موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٤ يونيو / حزيران ٢٠٢٥

أحَد الثَّالوث: يسوع يَكشف عن وَجهِ الله الثَّالوثي

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
أحَد الثَّالوث: يسوع يَكشف عن وَجهِ الله الثَّالوثي (يوحنا 16: 12-15)

أحَد الثَّالوث: يسوع يَكشف عن وَجهِ الله الثَّالوثي (يوحنا 16: 12-15)

 

النص الإنجيلي (يوحنا 16: 12-15)

 

لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها. 13 فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث 14 سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه. 15 جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه.

 

 

مُقَدِّمَةٌ


تَحتَفِلُ الكَنيسَةُ بِعيدِ الثَّالوثِ الأَقدَسِ، وَهو العِيدُ الَّذي أَوْصَتِ الكَنيسَةُ بِإِقَامَتِهِ سَنَةَ 1263، وَيُحتَفَلُ بِهِ فِي يَومِ الأَحَدِ الَّذِي يَلِي عِيدَ العَنصَرَةِ. وَيُعلِنُ إِنجِيلُ يُوحَنَّا عَن وَجهِ اللهِ، الثَّالوثِ الأَقدَسِ، أَيِ الإِلَهِ الوَاحِدِ فِي كَلِمَتِهِ وَرُوحِهِ (يُوحَنَّا 16: 12–15). وَمِن هَذَا المُنطَلَقِ، لَا يَعنِي إِيمَانُنَا بِسِرِّ الثَّالُوثِ أَنَّنَا نُؤمِنُ بِثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، بَلْ نُؤمِنُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ: مَوجُودٍ بِذَاتِهِ، نَاطِقٍ بِكَلِمَتِهِ، وَحَيٍّ بِرُوحِهِ. يُعَلِّقُ التَّعْلِيمُ المَسِيحِيُّ لِلكَنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّةِ قَائِلًا: "سِرُّ الثَّالُوثِ الأَقدَسِ هُوَ السِّرُّ الرَّئِيسِيُّ لِلإِيمَانِ وَلِلحَيَاةِ المَسِيحِيَّةِ" (البَندُ 261). وَيَبْدَأُ المَسِيحِيُّونَ مُعْظَمَ صَلَوَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَيَخْتِمُونَهَا بِالبَسْمَلَةِ، قَائِلِينَ: "بِاسْمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ، الإِلَهِ الوَاحِدِ". وَمِن هُنَا، تَتَجَلَّى أَهَمِّيَّةُ التَّأَمُّلِ فِي وَقَائِعِ هَذَا السِّرِّ الإِلَهِيِّ وَفِي تَطْبِيقَاتِهِ فِي حَيَاةِ المُؤمِنِينَ.

 

 

أولا: تَحْليل وَقائع النَّص الإنْجيلي (يوحنا 16: 12-15)

 

12 لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ" إِلَى "الحَقِّ كُلِّهِ" (يُوحَنَّا 16: 13). وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخبَرَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، إِذْ قَالَ: "لأَنِّي أَطْلَعتُكُم عَلى كُلِّ ما سَمِعتُهُ مِن أَبي" (يُوحَنَّا 15: 15)، فَإِنَّهُ تَرَكَ لِلرُّوحِ القُدُسِ، الَّذِي يُتَابِعُ تَعلِيمَ الرُّسُلِ، مَهَمَّةَ التَّعَمُّقِ فِي إِدْرَاكِ مَعْنَى كَلَامِ يَسُوعَ وَتَعْلِيمِهِ فِي شَأْنِ الخَلَاصِ، وَفِي كِتَابَةِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ وَفِي رَسَائِلِهِم، لِأَنَّهَا نَتِيجَةُ تَعْلِيمِ الرُّوحِ القُدُسِ، الَّذِي يَبْنِي عَلَى أَقْوَالِ المَسِيحِ نَفْسِهِ، وَلا سِيَّمَا مَوْعِظَتِهِ عَلَى الجَبَلِ. أَمَّا عِبَارَةُ "لا تُطِيقُونَ الآنَ حَمْلَهَا"، فَتَشِيرُ إِلَى عَدَمِ مَقْدِرَةِ التَّلَامِيذِ عَلَى تَحَمُّلِ فِكْرَةِ مَوْتِ يَسُوعَ وَتَمْجِيدِهِ، إِذْ إِنَّهُمْ بِحَاجَةٍ إِلَى عَطِيَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ لِمُوَاكَبَةِ تَعْلِيمِ أُمُورِ الإِيمَانِ تَدْرِيجِيًّا، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "قَدْ غَذَوْتُكُمْ بِاللَّبَنِ (الحَلِيبِ) لا بِالطَّعَامِ، لِأَنَّكُمْ مَا كُنْتُمْ تُطِيقُونَهُ، وَلا أَنْتُمْ تُطِيقُونَهُ الآنَ" قورنتس 3: 2). وَمِن بَيْنِ هَذِهِ الأُمُورِ الصَّعْبَةِ: الاِسْتِغْنَاءُ عَنِ الذَّبَائِحِ المُوسَوِيَّةِ، وَالكَهَنُوتِ اللاَّوِيِّ، وَتَبْدِيلُ اليَوْمِ السَّابِعِ (السَّبْتِ) بِاليَوْمِ الأَوَّلِ (الأَحَدِ) كَيَوْمِ رَاحَةٍ، وَرَفْضُ أُمَّةِ اليَهُودِ أَنْ تَكُونَ شَعْبَ اللهِ الخَاصَّ، وَإِدْخَالُ الأُمَمِ إِلَى شَرِكَةِ البِشَارَةِ بِالإِنْجِيلِ، وَذَلِكَ لِتَمَسُّكِهِم بِآرَائِهِمُ اليَهُودِيَّةِ فِي شَأْنِ المَسِيحِ وَمَلَكُوتِهِ. وَفِي هَذَا الصَّدَدِ، يَقُولُ صَاحِبُ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ: "فِي حِينِ أَنَّكُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُعَلِّمُكُمْ أَوَّلِيَّاتِ أَقْوَالِ اللهِ" (العِبْرَانِيِّينَ 5: 12). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ هِيلَارِيُوس الأُسْقُفُ قَائِلًا: "فَإِنَّنَا فِي ضَعْفِنَا لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْهَمَ لا الآبَ وَلا الاِبْنَ، فَيَأْتِي الرُّوحُ القُدُسُ لِيُنِيرَ إِيمَانَنَا، وَبِوَسَاطَتِهِ نُدْرِكُ سِرَّ تَجَسُّدِ اللهِ الَّذِي يَصْعُبُ فَهْمُهُ". أَمَّا عِبَارَةُ "الآنَ"، فَتَشِيرُ إِلَى الفَتْرَةِ الَّتِي سَبَقَت إِرْسَالَ الرُّوحِ القُدُسِ إِلَى التَّلَامِيذِ، وَشَهَادَتِهِ لِلمَسِيحِ، وَشَرْحِ أَسْرَارِهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "كَيْفَ أُطْلِعْتُ عَلى السِّرِّ بِوَحْيٍ، كَمَا كَتَبْتُهُ إِلَيْكُمْ بِإِيجَازٍ مِنْ قَبْلُ. فَتَسْتَطِيعُونَ، إِذَا مَا قَرَأْتُمْ ذَلِكَ، أَنْ تُدْرِكُوا تَفَهُّمِي سِرَّ المَسِيحِ، هَذَا السِّرَّ الَّذِي لَمْ يُطْلَعْ عَلَيْهِ بَنُو البَشَرِ فِي القُرُونِ المَاضِيَةِ، وَكُشِفَ الآنَ فِي الرُّوحِ إِلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ القِدِّيسِينَ، وَهُوَ أَنَّ الوَثَنِيِّينَ هُمْ شُرَكَاءُ فِي المِيرَاثِ، وَالجَسَدِ، وَالوَعْدِ فِي المَسِيحِ يَسُوعَ. وَيَعُودُ ذَلِكَ إِلَى البِشَارَةِ" (أَفَسُس 3: 3–7). فَالرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ وَيُذَكِّرُ وَيُعَزِّي وَيُقَوِّي.

 

13 فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث"

 

تَشِيرُ لَفْظَةُ "الحَقِّ" إِلَى الشَّرِيعَةِ فِي العَهْدِ القَدِيمِ، كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ المَزَامِير: "عَلِّمْنِي يا رَبُّ طُرُقَكَ فَأَسِيرَ فِي حَقِّكَ" (مَزْمُور 86: 11). فَعِنْدَ اليَهُودِ، "الحَقُّ" يَعْنِي السُّلُوكَ حَرْفِيًّا حَسَبَ الشَّرِيعَةِ. أَمَّا فِي العَهْدِ الجَدِيدِ، فَتَشِيرُ إِلَى المَسِيحِ الَّذِي قَالَ: "أَنَا الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاةُ" (يُوحَنَّا 14: 6)، فَالرُّوحُ القُدُسُ يَأْخُذُ مِمَّا لِلْمَسِيحِ وَيُخْبِرُكُمْ بِهِ (يُوحَنَّا 16: 14). فِي حِينٍ تَعْنِي كَلِمَةُ "الحَقِّ" عِنْدَ الفَلَاسِفَةِ اليُونَانِ تَحْرِيرَ الفِكْرِ مِنَ الجَهْلِ، تَأْتِي عِبَارَةُ "يُرْشِدَكُمْ إِلَى الحَقِّ كُلِّهِ" تُشِيرَ إِلَى هِبَةِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّتِي تُفْهِمُ التَّلَامِيذَ الحَقَّ المُتَجَلِّي فِي الِابْنِ المُتَجَسِّدِ، يَسُوعَ المَسِيحَ. فَمَعَ أَنَّ المَسِيحَ قَدْ أَطْلَعَهُم عَلَى هَذِهِ الهِبَةِ، كَمَا قَالَ: "عَلى كُلِّ ما سَمِعتُهُ مِن أَبي" (يُوحَنَّا 15: 15)، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَازَالُوا عَاجِزِينَ عَنْ فَهْمِ أَبْعَادِ رِسَالَتِهِ. وَبِهَذَا المَفْهُومِ، فَإِنَّ "الحَقَّ" الَّذِي يُعَلِّمُنَا إِيَّاهُ الرُّوحُ القُدُسُ هُوَ المَسِيحُ وَعَمَلُهُ وَأَقْوَالُهُ. وَكَمَا أَنَّ المَسِيحَ يَسْتَنِدُ دَائِمًا إِلَى الآبِ الَّذِي أَرْسَلَهُ، كَذَلِكَ الرُّوحُ يَسْتَنِدُ إِلَى الِابْنِ، وَلَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَحْيٌ جَدِيدٌ غَيْرُ الَّذِي كَشَفَهُ يَسُوعُ المَسِيحُ، فَإِنَّهُ لَا وَحْيَ جَدِيدًا يَحْمِلُهُ الرُّوحُ إِلَى الكَنِيسَةِ، إِنَّمَا وَحْيٌ وَاحِدٌ، أُعْطِيَ فِي يَسُوعَ المَسِيحِ، وَمَا يَزَالُ الرُّوحُ يُوصِلُهُ إِلَى المُؤْمِنِينَ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ يَسُوعَ: "جَميعُ ما هُوَ لي فَهُوَ لَكَ، وَما هُوَ لَكَ فَهُوَ لي" (يُوحَنَّا 17: 10), وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ سِمْعَانُ اللَّاهُوتِيُّ الحَدِيثُ قَائِلًا: "هُوَ الرُّوحُ القُدُسُ أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ رُوحَنَا وَيُعَلِّمُنَا كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالآبِ وَالِابْنِ. تَرَوْنَ إِذًا كَيْفَ أَنَّ الآبَ وَالِابْنَ يَتَجَلَّيَانِ بِوَاسِطَةِ الرُّوحِ" (تَعْلِيمٌ مَسِيحِيّ، 33)، فَنَحْنُ نَسْتَنِيرُ بِنُورِ مَعْرِفَةِ الرُّوحِ القُدُسِ. عَكْسِ الحَيَّةِ الَّتِي سَأَلَتْ أَبَوَيْنِ الأَوَّلَيْنِ: "أَيَقِينًا قالَ اللهُ: لا تَأْكُلا مِن جَمِيعِ أَشْجارِ الجَنَّةِ؟" (تَكوين 3: 1)، تُرِيدُ الحَيَّةُ أَنْ تَفْصِلَ البَشَرِيَّةَ عَنْ خَالِقِهَا، بِكَلِمَاتٍ تُنشِئُ فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ كَذِبَةً، وَصُورَةً مُشَوَّهَةً عَنِ اللهِ وَعَنِ الإِنْسَانِ. فَيَكُفُّ الإِنْسَانُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مَحبُوبًا، وَيَبْدَأُ يَعيشُ فِي شُعُورٍ بِالذَّنْبِ، وَفِي وَهْمٍ مُضَلِّلٍ، فَيَصِيرُ أَسِيرًا لِكَذِبَةٍ يَعْجَزُ عَنِ التَّحَرُّرِ مِنْهَا بِقُوَّتِهِ الذَّاتِيَّةِ. أَمَّا الرُّوحُ القُدُسُ، فَلَا يَفعَلُ كَمَا فَعَلَتِ الحَيَّةُ. فَهُوَ لَا يُضِيفُ شَيْئًا إِلَى كَلِمَاتِ يَسُوعَ، وَإِنَّمَا يَشهَدُ لَهَا وَيُثَبِّتُهَا فِي القُلُوبِ، وَيَعلَمُ أَنَّ تِلكَ الكَلِمَاتِ هِيَ الحَقُّ، وَأَنَّهَا تَكفِي لِخَلاصِ الإِنْسَانِ. فَهُوَ رُوحُ الحَقِّ الَّذِي "يُرْشِدُكُم إِلَى الحَقِّ كُلِّه" (يُوحنَّا 16: 13)، وَلَيْسَ رُوحَ الشَّكِّ أَوِ التَّشْكِيكِ. أَمَّا عِبَارَةُ "لَنْ يَتَكَلَّمَ مِنْ عِندِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَسْمَعُ"، فَتُشِيرُ إِلَى الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي يُعْلِنُ وَيُفَسِّرُ الكَلِمَةَ وَالأَعْمَالَ وَالحَوَادِثَ فِي ضَوْءِ إِعْلَانِ اللهِ النِّهَائِيِّ لِلإِنْسَانِ. فَالرُّوحُ القُدُسُ يَأْخُذُ مِمَّا لِلْمَسِيحِ وَيُخْبِرُ، وَلَا يَقُولُ كَلَامًا سِوَى مَا قَالَهُ المَسِيحُ: "فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ بِمَشِيئَتِهِ، عَرَفَ هَلْ ذَاكَ التَّعْلِيمُ مِنْ عِندِ اللهِ أَوْ أَنِّي أَتَكَلَّمُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِي" (يُوحَنَّا 7: 16). فَالمَسِيحُ وَالرُّوحُ القُدُسُ عَلَى اتِّفَاقٍ، وَهُنَاكَ اتِّفَاقٌ تَامٌّ بَيْنَ الأَقَانِيمِ، فَمَا يُرِيدُهُ الآبُ يُرِيدُهُ الِابْنُ، وَيُرِيدُهُ الرُّوحُ القُدُسُ. لَكِنْ هُنَاكَ تَوْزِيعٌ لِلأَدْوَارِ بَيْنَ الأَقَانِيمِ: فَالآبُ يُرِيدُ خَلَاصَ الجَمِيعِ، وَالِابْنُ يُنَفِّذُ عَمَلَ الفِدَاءِ، وَالرُّوحُ القُدُسُ يُرْشِدُ الكَنِيسَةَ وَيَقُودُهَا نَحْوَ السَّمَاءِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ هِيلَارِيُوس الأُسْقُفُ قَائِلًا: "وَاحِدٌ هُوَ اللهُ الآبُ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَوَاحِدٌ هُوَ يَسُوعُ المَسِيحُ، الَّذِي بِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَوَاحِدٌ هُوَ الرُّوحُ القُدُسُ، هِبَةُ اللهِ فِي الكُلِّ". أَمَّا عِبَارَةُ "بِما يَسمَع"، فَتُشِيرُ إِلَى التَّعَلُّمِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الرُّوحُ القُدُسُ مِنَ الآبِ وَالِابْنِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِعَمَلِ الفِدَاءِ وَالخَلَاصِ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "أَنا لا أَستَطيعُ أَن أَفعَلَ شَيئاً مِن عِندي، بَل أَحكُمُ عَلى ما أَسمَع، وَحُكْمِي عَادِلٌ، لأَنِّي لا أَتَوَخَّى مَشيئَتِي، بَل مَشيئَةَ الَّذِي أَرسَلَنِي" (يُوحَنَّا 5: 30). أَمَّا عِبَارَةُ "يُخبِرُكُم بِما سَيَحدُث"، فَتُشِيرُ إِلَى الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي يَشهَدُ لِإِتْمَامِ قَصْدِ اللهِ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَيُخبِرُ عَنْ كَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَ نِهَايَةِ الأَزْمِنَةِ، وَهِي تَبتَدِئُ فِي صَلبِ يَسُوعَ وَقِيَامَتِهِ، وَتَمْتَدُّ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ. فَيَجْعَلُ الرُّوحُ القُدُسُ التَّلَامِيذَ، الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ أَنْ شَارَكُوا يَسُوعَ فِي حَيَاتِهِ عَلَى الأَرْضِ (يُوحَنَّا 15: 27)، يَتَفَهَّمُونَ حَقِيقَةَ يَسُوعَ، وَمَعْنَى أَعْمَالِهِ، وَمَعْنَى الأُمُورِ المُرْتَبِطَةِ بِهِ تَفَهُّمًا تَدْرِيجِيًّا. وَيَقُومُ الرُّوحُ القُدُسُ بِالإِنْبَاءِ بِأُمُورٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِالكَنِيسَةِ وَالعَالَمِ، كَمَا فِي قِصَّةِ النَّبِيِّ أَغَابُس: "وَفِي تِلكَ الأَيَّامِ نَزَلَ بَعضُ الأَنبِيَاءِ مِن أُورَشَلِيمَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. فَقَامَ أَحَدُهُمْ، وَاسْمُهُ أَغَابُس، فَأَخبَرَ بِوَحْيٍ مِنَ الرُّوحِ أَنَّ سَتَكُونُ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ فِي المَعْمُورِ كُلِّهِ، وَهِيَ الَّتِي حَدَثَتْ فِي أَيَّامِ قُلُودِيُوسَ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 11: 27–28). وَكَذَلِكَ قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "وَأَنا أَعلَمُ أَنَّهُ سَيَدخُلُ فِيكُم بَعدَ رَحِيلِي ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لا تُبْقِي عَلَى القَطِيعِ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 20: 29)، “فَقَصَدَ إِلَينَا، فَأَخَذَ زُنَّارَ بُولُسَ، فَشَدَّ بِهِ رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَقُولُ: صَاحِبُ هَذَا الزُّنَّارِ يَشُدُّهُ اليَهُودُ هَكَذَا فِي أُورَشَلِيمَ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى أَيْدِي الوَثَنِيِّينَ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 21: 11). وَسِفْرُ الرُّؤْيَا بِأَسْرِهِ يُمَثِّلُ وَحْيًا نَبَوِيًّا بِقِيَادَةِ الرُّوحِ القُدُسِ عَنْ مَا سَيَكُونُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ بَاسِيلْيُوسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "الَّذِينَ لَهُمْ شَرِكَةُ الرُّوحِ يَتَمَتَّعُونَ بِهِ قَدْرَ مَا تَسْمَحُ طَبِيعَتُهُم، لا قَدْرَ مَا يَسْتَطِيعُ هُوَ أَنْ يَهَبَ نَفْسَهُ فِي الشَّرِكَةِ." وَهٰذَا يُفْهَمُ بِخُصُوصِ "المُتَأَهِّلِينَ" وَالأَبْرَارِ الَّذِينَ لَهُمْ انْفِتَاحٌ دَاخِلِيٌّ لِعَمَلِ الرُّوحِ. فَالرُّوحُ يُخْبِرُ التَّلَامِيذَ بِمَا حَدَثَ لِلمَسِيحِ بَعْدَ صُعُودِهِ، وَيُرْشِدُنَا إِلَى مَا يَجِبُ فِعْلُهُ فِي المُسْتَقْبَلِ لِنَنَالَ الخَلَاصَ، وَيُخْبِرُنَا بِمَا لَنَا مِن مَجْدٍ مُعَدٍّ فِي السَّمَاءِ، كَمَا كَتَبَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "ما لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلا سَمِعَتْ بِهِ أُذُنٌ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذلِكَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. فَلَنَا كَشَفَهُ اللهُ بِالرُّوحِ، لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى عَنْ أَعْمَاقِ اللهِ" (1 قُورِنْتُس 2: 9–10).  فَٱلرَّبُّ يَسُوعُ يُعْلِنُ لِتَلَامِيذِهِ أَنَّ دُخُولَنَا فِي نِعْمَةِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُوحِ ٱلْحَقِّ، ٱلَّذِي يَأْخُذُ مِمَّا لِلْمَسِيحِ وَيُعْطِينَا "رُوْحُ ٱلْحَقِّ…" فَلَا شِرْكَةَ حَقِيقِيَّةَ مَعَ ٱلْآبِ وَٱلِٱبْنِ إِلَّا فِي ٱلرُّوحِ، وَلَا فَهْمَ لِكَلِمَةِ ٱلْمَسِيحِ إِلَّا بِٱلنُّورِ ٱلَّذِي يُشْرِقُ فِي ٱلْقَلْبِ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَهٰكَذَا، فَحَيَاتُنَا ٱلْمَسِيحِيَّةُ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى ٱلتَّبَنِّي ٱلشَّكْلِيِّ، بَلْ هِيَ ٱتِّحَادٌ حَيٌّ وَفِعْلِيٌّ مَعَ ٱلثَّالُوثِ، يُتَرْجَمُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلْخِدْمَةِ وَٱلشَّهَادَةِ. كَمَا يَقُولُ ٱلرَّسُولُ بُوْلُس: "ٱلْمَحَبَّةُ ٱلَّتِي لِلَّهِ قَدْ ٱنْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُعْطَى لَنَا" (رُومِيَة 5: 5). َيَقُولُ ٱلْقِدِّيسُ إِيرِينِيئُوس: "حَيْثُ يَكُونُ ٱلرُّوحُ، هُنَاكَ ٱلْكَنِيسَةُ، وَحَيْثُ تَكُونُ ٱلْكَنِيسَةُ، هُنَاكَ رُوحُ ٱللهِ، وَحَيْثُ يَكُونُ رُوحُ ٱللهِ، هُنَاكَ ٱلْحَيَاةُ ٱلْإِلٰهِيَّةُ."

 

14 سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "سَيُمَجِّدُنِي" إِلَى وَعْدِ العَمَلِ الثَّالِثِ لِلرُّوحِ القُدُسِ، الَّذِي يُمَجِّدُ المَسِيحَ، بِقَدْرِ مَا يُهْدِي التَّلَامِيذَ تَدْرِيجِيًّا إِلَى مَعْرِفَةِ الحَقِيقَةِ المُتَجَلِّيَةِ فِيهِ، حَيْثُ يُنْجِزُ عَمَلَهُ القَائِمَ عَلَى تَمْجِيدِ الآبِ. أَمَّا الوَعْدُ الأَوَّلُ وَالثَّانِي، فَقَدْ ذُكِرَا فِي (يُوحَنَّا 16: 13). وَهَكَذَا تَظْهَرُ وَحْدَةُ الوَحْيِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا، فَالآبُ يُمَجِّدُ الِابْنَ، وَالِابْنُ يُمَجِّدُ الآبَ، وَالرُّوحُ يُمَجِّدُ الِابْنَ. كُلُّ أَقْنُومٍ يُمَجِّدُ الآخَرَ فِي دَائِرَةِ الحُبِّ الأَزَلِيِّ. وَالتَّمْجِيدُ المَقْصُودُ هُنَا هُوَ تَمْجِيدُ المَسِيحِ أَمَامَ عُيُونِ النَّاسِ عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ مَجْدَهُ فِي السَّمَاءِ ظَاهِرٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِظْهَارِ الرُّوحِ إِيَّاهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "يَأخُذُ مِمَّا لي وَيُخبِرُكُم بِهِ"، فَتُشِيرُ إِلَى وَعْدٍ رَابِعٍ مِن أَعْمَالِ الرُّوحِ القُدُسِ. فَكَمَا أَنَّ الرَّسُولَ يَأْخُذُ التَّعْلِيمَ عَنْ مُرْسِلِهِ، كَذَلِكَ الرُّوحُ القُدُسُ يَأْخُذُ عَنْ المَسِيحِ: كَلِمَتَهُ وَعَمَلَهُ لِفِدَاءِ العَالَمِ، فِي سَبِيلِ الخَلَاصِ. تكرَّرَتْ هذه العِبارةٌ مُميَّزَةٌ نَوعًا ما، مَرَّتَيْنِ، في إنْجيلِ يوحنّا 16: 14، 16). لَا يُعَدُّ أَخْذُ مَا لِلآخَرِ انْتِقَاصًا مِنْهُ، بَلْ عَلَى العَكْسِ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ حَيٌّ لِحَقِيقَةِ الشَّرِكَةِ الَّتِي تُوَحِّدُهُمْ. فِي الثَّالُوثِ الأَقْدَسِ، لَا يُوجَدُ تَمَاسُكٌ أَنَانِيٌّ، وَلَا احْتِفَاظٌ مُنْغَلِقٌ بِالذَّاتِ، بَلْ عَطَاءٌ مُتَبَادَلٌ، وَمَحَبَّةٌ مُتَدَفِّقَةٌ بِلَا حُدُود. "كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي، لِذٰلِكَ قُلتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ" (يُوحَنَّا ١٦: ١٥)، يَقُولُ يَسُوعُ، فَيُظهِرُ أَنَّ كُلَّ مَا لِلآبِ هُوَ لِلاِبْنِ، وَكُلَّ مَا لِلاِبْنِ هُوَ لِلرُّوحِ، وَكُلَّ مَا لِلثَّالُوثِ هُوَ لِلإِنْسَانِ الَّذِي يُؤْمِنُ وَيَدْخُلُ فِي شَرِكَةِ الحَيَاةِ الإِلٰهِيَّةِ. فِي مَنطِقِ الشَّرِكَةِ، لَا يُنقِصُ العَطَاءُ مِن المُعطِي، وَلَا يُذِلُّ الأَخْذُ الآخِذَ، بَلْ يُعَبِّرُ كِلَاهُمَا عَنِ الحُبِّ الكَامِلِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ اللهِ وَيَعُودُ إِلَيْهِ. وَمِن هَذَا المُنْطَلَقِ، فَمَوْضُوعُ تَعْلِيمِ الرُّوحِ القُدُسِ الخَاصِّ هُوَ يَسُوعُ المَسِيحُ. فَالوَحْيُ الوَاحِدُ الَّذِي نَقَلَهُ يَسُوعُ، يَنْقُلُهُ الرُّوحُ القُدُسُ أَيْضًا. كُلُّ شَيْءٍ يَنْطَلِقُ مِنَ الآبِ، فِي الِابْنِ، بِوَسَاطَةِ الرُّوحِ القُدُسِ. وَهٰذَا هُوَ عَمَلٌ ثَالُوثِيٌّ وَاحِدٌ. وَلِذَلِكَ، يَجِبُ عَلَى الوَاعِظِينَ أَنْ يَكُونَ يَسُوعُ المَسِيحُ وَتَعْلِيمُهُ هُوَ مَوْضُوعَ تَعْلِيمِهِم. أَمَّا عِبَارَةُ "وَيُخبِرُكُم بِهِ"، فَتُشِيرُ إِلَى عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي يَأْخُذُ مَا فِي إِنجِيلِ يَسُوعَ مِن مَوَاعِيدَ وَتَعَالِيمَ، وَيَجْعَلُهَا تُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، لِتَأْتِيَ بِهِمْ إِلَى الإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ وَالقَدَاسَةِ. كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "وَلا يَستَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: ((يَسُوعُ رَبٌّ)) إِلاَّ بِإِلهَامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ" (1 قُورِنْتُس 12: 3).

 

