موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (يوحنا 17: 20-26)
20 لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم. 21 فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني. 22 وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد: 23 أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحْدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني. 24 يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم. 25 يا أَبتِ البارّ إِنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ أَمَّا أَنا فقَد عَرَفتُكَ وعَرَفَ هؤلاءِ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني. 26 عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم)).
مُقَدِّمَة
في صَلاتِهِ الكَهَنُوتِيَّةِ، صَلَّى يسوعُ مِن أَجْلِ نَفْسِهِ (يوحنّا 17: 1–5)، وَمِن أَجْلِ تَلامِيذِهِ (يوحنّا 17: 6–19)، وَأَخِيرًا صَلَّى مِن أَجْلِ كَنِيسَتِهِ (يوحنّا 17: 20–26). وفي إنجيلِ الأَحَدِ السَّابِعِ لِلفِصْحِ، يَتَكَلَّمُ يوحنّا الإنجيليُّ عَن هذَا الجُزْءِ الأَخِيرِ مِن الصَّلاةِ الَّتِي رَفَعَهَا يسوعُ عَشِيَّةَ صَلْبِهِ مِن أَجْلِ وَحْدَةِ الكَنِيسَةِ، الوَحْدَةِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، الوَحْدَةِ المَبْنِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ المُؤْمِنِينَ مَعَ الرَّبِّ يسوعَ وَالآبِ (يوحنّا 17: 20–26).
وَتَكشِفُ الصَّلاةُ أَعْمَقَ رَغَبَاتِ النَّفْسِ. إِنَّهُ لَمُعَزٍّ لَنَا، نَحْنُ مُؤْمِنِي القَرْنِ الحَادِي وَالعِشْرِينَ، أَنْ نُفَكِّرَ حَقًّا أَنَّ الرَّبَّ يسوعَ قَدْ صَلَّى مِن أَجْلِنَا أَيْضًا، صَلَّى مِن أَجْلِ إِيمَانِنَا، وَمِن أَجْلِ قَدَاسَتِنَا، وَمِن أَجْلِ وَحْدَتِنَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ البَابَا يُوحنّا بُولُس الثَّانِي قَائِلًا:"إِنَّ الرَّبَّ يسوعَ المَسِيحَ مَوجُودٌ حَقًّا فِي اتِّحادِ الصَّلاةِ؛ يُصَلِّي فِينَا، وَمَعَنَا، وَلِأَجْلِنَا. هُوَ يُوَجِّهُ صَلاتَنَا بِوَاسِطَةِ الرُّوحِ المُعَزِّي، الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ وَأَعْطَاهُ لِلكَنِيسَةِ مُنْذُ مَجْمَعِ أُورَشَلِيمَ، عِنْدَمَا أَسَّسَ الكَنِيسَةَ فِي وَحْدَتِهَا الأَصْلِيَّةِ" (الرِّسَالَةُ العَامَّةُ: لِيَكُونُوا وَاحِدًا Ut Unum Sint، العَدَدُ 22). وَمِن هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (يوحنّا 17: 23–26)، وَتَطْبِيقَاتِهِ فِي صَلَاةِ يَسُوعَ مِن أَجْلِ وَحْدَةِ كَنِيسَتِهِ (يوحنّا 17: 20–26).
أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 17: 20-26)
20 لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَدْعُو" فِي اليُونَانِيَّةِ: ἐρωτῶ (مَعْنَاهَا: أَسْأَلُ)، إِلَى يَسُوعَ الَّذِي يَشْفَعُ لِمَنْ يَقْبَلُ عَمَلَهُ الفِدَائِيَّ، كَيْ يَصِيرَ الكُلُّ وَاحِدًا. أَمَّا عِبَارَةُ "أَدْعُو أَيْضًا لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي عَنْ كَلَامِهِم" فَتُشِيرُ إِلَى صَلَاةِ يَسُوعَ الَّذِي يَشْفَعُ لِلْجَمَاهِيرِ الغَفِيرَةِ الَّتِي تَأْتِي إِلَيْهِ وَتُؤْمِنُ بِهِ مِنْ خِلَالِ كَرَازَةِ تَلَامِيذِهِ وَرُسُلِهِ، كَيْ يَتَمَتَّعُوا بِالوَحْدَةِ الحَقِيقِيَّةِ وَالمَجْدِ الَّذِي مِنْ عِندِ الآبِ. يُصَلِّي يَسُوعُ إِلَى مَسِيحِيِّي العُصُورِ المُقْبِلَةِ، يُصَلِّي مِنْ أَجْلِنَا كُلِّنَا. فَصَلَاتُهُ تَشْمَلُ تَلَامِيذَهُ وَجَمَاعَةَ المُؤْمِنِينَ بِهِ عَنْ طَرِيقِ التَّبْشِيرِ (يوحنّا 4: 35–42). وَتَمْتَدُّ هذِهِ الصَّلَاةُ لِتَشْمَلَ البَشَرِيَّةَ المُسْتَعِدَّةَ لِقَبُولِ الخَلاَصِ عَبْرَ كُلِّ الأَجْيَالِ، حَتَّى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ، لأَنَّ اللهَ: "يُرِيدُ أَنْ يَخْلُصَ جَمِيعُ النَّاسِ، وَيَبْلُغُوا إِلَى مَعْرِفَةِ الحَقِّ" (1طيموثاوس 2: 3–4). أَمَّا عِبَارَةُ "يُؤْمِنُونَ بِي عَنْ كَلَامِهِم" فَتُشِيرُ إِلَى كُلِّ الَّذِينَ يَتَجَدَّدُ إِيمَانُهُمْ بِوَاسِطَةِ تَبْشِيرِ الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ إِلَى نِهَايَةِ العَالَمِ. فَالإِيمَانُ هُوَ العَلاَقَةُ مَعَ المَسِيحِ، وَهُوَ يَمُرُّ عَبْرَ تَبْشِيرِ الرُّسُلِ. وَيُعَلِّقُ البطريرك بِيير بَاتِيسْتَا بِيتْسَابَالَا قَائِلًا: "إِنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ شَأْنًا خَاصًّا، بَلْ يَجِبُ إِيصَالُهُ وَإِعْلَانُهُ. فَالمُؤْمِنُ الحَقِيقِيُّ لَا يَعِيشُ لِنَفْسِهِ؛ حَيْثُ إِنَّ الإِيمَانَ المَسِيحِيَّ يَتَعَزَّزُ وَيَنْمُو عِنْدَمَا تَتِمُّ الشَّهَادَةُ لَهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ يَنْطَفِئُ وَيَمُوتُ." أَمَّا عِبَارَةُ "كَلَامِهِم" فَتُشِيرُ إِلَى شَهَادَةِ التَّلَامِيذِ وَكَرَازَتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ الَّتِي سَجَّلُوهَا فِي الأَنَاجِيلِ وَالرَّسَائِلِ وَسِفْرِ الرُّؤْيَا. إِنَّهَا "كَلِمَةُ اللهِ" (1 تسالونيقي 2: 13). و"كَلِمَةُ اللهِ" دُعِيَت "كَلَامَ التَّلَامِيذِ" لِأَنَّهَا أُودِعَتْ إِلَيْهِمْ بِصِفَةٍ رَئِيسِيَّةٍ فِي البِدَايَةِ لِيُكْرَزَ بِهَا، كَمَا يُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس. إِنَّ نَشْرَ كَلِمَةِ اللهِ بِوَاسِطَةِ النَّاسِ هُوَ الوَسِيلَةُ الضَّرُورِيَّةُ لِامْتِدَادِ دِيَانَةِ المَسِيحِ فِي العَالَمِ وَإِلَى الإِيمَانِ بِهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعَالِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "فَالإِيمَانُ إِذًا مِنَ السَّمَاعِ، وَالسَّمَاعُ يَكُونُ سَمَاعَ كَلَامٍ عَلَى المَسِيحِ" (رُومَة 10: 17). لَا يَعِيشُ المُؤْمِنُ لِنَفْسِهِ، بَلْ يَجِبُ إِيصَالُ الإِيمَانِ وَإِعْلَانُهُ. هُنَاكَ إِيمَانٌ عِنْدَمَا يَنْقُلُ إِنْسَانٌ الإِيمَانَ لِغَيْرِهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُطْرُسَ الرَّسُولِ: "كُونُوا دَائِمًا مُسْتَعِدِّينَ لِأَنْ تَرُدُّوا عَلَى مَنْ يَطْلُبُ مِنْكُمْ دَلِيلَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الرَّجَاءِ" (1بطرس 3: 15).
21 فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني
تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَلْيَكُونُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَاحِدًا" إِلَى طَلِبَةِ يَسُوعَ فِي صَلَاتِهِ لِوَحْدَةِ تَلَامِيذِهِ المُحِيطِينَ بِهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ كَلَامَهُمْ (أَيْ إِلَى الكَنِيسَةِ). وَقَدْ تَكَرَّرَتْ عِبَارَةُ "لِيَكُونُوا" سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي هذَا النَّصِّ، وَأَرْبَعَ مَرَّاتٍ مِنْهَا يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُهُ وَاحِدًا؛ هذِهِ الوَحْدَةُ تَنْبُعُ مِنَ الوَحْدَةِ الإِلَهِيَّةِ، وَتَأْتِي مِنَ الآبِ إِلَيْنَا، مِنْ خِلَالِ الاِبْنِ، فِي الرُّوحِ القُدُسِ. يَتَضَرَّعُ يَسُوعُ لِتَتِمَّ الوَحْدَةُ فِي كَنِيسَتِهِ فَلْنَطْلُبْ مِنَ اللهِ أَنْ يُسَاعِدَنَا لِنَدْخُلَ بِالعُمْقِ فِي مَشْرُوعِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا. فَالوَحْدَةُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ هِيَ عَلاَمَةٌ وَرَمْزٌ لِلوَحْدَةِ الَّتِي تَكْمُنُ بَيْنَ يَسُوعَ وَالآبِ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَاحِدًا" فَتُشِيرُ إِلَى الوَحْدَةِ أَيْ أَنْ يَكُونَ المُؤْمِنُونَ جَمِيعًا مُتَّحِدِينَ كَإِخْوَةٍ، لأَنَّهُمْ مُفْتَدُونَ بِدَمٍ وَاحِدٍ، وَمُسَافِرُونَ إِلَى سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ، فَاتِّحَادُ النَّاسِ بِاللهِ وَبَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ هُوَ غَايَةُ تَجَسُّدِ المَسِيحِ وَمَوْتِهِ وَإِرْسَالِهِ الرُّوحَ القُدُسَ. فَقَدْ شَغَلَ مَوْضُوعُ الوَحْدَةِ قَلْبَ السَّيِّدِ المَسِيحِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ صَلَّى لأَجْلِهَا (يوحنّا 17: 13) وَهَا هُوَ يَطْلُبُهَا بِلَجَاجَةٍ مِنَ الآبِ. وَتَقُومُ الوَحْدَةُ عَلَى عَمَلِ اللهِ فِي حَيَاةِ الخُدَّامِ الرُّسُلِ وَالتَّلَامِيذِ وَالكَهَنَةِ كَمَا تَقُومُ عَلَى عَمَلِهِ فِي كُلِّ المُؤْمِنِينَ عَلَى مُسْتَوَى الشَّعْبِ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَمَا أَنَّكَ فِيَّ، يَا أَبَتِ، وَأَنَا فِيكَ، فَلْيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا فِينَا" فَتُشِيرُ إِلَى طَبِيعَةِ الوَحْدَةِ وَمَبْدَئِهَا. فَهذِهِ الوَحْدَةُ تَتَجَذَّرُ فِي سِرِّ الحَيَاةِ الإِلَهِيَّةِ، لأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى انْضِمَامِ المُؤْمِنِينَ إِلَى يَسُوعَ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى اتِّحَادِهِمْ فِي المَحَبَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الآبِ وَالاِبْنِ (يوحنّا 5: 19–20)، وَهَكَذَا تَتَمَدَّدُ الوَحْدَةُ بَيْنَ الآبِ وَيَسُوعَ لِتَشْمَلَ المُؤْمِنِينَ. رَغِبَ المَسِيحُ فِي أَنْ تَكُونَ كَنِيسَتُهُ مُتَّحِدَةً، وَرَأَى الوَسِيلَةَ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَتَّحِدَ بِهِ وَبِآبِيهِ كُلُّ عُضْوٍ فِي الكَنِيسَةِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ "فَهُنَاكَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا أَنَّكُمْ دُعِيتُمْ دَعْوَةً رَجَاؤُهَا وَاحِدٌ وَهُنَاكَ رَبٌّ وَاحِدٌ، وَإِيمَانٌ وَاحِدٌ، وَمَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِلَهٌ وَاحِدٌ، آبٌ لِجَمِيعِ الخَلْقِ، وَفَوْقَهُمْ جَمِيعًا، يَعْمَلُ بِهِمْ جَمِيعًا، وَهُوَ فِيهِمْ جَمِيعًا" (أفسس 4: 4–6). أَمَّا عِبَارَةُ "فِينَا" فَتُشِيرُ إِلَى الإِيمَانِ بِالثَّالُوثِ وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قائلا: " إِنَّهُمْ الثَّالُوثُ فِينَا، وَنَحْنُ فِيهِمْ، بِكَوْنِهِمْ هُمْ وَاحِدًا فِي طَبِيعَتِهِمْ، وَنَحْنُ وَاحِدٌ فِي طَبِيعَتِنَا هُمْ فِينَا بِكَوْنِهِمْ اللهَ فِي هَيْكَلِهِ، وَنَحْنُ فِيهِمْ كَخَلِيقَةٍ فِي خَالِقِهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "لِيُؤْمِنَ العَالَمُ بِأَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ وَحْدَةَ المُؤْمِنِينَ هِيَ عَلاَمَةٌ لِلْعَالَمِ، كَدَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَةِ يَسُوعَ، وَعَلَى تَدَخُّلِ اللهِ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ. فالوَحْدَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ يَسُوعَ مِنَ الآبِ أَتَى، حَامِلًا رِسَالَةً وَحَقِيقَةً لَيْسَتَا مِنْ هذَا العَالَمِ (يوحنّا 3: 3–8). فَاتِّحَادُ الكَنِيسَةِ هُوَ عَلاَمَةٌ لِإِقْنَاعِ العَالَمِ بِأَنَّ مَصْدَرَهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ الدِّينَ المَسِيحِيَّ حَقٌّ، وَأَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ. أَمَّا عِبَارَةُ "العَالَمُ" فَتَشِيرُ هُنَا إِلَى مَعْنًى إِيجَابِيٍّ أَيْ العَالَمُ كَخَلِيقَةِ اللهِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى سَلْبِيٍّ كَمَا فِي قَوْلِ الكِتَابِ "بِحَسَدِ إِبْلِيسَ دَخَلَ المَوْتُ إِلَى العَالَمِ" (الحِكْمَة 2: 24). وَمِنْ خِلَالِ طَلَبِ الوَحْدَةِ لِتَلَامِيذِهِ وَكَنِيسَتِهِ، يَقْصِدُ يَسُوعُ وَحْدَةَ البَشَرِيَّةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ لَهَا سِرَّ اللهِ بِوَاسِطَةِ وَحْدَةِ تَلَامِيذِهِ وَبِالعَكْسِ، فَإِنَّ الانْقِسَامَ فِي الكَنَائِسِ هُوَ أَكْبَرُ العَوَائِقِ فِي رِسَالَةِ الكَنِيسَةِ، وَلَا يُوجَدُ مَا يُؤْذِي البَشَرِيَّةَ مِثْلَ الانْقِسَامِ النَّاتِجِ عَنِ الحَسَدِ وَالخِصَامِ (1 قورنتس 3: 3–4). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ البَابَا يُوحَنَّا بُولُسُ الثَّانِي قائلا: "إَنَّ الانْقِسَامَ فِي الكَنِيسَةِ هُوَ أَكْبَرُ عَارٍ لَهَا، وَحَجَرُ عَثْرَةٍ، وَعَائِقٌ أَمَامَ الإِيمَانِ، إِذْ "كُلُّ مَمْلَكَةٍ تَنْقَسِمُ عَلَى نَفْسِهَا تَخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ يَنْقَسِمُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَثْبُتُ" (متى 12: 25).
