موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مُقدّمةٌ
اليوم، في الـ4 من نوفمبر/تشرين الثّاني للعام الجاري (2025)، في العِيد اللّيتورجيّ للقدّيس "كارلوس بورّوميو" (1538-1584)، أصدرت "دائرةُ عقيدة الإيمان" –التّابعة للكوريا الرّومانيّة بالفاتيكان– وثيقةً جديدةً بعنوان «ماتر بوبولي فيديليس» («أُمُّ الشّعب المؤمن»). وجديرٌ بالذّكر أنّ هذا التّعبير المريميّ مأخوذٌ بدوره من مؤَّلفِ "حول العذراويّة المقدّسة" للقدّيس أَوْغسطينُس (354-430). وتُعَدُّ هذه الوثيقةُ الجديدةُ بمثابة "ملاحظةٍ عقائديّةٍ حول بضعةِ ألقاب مريميّة متعلّقة بشراكة العذراء مَريم في عمل الخلاص". وبكلماتٍ أكثر وضوحًا، تتمحور هذه الملاحظة العقائديّة الجديدة حول الدّور التي قامت به العذراءُ مَريم في عمليّة الفداء التي حقّقها الرّبُّ يسوع المسيح، مخلّص العَالَم والوسيط الأوحد بين الله والبشريّة (رسل 4: 12؛ 1 تي 2: 5)، عَبْر دراسةٍ لألقاب مريميّة متعلّقة بمشاركة أو شراكة أو تعاون أو إسهام العذراء مَريم في عمل المسيح الخلاصيّ، مع التّركيز بنوعٍ خاصٍّ على لَقَبِ "شريكة في الفداء"، الذي طالب بعضُهم –منذ عقود عدّة– بأن يكون عقيدةً مريميّةً جديدة تُضَاف إلى العقائد أو الحقائق المريميّة الأربع (العذراويّة، ووَالدة الإله، والحَبَل بلا دنس، والانتقال إلى السّماء بالنّفس والجسد).
في هذا المقال الموجز، ومقالٍ لاحقٍ آخر، سأحاول القيامَ بعرضٍ مقتضبٍ للملاحظةِ العقائديّةِ الجديدةِ الصّادرةِ عن دائرةِ عقيدةِ الإيمانِ «أُمُّ الشّعبِ المؤمن».
أوّلًا: هيكليةُ الملاحظة العقائديّة الجديدة وتقديمها ومُقدّمتها
جاءت الملاحظةُ العقائديّةُ الجديدةُ «أُمُّ الشّعب المؤمن»، الصّادرة عن "دائرة عقيدة الإيمان"، في 80 بندًا. وإضافةً لتقدّيم الكاردينال "فيكتور مانويل فيرناندز"، عميد الدّائرة المذكورة أعلاه، تحتوى الوثيقةُ على مُقدّمةٍ (بنود 1-3)، وأقسام رئيسيّة ثلاثة (بنود 4-80)، كما يلي:
1) شراكة العذراء مَريم في عمل الخلاص (بنود 4-15)؛
2) الألقاب المريميّة المتعلّقة بشراكة العذراء مَريم في عمل الخلاص (بنود 16-75: شريكة في الفداء، وسيطة، أُمّ المؤمنين، أُمّ النّعمة)؛
3) أُمّ الشّعبِ المؤمن (بنود 76-80).
وكما يشرح الكاردينال "فيرناندز"، في تقديمه للوثيقة الجديدة، تُجيب هذه الملاحظةُ العقائديّةُ عن العديد من الاستفسارات والمقترحات التي تلّقاها الكرسيّ الرّسوليّ في العقود الأخيرة، وخاصةً "دائرة عقيدة الإيمان"، بشأن التّساؤلات المتعلّقة بالتّقويّات المريميّة، وببضعةِ ألقاب مريميّة. ومع توضيحها بأيّ معنَى ينبغي قبول أو رفض بعض الألقاب والتّعبيرات المريميّة، تهدف الوثيقةُ الجديدةُ إلى التّعمُّق في الأُسُس المناسبة للتّقويّات المريميّة، من خلال تحديد موقع العذراء مَريم في علاقتها بالمؤمنين، في ضوء سرّ المسيح الوسيط والفادي الأوحد. وهذا يتطلّب بدوره إخلاصًا عميقًا للهويّة الكاثوليكيّة، وفي الوقت عينه، جهدًا مسكونيًّا خاصًّا.
