موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٧ مايو / أيار ٢٠٢٥

وصِيَّةُ يَسُوعَ الجَدِيدَةُ فِي خُطْبَةِ الوِدَاع

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الخَامس للفِصْح: وصِيَّةُ يَسُوعَ الجَدِيدَةُ فِي خُطْبَةِ الوِدَاع "أَحِبُّوا بَعضَكُم بَعضًا" (يوحنا 13: 31-35)

الأحَد الخَامس للفِصْح: وصِيَّةُ يَسُوعَ الجَدِيدَةُ فِي خُطْبَةِ الوِدَاع "أَحِبُّوا بَعضَكُم بَعضًا" (يوحنا 13: 31-35)

 

النص الإنجيلي (يوحنا 13: 31-35)

 

لَمَّا خَرَجَ قالَ يسوع: ((الآنَ مُجِّدَ ابنُ الإِنسان ومُجِّدَ اللهُ فيه وإِذا كانَ اللهُ قد مُجِّدَ فيه 32 فسَيُمَجِّدُه اللهُ في ذاتِه وبَعدَ قليلٍ يُمَجِّدُه. 33  يا بَنِيَّ، لَستُ باقِياً مَعَكُم إِلاَّ وَقْتاً قليلاً فستَطلُبوني  وما قُلتُه لِليَهود أَقولُه الآنَ لَكُم أَيضاً: حَيثُ أَنا ذاهِب لا تَستَطيعونَ أَن تَأتوا 34 أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً. 35 إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي)) 36 فقالَ لَه سِمعانُ بُطرُس: ((يا ربّ، إلى أَينَ تَذهَب؟))أَجابَ يسوع: ((إلى حَيثُ أَنا ذاهبٌ لا تَستَطيعُ الآنَ أن تَتبَعَني، ولكِن ستَتبَعُني بَعدَ حين)). 37 قالَ له بُطرُس: ((لِماذا لا أَستَطيعُ أَن أَتَبَعَكَ الآن ؟ لأَبذِلَنَّ نَفْسي في  سَبيلِكَ)) 38 أَجابَ يسوع: (( أَتبذِلُ نَفْسَكَ في سبيلي؟ الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: لا يَصيحُ الدِّيكُ إِلاَّ وقَد أَنكَرتَني ثَلاثَ مَرَّات.

 

 

مقدمة

 

يَصِفُ إِنْجِيلُ يُوحَنَّا (يُوحَنَّا 13: 31-35) فِي الأَحَدِ الخَامِسِ مِن زَمَنِ الفِصْحِ وَدَاعَ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ فِي العَشَاءِ الأَخِيرِ، حَيْثُ يُعْطِيهِمْ وَصِيَّةً جَدِيدَةً، هِيَ المَحَبَّةُ، وَغَايَتُهَا "الإِخْوَةُ". وَلأَنَّ اللهَ "أَبٌ"، وَكُلُّ النَّاسِ أَبْنَاؤُهُ، فَهُمْ إِذًا إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَلَمَّا كَانَتِ البُنُوَّةُ هِيَ أَهَمَّ العَنَاصِرِ فِي عَلَاقَةِ الإِنْسَانِ الصَّحِيحَةِ بِاللهِ، فَكَذَلِكَ الإِخْوَةُ فِي عَلَاقَةِ الإِنْسَانِ بِرُفَقَائِهِ مِنَ البَشَرِ. وَالإِخْوَةُ هِيَ العَلَاقَةُ الَّتِي تَرْبِطُ أَبْنَاءَ نَفْسِ الأَبَوَيْنِ، وَهِيَ تَمْتَدُّ إِلَى الأَقَارِبِ، فَأَفْرَادِ العَشِيرَةِ أَوِ الوَطَنِ الوَاحِدِ.