22 وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد
تَشِيرُ عِبَارَةُ "وَأَنَا وَهَبْتُ لَهُم مَا وَهَبْتَ لِي مِنَ الْمَجْدِ" إِلَى كَيْفِيَّةِ تَتِمِيمِ الْوَحْدَةِ، وَذَلِكَ بِإِعْلَانِ مَجْدِ اللهِ لِلنَّاسِ، وَمَوْهِبَةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَمُشَارَكَةِ التَّلَامِيذِ لِلْمَسِيحِ فِي بَثِّ بُشْرَى الْخَلَاصِ، وَمُشَارَكَتِهِمْ لَهُ فِي أَفْرَاحِ السَّمَاءِ. وَيُعَلِّقُ الْمُؤَرِّخُ الْكَنَسِيُّ أُوسَابْيُوسُ الْقَيْصَرِيُّ: "فِي صَلَاتِهِ الْكَهَنُوتِيَّةِ الْكُبْرَى، طَلَبَ مُخَلِّصُنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ أَنْ نَكُونَ مَعَهُ حَيْثُ هُوَ، وَأَنْ نَتَأَمَّلَ مَجْدَهُ. هُوَ يُحِبُّنَا كَمَا يُحِبُّهُ الْآبُ، وَيَرْغَبُ فِي إِعْطَائِنَا كُلَّ مَا أَعْطَاهُ الْآبُ إِيَّاهُ. هُوَ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَنَا الْمَجْدَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا كُلَّنَا وَاحِدًا" (مؤرّخ اللاهوت الكنسي، الجزء الثالث). وَمَبْدَأُ الْوَحْدَةِ هُوَ الْمَجْدُ الَّذِي نَالَهُ الْمَسِيحُ مِنَ الْآبِ بَعْدَ الصَّلِيبِ، وَالَّذِي يُشْرِكُ فِيهِ يَسُوعُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ. فَمِنْ خِلَالِ آلَامِ الصَّلِيبِ، يَحْمِلُنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ إِلَى مَجْدِهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ: "فَذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كُلُّ شَيْءٍ وَبِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَقُودَ إِلَى الْمَجْدِ كَثِيرًا مِنَ الْأَبْنَاءِ، كَانَ يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ مُبْدِئَ خَلَاصِهِمْ مُكَمَّلًا بِالْآلَامِ" (عبرانيين 2:10). فَيُصْبِحُونَ بِدَوْرِهِمْ تَجَلِّيًا لِمَجْدِ الْمَسِيحِ، فَاشْتِرَاكُهُمْ بِهَذَا الْمَجْدِ يُوَحِّدُهُمْ، لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ بِهِ أَبْنَاءٌ. أَمَّا عِبَارَةُ "الْمَجْدِ" فتَشِيرُ إِلَى عَطِيَّةٍ إِلَهِيَّةٍ، كَمَا يَقُولُ الْكِتَابُ: "الرَّبُّ الإِلَهُ يَهَبُ النِّعْمَةَ وَالْمَجْدَ" (مزمور 84:12). وَفِي هَذَا الصَّدَدِ، يَقُولُ الْقِدِّيسُ غِرِيغُورِيُوسُ النِّيسِيُّ: "الرُّوحُ الْقُدُسُ هُوَ هَذَا الْمَجْدُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْكِرَهُ أَيُّ شَخْصٍ يَفْحَصُ بِدِقَّةٍ كَلَامَ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ وَهُوَ يَقُولُ: وَأَنَا وَهَبْتُ لَهُمْ مَا وَهَبْتَ لِي مِنَ الْمَجْدِ. فِي الْحَقِيقَةِ، أَعْطَى السَّيِّدُ الْمَسِيحُ هَذَا الْمَجْدَ لِتَلَامِيذِهِ عِنْدَمَا قَالَ لَهُمْ: خُذُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ" (يوحنا 20:22). وَيَكْمُنُ مَجْدُ يَسُوعَ الْحَقِيقِيُّ فِي اتِّبَاعِ طَرِيقِ الْخِدْمَةِ الْمُتَوَاضِعَةِ، الَّتِي تَبْلُغُ ذُرْوَتَهَا عَلَى الصَّلِيبِ. إِنَّ طَرِيقَ الصَّلِيبِ هُوَ طَرِيقُ الْمَجْدِ الْحَقِيقِيِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ وَاحِدٌ"، فَتُشِيرُ إِلَى كَلَامِ يَسُوعَ مَرَّةً أُخْرَى عَن وَحْدَةِ التَّلَامِيذِ، وَهِيَ غَايَةُ إِعْطَائِهِ إِيَّاهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَاهُ الْآبُ إِيَّاهُ. وَيُعَلِّقُ أُوسَابْيُوسُ الْقَيْصَرِيُّ: "لَا يُرِيدُنَا أَنْ نَكُونَ مُجَرَّدَ جَمَاعَةٍ، بَلْ أَنْ نُشَكِّلَ وَحْدَةً كَامِلَةً، وَنَكُونَ مُجْتَمِعِينَ مِنْ خِلَالِ أُلُوهِيَّتِهِ فِي مَجْدِ الْمَلَكُوتِ، لَا بِالذَّوَبَانِ فِي جَوْهَرٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِالْكَمَالِ، وَهُوَ قِمَّةُ الْفَضَائِلِ..." (مؤرّخ اللاهوت الكنسي، الجزء الثالث). "فَالْمَوَاهِبُ شَتَّى، وَلَكِنَّ الرُّوحَ وَاحِدٌ" (1 قورنتس 12:4). وَتَتَحَقَّقُ الْوَحْدَةُ بِمَحَبَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَيُؤَكِّدُ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ أَنَّ مَصْدَرَ الْوَحْدَةِ هُوَ قُبُولُهُ، كَابْنِ الْإِنْسَانِ، الْمَجْدَ مِنْ أَبِيهِ، لِيَهَبَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ. وَهَكَذَا يُرَكِّزُ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ عَلَى الْوَحْدَةِ كَأَمْرٍ أَسَاسِيٍّ وَجَوْهَرِيٍّ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِالْوَحْدَةِ الظَّاهِرِيَّةِ كَتَجَمُّعِ الْقِيَادَاتِ الْكَنَسِيَّةِ مَعًا، لَكِنَّهَا وَحْدَةُ عَمَلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، الَّذِي يَضُمُّ الْكُلَّ بِالرُّوحِ لِغَايَةٍ مُقَدَّسَةٍ كَامِلَةٍ. وَهَذِهِ الْغَايَةُ هِيَ أَنْ يَصِيرَ الْكُلُّ وَاحِدًا فِي الْآبِ وَالِابْنِ كَمَا هُمَا وَاحِدٌ. فَمَنْ يَقْبَلِ السَّيِّدَ الْمَسِيحَ "الطَّرِيقَ"، يَسِيرُ بِهِ إِلَى حِضْنِ الْآبِ مُتَّحِدًا مَعَهُ، كَمَا يَسِيرُ بِهِ إِلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِاخْتِبَارِ وَحْدَةِ الْإِخْوَةِ. وَلِأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ هُوَ رُوحُ الْآبِ وَرُوحُ الْابْنِ، لِذَا يَرَى الْبَعْضُ أَنَّهُ رُوحُ الْوَحْدَةِ، هُوَ وَاهِبُ عَطِيَّةِ الْوَحْدَةِ، إِذْ يَجْمَعُ الْكُلَّ مَعًا، لِيَعْمَلَ الْكُلُّ فِي الْكُلِّ: "فَالْمَوَاهِبُ شَتَّى، وَلَكِنَّ الرُّوحَ وَاحِدٌ " (١ قُورِنْتُس 12: $). وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ بَاسِيلْيُوسُ الْكَبِيرُ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ يَسُوعَ صَلَّى: لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ عِنْدَمَا يَكُونُ اللهُ، الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْكُلَّ وَاحِدًا، وَيَضِيعُ الْعَدَدُ فِي حُلُولِ الْوَاحِدِ."