15 جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "جَميعُ ما هُوَ لِلآبِ فَهُوَ لي" إِلَى عَلَاقَةِ الوَحْدَةِ وَالمَحَبَّةِ وَالشَّرِكَةِ بَيْنَ الأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ الإِلَهِيَّةِ. إِنَّ الثَّالُوثَ لا يُعْلِنُ لَنَا حَقِيقَةً نَظرِيَّةً فَقط، بَل يَفتَحُ لَنَا أُفُقًا جَدِيدًا فِي العِيشِ وَالمُوَاصَلَةِ وَالعَلاقَاتِ. فَكَمَا أَنَّ الأَقَانِيمَ الإِلٰهِيَّةَ مُتَمَيِّزَةٌ وَمُتَّحِدَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ، كَذٰلِكَ يُدعَى المُؤمِنُونَ لِيَعيشُوا فِي وَحدَةٍ لا تَمحُو الفَرقَاتِ، وَفِي تَنَوُّعٍ لا يُهَدِّدُ الأَصَالَةَ وَالانتمَاء. فَالأَقَانِيمُ تَتَقَاسَمُ كُلَّ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَهَا، وَتَشْتَرِكُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي الأَخْذِ وَالعَطَاءِ. وَيُؤَكِّدُ يَسُوعُ ذٰلِكَ بِقَوْلِهِ: "جَميعُ ما هُوَ لي فَهُوَ لَكَ، وَما هُوَ لَكَ فَهُوَ لي، وَقَد مُجِّدتُ فِيهِم" (يُوحَنَّا 17: 10). فَكِلَا الأَقْنُومَيْنِ لِلآخَرِ، وَكِلَاهُمَا يَأْخُذُ مِنْ كَنْزِ الحَقِّ الوَاحِدِ. فَفِي تَجَسُّدِ ٱلْمَسِيحِ، يَتَجَلَّى ٱللَّهُ كَأَبٍ يَهَبُ كُلَّ مَا لَدَيْهِ، وَكُلَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ، لِٱبْنِهِ، بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، فِي رِبَاطِ مَحَبَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لَا تَفْنَى. هٰذَا ٱلتَجَلِّي هُوَ أَسَاسُ ٱلْوَحْيِ وَقِمَّةُ ٱلْخَلَاصِ، فَفِي ٱبْنِهِ ٱلْمُتَجَسِّدِ يُعْلِنُ ٱلْآبُ مَجْدَهُ، وَيُقَدِّمُ لِلْبَشَرِ حَقِيقَةَ هُوِيَّتِهِ كَإِلٰهٍ مَحَبَّةٍ. لَمْ يَبْقَ ٱللهُ مُنْغَلِقًا فِي سَمَائِهِ، بَلِ ٱنْحَنَى بِحُبِّهِ، وَسَكَنَ بَيْنَنَا فِي ٱلْكَلِمَةِ ٱلْمُتَجَسِّدَةِ، حَتَّى يُرَافِقَ ٱلْإِنْسَانَ فِي كُلِّ دُرُوبِهِ، وَيَرْفَعَهُ إِلَى شَرِكَةِ ٱلثَّالُوثِ. فِي يَسُوعَ، ٱبْنِ ٱللهِ، نُعَايِنُ وَجْهَ ٱلْآبِ، وَنَتَنَسَّمُ نَفَسَ ٱلرُّوحِ، وَنَدْخُلُ فِي حَيَاةِ ٱللهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ، حَيَاةِ ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلْعَطَاءِ وَٱلْحُرِّيَّةِ كَمَا يَقُولُ ٱلرَّسُولُ يُوحَنَّا: "ٱللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. ٱلِٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي فِي حِضْنِ ٱلْآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يُوحَنَّا 1: 18). وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أَثناسيوس ٱلْكَبِير قَائِلًا: "ٱلْكَلِمَةُ تَجَسَّدَ لِكَيْ نَتَأَلَّهَ؛ وَٱبْنُ ٱللهِ صَارَ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ لِكَيْ يَجْعَلَ ٱلْإِنْسَانَ ٱبْنًا لِلَّهِ." أَمَّا عِبَارَةُ "يَأْخُذُ مِمَّا لي وَيُخبِرُكُم"، فَتُعَدُّ تَفْسِيرًا لِلآيَةِ السَّابِقَةِ: "يَأْخُذُ مِمَّا لي" (يُوحَنَّا 16: 14)، وَذٰلِكَ وَفْقَ مَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "يُمَكِّنُهُم مِن مَعرِفَةِ سِرِّ الله، أَعني المَسِيح، فَقَدِ استَكَنَّت فيهِ جَميعُ كُنوزِ الحِكمَةِ وَالمَعرِفَةِ. أَقولُ هٰذا لِئَلَّا يَخدَعَكُم أَحَدٌ بِكَلامٍ مُمَوَّهٍ" (قُولُسِّي 2: 2–4). فَالمَجْدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ تَجَلِّي قُدْرَةِ الآبِ وَالِابْنِ، بَل تَجَلِّي وَحْدَةِ مَحَبَّتِهِمَا، الَّتِي لِلتَّلَامِيذِ نَصِيبٌ فِيهَا. فَكُلُّ مَا يُخْبِرُنَا بِهِ الرُّوحُ القُدُسُ عَنْ مَجْدِ المَسِيحِ، هُوَ فِي الحَقِيقَةِ عَنْ مَجْدِ الآبِ أَيْضًا، إِذْ يُعَرِّفُنَا بِاسْتِمْرَارٍ عَلَى الآبِ وَالِابْنِ، وَعَلَاقَةِ الآبِ بِالِابْنِ، وَهِيَ مَوْضُوعُ خَلَاصِنَا. فَالآبُ مُعْلَنٌ بِالِابْنِ، وَالرُّوحُ القُدُسُ يُمَكِّنُ النَّاسَ أَنْ يَفْهَمُوا هٰذَا الإِعْلَانَ. فَنَحْنُ نَسْجُدُ لِلثَّالُوثِ فِي الأَقَانِيمِ، وَلِلْوَحْدَةِ فِي الجَوْهَرِ، وَلِلتَّسَاوِي فِي الجَلَالِ. عَمَلُ الثَّالُوثِ يُدخِلُنا، شَيْئًا فَشَيْئًا، فِي أُسلُوبٍ جَدِيدٍ مِنَ الحَيَاةِ وَالفِكرِ، أُسلُوبِ الشَّرِكَةِ.  فَاللّٰهُ، فِي ذَاتِهِ، لَيْسَ وَحدَةً مُنغَلِقَةً عَلَى نَفسِهَا، بَل شَرِكَةُ مَحبَّةٍ أَبَدِيَّةٍ بَينَ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ. وَإِذْ نُولَدُ مِنَ الرُّوحِ فِي المَعمُودِيَّةِ، نَدخُلُ نَحنُ أَيضًا فِي هٰذِهِ الشَّرِكَةِ، فَنُصبِحُ "شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلٰهِيَّةِ" (2 بُطرُس 1: 4)، وَنَتَخَذُ مِنهَا نَمُوذَجًا لِكُلِّ تَفَاعُلٍ بَشَرِيٍّ، وَلِكُلِّ حَيَاةٍ جَماعِيَّةٍ صَحِيحَةٍ. إِنَّ الثَّالُوثَ لا يُعْلِنُ لَنَا حَقِيقَةً نَظرِيَّةً فَقط، بَل يَفتَحُ لَنَا أُفُقًا جَدِيدًا فِي العِيشِ وَالمُوَاصَلَةِ وَالعَلاقَاتِ. فَكَمَا أَنَّ الأَقَانِيمَ الإِلٰهِيَّةَ مُتَمَيِّزَةٌ وَمُتَّحِدَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ، كَذٰلِكَ يُدعَى المُؤمِنُونَ لِيَعيشُوا فِي وَحدَةٍ لا تَمحُو الفَرقَاتِ، وَفِي تَنَوُّعٍ لا يُهَدِّدُ الأَصَالَةَ وَالانتمَاء. وَهٰكَذَا، يُصْبِحُ التَّأَمُّلُ فِي سِرِّ الثَّالُوثِ دَعْوَةً لِتَجَدُّدِ العَقلِ وَالقَلبِ، وَلِلدُّخُولِ فِي مَنطِقِ العَطَاءِ وَالإِصغَاءِ وَالخُرُوجِ مِنِ الأَنَا، لِنَصِلَ فِي النِّهَايَةِ إِلَى كَمَالِ المَحبَّةِ الَّتِي "تَرُكِّزُ كُلَّ شَيءٍ فِي الآخَرِ" كَمَا يُعَلِّمُنَا القِدِّيسُ غُرِيغُورِيُوس النيزينزي. الْإِنْسَانِيَّةُ الَّتِي تَقْبَلُ كَلِمَاتِ يَسُوعَ، تِلْكَ الَّتِي يَأْخُذُهَا الرُّوحُ وَيُحْيِيهَا فِي دَاخِلِنَا، تَسْتَعِيدُ حَقِيقَةَ الشَّرِكَةِ وَالْمَحَبَّةِ الْمُتَبَادَلَةِ، الَّتِي تَجْعَلُ الْإِنْسَانِيَّةَ غَنِيَّةً بِالْخَيْرِ وَالْعَلَاقَاتِ وَالْحَيَاةِ. فَكَلِمَةُ الرَّبِّ لَيْسَتْ مَجَرَّدَ نُصُوصٍ تُعلَّقُ فِي الذِّهْنِ، بَلْ نَبْضُ حَيَاةٍ يَنْقُلُهُ الرُّوحُ القُدُسُ إِلَى أَعْمَاقِ الكِيَانِ البَشَرِيِّ، فَيُجَدِّدُهُ وَيَرْفَعُهُ لِيُشَارِكَ فِي الشَّرِكَةِ الإِلٰهِيَّةِ. وَهكَذَا، تُصبحُ الإِنسَانِيَّةُ الْمُجَدَّدَةُ بِالرُّوحِ وَالمَسِيرَةِ فِي كَلِمَةِ السَّيِّدِ، أَيَضًا صَانِعَةَ خَيْرٍ وَسَاعِيَةً لِلسَّلَامِ، فِي العَائِلَةِ وَالْمُجْتَمَعِ وَالْكَنِيسَةِ، إِذْ تُصْبِحُ كُلُّ عِلَاقَةٍ فِيهَا، عَلاقَةَ عَطَاءٍ وَقُبُولٍ، حُرِّيَّةٍ وَتَوَاضُعٍ، مِثْلَمَا هِيَ العِلَاقَةُ فِي الثَّالُوثِ الأَقْدَسِ. لَا يَسْتَطِيعُ ٱلْإِنْسَانُ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْ مَسْؤُولِيَّتِهِ ٱلْأُولَى فِي ٱلْوُجُودِ: أَنْ يَحْيَا عَلَى صُورَةِ ٱللَّهِ ٱلثَّالُوثِ؛ صُورَةِ ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلْعَلَاقَةِ وَٱلشَّرِكَةِ. فَهٰذِهِ ٱلصُّورَةُ لَيْسَتْ مِيزَةً تُزَيِّنُ ٱلْإِنْسَانَ، بَلْ جَوْهَرُ كَيْنُونَتِهِ، وَسَبَبُ دَعْوَتِهِ، وَغَايَةُ خَلْقِهِ. وَكُلَّمَا ٱقْتَرَبْنَا مِنْ ٱلثَّالُوثِ، وَعِشْنَا عَلَى مِثَالِهِ، تَحَقَّقَتْ فِينَا ٱلْإِنسَانِيَّةُ عَلَى وَجْهِهَا ٱلْحَقِيقِيِّ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ بَاسِيلُوس ٱلْكَبِير قَائِلًا: "مَا دُمْنَا قَدْ نِلْنَا ٱلنَّفْسَ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱللَّهِ، فَلْنَعِشْ بِنَفْسِ ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي يَحْيَا بِهِ ٱلثَّالُوثُ؛ فَهٰذَا وَحْدَهُ يُبْقِينَا عَلَى صُورَتِهِ." فَإِنَّ شَرِكَةَ ٱلْآبِ وَٱلِٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ لَيْسَتْ فَقَطْ مِثَالًا نَحْتَذِي بِهِ، بَلْ هِيَ قُوَّةٌ تَسْنُدُنَا، وَنِعْمَةٌ تُحَوِّلُنَا إِلَى بَشَرٍ قَادِرِينَ عَلَى ٱلْمَحَبَّةِ، وَٱلْمَغْفِرَةِ، وَٱلْعَطَاءِ. فَفِي ٱلثَّالُوثِ نَكْتَشِفُ أَصْلَنَا وَغَايَتَنَا، وَفِيهِ نَجِدُ ٱلْقُوَّةَ عَلَى أَنْ نُحِبَّ كَمَا أُحِبِبْنَا، وَأَنْ نَغْفِرَ كَمَا غُفِرَ لَنَا، وَأَنْ نُعْطِيَ كَمَا أُعْطِينَا.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 16: 12-15)

 

بَعدَ دِرَاسَةٍ مُوجَزَةٍ لِوَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (يُوحَنَّا 16: 12–15)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ كَشْفِ يَسُوعَ وَجْهَ اللهِ، الثَّالُوثِ الأَقْدَسِ، مِنْ خِلَالِ العَلَاقَةِ بَيْنَ الآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ. وَمِنْ هُنَا نَتَسَاءَلُ: مَا هُوَ سِرُّ الثَّالُوثِ؟ وَكَيْفَ كَشَفَ يَسُوعُ وَجْهَ اللهِ الثَّالُوثِ الأَقْدَسِ؟

 

1. ما هُوَ الثَّالُوثُ الأَقْدَسُ؟

 

مَفْهُومُ الثَّالُوثِ: يَقُومُ الإِيمَانُ المَسِيحِيُّ عَلَى الثَّالُوثِ الأَقْدَسِ، وَهُوَ مُصْطَلَحٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الكَلِمَةِ اللَّاتِينِيَّة Trinitas، وَهِيَ لَفْظَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِن Tria + Unitas، أَيِ: الوَحْدَةِ الثُّلاَثِيَّةِ. وَأَوَّلُ مَرَّةٍ استُخدِمَ فِيهَا هٰذَا المُصْطَلَح كَانَ فِي مَجْمَعِ نِيقِيَّة سَنَةَ 326

 

الثَّالُوثُ يَعْنِي إِلَهًا وَاحِدًا فِي الجَوْهَرِ أَو الطَّبِيعَةِ، فِي ثَلاَثَةِ أَقَانِيمَ مُمَيَّزِينَ: الآبِ، وَالِابْنِ، وَالرُّوحِ القُدُسِ.

 

فِي هٰذَا السِّيَاقِ، "الطَّبِيعَةُ" هِيَ مَا يُكَوِّنُ الشَّخْصَ، فِي حِينَ أَنَّ "الأَقْنُومَ" هُوَ مَنْ يَكُونُهُ الشَّخْصُ. وَكَلِمَةُ "أَقْنُومٍ" هِيَ كَلِمَةٌ آرَامِيَّةٌ سُرْيَانِيَّةٌ، تَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ الكِيَانِ. وَاستِنَادًا إِلَى ذٰلِكَ، لَمْ يَقُلِ المَسِيحُ فِي خَاتِمَةِ إِنْجِيلِ مَتَّى: "عَمِّدُوهُمْ بِأَسْمَاءِ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ"، بَل قَالَ: "بِاسْمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ" (مَتَّى 28: 19). فَنَقُولُ: الآبُ أَقْنُومٌ، وَالابْنُ أَقْنُومٌ، وَالرُّوحُ القُدُسُ أَقْنُومٌ. وَلَمْ تُسْتَخْدَمْ كَلِمَةُ "شَخْصٍ"، لأَنَّهَا تُوحِي بِكَائِنٍ بَشَرِيٍّ لَهُ حُدُودٌ وَمَلاَمِحُ. وَكَلِمَةُ "أَقْنُومٍ" لا تُسْتَعْمَلُ فِي أَيِّ مَجَالٍ آخَرَ، دِينِيٍّ أَو مَدَنِيٍّ، سِوَى هٰذَا.

 

سِرُّ الثَّالُوثِ هُوَ سِرُّ ذَاتِ اللهِ العَجِيبَةِ، سِرُّ حَيَاتِهِ الدَّاخِلِيَّةِ، سِرُّ كَمَالِهِ وَرِسَالَتِهِ فِي ذَاتِهِ. فَاللهُ وَاحِدٌ فِي الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، فِي ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ. وَكُلُّ أَقْنُومٍ هُوَ اللهُ كَامِلًا، كَمَا يُعَلِّمُ التَّعْلِيمُ المَسِيحِيُّ لِلكَنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّةِ: "الآبُ هُوَ ذَاتُ مَا هُوَ الِابْنُ، وَالِابْنُ هُوَ ذَاتُ مَا هُوَ الآبُ، وَالآبُ وَالِابْنُ هُمَا ذَاتُ مَا هُوَ الرُّوحُ القُدُسُ، أَيِ الإِلَهُ وَاحِدٌ فِي الطَّبِيعَةِ." (البند 253 من التَّعْلِيمِ المَسِيحِيِّ).

 

الأَقَانِيمُ مُتَمَيِّزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِعَلاَقَاتِ المَصْدَرِ: الآبُ هُوَ الَّذِي يَلِدُ، وَالابْنُ هُوَ المَوْلُودُ، وَالرُّوحُ القُدُسُ هُوَ المُنْبَثِقُ (التَّعْلِيمُ المَسِيحِيّ، البند 254). وَبِذٰلِكَ، فَإِنَّ اللهَ وَاحِدٌ فِي وَحْدَةٍ إِلَهِيَّةٍ ثُلاَثِيَّةٍ. كُلُّ أَقْنُومٍ إِلَهِيٌّ، وَيَعْمَلُ فِي العَمَلِ المُشْتَرَكِ وَفْقًا لِمِيزَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ. كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ الكَنِيسَةِ: "بِاللهِ الآبِ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ، بِالرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ الَّذِي لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ". وَفْقًا لِتَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "أَمَّا عِندَنَا نَحْنُ، فَلَيْسَ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الآبُ، مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ نَحْنُ أَيْضًا نَصِيرُ، وَرَبٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ يَسُوعُ المَسِيحُ، بِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِهِ نَحْنُ أَيْضًا" (1 قُورِنْتُس 8: 6).

 

تُعلِّم الكَنِيسَةِ عَنِ العَمَلِ الإِلَهِيِّ المُشْتَرَكِ"الأَقَانِيمُ الإِلَهِيَّةُ غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ فِيمَا هِيَ عَلَيْهِ، وَغَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ أَيْضًا فِيمَا تَعْمَلُ. وَلَكِنْ فِي العَمَلِ الإِلَهِيِّ الوَاحِدِ، كُلُّ أَقْنُومٍ يُظْهِرُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فِي الثَّالُوثِ، وَلَا سِيَّمَا فِي رِسَالَةِ تَجَسُّدِ الِابْنِ وَرِسَالَةِ مَوْهِبَةِ الرُّوحِ القُدُسِ الإِلَهِيَّتَيْنِ" (التَّعْلِيمُ المَسِيحِيُّ لِلكَنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّةِ: بند 267).