 

إِنَّ المِثَالَ الأَعْلَى لِلْمُجْتَمَعِ فِي المَسِيحِيَّةِ هُوَ أَنْ تَتَحَقَّقَ مِثْلُ هَذِهِ العَلَاقَةِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ، بِلَا حُدُودٍ أَوْ تَمْيِيزٍ. وَالمَحَبَّةُ هِيَ خُلَاصَةُ قَانُونِ السُّلُوكِيَّاتِ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَأَخِيهِ الإِنْسَانِ (مَتَّى 22: 39، 40)، وَكُلِّ إِنْسَانٍ نَتَعَامَلُ مَعَهُ (لُوقَا 10: 29-37)، حَتَّى الأَعْدَاءِ (لُوقَا 6: 35). وَبِدُونِ مَحَبَّةِ الإِنْسَانِ، تَكُونُ مَحَبَّةُ اللهِ مُسْتَحِيلَةً، وَمَا أَحْوَجَ النَّاسَ فِي عَصْرِنَا الحَالِيِّ إِلَى هَذِهِ المَحَبَّةِ. وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 13: 31-35)

 

31 فلَمَّا خَرَجَ قالَ يسوع: ((الآنَ مُجِّدَ ابنُ الإِنسان ومُجِّدَ اللهُ فيه وإِذا كانَ اللهُ قد مُجِّدَ فيه