23 أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحْدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني
تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَنا فيهِم وأَنتَ فيَّ" إِلَى كِيَانٍ وَاحِدٍ ذَاتِيّ، فَالآبُ كُلُّهُ لِلابْنِ، وَالابْنُ كُلُّهُ لِلآبِ، وَكُلُّ مَا لِأَحَدِهِمَا هُوَ لِلآخَرِ، كَمَا جَاءَ فِي صَلَاةِ يَسُوعَ: "وجَميعُ ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ فهو لي" (يوحنّا 17:10). وَمِنْ هَذَا الْمَنْطَلَقِ، نَفْهَمُ طَبِيعَةَ الْوَحْدَةِ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ: وَحْدَةٌ فِي الآبِ كَمَا هِيَ فِي الابْنِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الابْنُ يَسُوعُ فِينَا، وَهَكَذَا تَكُونُ وَحْدَتُنَا كَامِلَةً، فَتَنْتَقِلُ مَحَبَّةُ الآبِ بِوَاسِطَةِ الابْنِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَيَتَمَتَّعُونَ بِالْحُبِّ الْوَاحِدِ، حُبِّ الآبِ. وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَقُلْ: "أَنتَ فيَّ وأَنتَ فيهِم"، لِأَنَّ حُلُولَ الآبِ فِي الْمَسِيحِ يَخْتَلِفُ عَنْ حُلُولِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمْ يَقُلِ الْمَسِيحُ: "هُمْ فِيكَ وأنا فِيكَ"، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَسِيحِ فِي الآبِ غَيْرُ ثُبُوتِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ. فَالْوَحْدَةُ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ قَائِمَةٌ عَلَى أَسَاسِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا، فَهُم وَاحِدٌ فِي الْجَوْهَرِ. أَمَّا الإِنْسَانُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُخْتَلِفٌ عَنِ الآخَرِ، وَلَكِنْ وَحْدَتُنَا مَعَ اللهِ تَعْنِي انْسِكَابَ قُوَّتِهِ فِينَا لِيُعِيدَ تَشْكِيلَنَا عَلَى صُورَتِهِ، فَتُلْغَى عَدَاوَاتُنَا وَانْقِسَامَاتُنَا وَتُقَدِّسُنَا. أَمَّا عِبَارَةُ "لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحدَةِ"، فَتُشِيرُ إِلَى وَحْدَةِ الْإِيمَانِ وَالسِّيرَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَلَيْسَتْ إِلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الطُّقُوسِ وَسِيَاسَاتِ الْكَنِيسَةِ. هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَالَ الِانْقِسَامِ فِي الْكَنِيسَةِ هُوَ حَالُ نُقْصَانٍ، وَحَالُ الِاتِّحَادِ هُوَ حَالُ الْكَمَالِ، وَكُلَّمَا نَقَصَ الِاتِّحَادُ فِي الْكَنِيسَةِ، قَصَّرَتْ عَنِ الْكَمَالِ الَّذِي طَلَبَهُ الْمَسِيحُ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: "وأَمّا مَن حَفِظَ كَلِمَتَه فإِنَّ مَحَبَّتَه للهِ قدِ اكتَملَت فيه حَقًّا، بِذلك نَعرِفُ أَنَّنا فيه" (1يوحنّا 2:5). وَيُعَلِّقُ الْمُؤَرِّخُ الْكَنَسِيُّ أُوسَابْيُوسُ الْقَيْصَرِيُّ: "فَإِنَّهُ يُصَلِّي أَيْضًا كَيْ نُشَارِكَهُ مِثْلَهُ فِي الْوَحْدَةِ، لَا وَحْدَةَ الْجَوْهَرِ الَّتِي يَشْتَرِكُ بِهَا مَعَ الآبِ، بَلِ الْوَحْدَةِ الَّتِي تُوصَفُ كَالتَّالِي: كَمَا أَنَّ الآبَ قَدْ أَشْرَكَهُ بِمَجْدِهِ، فَهُوَ بِدَوْرِهِ يُشَارِكُ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ بِمَجْدِهِ بِالطَّرِيقَةِ نَفْسِهَا" (مؤرّخ اللاهوت الكنسي، الجزء الثالث). أَمَّا عِبَارَةُ: "يَعرِفَ العالَمُ"، فَتُشِيرُ إِلَى هَدَفِ وَحْدَةِ التَّلَامِيذِ، وَهِيَ شَهَادَةٌ لِلآبِ وَالابْنِ، حَيْثُ إِنَّ الْعَالَمَ يَعْرِفُ وَيَكْتَشِفُ مِنْ خِلَالِ وَحْدَةِ التَّلَامِيذِ حُبَّ الآبِ لِلْبَشَرِ؛ وَهَذَا الْحُبُّ هُوَ حُبُّ الابْنِ الْمُنْعَكِسِ عَلَيْهِمْ. فَالْمَعْرِفَةُ هُنَا مُقْتَرِنَةٌ بِالْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ، كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا عَرَفَ النَّاسُ جَمِيعًا أَنَّكُم تَلامِيذِي"(يوحنّا 13:35). وَمِنْ هَذَا الْمَنْطَلَقِ، يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَشِيرُ إِلَى مَعْرِفَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَفِكْرِيَّةٍ فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا أَيْضًا إِلَى مَعْرِفَةٍ وَاقِعِيَّةٍ، مَحْسُوسَةٍ، شَخْصِيَّةٍ، وَحَيَوِيَّةٍ؛ إِنَّهَا اتِّحَادُ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ وَالْإِرَادَةِ لِمَعْرِفَةِ اللهِ الآبِ الْمُرْسِلِ وَمَحَبَّتِهِ. وَإِنَّ التَّعَرُّفَ إِلَى اللهِ مِنْ خِلَالِ رِسَالَةِ الابْنِ هُوَ أَعْظَمُ مَعْرِفَةٍ فِي الْعَالَمِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ: "لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني"(يوحنّا 17:21). أَمَّا عِبَارَةُ "أَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ الآبَ يُحِبُّنَا فِي الابْنِ، كَمَا يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "ذلِكَ بِأَنَّهُ اختارَنا فيهِ قَبلَ إِنْشاءِ العالَم، لِنَكونَ فِي نَظَرِهِ قِدِّيسِينَ بِلا عَيبٍ فِي الْمَحَبَّةِ "(أفسس 1:4). وَيُمَيِّزُ الْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس بَيْنَ حُبِّ الآبِ لِابْنِهِ وَحُبِّهِ لَنَا؛ فَالآبُ يُحِبُّ الابْنَ مِنْ جِهَةِ لَاهُوتِهِ، إِذْ وَلَدَهُ مُسَاوِيًا لِنَفْسِهِ، وَيُحِبُّهُ أَيْضًا كَوْنَهُ جَسَدًا، لِأَنَّ الابْنَ الْوَحِيدَ صَارَ إِنْسَانًا، وَبِكَوْنِهِ الْكَلِمَةَ، فَإِنَّ جَسَدَ الْكَلِمَةِ عَزِيزٌ عَلَيْهِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لَنَا، فَبِكَوْنِنَا أَعْضَاءَ فِي ذَاكَ الَّذِي يُحِبُّهُ، وَلِكَيْ نَصِيرَ كَذَلِكَ، أَحَبَّنَا لِهَذَا السَّبَبِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنَا. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى، كَمَا يُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس: "حُبُّ الآبِ لِابْنِهِ حُبٌّ سَرْمَدِيٌّ، أَمَّا حُبُّهُ لَنَا فَبِالنِّعْمَةِ الَّتِي تُؤَهِّلُنَا لِهَذَا الْحُبِّ." وَقَدْ أكدَ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ هُنَا أَنَّهُ لَيْسَ وَحْدَهُ يُحِبُّ تَلَامِيذَهُ، بَلْ أَبُوهُ أَيْضًا يُحِبُّهُمْ، إِذْ قَالَ: "وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني."
24 يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم
تَشِيرُ عِبَارَةُ "يَا أَبَتِ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ πατήρ إِلَى اللَّفْظَةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الطِّفْلُ فِي عَلَاقَاتِهِ الوُدِّيَّةِ مَعَ أَبِيهِ. وَكَانَ اليَهُودُ يَرْفُضُونَ اسْتِخْدَامَهَا فِي صَلَوَاتِهِمْ، نَظَرًا لِمَا فِيهَا مِنَ المَوَدَّةِ الحَمِيمَةِ. أَمَّا مَرْقُسُ الإِنْجِيلِيُّ، فَقَدِ احْتَفَظَ بِاللَّفْظَةِ الآرَامِيَّةِ אַבָּא "آبَا"، الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا يَسُوعُ (مَرْقُس 14: 36). فَيَسُوعُ قَدْ صَلَّى مِثْلَ الطِّفْلِ، وَصَلَاتُهُ الكَهَنُوتِيَّةُ كُلُّهَا هِيَ مُنَاجَاةُ الاِبْنِ لِأَبِيهِ. فَهَذَا الاِبْتِهَالُ أَضَافَ عَلَى صَلَاةِ يَسُوعَ جَوَّهَا، وَأَعْطَاهَا اتِّجَاهَهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "إِنَّ الَّذِينَ وَهَبْتَهُمْ لِي"، فَتَشِيرُ إِلَى الْمَرَّةِ السَّابِعَةِ الَّتِي وَصَفَ فِيهَا يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ بِذَلِكَ فِي هذِهِ الصَّلَاةِ الكَهَنُوتِيَّةِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِهِ، إِذْ يَنْظُرُ إِلَى تَلَامِيذِهِ كَعَطِيَّةٍ مِنَ الآبِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أُرِيدُ"، فَتَشِيرُ إِلَى الْمَرَّةِ الْوَحِيدَةِ الَّتِي فِيهَا يَتَكَلَّمُ يَسُوعُ كَالِابْنِ الَّذِي جَعَلَ الآبُ "كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ" (يُوحَنَّا 3: 35)، وَالَّذِي يَعْتَبِرُ بَيْتَ الآبِ بَيْتَهُ (يُوحَنَّا 8: 35). وَلِأَنَّ الآبَ وَالِابْنَ وَاحِدٌ، فَإِرَادَةُ الِابْنِ هِيَ إِعْلَانٌ عَنْ إِرَادَةِ الآبِ. المَسِيحُ هُنَا يَقُولُ "أُرِيدُ"، وَهِيَ أَعْمَقُ بِكَثِيرٍ مِنْ "أَدْعُو" كَمَا وَرَدَ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ (يُوحَنَّا 17: 9). قَالَ المَسِيحُ "أُرِيدُ" بَدَلًا مِنْ "أَدْعُو"، نَظَرًا إِلَى اتِّحَادِهِ بِالآبِ، وَمَعْرِفَتِهِ إِرَادَتَهُ وَإِرَادَةَ الآبِ (مَتَّى 12: 28)، وَدَلِيلًا لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الشَّوْقِ العَظِيمِ إِلَى نَوَالِ مَا سَأَلَهُ. بِقَولِهِ "يُريد"، لَم يَعُدْ بِوُسْعِ يَسوعَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْ كَوْنِهِ واحِدًا مَعَنا، فَهُوَ يَشْتَهِي أَنْ يَكُونَ هٰذا الرِّباطُ أَبَدِيًّا، لا يَنْتَهِي بِمَوتِهِ، وَأَلَّا يَهْلِكَ أَحَدٌ. يَسوعُ لا "يَتَمَنَّى" فَحَسْب، بَل "يُرِيد" — وَالفَرْقُ شاسِعٌ بَيْنَ الرَّغْبَةِ العابِرَةِ وَالإرادَةِ الثَّابِتَةِ الَّتي تُعَبِّرُ عَنْ تَصْمِيمٍ إِلٰهِيٍّ لا يَلِين. فَـ"يُرِيدُ" هُنا تَعْنِي أَنَّ مَحَبَّتَهُ لا تَخْضَعُ لِتَقَلُّبَاتِ الزَّمَنِ، وَلا لِضَعْفِ الإِنْسَان، بَل تَبْقَى راسِخَةً كَمَا هِيَ، لِأَنَّهُ هُوَ أَمِينٌ إِلٰهِيًّا. لَقَدِ ٱخْتَارَنَا، وَيُرِيدُ أَنْ نَكُونَ مَعَهُ واحدًا، وَهٰذِهِ الإِرَادَةُ الإِلٰهِيَّةُ لا تَضْعُفُ أَمَامَ الصَّلِيبِ، بَل تَتَقَوَّى فِيهِ وَتَبْلُغُ كَمَالَهَا فِي الْبَذْلِ وَالْفِدَاءِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَنْ يَكُونُوا مَعِي حَيْثُ أَكُونُ"، فَتَشِيرُ إِلَى يَسُوعَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُشَارِكَهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي طَاعَتِهِ وَآلَامِهِ (يُوحَنَّا 13: 36)، كَمَا يُشَارِكُونَهُ فِي ارْتِفَاعِهِ فِي مَجْدِ السَّمَاءِ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْدُمَنِي، فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا، يَكُونُ خَادِمِي. وَمَنْ خَدَمَنِي، أَكْرَمَهُ أَبِي." (يُوحَنَّا 12: 26). لَمْ يَقُلْ يَسُوعُ: "أُرِيدُ أَنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُونَ حَيْثُ أَكُونُ أَنَا"، بَلْ أَضَافَ: "يَكُونُوا مَعِي"، فَإِنَّ الوُجُودَ مَعَهُ هُوَ أَعْظَمُ بَرَكَةٍ. إِنَّ أُمْنِيَةَ التِّلْمِيذِ أَنْ يَكُونَ مَعَ يَسُوعَ، وَيَسُوعُ يَطْلُبُ هذِهِ النِّعْمَةَ لِجَمِيعِ أَحِبَّائِهِ، فَيَكُونُوا مَعَهُ، وَهُوَ مَعَهُمْ، وَيُقَاسِمُوهُ. هذَا هُوَ مَجْدُ الْوَحْدَةِ، وَإِكْلِيلُهَا الْفَاخِرُ (يُوحَنَّا 12: 26). فَمَنْ يَتْبَعِ الْمَسِيحَ فِي الصَّلِيبِ، سَيَتْبَعْهُ فِي الْمَجْدِ، كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الرُّؤْيَا: "الغَالِبُ سَأَهَبُ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي عَلَى عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا فَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَرْشِهِ" (رؤيا 3: 21). وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ يُوحَنَّا البَشِيرُ:"فَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا مِنْ لَدُنِ الآبِ لِابْنٍ وَحِيدٍ، مِلْؤُهُ النِّعْمَةُ وَالحَقُّ" (يُوحَنَّا 1: 14). أَمَّا عِبَارَةُ "فَيُعَايِنُوا مَا وَهَبْتَ لِي مِنَ الْمَجْدِ"، فَتَشِيرُ إِلَى الِاشْتِرَاكِ فِي مَجْدِ الْمَسِيحِ وَالتَّمَتُّعِ بِهِ. وَالْمَجْدُ الَّذِي نَالَهُ الْمَسِيحُ بِالْجَسَدِ هُوَ مَجْدُ الكَلِمَةِ الْمُتَجَسِّدِ (فِيلِبِّي 2: 8–11)، وَهُوَ نَفْسُ مَجْدِ لَاهُوتِهِ، الَّذِي كَانَ لَهُ مُنْذُ الأَزَلِ، وَهُوَ نَفْسُ مَجْدِ الآبِ، الَّذِي اكْتَسَبَهُ بِطَاعَتِهِ لِلآبِ (عِبْرَانِيِّينَ 2: 9)، كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "كَيْمَا تَجْثُوَ لاِسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ، وَيَشْهَدَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ الرَّبُّ، تَمْجِيدًا لِلَّهِ الآبِ" (فِيلِبِّي 2: 10–11). فَنَحْنُ، حِينَ نَنْظُرُ مَجْدَهُ، يَنْعَكِسُ مَجْدُهُ عَلَيْنَا، فَنَتَمَجَّدُ، وَيَكْمُلُ فَرَحُنَا. وَمِنْ هذَا الْمُنْطَلَقِ، نَسْتَنْتِجُ أَنَّ مَجْدَ الآبِ وَالِابْنِ هُوَ وَاحِدٌ. فَطَلَبَ يَسُوعُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يُشَاهِدُوا مَجْدَهُ، كَمَا أَكَّدَ بُولُسُ: "نَحْنُ جَمِيعًا نَعْكِسُ صُورَةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجُوهٍ مَكْشُوفَةٍ كَمَا فِي مِرْآةٍ، فَنَتَحَوَّلُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، وَنَزْدَادُ مَجْدًا عَلَى مَجْدٍ" (2قورنتس 3: 18). وَيَكْمُنُ مَجْدُ الِابْنِ فِي الْمَحَبَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الآبِ وَالِابْنِ. وَهذَا هُوَ أَسَاسُ كُلِّ وُجُودٍ بَشَرِيٍّ وَغَايَتُهُ. يَبْدَأُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْمَسِيحِ أَنْ يَعِيشُوا هذِهِ النِّعْمَةَ بِالْإِيمَانِ عَلَى الأَرْضِ، وَتَكْتَمِلُ فِي السَّمَاءِ بِمُعَايَنَةِ مَجْدِ يَسُوعَ وَجْهًا لِوَجْهٍ. هذِهِ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي يَسِيرُ نَحْوَهَا الْمَسِيحِيُّ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، مُسْتَنِدًا إِلَى صَلَاتِهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "فَنَحْنُ الْيَوْمَ نَرَى فِي مِرْآةٍ رُؤْيَةً مُلْتَبِسَةً، وَأَمَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَتَكُونُ رُؤْيَتُنَا وَجْهًا لِوَجْهٍ" (1 قورنتس 13: 12). وَهَكَذَا تَمَّ التَّعْبِيرُ عَنْ هذَا المَجْدِ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا الرَّسُولِ: "يَجْلِسَ مَعِي عَلَى عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا فَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَرْشِهِ" (رُؤْيَا 3: 21). أَمَّا عِبَارَةُ "أَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ" فَتَشِيرُ إِلَى المَحَبَّةِ الَّتِي كَانَ الِابْنُ يَتَمَتَّعُ بِهَا فِي وُجُودِهِ مُنْذُ البَدْءِ لَدَى الآبِ، أَي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ. وَهذَا الأَمْرُ يُعِيدُنَا إِلَى الأَزَلِ، أَي قَبْلَ الخَلْقِ، لَمَّا كَانَ الِابْنُ فِي حِضْنِ الآبِ. وَلَقَدِ امْتَدَّ حُبُّ اللهِ الآبِ لابْنِهِ لِيَشْمَلَ كُلَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَقَبِلُوهُ (يُوحَنَّا 3: 16).
25 يا أَبتِ البارّ إِنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ أَمَّا أَنا فقَد عَرَفتُكَ وعَرَفَ هؤلاءِ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "يَا أَبَتِ البَارُّ" (πάτερ δίκαιε) إِلَى اللهِ الآبِ العَادِلِ (1 يُوحَنَّا 1: 9)، دَلَالَةً عَلَى بَرِّ اللهِ وَعَدْلِهِ، وَأَنَّهُ سَيُعْطِي أَكَالِيلَ البِرِّ لِمَنْ آمَنُوا بِهِ، وَيُمَتِّعُهُمْ بِالمَجْدِ. لَقَدْ وَصَفَ يَسُوعُ اللهَ الآبَ إِلَهَ البِرِّ، لِأَنَّهُ يَهَبُ تَلَامِيذَهُ أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ، وَيَنْظُرُوا مَجْدَهُ. وَهذِهِ العِبَارَةُ هِيَ فَرِيدَةٌ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ (يُوحَنَّا 17: 11). وَيَدُلُّ هذَا الاِبْتِهَالُ عَلَى عَدَالَةِ اللهِ فِي دَيْنُونَتِهِ، بِسَبَبِ اسْتِقَامَةِ حُكْمِهِ وَنَزَاهَتِهِ (مَزْمُور 119: 137)، وَتُشِيرُ هذِهِ العِبَارَةُ أَيْضًا إِلَى أَمَانَتِهِ وَرَحْمَتِهِ (مَزْمُور 7: 18)، حَيْثُ أَنَّ بَرَّ اللهِ هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ صَلَاحٍ وَمَجْدٍ لَنَا؛ فَهذِهِ النِّعْمَةُ وَعَدَ بِهَا الآبُ البَارُّ، وَقَدَّمَ الِابْنُ المَصْلُوبُ ثَمَنًا لَهَا، مُؤَهِّلًا إِيَّانَا لِقُبُولِهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "إِنَّ العَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَرَفْتُكَ"، فَتُشِيرُ إِلَى العَالَمِ الَّذِي لَمْ يَعْرِفِ اللهَ مُبَاشَرَةً مَعْرِفَةً شَخْصِيَّةً كَمَا يَعْرِفُ الآبَ الِابْنُ، لِأَنَّ اللهَ بَارٌّ. إِنَّ يَسُوعَ يُخَاطِبُ الآبَ، كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ مَنْ بِتَمْجِيدِهِ سَيُظْهِرُ ظُلْمَ حُكَّامِ العَالَمِ ضِدَّ ابْنِهِ، مُعْلِنًا عَدَالَتَهُ، كَمَا أَعْلَنَ يَسُوعُ: "وَهُوَ، مَتَى جَاءَ، أَخْزَى العَالَمَ عَلَى الخَطِيئَةِ وَالبِرِّ وَالدَّيْنُونَةِ: أَمَّا عَلَى الخَطِيئَةِ فَلأَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى البِرِّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ، فَلَنْ تَرَوْنِي. وَأَمَّا عَلَى الدَّيْنُونَةِ فَلأَنَّ سَيِّدَ هذَا العَالَمِ قَدْ دِينَ" (يُوحَنَّا 16: 8–11). إِنَّ العَالَمَ يَسْتَحِقُّ الدَّيْنُونَةَ، إِذْ يُرَدُّ لَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ، وَمَعْرِفَةُ اللهِ هِيَ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. رَفَضَ العَالَمُ يَسُوعَ نَتِيجَةَ خَطَايَاهُمْ، فَانْفَصَلُوا عَنْهُ، فَحُرِمُوا مِنْ مَجْدِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "عَرَفْتُكَ" فَتُشِيرُ إِلَى مَعْرِفَةِ المَسِيحِ لِآبِيهِ مَعْرِفَةً كَامِلَةً، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "كَمَا أَنَّ أَبِي يَعْرِفُنِي، وَأَنَا أَعْرِفُ أَبِي" (يُوحَنَّا 10: 16). وَهُوَ قَادِرٌ أَنْ يُعْلِنَ الآبَ لِلنَّاسِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ يُوحَنَّا الرَّسُولِ: "إِنَّ اللهَ مَا رَآهُ أَحَدٌ قَطّ، الِابْنُ الوَحِيدُ الَّذِي فِي حِضْنِ الآبِ، هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ" (يُوحَنَّا 1: 18). وَالمَعْرِفَةُ فِي ضَوْءِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ هِيَ اتِّحَادُ الآبِ وَالِابْنِ. وَلَا أَحَدَ يَعْرِفُ الآبَ إِلَّا الِابْنُ. المَسِيحُ يَعْرِفُ الآبَ وَيَثْبُتُ فِيهِ وَفِي مَحَبَّتِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "عَرَفَ هؤُلَاءِ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي"، فَتُشِيرُ إِلَى هؤُلَاءِ الَّذِينَ قَبِلُوا تَعَالِيمَ يَسُوعَ بِالإِيمَانِ، قَبِلُوا الحَقَّ المُعْلَنَ فِي المَسِيحِ، فَاسْتَمْتَعُوا بِمَجْدِهِ، وَاتَّحَدُوا بِهِ، فَكَانَتْ لَهُمْ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ (يُوحَنَّا 17: 3). لَا يَعْرِفُ الإِنْسَانُ اللهَ بِالعَقْلِ، بَلْ بِالقَلْبِ، لِأَنَّ المَعْرِفَةَ هُنَا تَعْنِي الرُّؤْيَةَ وَالتَّجْرِبَةَ مِنْ خِلَالِ الرُّوحِ القُدُسِ، الَّذِي بِهِ نَخْتَبِرُ حُبَّ اللهِ بِشَكْلٍ مَلْمُوسٍ: "إِنَّكُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ تَعْرِفُونَ أَنِّي فِي أَبِي، وَأَنَّكُمْ فِيَّ، وَأَنِّي فِيكُمْ" (يُوحَنَّا 14: 16).