 

العَلَاقَةُ بَيْنَ الأَقَانِيمِ مُتَكَامِلَةٌ فِي التَّدْبِيرِ الخَلاَصِيّ. فَبَيْنَمَا أَرْسَلَ الآبُ الابْنَ إِلَى العَالَمِ، تَمَّ ذٰلِكَ بِوَاسِطَةِ الرُّوحِ القُدُسِ. الآبُ خَلَقَنَا، الابْنُ افْتَدَانَا وَخَلَّصَنَا، الرُّوحُ القُدُسُ يُحْيِينَا وَيُقَدِّسُنَا. وَيُعَلِّقُ المَجْمَعُ الفَاتِيكَانِيُّ الثَّانِي: "مُهِمَّةُ الرُّوحِ عَيْنِهِ تَقُومُ عَلَى تَقْدِيسِ شَعْبِ اللهِ بِالأَسْرَارِ وَالخُدَّامِ".

 

يُمْكِنُنَا أَنْ نُقَرِّبَ سِرَّ الثَّالُوثِ إِلَى العَقْلِ البَشَرِيِّ مِن خِلَالِ أَمْثِلَةٍ فِي الطَّبِيعَةِ، تُوَضِّحُ الوَحْدَةَ فِي التَّعَدُّدِ، وَالتَّعَدُّدَ فِي الوَحْدَةِ، دُونَ أَنْ تَكُونَ تَطَابُقًا كَامِلًا:

 

العَيْنُ وَاليَنْبُوعُ وَالنَّهْرُ: الثَّلَاثَةُ هِيَ كِيَانٌ مَائِيٌّ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهَا تَظْهَرُ فِي أَشْكَالٍ مُتَمَيِّزَةٍ، وَهٰكَذَا: الآبُ وَالِابْنُ وَالرُّوحُ القُدُسُ لَا يَنْفَصِلُونَ، وَإِنْ تَمَيَّزُوا فِي الأَقَانِيمِ.

 

الشَّمْسُ وَالشُّعَاعُ وَالنُّورُ: جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، لٰكِنَّ لَهُ ثَلَاثَةُ وَجُوهٍ لا تَنْفَصِلُ عَنْ بَعْضِهَا، وَكَذٰلِكَ الأَقَانِيمُ الثَّلَاثَةُ: لَهَا نَفْسُ الجَوْهَرِ الإِلَهِيِّ.

 

رَغْمَ التَّعَدُّدِيَّةِ فِي الأَقَانِيمِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ أَبَدًا انْقِسَامٌ فِي الجَوْهَرِ، بَل هُنَاكَ: المُسَاوَاةُ فِي الجَلَالِ، وَالاِشْتِرَاكُ فِي نَفْسِ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ الوَاحِدَةِ.

 

تَخْتَلِفُ عَقِيدَةُ الثَّالُوثِ الأَقْدَسِ عَنَ المَذَاهِبِ البَشَرِيَّةِ المُنْحَرِفَةِ، كَالمَذْهَبِ القَائِلِ: "إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي شَخْصَيْنِ"، أَو المَذْهَبِ الَّذِي يَنْفِي تَعَدُّدَ الأَشْخَاصِ فِي الذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ، وَيَدَّعِي أَنَّ الإِلَهَ يَظْهَرُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْضَاعٍ:أَحْيَانًا كآبٍ، وَأَحْيَانًا كابْنٍ، وَأَحْيَانًا كَرُوحٍ قُدُسٍ. وَهٰذَا المَفْهُومُ يُسَمَّى التَّوَحُّدِيَّةَ الشَّكْلِيَّة (Modalism)، وَهُوَ مُرْفَوضٌ فِي الإِيمَانِ المَسِيحِيِّ الأَرْثُوذُكْسِيِّ.

 

 

2) الثالوث: عَلاقةُ التَّضامُن، شركة، محبة

 

الثالوث: عَلاقةُ التَّضامُن

 

تسودُ في الثالوثِ الأقدسِ علاقةُ تَضامُنٍ مُميَّزة، كما وردَ في قولِ الرّبِّ يسوع: "فمتى جاءَ هو، أي رُوحُ الحقِّ، أَرشَدَكم إلى الحقِّ كُلِّه، لأنَّه لا يَتَكَلَّمُ مِن عِندِه، بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع، ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث" (يوحنا 16: 13).  يُشيرُ يسوعُ هنا إلى "رُوحِ الحقِّ"، أي الروحِ القُدُس، الذي يُسمّى أيضًا "البارقليط". أمَّا "الحقُّ"، فيُشير إلى الله ذاته، في كمالِ حقيقتِه ومجدِه.

 

الرّوحُ القُدُسُ لا يتكلَّمُ عن نفسِه، ولا يتصرّفُ باستقلالٍ عن الآب والابن، بل يتكلَّمُ بما يَسمعُ ويَنقُلُ ما قد تلقّاه. فهو لا ينطلقُ من قرارهِ الخاص، ولا يَفرِضُ ذاتَه، بل يُعلِنُ ما سَمِعَهُ مِن الآبِ والابن، ويُظهِرُه للعالم.

هذه هي حياةُ الثالوث: حياةٌ مُتبادَلةٌ في العطاءِ والتواصُل، حيثُ لا أحدَ من الأقانيمِ الثّلاثةِ يَفرِضُ نفسَه، بل يَجعلُ الآخرَ يَظهرُ ويُعلِنُ ذاتَه. كلُّ أقنومٍ يُوجَدُ لأجلِ الآخَر، ويَرعى حضورَه، ويَضمَنُ كَمالَه. إنَّها علاقةُ حبٍّ واتّحادٍ وتضامنٍ كاملٍ بين الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدُس.

 

في عمقِ هذا السرّ، نُعاينُ جمالَ العلاقة التي تربط الآب بالابن والرّوح القدس، علاقةً قائمةً على التبادل الكامل، والإصغاء المتبادل، والعطاء اللامحدود. يقول الرب يسوع: "فمتى جاءَ هو، أي رُوحُ الحقِّ، أَرشَدَكم إلى الحقِّ كُلِّه، لأنَّه لا يَتَكَلَّمُ مِن عِندِه، بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع، ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث" (يوحنا 16: 13). فالروحُ القدسُ لا يَتكلمُ من ذاته، بل يتلقّى من الآب والابن ويُخبِر. إنَّه لا يَفرِضُ حضورَه بل يُجسِّدُ المحبّةَ العميقة التي تُصغي وتخدم وتُعلِنُ الحقّ.

 

في هذا السرّ، نكتشفُ دعوةً لكلِّ مؤمن: أن يعيشَ على مثال الله، في تَضامُنٍ حقيقيٍّ مع إخوتِه، لا يُفرِضُ ذاتَه ولا يبحث عن مجدِه، بل يُصغي، ويخدم، ويتنازل بمحبة. الثالوث ليس عزلةً، بل شَرِكة. ليس انغلاقًا، بل انفتاحًا، ليس صراعًا، بل تضامنًا. فالله في ذاته ليس "واحدًا" منطويًا، بل "واحدًا في ثلاثة": أي في محبّةٍ تُوجِد الآخر، وتَحتويه، وتُكرِّمه.

 

عندما نتأمّل في الثالوث، نفهم أن التضامنَ ليس مجرّد واجبٍ أخلاقي، بل هو تعبيرٌ عن صورة الله فينا. اللهُ، في سرّه، تضامنُ حبٍّ لا متناهٍ. فإن كُنّا "على صورة الله"، دُعينا لأن نكون جماعةً متضامنة، كنسيّة، تنبض بالمحبّة والمشاركة والاحترام المتبادل. في عالمٍ يَسوده الفرديّة، يُعلّمُنا الثالوثُ ألا نعيشَ للذات فقط، بل للآخرين أيضًا. في زمنِ الحروبِ والخصوماتِ والتفتّت، يُنادي سرّ الثالوث المؤمنين ليكونوا علاماتِ وَحدةٍ وشَرِكة.

 

يا ثالوثَ المحبّة، علّمنا أن نعيشَ بسرِّكَ، أن نُصغي كما يُصغي الروحُ إلى الآب، وأن نُعلِنَ الحقَّ كما يُعلِنُه الرّوح، وأن نُحبّ كما أحبّ الابنُ حتى بذل الذات. اجعلنا جماعةً متضامنة، كنيسةً مُتَّحدةً، شهادةً حيّةً لمجدِكَ في العالم.  آمين.

 

الثالوث: عَلاقةُ شَرِكَةٍ

 

تَسودُ في الثّالوثِ الأقدَسِ عَلاقَةُ شَرِكَةٍ وَانتماءٍ، كَما جاءَ في قَولِ يسوعَ لِتَلاميذِهِ: "سَيُمَجِّدُني، لِأَنَّهُ يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِهِ. جَميعُ ما هُوَ لِلآبِ فَهُوَ لي، وَلِذلِكَ قُلتُ لَكم إِنَّهُ يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم" (يُوحنّا 16: 14–15). يَتَكرَّرُ ضَمِيرُ المِلكِيَّةِ "لي" ثَلاثَ مَرَّاتٍ فِي هذِهِ الآياتِ القَليلَةِ، وَكَأَنَّ يسوعَ يَقولُ لَنا: إِنَّهُ داخِلَ الثّالوثِ، لا يُوجَدُ اِمتِلاكٌ مُغلَقٌ أَو مُنْفَصِل، بَل ما هُوَ لِلآبِ هُوَ أَيضًا لِلابنِ، وَما هُوَ لِلابنِ يُؤخَذُ مِن قِبَلِ الرّوحِ القُدُسِ وَيُعطى لِلتَّلاميذِ، فَيُصبِحُ خَاصًّا بِهِم، وَبِالتّالي خَاصًّا بِالجَميعِ.

 

إِنَّ العَلاقَةَ بَينَ أَقانِيمِ الثّالوثِ لَيسَت عَلاقَةَ هَيمَنَةٍ أَو تَملُّكٍ، بَل عَلاقَةَ مُشارَكَةٍ وَتَبادُلٍ وَاِنكِشافٍ فِي مَحبَّةٍ كامِلَةٍ.

ما هُوَ لِلآبِ، هُوَ لِلابنِ،

وما هُوَ لِلابنِ، يُعلِنُهُ الرّوحُ القُدُسُ،

وما يُعلِنُهُ الرّوحُ، يُزرَعُ فِي قُلُوبِ التَّلاميذِ.

 

وقد كَرَّرَ السَّيِّدُ المَسيحُ هٰذا المَفهومَ مَرّاتٍ عِدَّةً فِي الإِنجِيلِ: "الكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي، بَل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني" (يُوحنّا 14: 24). وَفِي مَوضِعٍ آخَرَ: "لَيسَ تَعليمِي مِن عِندي، بَل مِن عِندِ الَّذي أَرسَلَني" (يُوحنّا 7: 16). بِهذِهِ الكَلِماتِ، يَكشِفُ يسوعُ عَن اِتِّحادِهِ العَميقِ مَعَ الآبِ: حَياةٌ واحِدَةٌ، تَنبُضُ فِي شَخصَينِ مُتَمايِزَينِ، وَتَبلُغُ ذُروَتَها فِي هٰذا التَّصريحِ اللاهُوتيِّ الجَريءِ:"مَن رآني، رَأى الآبَ" (يُوحنّا 14: 9).

 

الابنُ وَالرّوحُ القُدُسُ هُما واسِطَتانِ فِي إِقامَةِ شَرِكَةِ البَشَرِ مَعَ اللهِ الآبِ، خالِقِ الكَونِ، كَما جاءَ فِي: "بِهِ كانَ كُلُّ شَيءٍ، وَبِدُونِهِ ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كانَ" (يُوحنّا 1: 3؛ راجِع أَمثال 8: 25–30). فَالرّوحُ القُدُسُ هُوَ الرّابِطُ، روحُ الشَّرِكَةِ، الَّذي يُؤَسِّسُ العَلاقَةَ بَينَ اللهِ وَالإِنسانِ، وَيُجَذِّرُها فِي الكَنيسةِ.  الابنُ كَشَفَ لَنا الآبَ اللَّا مَرئِيَّ بِتَجَسُّدِهِ، وَالرّوحُ القُدُسُ يُرشدُنا إِلى الحَقيقَةِ الكامِلَةِ، وَيَجعَلُنا أَبناءً فِي الابنِ.

 

الثالوث: عَلاقةُ مَحبَّةٍ

 

إِنَّ سِرَّ اللهِ الواحِدِ وَالثّالوثِ يَتَجَلّى بِكامِلِهِ فِي تَعريفِ القِدّيسِ يُوحنّا الرّسولِ: "اللَّهُ مَحبَّةٌ" (1 يُوحنّا 4: 8). وَما الإِيمانُ بِالثّالوثِ الأَقدَسِ –الآبِ وَالابنِ وَالرّوحِ القُدُسِ– إِلَّا تَأْكيدٌ عَلَى أَنَّ اللهَ هُوَ مَحبَّةٌ: أَي إِنَّهُ لَيسَ وَحدَهُ، وَلَيسَ مُنقَسِمًا، بَل هُوَ حُبٌّ كامِلٌ إِلى دَرَجَةِ أَنَّهُ صارَ "ثَلاثَةً"، وَالثَّلاثَةُ يَعمَلونَ كَـ "واحِدٍ"، بِفَضلِ المَحبَّةِ الَّتي تَجمَعُهُم فِي وَحدَةٍ لا تَنفَصِمُ. فَإِذا كانَ اللهُ مَحبَّةً، فَهٰذا يَعني وُجودَ شَرِكَةِ أَقانِيمَ: الآبُ يُحِبُّ الابنَ، وَالابنُ يُحِبُّ الآبَ، وَالمَحبَّةُ المُتَبادَلَةُ بَينَ الآبِ وَالابنِ هِيَ أَيضًا أُقنومٌ، وَهُوَ الرّوحُ القُدُسُ. يَقولُ القِدّيسُ بولُسُ الرّسولُ: "أَنَّ مَحبَّةَ اللهِ أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرّوحِ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5: 5). فَالرّوحُ القُدُسُ هُوَ المَحبَّةُ الَّتي تَربِطُ الآبَ بِالابنِ، وَهٰذِهِ المَحبَّةُ الأَبَدِيَّةُ تَسكُنُ فِي قُلوبِنا مُنذُ يَومِ مَعموديَّتِنا.

 

مَحبَّةُ الثّالوثِ هِيَ مَحبَّةٌ بِلا تَملُّكٍ. فِي المَحبَّةِ، لا يُوجَدُ تَملُّكٌ شَخصِيٌّ يَستَبعِدُ الآخَرَ، وَلا مُلكِيَّةٌ خاصَّةٌ يُقصى عَنها سِوَى البَعضِ. وَإِلَّا، فَلَن تَكونَ هُناكَ مَحبَّةٌ حَقَّةٌ.فِي الثّالوثِ الأَقدَسِ: كُلُّ شَيءٍ مُشتَرَكٌ، لا اِمتِلاكَ وَلا اِحتِكار، بَل كُلُّ أُقنومٍ يَنتمي إِلى الآخَرِ، وَيَحيا بِهِ، وَيُعطي ذاتَهُ لَهُ كُلِّيًّا. وَإِنَّ البُشرى السّارَّةَ هِيَ أَنَّ هٰذِهِ المَحبَّةَ المُتَبادَلَةَ فِي قَلبِ الثّالوثِ لا تَبقَى فِي السَّماءِ، بَل تَنسابُ إِلى حَياتِنا اليَوميَّة.

 

الرّوحُ القُدُسُ، مَحبَّةُ الآبِ وَالابنِ، يُريدُ أَن يَسكُنَ فِينَا كأساسٍ لِحَياةٍ تُعاشُ فِي المَحبَّةِ وَالعَطاءِ المُتَبادَلِ، حَياةٍ تُغنِي الجَميعَ، لأَنَّ كُلَّ واحِدٍ يَأخُذُ مِنَ الآخَرِ وَيُعطِيهِ. وَحينَ نَحيا بِهٰذِهِ الطَّريقَةِ، لا نَعودُ بِحاجَةٍ إِلى اِمتِلاكِ أَيِّ شَيءٍ لِنَفسِنا فَقط، لأَنَّنا نَغتَنِي جَميعًا مِن عَطِيَّةِ الآخَرِ، مِنَ الحُبِّ الَّذي نَتَلَقّاهُ، وَمِنَ الحُبِّ الَّذي نُقَدِّمُه.

