجيء يأتي للقائنا في كلّ إنسان وفي كل وقت حتّى يمكننا أن نستقبله حقًا علينا بقبول هذا النداء باليقظة باطنيًا. إنّه إعلان هذه الكلمة الأولى من زمن المجيء، وهي أيضًا الكلمة الأخيرة التي تركها يسوع ليّ ولك لنبدأ بقبول السًّلام على الأرض بهذه اليقظة وبقبول نداء النبي ويسوع باليقظة. كلمة تخلق لقاءات في وقت نطن إنّه زمن الغياب، كلمة تعلن بأنّ الله "أتى ويأتي سيأتي". ينبع إلتزامنا باليقظة، أيّها القراء، من عطية أمانة الله الذي هو أبونا فهو لا يتركنا لأننا نثق به. بتمسكنا بأبوته سنستطيع تلبيّة ندائه وتكون يقظين، لنتمكن من لقائه "في المساء أو في منتصف الليل أو عند صياح الديك أو في الصباح».
لنُلبي النداء الرّبّ الآتي! دُمتم يقظيّن. زمن مجيء مبارك.