26 عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم
تَشِيرُ عِبَارَةُ "عَرَّفْتُهُمْ بِاسْمِكَ" إِلَى رِسَالَةِ يَسُوعَ هُنَا عَلَى الأَرْضِ، وَهِيَ إِظْهَارُ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْبَشَرِ؛ فَاللهُ مَحَبَّةٌ، وَالْمَسِيحُ أَعْلَنَهَا عَلَى الصَّلِيبِ فِي أَعْمَقِ مَعَانِيهَا. وَمَنْ أَدْرَكَ مَحَبَّةَ الآبِ وَعَرَفَهُ، رَفَضَ مَحَبَّةَ العَالَمِ الزَّائِفِ الفَانِي. أَمَّا عِبَارَةُ "بِاسْمِكَ" فَتَشِيرُ إِلَى اسْمِ اللهِ كَنَايَةً عَنْ صِفَاتِهِ، وَأَخَصِّ أَسْمَائِهِ، وَهُوَ "المَحَبَّةُ". وَكُلُّ تَعْلِيمِ المَسِيحِ وَعَمَلِهِ هُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ إِعْلَانِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الحُسْنَى. وَأَمَّا عِبَارَةُ "سَأُعَرِّفُهُمْ بِهِ" فَتَشِيرُ إِلَى التَّعْرِيفِ بِاسْمِ اللهِ الآبِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ بَدَأَهُ الاِبْنُ بِتَجَسُّدِهِ وَصَلِيبِهِ، وَسَيَمْتَدُّ لِلأَبَدِيَّةِ؛ فَاللهُ لاَ يُدْرَكُ كَمَالُهُ، وَلِذَلِكَ أَرْسَلَ المَسِيحُ الرُّوحَ القُدُسَ لِيُرْشِدَ إِلَى جَمِيعِ الحَقِّ (يوحنا 16: 13)، وَلِيُعْلِنَ مَحَبَّةَ اللهِ الفَائِقَةَ المَعْرِفَةِ. وَلَمْ يَزَلِ المَسِيحُ يُعَرِّفُ النَّاسَ بِاسْمِ أَبِيهِ، بِوَاسِطَةِ إِنْجِيلِهِ وَمُبَشِّرِيهِ، وَرُوحِهِ القُدُّوسِ العَامِلِ فِيهِمْ وَبِهِمْ. وَفِي الوَاقِعِ، تُتَابِعُ جَمَاعَةُ الرُّسُلِ وَالكَنِيسَةُ مَهَمَّةَ إِظْهَارِ مَعْرِفَةِ الآبِ السَّمَاوِيِّ لِلْبَشَرِ، وَهِيَ مَعْرِفَةٌ دَائِمَةُ النُّمُوِّ. هَذِهِ المَعْرِفَةُ بِأَسْرَارِ اللهِ يُقَدِّمُهَا الاِبْنُ، العَارِفُ وَحْدَهُ بِكَمَالِ الأَسْرَارِ الإِلَهِيَّةِ، إِذْ هُوَ وَاحِدٌ مَعَ أَبِيهِ، كَمَا جَاءَ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحَدٌ قَطّ، الاِبْنُ الوَحِيدُ الَّذِي فِي حِضْنِ الآبِ، هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ" (يوحنا 1: 18). فَإِنَّ عَمَلَ يَسُوعَ لَمْ يَنْتَهِ بَعْدُ؛ فَهُنَاكَ المَوْتُ وَالقِيَامَةُ، وَفِيهِمَا يَكْتَشِفُ التَّلاَمِيذُ اسْمَ اللهِ وَعَمَلَهُ، وَهُنَاكَ زَمَنُ الكَنِيسَةِ الَّذِي يَبْدَأُ بِالصُّعُودِ وَيَمْتَدُّ حَتَّى نِهَايَةِ العَالَمِ. كَمَا يُصَرِّحُ يَسُوعُ: "لَقَدْ عَرَّفْتُهُمْ اسْمَكَ بِالإِيمَانِ، وَسَأَجْعَلُهُ مَعْرُوفًا بِالعِيَانِ" (يوحنا 17: 26). أَمَّا عِبَارَةُ "لِتَكُونَ فِيهِمِ المَحَبَّةُ الَّتِي أَحْبَبْتَنِي إِيَّاهَا، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِم"، فَتَشِيرُ إِلَى هَدَفِ مَعْرِفَةِ اللهِ (يوحنا 15: 9)، أَلَا وَهُوَ إِدْخَالُهُمْ فِي الحَيَاةِ؛ فَالأَبُ لاَ يُظْهِرُ ذَاتَهُ إِلَّا فِي العَطَاءِ، وَأُمْنِيَةُ يَسُوعَ هِيَ اتِّحَادُ البَشَرِ بِحُبِّهِ. وَهَذَا الاِتِّحَادُ لاَ يُثْمِرُ إِلَّا بِحُضُورِ الاِبْنِ فِيهِم؛ إِنَّهُ "مِلْءُ النِّعْمَةِ وَالحَقِّ" (يوحنا 1: 14–16). كُلَّمَا زَادَتْ مَعْرِفَتُنَا لِلرَّبِّ، نَزْدَادُ ثَبَاتًا فِيهِ، وَنَزْدَادُ امْتِلَاءً مِنْ ثِمَارِ الرُّوحِ، فَنَمْتَلِئُ حُبًّا لَهُ وَلِلنَّاسِ. وَيَشْتَمِلُ هَذَا الحُبُّ عَلَى كُلِّ بَرَكَةٍ. وَيَصِفُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَبْعَادَ هَذِهِ البَرَكَةِ بِقَوْلِهِ: "أَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَكُمْ، عَلَى مِقْدَارِ سَعَةِ مَجْدِهِ، أَنْ تَشْتَدُّوا بِرُوحِهِ، لِيَقْوَى فِيكُمُ الإِنْسَانُ البَاطِن، وَأَنْ يُقِيمَ المَسِيحُ فِي قُلُوبِكُمْ بِالإِيمَانِ، حَتَّى إِذَا مَا تَأَصَّلْتُمْ فِي المَحَبَّةِ وَأُسِّسْتُمْ عَلَيْهَا، أَمْكَنَكُمْ أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ القِدِّيسِينَ مَا هُوَ العَرْضُ وَالطُّولُ وَالعُلُوُّ وَالعُمْق، وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ المَسِيحِ الَّتِي تَفُوقُ كُلَّ مَعْرِفَة، فَتَمْتَلِئُوا بِكُلِّ مَا فِي اللهِ مِنْ كَمَال" (أفسس 3: 16–19). وَأَمَّا عِبَارَةُ "وَأَكُونَ أَنَا فِيهِم"، فَتُشِيرُ إِلَى يَسُوعَ المَسِيحِ الَّذِي هُوَ "القِيَامَةُ وَالحَيَاةُ" (يوحنا 11: 25). فَحِينَمَا يَكُونُ فِينَا، تَكُونُ لَنَا حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. وَصَحِيحٌ أَنَّ المَسِيحَ سَيُفَارِقُ تَلاَمِيذَهُ بِالجَسَدِ، بِنَاسُوتِهِ، وَلَكِنَّهُ سَيَظَلُّ فِيهِمْ بِالرُّوحِ، بِلَاهُوتِهِ، لِلأَبَدِ. وَالهَدَفُ النِّهَائِيُّ هُوَ أَنْ يَسْكُنَ المَسِيحُ فِينَا وَيَتَّحِدَ بِنَا؛ فَهَذَا هُوَ المَجْدُ الَّذِي أَرَادَهُ لِلْبَشَرِ، وَالحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ لَهُمْ فِي المَجْدِ. يَدْخُلُ المَسِيحُ قُلُوبَنَا بِالإِيمَانِ، وَيَمْكُثُ فِينَا بِالإِيمَانِ، وَهُوَ "فِينَا رَجَاءُ المَجْدِ" (كولسي 1: 27)، وَغَايَةُ القَدَاسَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَبِهَذِهِ الآيَةِ يَخْتَتِمُ يَسُوعُ صَلَاتَهُ الكَهَنُوتِيَّةَ الوِدَاعِيَّةَ.
ثانياً: تَطْبيقاتُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (يُوحَنَّا 17: 23–26)
بَعْدَ دِراسَةِ وَقائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (يُوحَنَّا 17: 23–26)، يُمْكِنُنا أَنْ نَسْتَنْتِجَ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ صَلاةِ يَسُوعَ مِنْ أَجْلِ وَحْدَةِ كَنِيسَتِهِ، وَأَهْدافِ هذِهِ الْوَحْدَةِ، وَمُعايَنَةِ مَجْدِهِ الإِلَهِيِّ.
1) وَحْدَةُ الْمَسِيحِيِّينَ
أ) صلاة يسوع للوحدة
يَمْتَدُّ طَلَبُ يَسُوعَ فِي صَلاتِهِ الْكَهَنُوتِيَّةِ مِنَ الصَّلاةِ لِأَجْلِ ذَاتِهِ، إِلَى الصَّلاةِ مِنْ أَجْلِ تَلامِيذِهِ، وَأَخِيرًا إِلَى الصَّلاةِ مِنْ أَجْلِ الْكَنِيسَةِ الْجامِعَةِ: "لا أَدْعو لَهُمْ وَحْدَهُمْ، بَلْ أَدْعو أَيْضًا لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي عَنْ كَلامِهِمْ" (يُوحنا 17: 20). يُصَلِّي يَسُوعُ إِذًا مِنْ أَجْلِ جَمِيعِ الَّذِينَ سَيُؤْمِنُونَ بِهِ عَبْرَ شَهادَةِ الرُّسُلِ وَتَلامِيذِهِمْ، بِمَنْ فِيهِمْ نَحْنُ الْيَوْمَ، طالِبًا لَهُمُ الْوَحْدَةَ وَمُعايَنَةَ مَجْدِهِ. إِنَّ أَعْظَمَ رَغْبَةٍ يَطْلُبُها يَسُوعُ لِكَنِيسَتِهِ هِيَ أَنْ تَكُونَ واحِدَةً. غَيْرَ أَنَّ هذِهِ الْوَحْدَةَ هِيَ عَطِيَّةٌ سَماوِيَّةٌ تَنْزِلُ مِنَ الآبِ، كَما وَرَدَ فِي تَعْلِيمِ يَعْقُوبَ الرَّسُولِ: "كُلُّ عَطِيَّةٍ صالِحَةٍ، وَكُلُّ هِبَةٍ كامِلَةٍ تَنْزِلُ مِنْ عَلُ، مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوارِ"(يَعقوب 1: 17). لِذا يَجِبُ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُ بِالصَّلاةِ. فَمِنْ عِنْدِ الآبِ السَّماوِيِّ يَطْلُبُ يَسُوعُ أَنْ يَكُونَ أَتْباعُهُ مُتَّحِدِينَ كَشَهادَةٍ حَيَّةٍ عَلى مَحَبَّةِ اللهِ. وَبِالْعَمَلِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ، يَصِيرُ الْمُؤْمِنُونَ واحِدًا (رَاجِعْ أَفَسُس 3: 14–20).
وَقَدْ كانَتْ هذِهِ الْوَحْدَةُ مِنْ أَوْلَوِيَّاتِ يَسُوعَ، كَما جاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَر: "وَلِي خِرافٌ أُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، فَتِلْكَ أَيْضًا لا بُدَّ لِي أَنْ أَقُودَها، وَسَتُصْغِي إِلى صَوْتِي، فَيَكُونُ هُناكَ رَعِيَّةٌ واحِدَةٌ وَراعٍ واحِدٌ" (يُوحنا 10: 16). وَيُضَحِّي يَسُوعُ بِحَياتِهِ مِنْ أَجْلِ هذِهِ الْوَحْدَةِ، كَما أَعْلَنَ قَيافا رَئِيسُ الْكَهَنَةِ: " إِنَّ يَسُوعَ سَيَمُوتُ عَنِ الأُمَّةِ، وَلا عَنِ الأُمَّةِ فَقَط، بَلْ لِيَجْمَعَ أَيْضًا شَمْلَ أَبْناءِ اللهِ الْمُشَتَّتِينَ" (يُوحنا 11: 51–52). وَصارَ الْمَسِيحُ رَأْسًا لِلْكَنِيسَةِ، كَما يُؤَكِّدُ بُولُسُ: "لِيَجْمَعَ تَحْتَ رَأْسٍ واحِدٍ، هُوَ الْمَسِيحُ، كُلَّ شَيْءٍ، ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ" (أَفسس 1: 10).
ب) وَحْدَةٌ فِي الْجَسَدِ وَالرُّوحِ
يَصِفُ الْقِدِّيسُ بُولُسُ وَحْدَةَ الْكَنِيسَةِ بِأَنَّهَا جَسَدُ الْمَسِيحِ: "وَكَمَا أَنَّ الْجَسَدَ واحِدٌ وَلَهُ أَعْضاءٌ كَثِيرَةٌ... كَذلِكَ الْمَسِيحُ" (1 قورنتس 12: 12–13)، "فَأَنْتُمْ جَسَدُ الْمَسِيحِ، وَكُلُّ واحِدٍ مِنْكُمْ عُضْوٌ مِنْهُ" (1 قورنتس 12: 27). فَالْوَحْدَةُ فِي الْكَنِيسَةِ لا تَعْنِي بِالضَّرُورَةِ تَماثُلَ أَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ أَوِ اتِّحادًا مُؤَسَّساتِيًّا، بَلْ هِيَ اعْتِرَافٌ مُتَبادَلٌ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ بِأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ فِي الْمَسِيحِ، مَهْمَا اخْتَلَفَتْ طُقُوسُهُمْ أَوْ تَسْمِيَاتُهُمْ. إِنَّهَا وَحْدَةٌ سامِيَةٌ تَتَخَطَّى الشَّكْلِيَّاتِ، وَتَتَرَسَّخُ فِي رُوحِ الْمَحَبَّةِ وَرِباطِ التَّضَامُنِ. وَيُعَلِّمُنا بُولُسُ: "مُجْتَهِدِينَ فِي الْمُحافَظَةِ عَلى وَحْدَةِ الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلامِ... رَبٌّ واحِدٌ، إِيمانٌ واحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ واحِدَةٌ، وَإِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ" (أَفسس 4: 3–6).