 

يُعَبِّرُ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس عَنْ سِرِّ ٱلثَّالُوثِ بِكَلامٍ بَصِيرٍ، فَيَقُولُ: "حِينَ تُحِبُّ، فَأَنْتَ تَعْكِسُ ٱلثَّالُوثَ: لِأَنَّكَ تُحِبُّ (ٱلْمُحِبّ)، شَخْصًا آخَر (ٱلْمَحْبُوب)، وَهُنَاكَ مَحَبَّةٌ تَرْبِطُكُمَا (ٱلرُّوح). فَٱلثَّالُوثُ هُوَ ٱلْمَحَبَّةُ فِي كَمَالِهَا." هٰذِهِ ٱلرُّؤْيَةُ تُظْهِرُ كَيْفَ أَنَّ ٱلثَّالُوثَ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَعْلِيمٍ عَقَدِيٍّ، بَلْ خُبْرَةُ حَيَاةٍ، وَأُفُقُ ٱلْحُبِّ ٱلْمُطْلَقِ، ٱلَّذِي يُوحِّدُ ٱلْمُخْتَلِفِينَ، وَيَجْعَلُنَا شُرَكَاءَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ. فَكُلَّمَا أَحْبَبْنَا بِحَقٍّ، أَصْبَحْنَا صُورَةً حَيَّةً لِٱلثَّالُوثِ، وَكُلَّمَا ٱنْفَصَلْنَا عَنِ ٱلْمَحَبَّةِ، فَقَدْنَا صُورَتَنَا ٱلْإِلٰهِيَّةَ.

 

3) الإيمانُ بالثالوثِ الأقدس

 

نَحنُ نَتَمَسَّكُ بِسِرِّ الثّالوثِ الأَقدَسِ عَن طَريقِ الإِيمَانِ. نُؤمِنُ بِإِلهٍ واحِدٍ، كَما أَعلَنَ الكِتابُ المُقَدَّسُ فِي مَواضِعَ عَديدةٍ، مِنهَا قَولُ الرّبِّ: "اِسمَعْ يا إِسرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هُوَ الرَّبُّ الأَحَد. فَأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وَكُلِّ نَفْسِكَ، وَكُلِّ ذِهْنِكَ، وَكُلِّ قُوَّتِكَ"(مرقس 12: 30). اللهُ، فِي آنٍ واحِدٍ، هُوَ واحِدٌ وَثالوثٌ: واحِدٌ مِن حَيثِ الجَوْهَرِ وَالطَّبِيعَةِ، وَالإِرادَةِ وَالمَشيئَةِ، وَالقُدرَةِ وَالفِعلِ. وَثالوثٌ مِن حَيثِ إِعلَانِهِ عَن ذاتِهِ وَأَعمالِهِ: فَقَد خَلَقَ العالَمَ بِكَلِمَتِهِ، وَهذِهِ الكَلِمَةُ فِي ذاتِهِ؛ وَهُوَ حَيٌّ، وَرُوحُهُ فِي ذاتِهِ. اللهُ هُوَ الأَحَدُ، إِلهٌ واحِدٌ بِكَلِمَتِهِ وَرُوحِهِ، لَم "يَلِدْ وَلَم يُولَدْ" بِمَعْنًى جَسَدِيٍّ، بَل رُوحِيٌّ، مَعنَوِيٌّ، وَمَجازِيٌّ.

 

وقد ظَهَرَ سِرُّ الثّالوثِ فِي عِدَّةِ مُناسَبَاتٍ فِي الأَناجِيلِ، مِنها: فِي اِعتمادِ يسوع (متى 3: 13–17)، فِي التَّجَلِّي (متى 17: 1–8)، فِي إِرساليَّةِ الرَّبِّ لِتَلاميذِهِ: "عَمِّدوهُم بِاسمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرّوحِ القُدُسِ" (متى 28: 19)، وَفِي تَحيَّةِ بولُسَ لِأَهلِ قُورِنتُس: "نِعمَةُ الرَّبِّ يسوعَ المَسيح، وَمَحبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرّوحِ القُدُسِ، مَعَ جَميعِكُم" (2 قورنتس 13: 13).

 

يُعَلِّمُنا التَّعليمُ المَسيحِيُّ لِلكَنيسةِ الكاثُوليكِيَّةِ: "الإِيمَانُ الكاثُوليكِيُّ يَقُومُ عَلَى مَا يَلِي: عِبادَةُ إِلهٍ واحِدٍ فِي الثّالوثِ، وَالثّالوثِ فِي الوَحدَةِ، بِغَيرِ خَلطٍ لِلأَقانِيمِ، وَبِغَيرِ تَقسِيمٍ لِلجَوْهَرِ: إِذ إِنَّ لِلآبِ أُقنومَهُ، وَلِلابنِ أُقنومَهُ، وَلِلرّوحِ القُدُسِ أُقنومَهُ؛ وَلَكِن لِلآبِ وَالابْنِ وَالرّوحِ القُدُسِ الأُلوهَةَ الواحِدَةَ، وَالمَجدَ الواحِدَ، وَالسِّيادَةَ الواحِدَةَ فِي أَزَلِيَّتِها"(التَّعليمُ المَسيحِيُّ، 266؛ راجِع يُوحنّا 14: 16).

 

نُؤمِنُ لِكَي نَفهَمَ، كَما قالَ القِدّيسُ أُوغُسطينوس: "هٰذا ما نَتَمَسَّكُ بِهِ بِحَقٍّ وَبِغِيرَةٍ شَدِيدَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الآبَ وَالابْنَ وَالرّوحَ القُدُسِ، ثالوثٌ غَيرُ قابِلٍ لِلانفِصالِ، إِلهٌ واحِدٌ لا ثَلاثَة." فَلَيسَ مَطْلوبًا مِنَّا أَن نَفهَمَ هٰذا السِّرَّ فَهمًا عَقلِيًّا كامِلًا، بَل أَن نَقبَلَهُ بِالإِيمَانِ، كَما أَكَّدَ القِدّيسُ تُوما الأَكويني: "الإِيمَانُ وَحدَهُ يَكفِي." وَهٰذا حَقٌّ، لأَنَّ اللهَ لَو كانَ يُدرَكُ بِكامِلِهِ بِعَقلِ الإِنسانِ المَحدُودِ، لَما كانَ إِلَهًا لا مَحدودًا. فَإِيمانُنا بِالكِتابِ المُقَدَّسِ الَّذي أَعلَنَ لَنا هٰذِهِ الحَقيقَةَ كَافٍ لِنَفهَمَ، بِحَسَبِ مَبدَأ القِدّيسِ أُوغُسطينوس: "آمِنْ، لِكَي تَفهَم."

 

وقد أَوحى اللهُ بِسِرِّ الثّالوثِ تَدرِيجِيًّا، مُراعِيًا الزَّمَنَ، وَنُضجَ البَشَرِيَّةِ، وَاستِعدادَها لِقُبُولِهِ: فَفِي العَهدِ القَدِيمِ، كُشِفَ لَنا وُجودُ الآبِ بِوُضُوحٍ، وَابتَدَأَ الإِيحاءُ بِسِرِّ الابنِ؛ وَفِي العَهدِ الجَدِيدِ، ظَهَرَ الابْنُ مُتَجَسِّدًا، وَبَدَأَ الإِعلَانُ الصَّرِيحُ عَن أُلوهِيَّةِ الرّوحِ القُدُسِ.

 

 

4) الثالوث الأقدس في الكتاب المقدّس

 

أ) الثّالوثُ فِي العَهدِ القَدِيمِ

 

تَمَّ الوَحيُ عَن سِرِّ الثّالوثِ فِي الكِتابِ المُقَدَّسِ بِصُورَةٍ تَدرِيجِيَّةٍ، اِنطِلاقًا مِن العَهدِ القَدِيمِ وَصُولًا إِلَى العَهدِ الجَدِيدِ. وَلِمَا كانَ وَحيُ العَهدِ القَدِيمِ ظِلًّا لِوَحيِ العَهدِ الجَدِيدِ، كَما جاءَ فِي الرِّسالَةِ إِلى العِبرانيّين: "لَمَّا كانَتِ الشَّريعَةُ تَشتَمِلُ عَلى ظِلِّ الخَيراتِ المُستَقبَلَةِ، لا عَلى تَجْسيدِ الحَقائِقِ نَفسِ (عِبرانيّين 10: 1)، وجبَ ألّا نَنتَظِرَ فِي العَهدِ القَدِيمِ ذِكرًا صَريحًا لِسِرِّ الثّالوثِ، بَل تَلمِيحاتٍ وَاستِباقاتٍ رَمْزِيَّةً.

 

اللهُ فِي العَهدِ القَدِيمِ يَتَكَلَّمُ عَن نَفسِهِ أحيانًا بِصِيغَةِ الجَمعِ: "وَقالَ اللهُ: نَصنَعِ الإِنسانَ عَلى صُورَتِنا كَمِثالِنا" (التَّكوين 1: 26). وَكَذٰلِكَ، فَإِنَّ اِسمَ "الله" يُتَرجَمُ عَنِ العِبرِيَّةِ بِكَلِمَة "إِلوهِيم" (אֱלֹהִים)، وَهِيَ صِيغَةُ جَمعٍ تُوحِي بِتَعَدُّدٍ فِي الوَحدَةِ.

 

وَفِي بَعضِ المَواضِعِ، يَظهَرُ تَمايُزٌ بَينَ المُرسِلِ وَالمُرسَلِ مِن قِبَلِ اللهِ، كَما فِي قِصَّةِ هاجَرَ وَمَلاكِ الرّبِّ (التَّكوين 16: 7–13).  وَقَد حَمَلَتِ النُّبُوءَاتُ المَسيحانِيَّةُ إِشاراتٍ صَريحَةً إِلى تَعَدُّدِيَّةِ الأَقانِيمِ فِي اللهِ، كَما فِي نُبُوءَةِ إِشَعْيا: "لِأَنَّهُ قَد وُلِدَ لَنا وَلَدٌ، وَأُعْطِيَ لَنا اْبْنٌ، وَدُعِيَ اسمُهُ: عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا جَبَّارًا، أَبَا الأَبَد، رَئِيسَ السَّلامِ" (إِشَعْيا 9: 6). وَكَذٰلِكَ فِي المَزامِير: "قالَ لي: أَنتَ اْبْني، وَأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ" (مَزمور 2: 7).

 

يَتَحَدَّثُ صاحِبُ سِفرِ الأَمثالِ عَن الحِكمَةِ الإِلَهيَّةِ الَّتي وُجِدَت مُنذُ الأَزَلِ: "مِنَ الأَزَلِ أُقِمتُ، مِنَ الأوَّلِ، مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرضُ" (الأَمثال 8: 23)، وَيُتابِعُ قائِلًا: "عِندَ تَثبِيتِ السَّماواتِ كُنتُ هُناك، وَعِندَ رَسمِهِ قَوسَ الأُفُقِ عَلى وَجهِ الغَمْر... كُنتُ أَلعَبُ أَمامَهُ فِي كُلِّ حِين (الأَمثال 8: 27–30).

 

رَأى المَسيحيُّونَ الأَوائِلُ فِي هٰذِهِ الحِكمَةِ الأَزَلِيَّةِ صُورَةً رَمْزِيَّةً عَن الابْنِ، الكَلِمَةِ الأَزَلِيِّ، مَولُودِ الآبِ مُنذُ الأَزَلِ. َكُلُّ الخَلائِقِ، وَلا سِيَّما الإِنسانُ، هِيَ اِنعِكاسٌ لِكَمالِ الحِكمَةِ الإِلَهيَّةِ، أَي الابنِ، الَّذي مِنهُ وَبِهِ وُجِدَ كُلُّ شَيءٍ. وَمِن هُنا، نَنتَقِلُ فِي التَّأَمُّلِ إِلى ظُهُورِ الثّالوثِ بِشَكلٍ واضِحٍ فِي العَهدِ الجَدِيدِ، ثُمَّ إِلى تَعليمِ آباءِ الكَنِيسَةِ، وَتَعليمِ الكَنِيسَةِ الكاثُوليكِيَّةِ.

 

ب) الثالوث في العهدِ الجديد

 

1. الثالوث في البِشارة

 

إذا كانت أسفارُ العهدِ القديمِ تُلمِّحُ إلى سِرِّ الثالوث، فإنّ العهدَ الجديدَ يُقدِّمُ لنا نُصوصًا واضحةً تُعلِنُ هذا السرَّ الإلهيَّ في جوهرِه. في بشارةِ الملاكِ للعذراءِ، يظهرُ سِرُّ الثالوث بجلاء: "إِنَّ الرّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَلَيكِ، وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوسًا وَابنَ اللهِ يُدعَى" (لوقا 1: 35). نُعاينُ هنا الثلاثة أقانيم: العليّ (الآب)، الرّوح القُدُس، الابن، الذي يُدعَى "ابنَ الله". إنّه أول ظهورٍ لسرِّ الثالوثِ بشكلٍ مُتكامل في حدثٍ خلاصيٍّ يُمهّدُ للتجسّد الإلهي.

 

2. الثالوث في عِمادِ يسوع

 

في عِمادِ يسوعَ في نهرِ الأردن، نلتقي بإعلانٍ فريدٍ للثالوثِ: "فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت، فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّهُ حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه. وإذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: هذا هوَ ابنِيَ الحَبيبُ الّذي عَنهُ رَضِيت" (متى 3: 16-17). نُميّزُ هنا ظهورَ الثالوثِ تمييزًا لا انفصالَ فيه: الآب يُعلِنُ صوتَه من السماء، الابن يَخرجُ من المياه، الرّوح القُدُس يَنزلُ كحمامةٍ. هذا الظهورُ المتمايزُ للأقانيم يُعلِنُ أنَّ الابنَ المتجسِّدَ يخرجُ من المياه، حاملاً بشريّتنا نحو التقديس والفداء، وأنَّ الرّوحَ القُدُسَ يَنزلُ ليُقيمَ الكنيسة، في حين يُعلِنُ الآبُ بنوّةَ الابن، ويُعلننا نحن أبناءً فيه، حجارةً حيّةً لبناءِ بيتِ الله.

 

3. الثالوث في خطابِ الوداع

 

في خطابِ الوداع، يَكشفُ يسوعُ عمّا يجري في داخلِ حياةِ الثالوث من شَرِكَةٍ وتَواصُل: "وأَنا سأَسأَلُ الآبَ، فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّدًا آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يوحنّا 14: 16). نحنُ أمام علاقةٍ روحيّةٍ وشَرِكَةٍ داخليّةٍ بين الأقانيم الثلاثة: الآب، الذي يُرسِل؛ الابن، الذي يتشفّع ويطلب؛ الرّوح القُدُس، الذي يأتي كمُعزٍّ ومُرشدٍ أبديّ. إنَّ هذه العلاقات تُعبّر عن التمايز الوظيفي داخل وحدة الجوهر: الآب: صفته الأبوة، ووظيفته الخلق؛ الابن: صفته البنوة، ووظيفته الفداء؛ الرّوح القُدُس: صفته الانبثاق، ووظيفته الإحياء. وتسود بينهم عَلاقةُ تَضامُنٍ وشَرِكَةٍ محبّةٍ أبديّةٍ، يُدعَى إليها أيضًا شعب الله، لكي يعيش هذه الوحدة في الكنيسة والمجتمع.