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَلَمَّا خَرَجَ" إِلَى خُرُوجِ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِي، الخَائِنِ، مِنَ العِلِّيَّةِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ اللُّقْمَةَ فِي العَشَاءِ الأَخِيرِ. وَقَدْ خَرَجَ يَهُوذَا، العُنْصُرُ الفَاسِدُ، مِنْ وَسَطِ جَمَاعَةِ الرُّسُلِ، لأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْفَسَادِ أَنْ يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ فِي وَسْطِهِم، إِذْ حَكَمَ الفَسَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالانْعِزَالِ عَنْهُم. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "إِنَّنَا نَحْنُ ظِلُّ مَجْدِهِ، الَّذِي سَيَتَحَقَّقُ حِينَ يَنْفَصِلُ الأَشْرَارُ تَمَامًا، وَيَسْكُنُ (المَسِيحُ) مَعَ القِدِّيسِينَ فِي الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ". وَعِنْدَ خُرُوجِ يَهُوذَا، فَتَحَ يَسُوعُ قَلْبَهُ لِأَحِبَّائِهِ المُخْلِصِينَ، مُعْلِنًا تَعْزِيَتَهُ لَهُم، وَمُؤَكِّدًا أَنَّهُ لَنْ يَتْرُكَهُم وَحْدَهُم، بَلْ سَيُرْسِلُ لَهُمُ الرُّوحَ القُدُسَ المُعَزِّي. وَهَتَفَ بِهَذِهِ الكَلِمَاتِ القَوِيَّة: "الآنَ مُجِّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ، وَمُجِّدَ اللهُ فِيهِ". تَبْدُو هَذِهِ العِبَارَاتُ، فِي ظَاهِرِهَا، خَارِجَةً عَنِ السِّيَاقِ، وَفِي الحَقِيقَةِ، فَإِنَّهَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ حَانَتْ لِيَكْشِفَ يَسُوعُ عَنْ كُلِّ الحُبِّ الَّذِي جَاءَ يُقَدِّمُهُ، حُبٍّ يَصِلُ حَتَّى إِلَى التِّلْمِيذِ الَّذِي يُنْكِرُ وَيَخُونُ، حُبٍّ يُعْطِي الحَيَاةَ، وَالمَجْدُ هُوَ أَقْصَى حَدٍّ مُمْكِنٍ لِهَذَا الحُبِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "قالَ يَسوع"، فَتَشِيرُ إِلَى إِعْلانٍ يَأْتِي بَعْدَ خُرُوجِ يَهُوذَا لِيُسَلِّمَ يَسوع، أَيْ إِنَّ يَسوعَ يُواجِهُ خِيَانَةً مُعْلَنَةً. في هذه اللحظة الحاسمة، لا يَشرَعُ يسوعُ في الدفاعِ عن نَفْسِهِ، ولا يَكشِفُ عن خَيبَتِه مِن تَلميذِه، بَلْ يَرفَعُ عَيْنَيْهِ نَحْوَ الآبِ، ويُعْلِنُ تَمجيدَ. أَمَّا عِبَارَةُ "الآنَ" فَتُشِيرُ إِلَى وَقْتِ خِدْمَتِهِ عَلَى الأَرْضِ، الَّتِي كَانَتْ عَلَى وَشَكِ الِانْتِهَاءِ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ يَهُوذَا قَدْ ذَهَبَ لِيَجْلِبَ الشُّرْطَةَ لِلْقَبْضِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى قَاتِلِيهِ. وَهَكَذَا بَدَأَ الوَقْتُ فِي تَحْقِيقِ التَّدْبِيرِ (الألآم)، حَيْثُ يَمُوتُ يَسُوعُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "رُبَّمَا تُشِيرُ كَلِمَةُ 'الآن' لَا إِلَى الآلَامِ الوَشِيكَةِ الحُدُوثِ، بَلْ إِلَى مَا يَتْبَعُهَا مُبَاشَرَةً مِنْ قِيَامَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الأَمْرُ قَدْ تَمَّ فِعْلًا". أَمَّا عِبَارَةُ "إِذَا كَانَ" فَلَا تُشِيرُ إِلَى الشَّكِّ، بَلْ إِلَى التَّأْكِيدِ؛ فَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مُؤَكَّدَانِ. قَامَ المَسِيحُ، بِتَوَاضُعِهِ، بِتَمْجِيدِ اللهِ الآبِ، حَيْثُ مَجَّدَ الآبُ الاِبْنَ بِرَفْعِهِ إِيَّاهُ عَلَى الصَّلِيبِ، كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ: "كَمَا رَفَعَ مُوسَى الحَيَّةَ فِي البَرِّيَّةِ، فَكَذلِكَ يَجِبُ أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (يُوحَنَّا 3: 14). أَمَّا عِبَارَةُ "مُجِّدَ ٱبْنُ ٱلْإِنسَانِ" فَتُشِيرُ إِلَى رُؤْيَةِ يَسُوعَ لِلصَّلِيبِ نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ، لَا كَخِزْيٍ، بَلْ كَمَجْدٍ، هُوَ تَجَلِّي مَحَبَّةِ ٱللهِ ٱلْكُامِلَةِ. وَهَكَذَا يَدْعُونَا لِنَنْظُرَ إِلَى آلَامِنَا، لَا كَهَزِيمَةٍ، بَلْ كَفُرْصَةٍ لِلِاتِّحَادِ بِهِ فِي طَرِيقِ ٱلْمَجْدِ. لِذَلِكَ، عَلَى ٱلْمُؤْمِنِ أَلَّا يَهْرُبَ مِنَ ٱلصَّلِيبِ، بَلْ أَنْ يَعِيشَ فِيهِ بِذَاتِ مَنْطِقِ ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلْبَذْلِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أَغُسْطِينُوس قَائِلًا: "فِي ٱلصَّلِيبِ، ٱلْمَذَلَّةُ تَصِيرُ كَرَامَةً، وَٱلْمَوْتُ يُؤَدِّي إِلَى ٱلْحَيَاةِ، وَٱلْهَزِيمَةُ تُولِّدُ ٱلْغَلَبَةَ؛ فَٱنْظُرْ إِلَى ٱلصَّلِيبِ، فَهُنَاكَ تَتَجَلَّى ٱلْمَحَبَّةُ ٱلَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا."أَمَّا عِبَارَةُ "مُجِّدَ" في الأَصْلِ اليُونانِيِّ: ἐδοξάσθη، فَهِيَ مُصْطَلَحٌ يُشيرُ، فِي العِبْرِيَّةِ(כָּבוֹד) ، إِلَى "الثِّقَلِ"، أَيْ ظُهُورِ اللهِ فِي التَّارِيخِ. فالمجد هو تَجَلِّي اللهِ عَنْ طَرِيقِ تَمْجِيدٍ عَلَنِيٍّ لِلْمَسِيحِ أَمَامَ النَّاسِ، أَيْ انْتِصَارِهِ بِالصَّلِيبِ عَلَى أَعْدَائِهِ: الشَّيْطَانِ وَالخَطِيئَةِ وَالمَوْتِ، مُحَقِّقًا الخُطَّةَ الإِلَهِيَّةَ. وَقَدْ تَمَجَّدَ الآبُ مِنْ خِلَالِ محبة وطَاعَةِ يَسُوعَ الكَامِلَةِ حَتَّى المَوْتِ حبًّا للبشر كَمَا جَاءَ فِي رِسَالَةِ فِيلِبِّي: "تَجَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ، مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبْد، وَصَارَ عَلَى مِثَالِ البَشَر، وَظَهَرَ فِي هَيْئَةِ إِنْسَانٍ، فَوَضَعَ نَفْسَهُ، وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتِ، مَوْتِ الصَّلِيبِ" (فيلِبِّي 2: 7-8). يَرى يَسوعُ فِي الصَّلِيبِ نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ، لا كَخِزْيٍ وَهَوَانٍ، بَلْ كَمَجْدٍ وَتَمجِيدٍ. وَهكَذَا يَدْعُونَا أَنْ نَنْظُرَ إِلَى آلَامِنَا، لا كَهَزِيمَةٍ، بَلْ كَفُرْصَةٍ لِلاِتِّحَادِ بِهِ فِي طَرِيقِ المَجْدِ. وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس: "إِنَّ المَجْدَ هُنَا هُوَ المَعْرِفَةُ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا سِوَى الآبِ وَالاِبْنِ، وَمَنْ يُرِيدُ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَهَا لَهُ" (مَتَّى 11: 27). أَمَّا لَقَبُ "ابْنُ الإِنْسَانِ" فَيُشِيرُ إِلَى يَسُوعَ، كَمَا سَبَقَ وَأَشَارَ دَانِيال النَّبِي (دَانِيال 7: 9-15)، حَيْثُ تَفْتَحُ السَّمَاوَاتُ عَلَى الأَرْضِ فِي شَخْصِ يَسُوعَ، وَيُصْبِحُ الاِتِّصَالُ بِاللهِ حَقِيقَةً دَائِمَةً. أَعْظَمُ تَمْجِيدٍ لِـ "ابْنِ الإِنْسَانِ" هُوَ مَوْتُهُ فِدَاءً عَنِ البَشَرِيَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "مُجِّدَ اللهُ فِيهِ" فَتُشِيرُ إِلَى اللهِ الَّذِي يَتَمَجَّدُ حِينَ قَدَّمَ يَسُوعُ المَسِيحُ نَفْسَهُ ذَبِيحَةً عَلَى الصَّلِيبِ لِلآبِ، لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِطَاعَةِ الاِبْنِ لَهُ، وَبِرُجُوعِ النَّاسِ إِلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ:"تَجَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ، مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبْدِ، وَصَارَ عَلَى مِثَالِ البَشَرِ، وَظَهَرَ فِي هَيْئَةِ إِنْسَانٍ، فَوَضَعَ نَفْسَهُ، وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتِ، مَوْتِ الصَّلِيبِ" (فِيلِبِّي 2: 7–8). وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ كُلَّمَا تَمَجَّدَ الاِبْنُ، تَمَجَّدَ الآبُ، لِكَوْنِ الآبِ وَالابْنِ وَاحِدًا فِي الإرادة وَالعَمَلِ. فَقَدْ تَمَجَّدَ الآبُ بِمَوْتِ الاِبْنِ، لِأَنَّ الاِبْنَ خَضَعَ بِذَلِكَ خُضُوعًا كَامِلًا لِإِرَادَةِ الآبِ، وَأَعْلَنَ بِهِ قَدَاسَةَ اللهِ وَعَدْلَهُ، وَبُغْضَهُ لِلْخَطِيئَةِ، وَرَحْمَتَهُ لِلْخَاطِئِ، وَخَلَاصَهُ لِلْبَشَرِ. وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس:"لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا لِيَسُوعَ أَنْ يَتَمَجَّدَ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الآبُ يَتَمَجَّدُ فِيهِ". فِي المَسِيحِ، ظَهَرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ الآبِ لِلْبَشَرِ (يُوحَنَّا 3: 16). وَإِنْ كَانَ الآبُ قَدْ تَمَجَّدَ فِي ابْنِهِ، فَإِنَّ الآبَ سَيُمَجِّدُ الاِبْنَ فِي ذَاتِهِ، لأَنَّهُ مُتَّحِدٌ بِهِ اتِّحَادًا كَامِلًا؛ وَبِالتَّالِي، فَمَجْدُ الآبِ هُوَ مَجْدُ الاِبْنِ، وَمَجْدُ الاِبْنِ هُوَ مَجْدُ الآبِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ فَصْلُ دَوْرِ الآبِ عَنْ دَوْرِ الاِبْنِ فِي تَحْقِيقِ خَلَاصِ العَالَمِ. إِنَّهَا مَحَبَّةُ الآبِ الَّتِي قَدَّمَتْ لَنَا الصَّلِيبَ (يُوحَنَّا 3: 16؛ رُومَة 5: 8). وَهُوَ الآبُ الَّذِي فِي المَسِيحِ صَالَحَ العَالَمَ مَعَهُ (2 قُورِنْتُس 5: 19). وَهُوَ الآبُ الَّذِي بَارَكَنَا فِي المَسِيحِ، إِذِ اخْتَارَنَا قَبْلَ تَأْسِيسِ العَالَمِ (أَفَسُس 1: 3–4). وَقَدْ تَكَرَّرَتْ كَلِمَةُ "المَجْدِ" فِي الآيَتَيْنِ (31–32) خَمْسَ مَرَّاتٍ، لِتَأْكِيدِ قُبُولِ الآبِ لِذَبِيحَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ المَسِيحِ. وَكَمَا أَنَّ تَمْجِيدَ اللهِ كَانَ غَايَةَ المَسِيحِ فِي كُلِّ مَا قَالَ وَفَعَلَ وَاحْتَمَلَ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ غَايَتُنَا العُظْمَى تَمْجِيدَ اللهِ الآبِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