فَإِنْ فَهِمْنا أَنَّ الْمَسِيحَ وَحَّدَنا فِي جَسَدِهِ، وَجَعَلَنا جَسَدًا واحِدًا، نُدْرِكْ أَنَّ هذِهِ هِيَ وَحْدَةُ الْكِيَانِ. وَالطَّرِيقُ إِلَى هذِهِ الْوَحْدَةِ هُوَ الثَّبَاتُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ بِهِ يَمْلَأُنا الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي يَسْكُبُ مَحَبَّةَ اللهِ فِي قُلُوبِنا. فَالْوَحْدَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ فَقَطْ أَنْ نَكُونَ واحِدًا، بَلْ أَنْ نَكُونَ واحِدًا فِي الْمَسِيحِ وَفِي الآبِ. هُناكَ مَنْ يَتَّحِدُونَ فِي الشَّرِّ، أَمَّا مَنْ يَتَّحِدُونَ بِالْمَسِيحِ، فَيُحِبُّونَ إِخْوَتَهُمْ وَأَعْداءَهُمْ أَيْضًا، وَيَعِيشُونَ الشَّرِيكَةَ مَعَ الآبِ وَالابْنِ فِي جَماعَةٍ واحِدَةٍ.
ج) عَوَائِقُ الْوَحْدَةِ
لِلأَسَفِ، فَإِنَّ رَجَاءَ الْوَحْدَةِ الْمَسِيحِيَّةِ قَدْ تَعَثَّرَ فِي أَيَّامِنَا، وَأُصِيبَ بِصَدْمَةٍ كُبْرَى، لِأَنَّ كُلَّ طَرَفٍ أَحَبَّ عَقِيدَتَهُ وَتَقالِيدَهُ وَمَفْهُومَهُ الْخَاصَّ لِكَلِمَةِ الرَّبِّ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِأَخِيهِ. لَوْ أَحْبَبْنَا بَعْضُنَا بَعْضًا كَما نُحِبُّ يَسُوعَ، لَما أَغْلَقْنَا الأَبْوابَ فِي وَجْهِ إِخْوَتِنا، وَلَما حَرَمْناهُمْ مِنَ الْجُلُوسِ مَعَنا إِلى مَائِدَةِ الآبِ. وَلَكِنَّ الطَّائِفِيَّةَ تُقِيمُ حَواجِزَ، وَتُظْهِرُ أَمَامَ الْعالَمِ واجِهَةً مُنْقَسِمَةً مُتَنافِرَةً، تُسِيءُ إِلى صُورَةِ الْمَسِيحِ وَالْمَسِيحِيَّةِ. لا أَصْعَبَ مِنْ أَنْ يَعِيشَ الإِنْسانُ تَحْتَ سَقْفٍ واحِدٍ مَعَ مَنْ لا يُحِبُّهُ وَلا يُكَلِّمُهُ، تَمامًا كَما هُوَ الْحالُ فِي كَنِيسَةٍ واحِدَةٍ مُنْقَسِمَةٍ. وَلَكِنَّ وَحْدَةَ يَسُوعَ تُحَطِّمُ هذِهِ الْحَواجِزَ. إِنَّهَا وَحْدَةُ شَرِيكَةٍ، وَعَلامَةٍ، وَشَهادَةٍ لِلْعالَمِ، بِأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ، وَبِأَنَّ الْمَسِيحَ حَيٌّ فِي كَنِيسَتِهِ الْواحِدَةِ.
ه) وَحْدَةُ الْمَسِيحِيِّينَ شرَاكَة
صَلَّى يَسُوعُ لِوَحْدَةِ الْمَسِيحِيِّينَ، لِتَكُونَ وَحْدَتُهُمْ شَرِيكَةً فِي وَحْدَةِ الآبِ وَالابْنِ: "فَلْيَكُونُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ، يَا أَبَتِ، فِيَّ، وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا فِينَا" (يُوحَنَّا 17: 21). صَلَّى يَسُوعُ مِنْ أَجْلِ وَحْدَةِ الْمَسِيحِيِّينَ، لِكَيْ تَكُونَ عَلَى مِثَالِ وَحْدَةِ الآبِ وَالابْنِ. صَلَّى مِنْ أَجْلِ الْوَحْدَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، الْمَبْنِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ يَسُوعَ وَالآبِ. وَيُعَلِّقُ سِمْعَانُ اللاَّهُوتِيُّ: "ما هو في طَبيعَةِ الابْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلى آبِيهِ السَّمَاوِيِّ، يُعْطِينَا أَنْ نَكُونَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ خِلَالِ التَّبَنِّي وَالنِّعْمَةِ" (الأَخْلاق، 1: 6–8). إِنَّ الأُلُوهِيَّةَ الَّتِي نَتَشَارَكُ فِيهَا لا يُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا إِلَى أَجْزَاءٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَيَتَبَعُ مِنْ ذلِكَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّنَا، نَحْنُ أَيْضًا، عِنْدَمَا نُشَارِكُ فِيهَا بِشَكْلٍ حَقِيقِيٍّ، نُصْبِحُ غَيْرَ مُنْفَصِلِينَ عَنِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ، وَنُشَكِّلُ جَسَدًا وَاحِدًا مَعَ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
عِنْدَ اعْتِرَافِ الْمُؤْمِنِ بِاللهِ الْوَاحِدِ: الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ، يَنْفَتِحُ لِمَحَبَّةِ الآبِ وَالابْنِ، وَالَّتِي يُشْرِكُهُ فِيهَا الرُّوحُ: "أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدْ أُفِيضَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي وُهِبَ لَنَا" (رُومَا 5: 5). وَيُمْكِنُ لِلْمَسِيحِيِّينَ أَنْ يَعْرِفُوا الْوَحْدَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَحْيَوْنَ فِي اتِّحَادٍ مَعَ اللهِ. فَكَمَا يُقُولُ فِي مَثَلِ الْكَرْمَةِ وَالأَغْصَانِ، كُلُّ غُصْنٍ يَحْيَا مَعَ الْكَرْمَةِ، يَتَّحِدُ مَعَ بَقِيَّةِ الأَغْصَانِ الأُخْرَى جَمِيعِهَا: "أَنَا الْكَرْمَةُ، وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. مَنْ ثَبَتَ فِيَّ وَثَبَتُّ فِيهِ، فَهُوَ الَّذِي يُثْمِرُ ثَمَرًا كَثِيرًا" (يُوحَنَّا 15: 5). وَهكَذَا تُصْبِحُ الْكَنِيسَةُ شَرَاكَةً: شَرَاكَةَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَدُهُمْ مَعَ الآخَرِ، وَشَرَاكَةً بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَاللهِ. وَفِي هذِهِ الشَّرَاكَةِ الْمُزْدَوَجَةِ، يَبْلُغُ الإِنْسَانُ مِلْءَ قَامَةِ الْمَسِيحِ. هذَا مَا أَنْهَى بِهِ يَسُوعُ صَلاتَهُ، الَّتِي سَيُتَابِعُهَا مِنْ أَجْلِ شَعْبِهِ، لِكَيْ يُتَابِعُوا نُمُوَّهُمْ فِي التَّعَرُّفِ إِلَى اللهِ: "لِتَكُونَ فِيهِمِ الْمَحَبَّةُ" (يُوحَنَّا 17: 26)، وَيَكُونَ اللهُ فِيهِمْ. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى، مِنْ خِلَالِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْحَيَاةِ الإِلَهِيَّةِ: "فَلْيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا فِينَا" (يُوحَنَّا 17: 21)، تَتَّسِعُ الْوَحْدَةُ بَيْنَ الآبِ وَيَسُوعَ، وَيَتِمُّ تَقَاسُمُهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِصُورَةٍ مَرْئِيَّةٍ وَمَفْهُومَةٍ لِلْعَالَمِ، مِنْ خِلَالِ مَحَبَّتِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَمِنْ خِلَالِ الشَّرَاكَةِ الْكَامِلَةِ وَالْمَنْظُورَةِ فِي كَنِيسَةِ الْمَسِيحِ.
و) وَحْدَةُ الْمَسِيحِيِّينَ عَلامَةٌ
صَلَّى يَسُوعُ لِوَحْدَةِ الْمَسِيحِيِّينَ، لِتَكُونَ عَلامَةً لِلْعالَمِ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَسُوعَ قَدْ أَتَى مِنْ عِنْدِ اللهِ فِعْلًا. إِنَّ وَحْدَةَ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ الْعَلامَةُ الأُولَى لِلبِشَارَةِ: "لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ بِأَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي" (يُوحَنَّا 17: 21). فَالوَحْدَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ عَلامَةٌ وَرَمْزٌ لِلوَحْدَةِ بَيْنَ يَسُوعَ وَالآبِ. وَيُرَكِّزُ إِنْجِيلُ يُوحَنَّا كَثِيرًا عَلَى هذِهِ الْعَلاقَةِ بَيْنَ الآبِ وَيَسُوعَ (رَاجِعْ يُوحَنَّا 19: 5؛ 6: 28؛ 10: 25).
وَإِذَا كَانَتْ وَحْدَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَسْأَلَةٍ تَنْظِيمِيَّةٍ، بَلْ هِيَ ثَمَرَةُ الْعَمَلِ الإِلَهِيِّ، فَلَابُدَّ أَنْ تَكُونَ مَرْئِيَّةً تَارِيخِيًّا، لأَنَّ الْعَالَمَ يَحْتَاجُ أَنْ يَرَى وَحْدَتَنَا. كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ يَسُوعَ: "إِذَا أَحَبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، عَرَفَ النَّاسُ جَمِيعًا أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي" (يُوحَنَّا 13: 35). إِنَّ وَحْدَةَ الْمَسِيحِيِّينَ الرُّوحِيَّةَ تُقْنِعُ الْعَالَمَ بِصِحَّةِ إِرْسَالِيَّتِهِمْ. وَبِمَا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ مَصْدَرُ الْوَحْدَةِ، فَإِنَّهَا تَشْهَدُ أَمَامَ الْعَالَمِ بِحَقِيقَةِ رِسَالَتِهِ؛ وَمِنْ هذَا الْمُنْطَلَقِ، فَإِنَّ الْعَلامَةَ الْوَحِيدَةَ الَّتِي تَرَكَهَا يَسُوعُ لإِخْوَتِهِ، لَيْسَتْ تَنْظِيمًا كَنَسِيًّا، وَلَا جَمَالًا لِلْمَرَاسِيمِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا تَمَاسُكًا لِعَقَائِدِنَا، بَلِ: الْوَحْدَةُ فِي الْمَحَبَّةِ الْمُعَاشَةِ فِي عَلَاقَاتِنَا الْأُخُوِيَّةِ الْيَوْمِيَّةِ.