 

4. الثالوث في المعموديّة

 

تَرَكَ السَّيِّدُ المَسيحُ لِتَلاميذِهِ وَصِيَّتَهُ الأَخِيرَةَ، الَّتي تُعلِنُ بِوُضُوحٍ سِرَّ الثَّالوثِ الأَقدَسِ، إِذْ قالَ لَهُم: "اِذْهَبوا وَتَلْمِذوا جَميعَ الأُمَم، وَعَمِّدوهُم بِاسمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرّوحِ القُدُس" (متى 28:19). تَدُلُّ صِيغَةُ المُفرَدِ في كَلِمَةِ "بِاسمِ"، لا "بِأَسْماءِ"، على وَحدةِ الجَوهَرِ في الأَقَانيمِ الثَّلاثة. لَم يَقُلِ الرَّبُّ: "بِأَسْماءِ الآبِ وَالابنِ وَالرّوحِ"، وكَأَنَّهُم ثَلاثَةُ آلِهَةٍ، بَل قالَ: "بِاسمِ"، أَي إِلهٌ واحِدٌ، وَكَلِمَةٌ واحِدَةٌ، وَرُوحٌ واحِدٌ. وَيُؤَكِّدُ بولُسُ الرَّسولُ هذِهِ الحَقيقَةَ في تَحيَّتِهِ المَعرُوفَةِ إِلى أَهلِ قورِنْتُس، حَيثُ يُظهِرُ وَحدةَ الثَّالوثِ وَتَمايُزَهُ في العَلاقَةِ مَعَ المُؤمِنين: "لْتَكُنْ نِعْمَةُ رَبِّنا يَسوعَ المَسيح، وَمَحبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرّوحِ القُدُسِ، مَعَكُم جَميعًا" (٢ قورِنْتُس 13:13).

 

المَعمُودِيَّةُ هِيَ بابُ الدُّخولِ إِلى الثَّالوثِ. إِنَّ بابَ الدُّخولِ إِلى سِرِّ الثَّالوثِ الأَقدَسِ هُوَ يَسوعُ المَسيح. فَمِن خِلالِ مَوتِهِ وَقِيامَتِهِ، فَتَحَ لَنا سَبيلًا جَديدًا إِلى الحَياةِ الإِلَهِيَّةِ، وَأَدخَلَنا في قُدسِ أَقداسِ الثَّالوثِ. إِنَّ المَعمُودِيَّةَ هِيَ السِّرُّ الَّذي يُجَسِّدُ قُدرَةَ يَسوعَ الفِصْحِيَّة، وَيُظهِرُ رِسالَةَ الكَنيسَةِ وَعَلاقَتَها الجَوهَرِيَّةَ بِالأَقَانيمِ الثَّلاثَةِ. فَفي المَعمُودِيَّةِ، نُولَدُ مِن جَديدٍ بِاسمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرّوحِ القُدُس، وَنُصبِحُ أَعضاءَ في جَسَدِ المَسيح، أَبناءً لِلآبِ، وَهَيَاكِلَ لِلرّوحِ القُدُس. وَيُعَلِّمُنا الإِنجِيلُ المُقَدَّس، أَنَّ الآبَ وَالابنَ وَالرّوحَ القُدُسَ لَيسُوا إِلَّا: اللهَ وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، كَما جاءَ في إِعلانِ يُوحنَّا الإِنْجِيلِيّ: "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة، وَالكَلِمَةُ كانَ لَدى الله، وَالكَلِمَةُ كانَ الله" (يوحنّا 1:1). وَفي مَوْضِعٍ آخَرَ يَقول: "فَإِنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ في السَّمَاءِ هُم ثَلاثَةٌ: الآبُ، وَالكَلِمَةُ، وَالرّوحُ القُدُس، وَهؤُلاءِ الثَّلاثَةُ هُم واحِدٌ" (1 يوحنّا 5:7).

 

يُعَلِّقُ التَّعليمُ المَسيحيُّ لِلكَنيسَةِ الكاثُوليكِيَّةِ عَلى ذَلِكَ بِالقَول: "بِنِعْمَةِ المَعمُودِيَّةِ «بِاسمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرّوحِ القُدُس» (متى 28:19)، نُدْعى إِلى الاِشتِراكِ في حَياةِ الثَّالوثِ السَّعيدَة، ههُنا في ظُلمَةِ الإِيمان، وَهُناكَ بَعدَ المَوتِ في النُّورِ الأَبَدِيّ" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، بند 265).

 

5. الثالوث في دُعاء بولس

 

يُؤَيِّدُ القِدِّيسُ بولُسُ الرَّسُولُ حَقيقَةَ الثَّالوثِ الأَقدَسِ مِن خِلالِ بَركَةٍ رَسُولِيَّةٍ ثَالُوثِيَّةٍ، يَقولُ فيها: "لْتَكُنْ نِعْمَةُ رَبِّنا يَسوعَ المَسيح، وَمَحبَّةُ الله، وَشَرِكَةُ الرّوحِ القُدُسِ، مَعَكُم جَميعًا" (٢ قورِنْتُس 13:13). في هذِهِ البَركَةِ، نُعايِنُ حُضورَ الأَقَانِيمِ الثَّلاثَةِ: نِعْمَةُ الابنِ الَّذي افتَدانا، مَحبَّةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَ ابنَه، شَرِكَةُ الرّوحِ القُدُسِ الَّذي يُوَحِّدُنا ويُحيينا. وهكذا، يَدخُلُ الرَّبُّ الواحِدُ والثّالوثُ في حِوارٍ حيٍّ معَ البَشَرِيَّةِ جَميعًا، وَمَعَ كُلِّ إِنسانٍ يَأتي إِلى العالَم، كَحِوارِ خَلاصٍ وَحَياةٍ، نُورٍ وَحَقٍّ. ويُضِيءُ كاتِبُ الرِّسالَةِ إِلى العِبرانيِّينَ هذا المَعنَى بِقولِهِ: "إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَبِوُجُوهٍ كَثِيرَة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّامِ هذِه بِابْنٍ جَعَلَهُ وارِثًا لِكُلِّ شَيء، وَبِهِ أَنشَأَ العالَمِينَ. هوَ شُعاعُ مَجْدِهِ، وَصُورَةُ جَوهَرِهِ، يَحفَظُ كُلَّ شَيءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِهِ" (العِبرانيِّين 1:1–3).

 

إنَّ الثَّالوثَ هُوَ حِوارُ النِّعْمَةِ وَالمَحبَّةِ وَالكَلِمَةِ. سِرُّ الثَّالوثِ لَيسَ نَظَرِيَّةً لاهُوتِيَّةً بارِدَة، بَل هُوَ حِوارٌ إِلهِيٌّ دائِمٌ، يَقُومُ بَينَ: الكَلِمَة (الابنوالمَحبَّة (الآبوالنِّعْمَة وَالشَّرِكَة (الرّوح القُدُسويَفيضُ هذَا الحِوارُ إِلى قَلْبِ الإِنسَانِ، فَيَجعَلَهُ شَرِيكًا في الحَياةِ الإِلَهِيَّة، وَأَداةً لِحَملِ الرِّسالَةِ إِلى العالَم.

 

 

5) الثّالوثُ فِي تَعليمِ آباءِ الكَنِيسَةِ

 

تَعليمُ القِدّيسِ إِيرِينِيُوس (130–202م)

 

لا تَخلُو تَعالِيمُ آباءِ الكَنِيسَةِ مِن شَرحِ سِرِّ الثّالوثِ الأَقدَسِ، لا سِيَّما عِندَ كِبارِ المُدافِعينَ عَنِ العَقِيدَةِ فِي القُرونِ الأُولى. ويُعَدُّ القِدّيسُ إِيرِينِيُوس أَحَدَ أَشهَرِ آباءِ الكَنِيسَةِ الأُوَلِ، وَمِن أَبرَزِ المُدافِعينَ عَنِ الإِيمانِ المَسيحِيِّ فِي وَجهِ البِدَعِ. قَد كَتَبَ فِي فَترَةٍ حاسِمَةٍ مِن تاريخِ اللّاهُوتِ المَسيحِيِّ، حِينَ بَدَأَ هٰذا العِلمُ يَتَشَكَّلُ وَيَنمُو فِي ضَوءِ الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ وَإِيمانِ الكَنِيسَة. كَانَ القِدّيسُ إِيرِينِيُوس تِلميذًا لِلأُسقُفِ بُوليكَارْبُوس، الَّذي كانَ بِدَورِهِ تَابِعًا لِلقِدّيسِ يُوحنّا الإِنجِيلِيِّ، مَا يَربِطُ تَعليمَ إِيرِينِيُوس مُباشَرَةً بِالتَّقليدِ الرَّسُوليِّ الأَوَّلِ.

 

كَتَبَ إِيرِينِيُوس ما يَلي: "مِن خِلالِ اليَدَينِ الإِلَهيَّتَينِ، أَيِ الابْنِ وَالرّوحِ القُدُسِ، خَلَقَ اللهُ كُلَّ شَيءٍ، حِينَما قالَ: لِنَصنَعِ الإِنسانَ عَلى صُورَتِنا كَمِثالِنا... فَخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ عَلى صُورَتِهِ، عَلى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ، ذَكَرًا وَأُنثى خَلَقَهُم" (التَّكوين 1: 26–27). يُشِيرُ تَعبِيرُ "اليَدَينِ الإِلَهيَّتَينِ" إِلى الابْنِ وَالرّوحِ القُدُسِ، بِاِعتِبارِهِما –فِي تَعليمِ إِيرِينِيُوس- الوسِيطَيْنِ فِي عَمَلِ الخَلقِ، يَعمَلانِ دَائِمًا فِي شَرِكَةٍ مَعَ الآبِ.

 

يُشَدِّدُ إِيرِينِيُوس عَلَى أَنَّ "الكَلِمَةَ"– أَي يسوعَ الابْنَ- هُوَ الَّذي كَشَفَ عَنِ الآبِ مُنذُ البَدءِ، لِأَنَّهُ كانَ فِي حِضنِ الآبِ مُنذُ الأَزَلِ. وَيَستَشهِدُ بِبِدايَةِ إِنجِيلِ يُوحنّا لِيُؤَكِّدَ أَزَلِيَّةَ الابْنِ وَكَلِمَتَهُ الخَلاصِيَّة: "فِي البَدءِ كانَ الكَلِمَةُ، وَالكَلِمَةُ كانَ لَدَى اللهِ، وَالكَلِمَةُ هُوَ اللهُ. كانَ فِي البَدءِ لَدَى اللهِ. بِهِ كانَ كُلُّ شَيءٍ، وَبِدُونِهِ ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كانَ" (يُوحنّا 1: 1–3).

 

وخُلاصَةُ تَعليمِهِ هو:

الآبُ هُوَ المَصدَرُ الأَوَّلُ لِكُلِّ شَيءٍ؛

الابْنُ هُوَ الكَلِمَةُ الَّذي بِهِ خَلَقَ اللهُ العالَمَ، وَأَعلَنَ ذاتَهُ؛

الرّوحُ القُدُسُ هُوَ الحَياةُ وَالنَّفَسُ الإِلَهيُّ الَّذي يُقَدِّسُ وَيُكَمِّلُ.

 

مِن هُنا، يُشَكِّلُ تَعليمُ إِيرِينِيُوس أَحَدَ أبرَزِ الشَّهاداتِ اللّاهُوتِيَّةِ الأُولى الَّتي تُظهِرُ: وَحدةَ الثّالوثِ فِي الجَوْهَرِ، وَتَمايُزَ الأَقانِيمِ فِي العَلاقَةِ وَالعَمَلِ، خَاصَّةً فِي عَمَلِ الخَلقِ وَالفِداءِ، وَذٰلِكَ اِستِنادًا إِلى التَّقليدِ الرَّسُوليِّ وَالنُّصوصِ الكِتابِيَّةِ.

 

تَعليمُ القِدّيسِ أَثناسيوس الكَبير (296–373م)

 

يُعتَبَرُ القِدّيسُ أَثناسيوس الكَبير أَحَدَ أَعظَمِ آباءِ الكَنيسةِ فِي القَرونِ الأُولى، وَأَشرَسِ المُدافِعينَ عَن الإِيمانِ الثّالوثِيِّ فِي وَجهِ بِدعَةِ آريوس، الَّتي أَنكرَت أُلوهِيَّةَ الابنِ، وَجَعَلَتهُ أَدنى مِنَ الآبِ. فِي مُواجَهَةِ هٰذِهِ التَّعَالِيمِ المُنحَرِفَةِ، أَكَّدَ أَثناسيوس بِقُوَّةٍ أَنَّ الآبَ وَالابْنَ وَالرّوحَ القُدُسَ هُم إِلهٌ واحِدٌ فِي جَوْهَرٍ واحِدٍ، مُتَساوُونَ فِي الكَرامَةِ وَالمَجدِ وَالأَزَلِيَّةِ.

 

قَد صاغَ القِدّيسُ أَثناسيوس إِيمانَ الكَنِيسَةِ فِي إِحدى أَشهرِ عِبارَاتِهِ: "الآبُ هُوَ اللهُ، وَالابْنُ هُوَ اللهُ، وَالرّوحُ القُدُسُ هُوَ اللهُ، وَلكِنَّهُم لَيسُوا ثَلاثَةَ آلِهَةٍ، بَل إِلهٌ واحِدٌ."  وَفِي صَلاتِهِ اللِّيتُورجِيَّةِ وَعَمَلِهِ اللاهُوتِيِّ، كَشَفَ أَثناسيوس عَن حَقِيقَةِ أَنَّ الثّالوثَ الأَقدَسَ لَيسَ تَجَلِّياتٍ مُختَلِفَةٍ لِلهِ الوَاحِدِ، بَل شَرِكَةُ أَقانِيمَ مُتَمايِزَةٍ، وَمُتَّحِدَةٍ فِي كَمالِ الجَوْهَرِ الإِلَهِيِّ. قَد رَبَطَ أَثناسيوس أُلوهِيَّةَ الابْنِ بِعَمَلِهِ الخَلاصِيِّ، فَقَالَ: "لَم يَكُن بِإِمكانِ كائِنٍ مَخلُوقٍ أَن يُخَلِّصَ الإِنسانَ، لِذٰلِكَ وَحْدَهُ الَّذي هُوَ اللهُ بِالطَّبِيعَةِ، أَي الابْنُ، أَخَذَ جِسْمًا لِيُعيدَنا إِلى الآبِ، وَيُؤَلِّهَنَا فِي الرّوحِ القُدُسِ."

 

خُلاصَةُ تَعليمِهِ:

الآبُ هُوَ الغَيرُ مَولُودِ، أَصلُ الأُلوهَةِ وَمَصدرُ الأقانِيمِ؛

الابْنُ مَولُودٌ مِنَ الآبِ قَبلَ كُلِّ الدُّهُورِ، مِن جَوهَرِهِ؛

الرّوحُ القُدُسُ مُنبَثِقٌ مِن الآبِ (وَمِن الابْنِ كَما تُعلِّمُ الكَنِيسَةُ الغَربِيَّةُ)، وَيُشَارِكُ فِي كُلِّ مَا هُوَ إِلَهِيٌّ.

 

فِي تَعليمِ أَثناسيوس، نَجِدُ بُرهانًا كتابيًّا وآبائيًّا صارمًا عَن وَحدةِ الثّالوثِ فِي الجَوْهَرِ، وَتَمايُزِ الأَقانِيمِ فِي الشَّرِكَةِ وَالدَّورِ، وَيُشَكِّلُ ذٰلِكَ أَساسَ صِياغَةِ قَرارَاتِ المَجمَعِ المَسكونِيِّ الأَوَّلِ فِي نِيقِيَة (325م).