إنّ الموضوع المحوريّ لهذه الملاحظة العقائديّة الجديدة –وفقًا لكلمات الكاردينال "فيرناندز" عَيْنها– "هو أُمُومة العذراء مَريم تجاه المؤمنين"؛ وهو بدوره ما تنجم عنه تقويّات شعب الله المؤمن حيال أُمّه العذراء. وتُقدِّم هذه الوثيقةُ تحليلًا كِتابيًّا مُفصّلًا، لتوضيح كيف تتجلّى التّقويّات المريميّة الأصيلة ليس في تقليد الكنيسة العريق الثّريّ فحسب، بل أيضًا في صفحات الكِتاب المقدّس عينها. ويُكمَّل هذا الطّابعُ الكِتابيُّ الواضحُ بنصوصٍ من آباء الكنيسة ومعلّميها، ومن تعاليم الباباوات الكاثوليك المعاصرين أيضًا.
تؤكّد مقدّمةُ الملاحظة العقائديّة أنّه «إذا كانت النّعمةُ تجعلنا على مثال المسيح، فالعذراءُ مَريم هي التّعبيرُ الأكثر كمالًا عن عمله الذي يحوّل إنسانيّتنا. إنّها التّجلّي الأنثويّ لكلّ ما تستطيع نعمةُ المسيح أن تحقّقه في الإنسان» (بند 1). وفيما يتعلّق ببضعةِ ألقاب وتعبيرات مريميّة، ولا سيّما في إطار الظّواهر أو الظّهورات المريميّة فائقة الطّبيعة، توضّح الملاحظةُ العقائديّة ما يلي: «في تفسير هذه الألقاب المُطلَقة على العذراء مَريم، تكمن الإشكاليّةُ الرّئيسيّةُ في كيفيّة فَهْم مشاركة مَريم في عمل المسيح الخلاصيّ؛ أي: "ما معنَى شراكة مَريم الفريدة في تدبير الخلاص؟" [البابا يُوحنّا بولس الثّاني]. وتحاول هذه الوثيقةُ، دون أن تهدف إلى استنفاد النّقاش، أو أن تكون شاملة، الحفاظ على التّوازن الضّروريّ الذي يجب إقامته، ضِمْن الأسرار المسيحيّة، بين وساطة المسيح الفريدة ومشاركة العذراء مَريم في عمل الخلاص، كما تسعى إلى إظهار كيفيّة التّعبير عن هذه الشّراكة في الألقاب المريميّة المتنوّعة أيضًا» (بند 3).
ثانيًا: الأقسامُ الرّئيسيّةُ الثّلاثةُ للملاحظة العقائديّة الجديدة
في القِسم الرّئيسيّ الأوّل من الملاحظة العقائديّة، أي "شراكة العذراء مَريم في عمل الخلاص" (بنود 4-15)، يُشار إلى أنّه، مِن جهة التّقليد الكنسيّ الحيّ، «يُنظَر إلى شراكة مَريم في عمل الخلاص من منظورَيْن: [مِن منظور] مشاركتها في الفداء الموضوعيّ، الذي حقّقه المسيح خلال حياته، وخاصةً في فصحه؛ [ومِن منظور] تأثيرها الحالي على المفديّين. وفي الواقع، هاتان القضيّتان مترابطتان، ولا يمكن تناولهما بمعزل عن بعضهما البعض» (بند 4). ومِن ثمَّ، وحيال هذا الأمر، تعرض الملاحظةُ العقائديّةُ النّصوص الكِتابيّة الخاصة بالوعد في العهد القديم والتّحقيق في العهد الجديد (بنود 5-8)، مؤكّدةً أنّ العذراء مَريم "شاهدةٌ متميزةٌ" وشاهدةُ عيان لأحداث طفولة الرّبّ يسوع المسيح، وأحداث سِرِّ فصحه (الصّليب، القيامة، الصّعود، العنصرة).