يَرَى النَّاسُ حُضُورَ الْمَسِيحِ فِي وَسَطِهِمْ مِنْ خِلَالِ الْمَحَبَّةِ الْمُتَبَادَلَةِ: "إِذَا أَحَبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، عَرَفَ النَّاسُ جَمِيعًا أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي" (يُوحَنَّا 13: 35). فَالْوَحْدَةُ فِي الْمَحَبَّةِ نِدَاءٌ كَيْ يُؤْمِنَ الْعَالَمُ. وَدُونَ الْوَحْدَةِ الْمَرْئِيَّةِ، لَا يُولَدُ الْإِيمَانُ، لِأَنَّهُ تَنْقُصُ الْمَحَبَّةُ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْوَحِيدُ كَيْ تُؤْمِنَ الْقُلُوبُ بِالسَّيِّدِ الْمَسِيحِ، وَتُرَحِّبَ بِكَلِمَتِهِ عَلَى أَنَّهَا كَلِمَةُ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ لَهُ. فَعَيْشُنَا كَإِخْوَةٍ هُوَ بُشْرَى عَمَلِيَّةٌ، وَعَمَلٌ نَبَوِيٌّ، وَرَجَاءٌ مِنْ أَجْلِ جَمِيعِ الْبَشَرِ؛ بَلْ هُوَ: أَوَّلُ ارْتِدَادٍ، وَأَوَّلُ عَمَلٍ رَسُولِيٍّ َبْشِيرِيٍّ نَقُومُ بِهِ. فَالتَّبْشِيرُ يَتِمُّ أَوَّلًا عِنْدَمَا تَشِعُّ الْحَيَاةُ الْأُخُوِيَّةُ: "أُنْظُرُوا كَمْ يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا!" فَأَيْنَ جَوَابُنَا، وَجَوَابُ رَعَايَانَا الْمَسِيحِيَّةِ، وَكَنَائِسِنَا، عَلَى هذِهِ الْحَاجَةِ؟
ز) وَحْدَةُ المسيحيِّينَ شَهادَةٌ
صَلَّى يسوعُ لِوَحْدَةِ المسيحيِّينَ، لِتَكونَ شَهادَةً لِمَحبَّةِ الآبِ. وَهٰذا ما يَجْعَلُ الشَّهادَةَ مَوثوقًا بِها. فإِنَّ أَعْظَمَ رَغْبَةٍ يَطْلُبُها يسوعُ لِتَلاميذِهِ هي أَنْ يَكونوا واحِدًا، كَشَهادَةٍ قَوِيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ لِمَحبَّةِ الآبِ لِلْبَشَرِيَّةِ، الَّتِي أَظْهَرَها تَعالى بِبَذْلِ ابْنِهِ الْواحِدِ: "فَإِنَّ اللهَ أَحَبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّهُ جادَ بِابْنِهِ الْوَحِيدِ لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَن يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكونَ لَهُ الْحَياةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنّا 3: 16). وتَتِمُّ هٰذِهِ الْوَحْدَةُ بِاشْتِراكِ التَّلاميذِ بِمَجْدِ يسوعَ الَّذِي وَهَبَهُ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ بِهِ أَبْناءٌ، ويَتَمَتَّعونَ بِالْحُبِّ الْواحِدِ، حُبِّ الآبِ: "أَنا فِيهِم وأَنتَ فِيَّ، لِيَبْلُغوا كَمالَ الْوَحْدَةِ، ويَعْرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَني، وأَنَّكَ أَحْبَبْتَهُمْ كَما أَحْبَبْتَني" (يوحنّا 17: 23). فأَكْبَرُ عَثْرَةٍ تُعَطِّلُ الإيمانَ هي عَدَمُ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
إِنَّ إِعْلانَ مَحبَّةِ الآبِ لِلِابْنِ يُوَحِّدُ الْكُلَّ في كَمالِ الْوَحْدَةِ. وَبِعِبارةٍ أُخْرى، يُريدُ يسوعُ أَنْ يُظْهِرَ سِرَّ اللهِ بِوَاسِطَةِ وَحْدَةِ التَّلاميذِ: "وأَنا وَهَبْتُ لَهُم ما وَهَبْتَ لي مِنَ الْمَجْدِ، لِيَكونوا واحِدينَ كَما نَحْنُ واحِد" (يوحنّا 17: 22). فَهَلْ نَعْمَلُ على اتِّحادِ جَسَدِ المسيحِ، أَيْ الْكَنِيسَةِ، لِنَكونَ شَرِكَةً في وَحْدَةِ الآبِ والابْنِ، وَعَلامَةً لِحُضُورِ المسيحِ بَيْنَنَا، وَشَهادَةً لِمَحَبَّةِ اللهِ لِلْبَشَرِيَّةِ؟
فَكَما كانَتِ الْجَماعَةُ الْمَسيحيَّةُ الأُولى: "الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبًا واحِدًا ونَفْسًا واحِدَة" (أعمال 4: 32)، فَكَذلِكَ عَلَيْنا أَنْ نَكونَ جَسَدًا واحِدًا مُؤلَّفًا مِن أَعْضاءٍ مُخْتَلِفَة. هٰذا ما يَسْتَحِقُّهُ حَقًّا المسيحُ نَفْسُهُ، الَّذِي هو رَأْسُنا الْحَقِيقِيُّ (أفسس 1: 22). ويَحُثُّنا بولُسُ الرَّسولُ قائِلًا: "سِيرَةً مِلْؤُها التَّواضُعُ والوَداعَةُ والصَّبْرِ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُم بَعْضًا في الْمَحَبَّةِ، ومُجْتَهِدِينَ في الْمُحافَظَةِ على وَحْدَةِ الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلام. فَهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كَما أَنَّكُمْ دُعِيتُم دَعْوَةً رَجَاؤُها واحِد. وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ، وإِيمانٌ واحِدٌ، ومَعْمُودِيَّةٌ واحِدَة، وإِلهٌ واحِدٌ، أَبٌ لِجَميعِ الْخَلْقِ، وفَوْقَهُمْ جَميعًا، ويَعْمَلُ بِهِم جَميعًا، وهو فِيهِم جَميعًا" (أفسس 4: 2–6). ومِن هٰذا الْمُنْطَلَقِ، يَحُثُّنا القِدِّيسُ أَغْناطيوس الأَنْطاكيُّ، بَطْرِيَرْكُ أَنْطاكِيَّةَ وَشَهِيدُ الإِيمانِ: "إِنَّهُ لِخَيْرِكُمْ إِذًا أَنْ تُحافِظُوا على وَحْدَةٍ لا تَشُوبُها شائِبَة، بِحَيْثُ تَنْعَمُونَ بِاتِّحادٍ دائِمٍ بِالله" (رسالة إِلى أَهْلِ أَفَسُس). لِذلِكَ، لا يُمْكِنُ اعْتِبارُ الْوَحْدَةِ الْمَسيحيَّةِ خِيَارًا، بَلْ ضَرورَةً واجِبَةً لِلحِفَاظِ على التَّنَوُّعِ والتَّعَدُّدِيَّةِ في الْكَنِيسَةِ الْواحِدَةِ الْجامِعَةِ الرَّسُولِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَها السَّيِّدُ المسيحُ.
2) مُعَايَنَةُ مَجْدِ الْمَسِيحِ
لا يَطْلُبُ يَسُوعُ فِي صَلَاتِهِ الْكَهَنُوتِيَّةِ الْوَحْدَةَ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ فَحَسْب، بَلْ مُعَايَنَةَ مَجْدِهِ أَيْضًا. وَالْمَجْدُ نَاشِئٌ عَنْ حَيَاةِ الْمَسِيحِ فِينَا، وَاتِّحَادِ جَسَدِهِ بِجَسَدِنَا. فَالْمَسِيحُ فِينَا هُوَ رَجَاءُ الْمَجْدِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ: "فَذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَقُودَ إِلَى الْمَجْدِ كَثِيرًا مِنَ الْأَبْنَاءِ، كَانَ يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ مُبْدِئَ خَلَاصِهِمْ مُكَمَّلًا بِالْآلَامِ" (عِبْرَانِيِّينَ 2: 10). وَهذَا الْمَجْدُ هُوَ مَجْدُ حُلُولِ الرُّوحِ الْقُدُسِ فِينَا، الَّذِي يُوَزِّعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَوَاهِبَهُ. وَالْمَجْدُ الَّذِي نَأْخُذُهُ الآنَ هُوَ عَرْبُونُ الْمَجْدِ الَّذِي سَيُعْلَنُ فِينَا: "فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلَامَ الزَّمَنِ الْحَاضِرِ لا تُعَادِلُ الْمَجْدَ الَّذِي سَيَتَجَلَّى فِينَا" (رُومَا 8: 18).
إِنَّ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَاهُ الْمَسِيحُ لَنَا هُوَ سَبَبُ وَحْدَةِ الْكَنِيسَةِ. وَيُعَلِّقُ سِمْعَانُ اللاَّهُوتِيُّ: "إِنَّ الْمَجْدَ الْمُعْطَى إِلَى الابْنِ مِنْ قِبَلِ الآبِ، يُعْطِينَا إِيَّاهُ الابْنُ بِدَوْرِهِ، بِوَاسِطَةِ النِّعْمَةِ الإِلَهِيَّةِ" (الأَخْلاق، 1: 6–8). فَيَسُوعُ يُصَلِّي كَيْ تَنْتَقِلَ الْكَنِيسَةُ الْمُجَاهِدَةُ إِلَى الْكَنِيسَةِ الْمُمَجَّدَةِ، وَيَطْلُبُ هذِهِ الْمُعَايَنَةَ تَكْلِيلًا لِعَمَلِهِ وَصَلَاتِهِ: "يَا أَبَتِ، إِنَّ الَّذِينَ وَهَبْتَهُمْ لِي، أُرِيدُ أَنْ يَكُونُوا مَعِي حَيْثُ أَكُونُ، فَيُعَايِنُوا مَا وَهَبْتَهُ لِي مِنَ الْمَجْدِ، لِأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ" (يُوحَنَّا 17: 24). وَالْمَجْدُ هُنَا هُوَ الْكَشْفُ عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ، الَّتِي تَبْلُغُ ذُرْوَتَهَا فِي الْخِدْمَةِ الْمُتَوَاضِعَةِ، وَالَّتِي تَتَجَلَّى فِي غَسْلِ الأَرْجُلِ، وَفِي الصَّلِيبِ.وَإِنَّ طَرِيقَ الصَّلِيبِ هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى الْمَجْدِ الْحَقِيقِيِّ، فَمَجْدُ الْمَسِيحِ بِجَسَدِهِ يَبْدَأُ بِالصَّلِيبِ، وَهذَا الْمَجْدُ يُنْقَلُ إِلَى الإِنْسَانِ إِذَا قَبِلَ الصَّلِيبَ مَعَ الْمَسِيحِ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتْتُمْ مَعِي فِي مِحَنِي، وَأَنَا أَعْهَدُ إِلَيْكُمْ بِالْمَلَكُوتِ كَمَا عَهِدَ إِلَيَّ أَبِي، لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي" (لُوقَا 22: 28–30).
وَإِنَّ الصَّلِيبَ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ رَمْزًا لِلْمُعَانَاةِ وَالتَّضْحِيَةِ، هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَعْرِفُ فِيهِ الإِنْسَانُ حُبَّ اللهِ الَّذِي لا يُقَاسُ، حَيْثُ إِنَّ الْوَحْدَةَ لا تُبْنَى بِادِّعَاءِ الْعَظَمَةِ، بَلْ بِحُبِّ الآخَرِ أَكْثَرَ مِنْ حُبِّ الذَّاتِ. فَقَطْ مِثْلُ هذَا الْحُبِّ، الَّذِي يَعْرِفُ كَيْفَ يُبْذِلُ ذَاتَهُ، وَيُصَغِّرُ نَفْسَهُ، عَلَى مِثَالِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ: "يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْبُرَ وَلِي أَنْ أَصْغُرَ" (يُوحَنَّا 3: 30)، يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ الْوَحْدَةَ، وَيُصْبِحَ صُورَةً لِمَحَبَّةِ اللهِ، وَلِلْوَحْدَةِ بَيْنَ الآبِ وَيَسُوعَ. وَهُنَا، يَقُولُ يَسُوعُ لِأَبِيهِ: "أُرِيدُ"، وَهِيَ الْمَرَّةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهذِهِ الصِّيغَةِ، كَابْنٍ جَعَلَ الآبُ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ، كَمَا يُؤَكِّدُ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ: "إِنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ، فَجَعَلَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ" (يُوحَنَّا 3: 35). فَأُمْنِيَةُ التِّلْمِيذِ أَنْ يَكُونَ مَعَ يَسُوعَ، وَيَسُوعُ يَطْلُبُ هذِهِ النِّعْمَةَ لِجَمِيعِ تَلامِيذِهِ، لِيَكُونُوا بِقُرْبِهِ، وَيُقَاسِمُوهُ مُعَايَنَةَ الْمَجْدِ.
وَالْمُعَايَنَةُ لَيْسَتْ مُشَاهَدَةَ مَجْدِ الْمَسِيحِ فَحَسْب، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "وَنَحْنُ جَمِيعًا نَعْكِسُ صُورَةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجُوهٍ مَكْشُوفَةٍ كَمَا فِي مِرْآةٍ، فَنَتَحَوَّلُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، وَنَزْدَادُ مَجْدًا عَلَى مَجْدٍ، وَهذَا مِنْ فَضْلِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ رُوحٌ" (2 قُورِنْتُس 3: 18)، بَلْ تَكْمُنُ الْمُعَايَنَةُ أَيْضًا فِي مَعْرِفَةِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ: "عَرَّفْتُهُمْ بِاسْمِكَ، وَسَأُعَرِّفُهُمْ بِهِ، لِتَكُونَ فِيهِمِ الْمَحَبَّةُ الَّتِي أَحْبَبْتَنِي إِيَّاهَا، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ" (يُوحَنَّا 17: 26). وَيَطْلُبُ يَسُوعُ فِي صَلَاتِهِ أَنْ نُشَارِكَهُ فِي مَحَبَّةِ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ لَهُ، الَّتِي هِيَ أَجْوَدُ مَا يَمْلِكُهُ. هذِهِ هِيَ قِمَّةُ الإِنْجِيلِ الْعُظْمَى: فَحُبُّ اللهِ بِذَاتِهِ، هُوَ حُبُّ الثَّالُوثِ الأَقْدَسِ، الَّذِي بِهِ يُحِبُّ الآبُ الابْنَ، هُوَ حُبٌّ يُشَارِكُنَا فِيهِ يَسُوعُ؛ وَهذِهِ النِّعْمَةُ تَبْدَأُ عَلَى الأَرْضِ فِي الإِيمَانِ، وَتَكْتَمِلُ فِي السَّمَاءِ.