 

تَعليمُ القِدّيسِ غريغوريوس النَّزْيانْزي (329–390م)

 

يُعتَبَرُ القِدّيسُ غريغوريوس النَّزْيانْزي أَحَدَ أَعظَمِ آباءِ الكَنيسةِ الشَّرقيَّةِ، وَيُلقَّبُ بِحَقٍّ بـ"اللّاهُوتِيِّ الثّالُوثِيِّ"، لِما قَدَّمَهُ مِن تَأَمُّلٍ عَميقٍ وَشَرْحٍ دَقيقٍ لِعَلاقَةِ الأَقانِيمِ فِي جَوْهَرٍ واحِدٍ. يَشرَحُ القِدّيسُ غريغوريوس سِرَّ الثّالوثِ بِقَولِهِ: "إِنَّ الأَقانِيمَ الثّلاثَةَ الإِلَهِيَّةَ: الآبَ وَالابْنَ وَالرّوحَ القُدُسَ، لا يُمكِنُ فَصلُها عَن بَعضِها البَعضِ، وَكَذٰلِكَ لا يُمكِنُ استِيعابُها كَحَقائِقَ بَشَرِيَّةٍ، بَل هِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتي عَبَّرَ فيها اللهُ عَن طَبيعَتِهِ الَّتي لا يُمكِنُ تَسميتُها وَلا التَّحَدُّثُ عَنها، وَيَتَكَيَّفُ مَفهومُنا عَنها وَفْقًا لِمَحدوديَّةِ عُقولِنا البَشَرِيَّةِ." وَنَستَطيعُ أَنْ نَفهَمَ سِرَّ الثّالوثِ انطِلاقًا مِن صاحِبِ المَزامِير: "نُعايِنُ النُّورَ بِنورِكَ" (مَزمور 36: 10). "مِنَ النُّورِ الَّذي هُوَ الآبُ نُدرِكُ النُّورَ الَّذي هُوَ الابْنُ، بِنُورِ الرّوحِ القُدُسِ: هٰذا هُوَ لاهُوتُ الثّالوثِ الأَقدَسِ." باختِصارٍ: إِنَّ اللهَ لا فَصلَ فِيهِ -إِنْ جازَ التَّعبيرُ- فِي أَقانِيمَ مُتَمايِزَةٍ عَن بَعضِها، يَتَّحِدُونَ فِي الجَوْهَرِ، وَيَتَمايَزُونَ فِي العَلاقَةِ وَالعَمَلِ.

 

تَعليمُ القِدّيسِ أُوغُسطينوس (354–430م)

 

يُعتَبَرُ القِدّيسُ أُوغُسطينوس أَحَدَ أَكثَرِ آباءِ الكَنيسةِ الغَربِيَّةِ تَأْثِيرًا فِي تَطوُّرِ الفِكرِ اللّاهُوتِيِّ، وَقَد كَرَّسَ جُزءًا كَبيرًا مِن حَياتِهِ لِلتَّأَمُّلِ فِي سِرِّ الثّالوثِ الأَقدَسِ، خُصُوصًا فِي مُؤَلَّفِهِ الشَّهِير (عن الثّالوث  (De Trinitateقَد بَنَى أُوغُسطينوس تَعليمَهُ عَلى قَولِ يُوحنّا الرَّسُولِ: “اللَّهُ مَحبَّة" (1 يوحنا 4: 8)، وَانطَلَقَ مِن هٰذِهِ الحَقيقَةِ لِيَشرَحَ أَنَّ اللهَ لا يُمكِنُ أَن يَكونَ مَحبَّةً إِن لَم يَكُن فِيهِ مُحِبٌّ وَمَحبُوبٌ وَرُوحُ مَحبَّةٍ. فَقالَ: "يَتَطَلَّبُ الحُبُّ مَن يُحِبُّ، وَمَن يُحَبُّ، وَالحُبَّ عَينَهُ." وَبِذٰلِكَ: الآبُ هُوَ المُحِبُّ، الابْنُ هُوَ المَحبُوبُ، الرّوحُ القُدُسُ هُوَ المَحبَّةُ المُتَبَادَلَةُ بَينَهُما.

 

وَأَكَّدَ أُوغُسطينوس أَنَّ هٰذِهِ العَلاقَةَ الثّالُوثِيَّةَ هِيَ عَينُ الحَياةِ الإِلَهيَّةِ: "اللهُ مُثَلَّثٌ، لَيسَ بِالعددِ، بَل بِالمَحبَّةِ؛ وَوَحدَتُهُ لَيسَت انطِواءً، بَل اِشتِراكًا كامِلًا فِي العَطاءِ." وَيُشَبِّهُ الثّالوثَ الإِلَهيَّ بِكَيَانِ النَّفْسِ الإِنسَانِيَّةِ: الذَّاكِرَةِ، وَالعَقلِ، وَالإِرادَةِ كَثَلاثَةِ أَبعادٍ فِي واحِدٍ.

 

خُلاصَةُ تَعليمِهِ: اللهُ مَحبَّةٌ أَزَلِيَّةٌ، وَهٰذِهِ المَحبَّةُ هِيَ حَياةُ الأقانِيمِ الثّلاثَةِ؛ لا يُوجَدُ فَصلٌ وَلا تَسَلُّطٌ فِي العَلاقَةِ بَينَ الأَقانِيمِ، بَل وَحدةٌ كَامِلَةٌ فِي العَطاءِ وَالانكِشافِ؛ الثّالوثُ هُوَ الأسَاسُ النّهائِيُّ لِكُلِّ مَحبَّةٍ حَقٍّ فِي العالَمِ، وَنَموذَجٌ لِكُلِّ عَلاقَةٍ بَشَرِيَّةٍ. تَعليمُ أُوغُسطينوس هُوَ أَحدُ أَعمَقِ الإِسهامَاتِ فِي فَهمِ وَحدَةِ الجَوْهَرِ وَتَمايُزِ الأَقانِيمِ، وَهُوَ مِفتاحٌ لِلاهُوتِ الغَربِيِّ كُلِّهِ فِي ما بَعد.

 

تَعليمُ القِدّيسِ كِيرِلُّس الإِسكَندَرِيِّ (376–444م)

 

يُعتَبَرُ القِدّيسُ كِيرِلُّس الإِسكَندَرِيُّ أَحَدَ أَبرزِ آباءِ الكنيسةِ الشرقيّةِ، وَلاهُوتِيًّا عَظيمًا فِي القَرْنِ الخامِسِ، خَصوصًا فِي الصِّراعِ الكِريستُولوجِيِّ ضدَّ نَسطور. لَكنَّهُ أيضًا قَدَّمَ تَعليمًا مُميَّزًا وَعَميقًا فِي سِرِّ الثّالوثِ الأَقدَسِ، يُبرِزُ وَحدَةَ الجَوهرِ وَتَمايُزَ الأَقانيمِ فِي آنٍ مَعًا. قالَ القِدّيسُ كِيرِلُّس: "اللَّهُ واحِدٌ فِي الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّةِ، وَلكِنَّهُ ثَلاثَةُ أَقانِيمَ فِي الشَّرِكَةِ وَالحَياةِ.

الآبُ يُولِدُ الابنَ بِطَبيعَتِهِ، وَمِنهُ يَنبَثِقُ الرّوحُ القُدُسُ."

 

وَأَكَّدَ أَنَّ: الآبَ هُوَ الأصلُ الأَزلِيُّ وَالمَنبَعُ؛ الابنَ هُوَ كَلِمَةُ اللهِ المُتجَسِّدُ، المُسَاوِي لِلآبِ فِي الجَوهرِ؛ الرّوحَ القُدُسَ هُوَ رُوحُ الحَقِّ، يَنبَثِقُ مِن الآب، وَيَستَقِرُّ فِي الابنِ، وَيُعطَى لِلعَالَمِ. يَشرَحُ كِيرِلُّس أنَّ الآبَ لا يُوجَدُ قَبلَ الابنِ وَالرّوحِ، بَل هُم ثَلاثَةُ أَقانِيمَ أَزَلِيَّةٌ وَمُتكَافِئَةٌ فِي المَجدِ وَالقُدرَةِ. وَالوَحدَةُ بَينَهُم هِيَ وَحدَةُ الطَّبيعَةِ وَالمَحبَّةِ وَالإِرادَةِ، لا تَشويشَ فِيهَا وَلا امتِزاجَ وَلا انفِصال.

 

خُلاصَةُ تَعليمِهِ: اللهُ هُوَ الآبُ بِالطَّبِيعَةِ، وَالابنُ هُوَ الكَلِمَةُ الأَزلِيَّةُ، وَالرّوحُ القُدُسُ هُوَ رُوحُ المَحبَّةِ وَالقُدُوسِيَّةِ؛ الثّالوثُ الأقدسُ هُوَ حَيَاةٌ إِلهِيَّةٌ مُشتَرَكَةٌ فِي الجَوهرِ، مُتَمايِزَةٌ فِي الأَقَانِيمِ؛ وَهٰذا السِّرُّ لا يُفهَمُ إِلَّا فِي الإِنجِيلِ، وَبِنُورِ الرّوحِ القُدُسِ، وَفِي كَنِيسَةِ الإِيمَانِ. قَد بَنَى القِدّيسُ كِيرِلُّس تَعليمَهُ عَلى التُّراثِ الإِسكندريِّ العَريقِ، وَخَصَّ الثّالوثَ بِشَرْحٍ يُظهِرُ دَورَهُ الخَلاصِيَّ فِي التَّجسُّدِ وَالفِداءِ وَالتَّقدِيس.

 

تَعليمُ القِدّيسِ يُوحنّا الدِّمشقي (676–749م)

 

شَغَلَ يُوحنّا الدِّمشقيُّ مَنصِبَ وزيرٍ فِي بلاطِ الخِلافةِ الأُمويَّةِ، ثُمَّ تَرَكَ العالَمَ وَدَخَلَ دَيرَ مار سابا جَنوبَ بَيتَ لَحم، بَعدَ بَدءِ خِلافةِ هِشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ. وَيُعَبِّرُ القِدّيسُ يُوحنّا الدِّمشقيُّ عَن إِيمَانِهِ بِسِرِّ الثّالوثِ فِي قَولِهِ:
"نُؤمِنُ بِإِلهٍ واحِدٍ، غَيرِ مَخلوقٍ وَلا مَولودٍ، لا يَزولُ وَلا يَموتُ، أَبَدِيٍّ، لا جِسمَ لَهُ، وَلا يَتَحوَّلُ وَلا يَتَغَيَّرُ، صانِعِ المَخلوقاتِ، ما يُرَى وَما لا يُرَى. هُوَ الحَياةُ بِالذَّاتِ، وَالجَوهَرُ بِالذَّاتِ، لِأَنَّهُ هُوَ يَنبوعُ الوُجودِ، وَيَنبوعُ الحَياةِ لِلأَحياء. وَهُوَ جَوهَرٌ واحِدٌ، وَقُوَّةٌ واحِدَةٌ، وَمَشيئَةٌ واحِدَةٌ، وَفِعلٌ واحِدٌ، وَرِياسَةٌ واحِدَةٌ، وَسُلطَةٌ واحِدَةٌ، تُؤمِنُ بِهِ وَتَعبُدُهُ كُلُّ خَليقَةٍ ناطِقَةٍ؛ وَالأَقانيمُ مُتَّحِدُونَ دونَ اختِلاطٍ، وَمُتَمَيِّزُونَ دونَ اِنقِسامٍ، وَهُمُ الآبُ وَالابنُ وَالرّوحُ القُدُسُ، بِهِمُ اعتَمَدنا، فَإِنَّ الرَّبَّ قَد أَوصَى تَلاميذَهُ أَن يُعَمِّدوا عَلَى النَّحوِ التّالِي قَائِلًا: "عَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرّوحِ القُدُسِ" (المقالة الثامنة).

 

تعليم الكُتّابُ المَسيحيّيَن آخرين

 

يُوضِّحُ الكُتّابُ المَسيحيّونَ – ثيودورس أَبو قُرّة، أُسقُفُ حَرّان، وَإِبراهيم الطَّبراني، وَيَحيى بن عَدِي – فِكرَةَ الثّالوثِ

بِأَجمَلِ العِباراتِ وَأَسهَلِها: "اللهُ وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ"، "اللهُ وَعَقلُهُ وَمَبدَأُ حَياتِهِ". كَمَا جاءَ فِي سِفرِ التَّكوينِ، يَجِدُ المَرءُ: "اللهُ وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ" (التكوين 1: 1).  فَاللهُ واحِدٌ، بِكَلِمَتِهِ وَرُوحِهِ.

 

 

6) الثّالوثُ فِي تَعليمِ الكَنيسةِ

 

حَدَّدَ المَجمَعُ المَسكونِيُّ الأَوَّل عَقيدةَ الثّالوثِ الأَقدَسِ بِاسْتِعْمالِ ثَلاثِ لَفَظاتٍ مِفتاحيّةٍ:

 

اللَّفظةُ الأُولى: "الجَوْهَر" أَو "الطَّبِيعَة". وَتَدُلُّ عَلَى الكائِنِ الإِلَهيِّ فِي وَحدانِيَّتِهِ. فَنَقولُ: الثّالوثُ الواحِد. لا نُؤمِنُ بِثَلاثَةِ آلِهَةٍ، بَل بِإِلهٍ واحِدٍ فِي ثَلاثَةِ أَقَانِيمَ، الثّالوثِ المُتَساوي فِي الجَوْهَر. فَالأَشخاصُ الإِلَهيَّةُ (الأَقَانِيمُ) لا يَتَقاسَمُونَ الطَّبِيعَةَ الإِلَهيَّةَ، بَل كُلُّ شَخصٍ (أُقنومٍ) هُو كُلُّ الجَوْهَرِ وَالطَّبِيعَةِ.

 

اللَّفظةُ الثّانِيَة: "الشَّخص" أَو "الأُقنوم". وَتُستَعمَلُ لِلدَّلالَةِ عَلَى الآبِ وَالابنِ وَالرّوحِ القُدُسِ فِي تَمايُزِهِم الحَقِيقِيِّ، الوَاحِدِ عَنِ الآخَر، مِن جِهَةِ عَلاقاتِهِم الأَصْلِيَّةِ: الآبُ هُوَ المَصدرُ الَّذي يَلِدُ، الابنُ هُوَ المَولودُ، الرّوحُ القُدُسُ هُوَ الَّذي يَنبَثِقُ. فَنَقولُ: الوَحدانِيَّةُ الإِلَهيَّةُ هِيَ ثالوثٌ.

 

اللَّفظةُ الثّالِثَة: "العَلاقَة"وَتُظْهِرُ أَنَّ واقِعَ التَّمايُزِ قَائِمٌ فِي الاِرتِباطِ بَينَ الأَشخاصِ (الأَقَانِيمِ): الآبُ مُرتَبِطٌ بِالابنِ، وَالابنُ بِالآبِ، وَالرّوحُ بِالاثنَينِ، وَالجَوْهَرُ واحِدٌ، وَكُلُّ واحِدٍ مِنهُم هُوَ كُلُّهُ لِلآخَرِ.

 

فِي رِحابِ الكَنيسةِ نُدرِكُ حَقيقَةَ وَحيِ اللهِ كَثالوثِ مَحبَّةٍ. وَنُعبِّرُ عَن إِيمانِنا بِالثّالوثِ فِي إِشارَةِ الصَّليبِ، وَفِي قَلبِ الكَنيسةِ نُلاقي الإفخارستيّا الَّتي تُعلِّمُنا أَنَّ القُدّاسَ الإِلَهيَّ هُوَ فِعلٌ ثالوثيٌّ، مِن أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، يَبدَأ وَيَنتَهي بِاسمِ الثّالوثِ الأَقدَسِ: الآبِ وَالابنِ وَالرّوحِ القُدُسِ.