وبعد ذلك، تنتقل الملاحظةُ العقائديّةُ إلى تقديم الشّهادات الآبائيّة والمجمعيّة والتّقليديّة واللّيتورجيّة والإيقونيّة والتقويّة الخاصّة بدور العذراء مريم في عمل الخلاص (بنود 9-15)، ولا سيّما في القرون المسيحيّة الأُولى، إذ قد اهتمّ آباءُ الكنيسة القدّيسون في المقام الأوّل، والمجامعُ المسكونيّةُ أيضًا، بـ"أُمُومة مريم الإلهيّة" (ثيوتوكوس)، و"عذراويّتها الدّائمة" (أيبارثينوس)، و"قداستها التّامّة" الخالية من الخطيئة الفعليّة طوال حياتها (باناجيا)، و"دورها كحواء الجديدة"، مركّزين على مشاركتها في فداء المسيح الكامل، رابطين هذه المشاركة بنوعٍ خاصٍّ بسِرِّ تجسُّد اللّوغُس. وعلى هذا النّحو، ومن خلال المؤلَّفات الثّيولوجيّة والتّرانيم والألحان والأعياد والإيقونات ("التّرجمة المرئيّة" للألقاب المريميّة الخاصّة) والتقويّات الشّعبيّة، قد تبلورت "المريولوجيّة" (عِلْم المريميّات) الشّرقيّة. وانطلاقًا من هذا كلّه، وبفضل معلميّ الكنيسة والتّعاليم الحَبريّة وعلماء اللّاهوت، قد تبلورت "المريولوجيّة الغربيّة" أيضًا، ولا سيّما عَبْر التّركيز في العلاقة التي تربط العذراءُ مَريم بسِرِّ وذبيحة الفداء الدّمويّ على الجلجثة، دون إغفال مشاركتها في حياة يسوع المسيح الأرضيّة برُمّتها (الحَبَل والولادة والموت والقيامة)، وفي زمن الكنيسة أيضًا، مع التّأكيد على البنية الثّالوثيّة لشراكة العذراء مّريم في سِرّ الخلاص: مبادَرة الآب، وتخلّي الآبن وإفراغه من ذاته، وتأثير نعمة الرّوح القُدُس.
في نهاية المطاف، وانطلاقًا من أولويّة المسيح وفرادته في الفداء، تُعَدُّ العذراءُ مَريم "المفتادة الأُولى" به و"المحوَّلة الأُولى" بالرُوح القُدُس (عقيدة "الحَبَل بلا دنس"). ولذا، فهي تستطيع أن تشارك وتتعاون وتسهم بشكلٍ قويّ وعميقٍ للغاية مع المسيح والرُوح القُدُس في عمل الخلاص، لتضحى "النّموذج الأوّل والقدوة والمثال لما يريد الله تحقيقه في كلّ مُفتدَى". ومِن ثمَّ، «ليست مَريمُ موضعَ عبادةٍ تُضاف إلى المسيح، وإنّما هي مُدمجَةٌ في سِرِّ المسيح من خلال تجسُّده. إنّها الإيقونة التي يُبجَّل فيها المسيح ذاته. إنّها وَالدةُ الإله، الأُمُّ العذراء التي تُقدِّم ابنَها يسوع المسيح، وهي في الوقت عينه، "أُوديجيتريا" التي تُظهِر، بالإشارة بيدها، إلى الطّريق الأوحد، الذي هو المسيح» (بند 11). «إنّ أُمُومتها ليست أُمُومة بيولوجيّة وسلبيّة فحسب، وإنّما هي أُمُومة "فاعلةٌ بالكامل" تتّحد مع السِّرِّ الخلاصيّ للمسيح كأداةٍ يريدها الآبُ في مشروعه الخلاصيّ» (بند 15).
تتناول الملاحظةُ العقائديّةُ، في قِسْمها الرّئيسيّ الثّاني، وهو الأكثر طولًا وتجديدًا، "الألقاب المريميّة المتعلّقة بشراكة العذراء مَريم في عمل الخلاص" (بنود 16-75): شريكة في الفداء، وسيطة، أُمّ المؤمنين، أُمّ النّعمة. ونظرًا لأهمّيّة هذا القِسْم من الوثيقة الجديدة، سأخصّص له المقال اللّاحق الآخر.
وأمَّا القِسْم الرّئيسيّ الثّالث والأخير من الملاحظة العقائديّة، وهو الأقصر طولًا، أي "أُمّ الشّعبِ المؤمن" (بنود 76-80)، يوضّح أنّ العذراء مَريم، "التّلميذة الأُولى"، لهي "أُمٌّ" -بما يحمله هذا التّعبير من معنَى- للمسيح، والكنيسة، والمؤمنين، ولكلّ واحدٍ مِنَّا أيضًا. «إنّ الشّعبَ المؤمنَ لا يبتعد عن المسيح، ولا عن الإنجيل، عندما يقترب منها، بل يستطيع أن يقرأ "في هذه الصّورة الأُمُوميّة أسرار الإنجيل برُمّتها"» (بند 77). فحيال وجهها الأُمُوميّ الحنون والعذب والمحِبّ، الذي يعكس حنانَ الله الأبويّ، ولا سيّما في سياق التّقويّات المريميّة الشّعبيّة، «لا يفصل الشّعبُ البسيطُ والفقيرُ بين الأُمّ الممجّدة ومَريم النّاصريّة، التي نجدها في الأناجيل. بل على العكس، يدرك البساطةَ وراء المجد، ويعلم أنّ مريم لم تكفّ عن كونها واحدةً منهم» (بند 78).
[يُتبَع]