فَمُعَايَنَةُ مَجْدِ الْمَسِيحِ هِيَ غَايَةُ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَأَسَاسُ كُلِّ وُجُودٍ بَشَرِيٍّ وَنِهَايَتُهُ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "فَنَحْنُ الْيَوْمَ نَرَى فِي مِرْآةٍ رُؤْيَةً مُلْتَبِسَةً، وَأَمَّا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، فَتَكُونُ رُؤْيَتُنَا وَجْهًا لِوَجْهٍ. الْيَوْمَ أَعْرِفُ مَعْرِفَةً نَاقِصَةً، وَأَمَّا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، فَسَأَعْرِفُ مِثْلَمَا أَنَا مَعْرُوفٌ"(1 قُورِنْتُس 13: 12). وَمِنْ هذَا الْمُنْطَلَقِ، يُحَثُّنَا القِدِّيسُ أَغْنَاطِيُوس الأَنْطَاكِيُّ، بَطْرِيَرْكُ أَنْطَاكِيَةَ وَالشَّهِيدُ: "يَجِبُ أَنْ تُـمَجِّدُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ فِي كُلِّ أَوْجُهِ حَيَاتِكُمْ، هُوَ الَّذِي مَجَّدَكُمْ" (رِسَالَةٌ إِلَى أَهْلِ أَفَسُس).
وَيَخْتَتِمُ يَسُوعُ صَلَاتَهُ بِوَعْدٍ أَنْ يُتَابِعَ رِسَالَتَهُ عَلَى الأَرْضِ، مِنْ خِلَالِ كَشْفِ الآبِ لِلْعَالَمِ: "يَا أَبَتِ الْبَارُّ، إِنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَرَفْتُكَ، وَعَرَفَ هَؤُلَاءِ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي" (يُوحَنَّا 17: 25). وَمِنْ خِلَالِ الرِّسَالَةِ، وَبِإِظْهَارِ حُبِّ اللهِ لِلْبَشَرِ، يَتَّحِدُ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ، فَيُشَاهِدُ مَجْدَهُ، وَعِنْدَمَا يُشَاهِدُ مَجْدَ اللهِ، يَبْلُغُ قِمَّةَ وُجُودِهِ، وَيَتَحَقَّقُ كِيَانُهُ، لِأَنَّهُ: "يَكُونُ هُوَ حَيْثُ الْمَسِيحُ". هذِهِ هِيَ صَلَاةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الْكَهَنُوتِيَّةُ، وَهذِهِ هِيَ وَصِيَّتُهُ لَنَا. وَبِاخْتِصَار، صَلَاةُ يَسُوعَ تَكْمُنُ فِي سَيْرِ الْكَنِيسَةِ الْمُجَاهِدَةِ عَلَى الأَرْضِ نَحْوَ الْكَنِيسَةِ الْمُمَجَّدَةِ فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ يَشْتَرِكُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ فِي نَفْسِ الْحُبِّ الَّذِي عِنْدَ الآبِ لاِبْنِهِ الْحَبِيبِ: "لِتَكُونَ فِيهِمِ الْمَحَبَّةُ الَّتِي أَحْبَبْتَنِي إِيَّاهَا، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ" (يُوحَنَّا 17: 26). وَإِنَّ مَعْرِفَتَنَا بِأَنَّ يَسُوعَ قَدْ صَلَّى مِنْ أَجْلِنَا جَمِيعًا، لَا بُدَّ أَنْ تُعْطِينَا الثِّقَةَ وَنَحْنُ نَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِهِ.
خُلاصَةُ
تَنْقَسِمُ صَلَاةُ يَسُوعَ الْكَهَنُوتِيَّةُ (يُوحَنَّا 17: 1–26) إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ:
فِي الْجُزْءِ الأَوَّلِ، يُصَلِّي يَسُوعُ مِنْ أَجْلِ نَفْسِهِ (يُوحَنَّا 17: 1–5).
فِي الْجُزْءِ الثَّانِي، يُصَلِّي مِنْ أَجْلِ تَلَامِيذِهِ (يُوحَنَّا 17: 6–19).
أَمَّا الْجُزْءُ الثَّالِثُ، فَيُصَلِّي فِيهِ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ سَوْفَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (يُوحَنَّا 17: 20–26)، أَيْ نَحْنُ: "لا أَدْعُو لَهُمْ وَحْدَهُمْ، بَلْ أَدْعُو أَيْضًا لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي عَنْ كَلَامِهِمْ" (يُوحَنَّا 17: 20).
صَلَّى يَسُوعُ فِي صَلَاتِهِ الْكَهَنُوتِيَّةِ، لِيَكُونَ أَتْبَاعُهُ مَعَهُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّهُ وَاحِدٌ مَعَ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ. فَالْمُؤْمِنُونَ، عَلَى كَثْرَتِهِمْ، يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا وَاحِدًا، لِأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. وَالْوَحْدَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي صَلَاةِ يَسُوعَ هِيَ: وَحْدَةُ قَلْبٍ وَفِكْرٍ وَعَقِيدَةٍ وَإِيمَانٍ. فَعِنْدَمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْمَسِيحِ، يَكُونُ الْمَسِيحُ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمَسِيحِ، يَسْعَى إِلَى الْوَحْدَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ هَمُّهُ التَّفْرِيقَ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَسِيحِ.
وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ، أَنَّ الَّذِينَ لَا يَهْتَمُّونَ بِوَحْدَةِ الْكَنِيسَةِ، إِنَّمَا يُحِبُّونَ أَنْفُسَهُمْ، بَدَلَ مَحَبَّتِهِمْ لِلرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فَهَؤُلَاءِ تَقُودُهُمُ الرَّغْبَةُ فِي الْمَجْدِ الأَرْضِيِّ وَالسَّيْطَرَةِ وَالرِّبْحِ، لَا الرَّغْبَةُ فِي الطَّاعَةِ وَخِدْمَةِ الآخَرِينَ وَإِرْضَاءِ اللهِ. وَقَدْ وَبَّخَهُم بُولُسُ الرَّسُولُ قَائِلًا: "كُلُّهُمْ يَسْعَى إِلَى مَا يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ، لَا إِلَى مَا يَعُودُ عَلَى يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (فِيلِبِّي 2: 21). فَلْنَبْحَثْ نَحْنُ أَيْضًا عَنْ مَصْلَحَةِ الرَّبِّ وَرَغْبَتِهِ، دُونَ قَلَقٍ عَلَى مَصَالِحِنَا.
إِنَّ الْوَحْدَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ: شَرِيكَةٌ فِي وَحْدَةِ الآبِ وَالابْنِ، وَهِيَ عَلَامَةٌ لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ، وَشَهَادَةُ حُبِّ الآبِ. فَهَلْ نَعْمَلُ عَلَى اتِّحَادِ جَسَدِ الْمَسِيحِ، أَيْ الْكَنِيسَةِ؟ هَلْ نُصَلِّي مِنْ أَجْلِ الْوَحْدَةِ؟ هَلْ نَبْنِي بَعْضُنَا بَعْضًا وَنُعَلِّي شَأْنَ الْمَسِيحِ، وَفْقَ تَوْصِيَةِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "مُجْتَهِدِينَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى وَحْدَةِ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلَامِ. فَهُنَاكَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا أَنَّكُمْ دُعِيتُمْ دَعْوَةً رَجَاؤُهَا وَاحِدٌ. وَهُنَاكَ رَبٌّ وَاحِدٌ، وَإِيمَانٌ وَاحِدٌ، وَمَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِلَهٌ وَاحِدٌ، أَبٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَفَوْقَهُمْ جَمِيعًا، وَيَعْمَلُ بِهِمْ جَمِيعًا، وَهُوَ فِيهِمْ جَمِيعًا" (أَفَسُس 4: 3–6). وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هذِهِ الْوَحْدَةُ ثَمَرَةَ جُهْدٍ بَشَرِيٍّ فَقَط، لِذَا أُرْسِلَ إِلَيْنَا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الَّذِي يُقِيمُ فِينَا، وَيَبْقَى مَعَنَا إِلَى الأَبَدِ (يُوحَنَّا 14: 16). فَالرُّوحُ الْقُدُسُ يُجَعْلُنَا نَخْتَبِرُ حُبَّ اللهِ، كَمَا صَلَّى يَسُوعُ إِلَى الآبِ: "تَعْرِفُونَ أَنِّي فِي أَبِي، وَأَنَّكُمْ فِيَّ، وَأَنِّي فِيكُمْ" (يُوحَنَّا 14: 20).
قَدْ صَلَّى يَسُوعُ مِنْ أَجْلِ وَحْدَةِ كَنِيسَتِهِ، لَا كَأُمْنِيَةٍ عَابِرَةٍ، بَلْ كَوَصِيَّةٍ جَوْهَرِيَّةٍ، تُعَبِّرُ عَنْ قَلْبِ رِسَالَتِهِ. فَالْوَحْدَةُ لَيْسَتْ مَشْرُوعًا بَشَرِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ انْعِكَاسٌ لِسِرِّ اللهِ الثَّالُوثِ، وَدَعْوَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونُوا مِرْآةً لِلْمَحَبَّةِ الإِلَهِيَّةِ فِي الْعَالَمِ. فِي زَمَنِ الِانْقِسَامِ، وَالتَّوَتُّرِ الطَّائِفِيِّ، وَالِاخْتِلَافَاتِ اللَّاهُوتِيَّةِ وَالتَّقْلِيدِيَّةِ، نَحْنُ مَدْعُوُّونَ لِنُصَلِّيَ، وَنَعْمَلَ بِصِدْقٍ وَجُرْأَةٍ، مِنْ أَجْلِ شِفَاءِ الْجِرَاحَاتِ الْكَنَسِيَّةِ، وَلِبِنَاءِ عَلَاقَاتٍ قَائِمَةٍ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْحِوَارِ وَالِاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ. فَإِنَّ شَهَادَةَ الْكَنِيسَةِ لا تُقَاسُ بِعَدَدِ أَبْنِيَتِهَا أَوْ مُؤَسَّسَاتِهَا، بَلْ بِمَدَى وَحْدَتِهَا فِي الْمَسِيحِ. وَكُلُّ مُؤْمِنٍ، كَائِنًا مَنْ كَانَ، هُوَ مَدْعُوٌّ لِيَبْدَأَ هذِهِ الْوَحْدَةَ مِنْ ذَاتِهِ: بِالتَّوَاضُعِ، بِالِانْفِتَاحِ، وَبِالسَّعْيِ الْيَوْمِيِّ إِلَى الْمُصَالَحَةِ وَالْمَحَبَّةِ.
دُعاءٌ مِنْ أَجْلِ وَحْدَةِ الْكَنِيسَةِ
يَا رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ، يَا مَنْ صَلَّيْتَ لِكَيْ نَكُونَ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ فِي الآبِ، وَالآبُ فِيكَ، نَضَعُ أَنْفُسَنَا أَمَامَكَ، وَنَسْأَلُكَ بِقَلْبٍ مُتَّضِعٍ: أَنْ تُنَقِّيَ قُلُوبَنَا مِنْ كُلِّ انْقِسَامٍ، وَأَنْ تَمْلَأَهَا مِنْ رُوحِ الْمَحَبَّةِ وَالْوَفَاقِ. عَلِّمْنَا، يَا رَبُّ، أَنْ نَبْنِيَ الْوَحْدَةَ فِي بُيُوتِنَا، وَرَعَايَانَا، وَكَنَائِسِنَا، وَأَنْ نَكُونَ عَلاَمَةً لِحُضُورِكَ فِي الْعَالَمِ، وَصُورَةً حَيَّةً لِحُبِّ الآبِ الْمُتَجَسِّدِ فِيكَ. أَرْسِلْ رُوحَكَ الْقُدُّوسَ لِيَجْمَعَ مَا تَفَرَّقَ، وَلِيُعِيدَ مَا تَهَدَّمَ، وَلِيُنِيرَ الطَّرِيقَ أَمَامَ كَنِيسَتِكَ، فَتَسِيرَ وَاحِدَةً، مُتَّحِدَةً، فِي الْإِيمَانِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّهَادَةِ. لِتَكُنْ فِينَا الْمَحَبَّةُ الَّتِي أَحْبَبْتَنَا بِهَا، وَلْيَكُنْ فِينَا مَجْدُكَ، كَيْ يُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنَا. لَكَ الْمَجْدُ وَالْحَمْدُ، مَعَ الآبِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ، الآنَ وَكُلَّ أَوَانٍ، وَإِلَى دَهْرِ الدُّهُور. آمِينَ.