 

وَبِاسمِ الثّالوثِ القُدّوسِ تَبدَأُ الكَنيسةُ كُلَّ عَمَلٍ وَقَولٍ وَمُبادَرَةٍ، وَلِمَجدِهِ تُنهِي ما بَدَأَت. وَفِي الكَنيسةِ، الرّوحُ القُدُسُ يَكشِفُ لَنا حُضورَهُ بِشَكلٍ واضِحٍ، فَنُعبِّرُ عَن إِيمانِنا بِمَجدِ الثّالوثِ. وَفِي خِبرَةِ الحَياةِ المَسيحيَّةِ، نَغوصُ فِي عُمقِ الثّالوثِ، الَّذي هُوَ تَوحيدٌ وَشَركَةٌ وَحَياةٌ لا تَنضُب. نَستَنتِجُ مِمّا سَبَقَ أَنَّ سِرَّ الثّالوثِ يُوضِّحُ مَفهومَ الإِنسانِ المُخلوقِ عَلى صُورَةِ الله. لِذلِكَ، يَتَوَجَّبُ عَلَى هٰذا الإِنسانِ: أَن يَكونَ عَلى صُورَةِ اللهِ الآب: خالِقًا وَخَلّاقًا، وَعَلى صُورَةِ الابنِ: مُطيعًا لا عَبدًا، وَعَلى صُورَةِ الرّوحِ: إِنسانًا حُرًّا، لا يُسيطِرُ عَلَى أَحَدٍ، وَلا يُسيطَرُ عَلَيهِ مِن قِبَلِ أَحَدٍ.

 

وَسِرُّ الثّالوثِ يُوضِّحُ أَيضًا مَفهومَ الجَماعَةِ المَسيحيَّةِ، الَّتي هِيَ "عَلى صُورَةِ اللهِ وَمِثالِهِ". وَمِن هٰذا المُنطَلَقِ، مَطلوبٌ مِن كُلِّ عُضوٍ فِي الجَماعَةِ المَسيحيَّةِ: أَن يُضَحِّيَ فِي سَبِيلِ الآخَرِ دونَ أَن يَفقِدَ كِيانَهُ، وَأَن يُحَقِّقَ المُشارَكَةَ الصّادِقَةَ بِكِيانِهِ وَبِمُمتَلَكاتِهِ. وَأَكثَرُ مِن ذٰلِكَ، فَإِنَّ الثّالوثَ يَدعونا لِنَعيشَ مُرتَكَزاتِ الزّواجِ المَسيحيِّ: مِن خِلالِ الثَّباتِ: أَن يَكونَ الواحِدُ فِي الآخَرِ، وَمِن خِلالِ الأَمانَةِ: يَكونُ الواحِدُ لِلآخَرِ، وَمِن خِلالِ الشَّركَةِ: يَكونُ الواحِدُ مَعَ الآخَرِ.

 

 

الخُلاصَة

 

إِنَّ سِرَّ الثّالوثِ الأَقدَسِ لَيسَ استِنباطًا لاهوتيًّا مُتأخِّرًا، بَل هُوَ مُتجذِّرٌ فِي إِيمانِ الكَنيسةِ مُنذُ بِداياتِها، وَيَستَنِدُ إِلى الوَحيِ الإِلَهيِّ كَما أُعلِنَ فِي العَهدِ الجَديدِ. فاللهُ الآبُ هُوَ الَّذي أَرسَلَ ابنَهُ الوَحيدَ إِلى العالَمِ (يوحنّا 3: 16). والابنُ هُوَ مَن أَعلَنَ لَنا اسمَ الآبِ، وَأَتَمَّ عَمَلَ الفِداءِ. والرّوحُ القُدُسُ هُوَ الَّذي أَرسَلَهُ الابنُ مِن عِندِ الآبِ لِيُعَلِّمَ الكَنيسةَ وَيَقودَها إِلى كُلِّ الحَقِّ (يوحنّا 14: 26؛ 16: 13).

 

وقد شَهِدَتِ الكَنيسةُ الأُولى بهذا السِّرِّ منذُ بِداياتِ كرازَتِها، كَما يَظهَرُ فِي مَعموديَّةِ يسوع، حيثُ انكَشَفَ الثّالوث: الآبُ في السَّماء، والابنُ في الماء، والرّوحُ على هَيئةِ حَمامةٍ (متّى 3: 16–17). وأَوصى الرّبُّ يسوعُ تَلاميذَهُ أَن يُعَمِّدوا:"بِاسمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرّوحِ القُدُسِ" (متّى 28: 19)، لا "بِأَسماءٍ"، لأَنَّ اللهَ واحِدٌ فِي ثلاثَةِ أَقانِيمَ مُتمايِزَةٍ وَمُتَّحِدَةٍ فِي الجَوْهَرِ وَالمَحبَّةِ.

 

وفِي التَّقليدِ الآبائِيّ أكَّدَ القدّيس أَثناسيوس الكبير: "الآبُ هُوَ الله، والابنُ هُوَ الله، والرّوحُ القُدُسُ هُوَ الله، وَلَيسوا ثلاثَةَ آلِهَةٍ، بَل إِلَهًا واحِدًا". وَشَرَحَ القدّيس إيريناوس أَنَّ اللهَ: "يَخلُقُ وَيُخلِّصُ بِكَلِمَتِهِ وَرُوحِهِ" — وَهُوَ تَعبيرٌ لاهوتيٌّ مُبَكِّرٌ عَنِ الثّالوثِ فِي عَمَلِهِ الخَلاصِيِّ.

 

 وتُشكِّل عَقيدةُ الثّالوثِ الأَقدَسِ جَوهَرَ الحَياةِ المَسيحيَّةِ. الثّالوثُ هُوَ اللهُ الآبُ وَابنُهُ الوَحيدُ وَالرّوحُ القُدُسُ، إِلَهٌ واحِدٌ وَرَبٌّ واحِدٌ، لا لِوَحدَةِ الأَقنومِ، بَل لِثَالوثِ الجَوْهَرِ الواحِدِ. وإِذ نُعلِنُ إِيمانَنا بِاللّاهوتِ الحَقِّ الأَزَلِيِّ، نَسجُدُ لِثالوثِ الأَقانِيمِ، وَلِوَحدةِ الجَوْهَرِ، وَالتَّساوي فِي الجَلالِ. فَهِيَ لَيسَت حَصيلَةَ تَفكيرٍ بَشَرِيٍّ نَظَرِيٍّ فِي الله، بَل تَعبيرٌ عَن إِيمانِ المَسيحيَّةِ مُنذُ نَشأَتِها بِظُهورِ اللهِ ظُهورًا نِهائيًّا وَخَلاصِيًّا فِي شَخصِ يسوعَ المَسيحِ.

 

لِنُجَدِّد إِيمانَنا بِالرّبِّ الوَاحِدِ، المُثَلَّثِ الأَقانِيمِ:

بِالآبِ: الَّذي أَحَبَّنا، وَخَلَقَنا، وَيَعتني بِنَا.

بِالابنِ يسوعَ المَسيح: الَّذي افتَدانَا، وَخَلَّصَنَا بِمَوتِهِ وَقِيامَتِهِ.

بِالرّوحِ القُدُس: الَّذي يُتَمِّمُ فِينَا ثِمارَ الفِداءِ وَالخَلاصِ، وَيُحيِينَا وَيُقَدِّسُنَا.

 

فَاللهُ وَحدَهُ يَستَطيعُ أَن يُعطِيَنا مَعرِفَتَهُ بِالكَشفِ عَن ذاتِهِ: أبًا وَابنًا وَرُوحًا قُدُسًا. يُظهِرُ تَجَسُّدُ الابنِ أَنَّ اللهَ هُوَ الآبُ الأَزَلِيُّ، وَأَنَّ الابنَ وَالآبَ جَوْهَرٌ واحِدٌ. وَرِسالَةُ الرّوحِ القُدُسِ، الَّذي أَرسَلَهُ الآبُ بِاسمِ الابن وَبِالابنِ "مِن لَدُنِ الآب" (يوحنّا 15: 26)، تُؤَكِّد أَنَّهُ مَعَهُما الإِلهُ الواحِدُ الأَحَدُ.

 

إِنَّنا بِإِيمانِنا بِالثّالوثِ لا نَكونُ مُشرِكِينَ وَلا كافِرِينَ، كَما يُسِيءُ القُرآنُ فَهمَهُ فِي قَولِهِ: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ، وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ" (المائدة 73). إِنَّمَا نَحنُ نَستَجيبُ لِدَعوَةِ يسوعَ المَسيح: "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحَدٌ قَطّ، الاِبنُ الوَحيدُ الَّذي فِي حِضْنِ الآبِ، هُوَ الَّذي أَخبَرَ عَنهُ" (يوحنّا 1: 18). فَالكافِرُ هُوَ مَن كَفَرَ بِكَشفِ الله، وَأَنكرَ أُلوهِيَّةَ المَسيح، وَسِرَّ الثّالوثِ، كَما نَجِدُ فِي رِسالَةِ يَهوذا: "أَمَّا أَنتُم أَيُّهَا الأَحِبَّاء، فَابْنُوا أَنفُسَكُم عَلى إِيمَانِكُمُ المُقَدَّس، وَصَلُّوا بِالرّوحِ القُدُس، وَاحفَظوا أَنفُسَكُم فِي مَحبَّةِ الله، وَانتَظِروا رَحمَةَ رَبِّنا يسوعَ المَسيحِ مِن أَجلِ الحَياةِ الأَبَدِيَّة" (يهوذا 1: 20–21).

 

نَحنُ مَدعوُّونَ لِعيشِ وَتَجسِيدِ ما نَعرِفُهُ عَن الثّالوثِ فِي حَياتِنا المَسيحيَّة. وَكَما قالَ البابا القِدّيس يُوحنّا بولس الثاني: "نَحنُ المَسيحيّونَ نَعرِفُ الكَثيرَ، وَلَكِنّنا نَعيشُ القَليلَ". نَحنُ بِحاجَةٍ دَائِمَةٍ إِلى مَن يُذَكِّرُنا.

 

وَعلَينا أَن نَتَرُكَ زِمامَ أَمرِنا لِلرّبِّ فِي كُلِّ حَياتِنا، لِيَقودَنا بِحَسبِ مَشيئَتِهِ، وَهٰذا ما نَخشى أَن نَفعَلَهُ. وَفِي هٰذا الصَّدَدِ، يَقولُ القِدّيسُ أَغناطيوس دي لويولا: "قَليلُونَ جِدًّا يُدرِكونَ ما سَيَصنَعُهُ الرّبُّ بِهِم إِذا وَضَعوا أَنفُسَهُم كُلِّيًّا بَينَ يَدَيهِ، فَتُشَكِّلَهُم نِعمتُهُ وَتُكَوِّنَهُم". فَاللهُ لَيسَ كائِنًا نَتَحَدَّثُ عَنهُ، بِمِقدارِ ما هُوَ كائِنٌ نُحِبُّهُ وَنُصغي إِلَيهِ. نُدرِكُهُ بِالحُبِّ، وَنَبلُغُهُ بِالإِيمانِ، وَنَكتَشِفُهُ بِالصَّلاةِ".

 

 

دُعاء

 

"تُعايِنُ النُّورَ بِنُورِكَ" (مزمور 36: 10)، أيُّها النُّور، أيُّها الثّالوثُ الأَبَدِيُّ، نَوِّرنا بِنُورِكَ، فَقَد جَعَلتَ مِنّا خَليقَةً جَديدةً بِدَمِ ابنِكَ الوَحيد. أَعطِنا، أيُّها الآبُ الأَزَلِيُّ، شَيئًا مِن قُوَّتِكَ وَحِكمَتِكَ، فَهذِهِ الحِكمَةُ هِيَ صِفَةُ ابنِكَ الوَحيد.أَمَّا الرّوحُ القُدُسُ، الَّذي يَنبَثِقُ مِنكَ، أيُّها الآب، وَمِن ابنِكَ، فَقَد أَعطانا الإرادَةَ الَّتي تَجعَلُنا قادِرِينَ عَلى المَحبَّة.  لِذٰلِكَ، وَلأَجلِ كُلِّ شَيءٍ، نُسَبِّحُكَ، وَنُبارِكُكَ، وَنُمَجِّدُكَ، وَأَنتَ واحِدٌ مَعَ يَسوعَ ابنِكَ الوَحيدِ الحَبيب، وَمَعَ الرّوحِ القُدُس. مُسَبِّحِينَ مَعَ أِشَعيا النَّبِيّ: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، رَبُّ القُوَّاتِ، الأَرضُ كُلُّها مَملوءَةٌ مِن مَجدِهِ" (أشعيا 6: 3). وَمُرَنِّمِينَ مَعَ القِدّيسينَ فِي السَّماءِ: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإِلهُ القَديرُ، الَّذي كَانَ وَهُوَ كائِنٌ وَسَيَأتي" (رؤيا 4: 8)، وَشَاكِرِينَ مَعَ يَسوعَ المَسيحِ: "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّماواتِ وَالأَرضِ، عَلى أَنَّكَ أَخفَيتَ هٰذِهِ الأَشياءَ عَنِ الحُكَماءِ وَالأَذكِياءِ، وَكَشَفتَها لِلصِّغار" (متّى 11: 25).

 

 

قِصَّةُ عن سِرِّ الثّالوثِ

 

حاوَلَ القِدّيسُ أُوغُسطينوس أن يَفهَمَ سِرَّ الثّالوثِ الأَقدَسِ، فَلَم يُفلِح. وَفِي أَثناءِ اِنشِغالِهِ بِذٰلِكَ، خَرَجَ يَتَنَزَّهُ عَلى شاطِئِ البَحر، فَصادَفَ طِفلًا يَنقُلُ مِيَاهَ البَحرِ بِقِطعَةِ صَدَفٍ حَلَزونِيَّة، وَيَسكُبُها فِي بِركَةٍ صَغيرَة. استَغرَبَ أُوغُسطينوس مِن ذٰلِكَ وَسَأَلَ الطِّفلَ:  هَل تَستَطيعُ أَن تَضَعَ البَحرَ فِي بِركَةٍ صَغيرة؟ فَأَجابَهُ الوَلَدُ بِبَساطَةٍ:  وَهَل تَستَطيعُ أَن تَضَعَ اللهَ الكَبيرَ فِي عَقلِكَ الصَّغير؟

 

يُقالُ إِنَّ البابا بَندِكتُس السّادسَ عَشر، اللاهوتيَّ الكَبير، قَد وَضَعَ صَدَفَةً فِي تَاجِهِ البَابَوِيِّ، لِئَلَّا نَنسى أَنَّنا لا نَستَطيعُ فَهمَ اللهِ بِعَقلِنا، بَل فَقط جاثِينَ أَمامَهُ عَلَى رُكبِنا نَستَطيعُ أَن نَقتَرِبَ مِنهُ. يُعَلِّقُ القِدّيسُ بولُسُ الرَّسُولُ فِي رِسالَتِهِ الأُولى إِلى طِيمُوتَاوُس: "الَّذي مَسكِنُهُ نُورٌ لا يُقتَرَبُ مِنه، وَهُوَ الَّذي لَم يَرَهُ إِنسانٌ وَلا يَستَطيعُ أَن يَراهُ، لَهُ الإِكرامُ وَالعِزَّةُ الأَبَدِيَّة. آمين" (1 طيموتاوس 6: 16).

 

نَحنُ ما خُلِقنا لِنَفهَمَ اللهَ، إِذ إنَّ إِلهًا يُدرِكُهُ العَقلُ لَيسَ إِلهًا. وَفِي قِصَّةٍ تُنسَبُ إِلى أَحَدِ الرَّبَّانِيم (المُعَلِّمينَ اليَهودِ)، جاءَ إِليهِ تَلميذٌ يَسأَل: قَرَأتُ كُتُبًا كَثيرةً عَنِ اللهِ، وَلَكِنِّي ما وَجَدتُّه! فَأَجابَهُ الرّابِّي: يَبدو أَنَّكَ ما سَجَدتَّ لَهُ كِفايَةً، حَتَّى تَكتَشِفَه! فَاللهُ ما خَلَقَنا لِنَكتَشِفَ سِرَّه، بَل لِنُؤمِنَ بِهِ، وَلِنُحِبَّهُ، وَنَعبُدَهُ، وَنَسجُدَ لَهُ مَعَ المَلائِكَةِ. ها صَوتُ المَلائِكَةِ يَعلو فِي مَحضَرِكَ، يَهتِفونَ كُلُّهُم قُدُّوس، ساجِدينَ أَمامَكَ، رافِعينَ التَّسبيحَ لَكَ، مُعلِنينَ ثَلاثًا: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، رَبُّ القُوَّاتِ، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه" (أشعيا 6: 3).