 

32 فسَيُمَجِّدُه اللهُ في ذاتِه وبَعدَ قليلٍ يُمَجِّدُه

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "فَسَيُمَجِّدُهُ اللهُ" إِلَى جَوَابِ الشَّرْطِ "إِذَا كَانَ اللهُ قَد مُجِّدَ فِيهِ". إِنَّ اللهَ يُمَجِّدُ ابْنَهُ يَسُوعَ بِرَفْعِهِ إِيَّاهُ فِي نِهَايَةِ اتِّضَاعِهِ لِخَلَاصِ البَشَرِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "لِذلِكَ رَفَعَهُ اللهُ إِلَى العُلَى، وَوَهَبَ لَهُ الاِسْمَ الَّذِي يَفُوقُ جَمِيعَ الأَسْمَاءِ" (فِيلِبِّي 2: 9). إنَّ اِتِّضَاعُ الاِبْنِ هُوَ الحَدُّ الفَاصِلُ بَيْنَ تَمْجِيدِ الاِبْنِ لِلآبِ، وَتَمْجِيدِ الآبِ لِلاِبْنِ بِرَفْعِهِ إِيَّاهُ، وَهَذَا الاِتِّضَاعُ هُوَ مَوْتُ الاِبْنِ وَقِيَامَتُهُ وَصُعُودُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَحُلُولُ الرُّوحِ القُدُسِ.  فَكَانَت نِهَايَةُ اتِّضَاعِ الاِبْنِ بَدَايَةَ تَمَجُّدِهِ. يُمَجِّدُ اللهُ ابْنَهُ فِي آلَامِهِ وَصَلْبِهِ، حَيْثُ شَهِدَتِ الطَّبِيعَةُ نَفْسُهَا أَنَّهُ ابْنُ اللهِ، وَآمَنَ قَائِدُ المِئَةِ، كَمَا آمَنَ بِهِ اللِّصُّ اليَمِينُ. مَا أَعْظَمَهُ مِنْ تَمْجِيدٍ لاِبْنِ الإِنْسَانِ بِمَوْتِهِ عَنِ البَشَرِيَّةِ. وَبِتَمْجِيدِهِ أَعْلَنَ حُبَّ الآبِ الَّذِي بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ عَنِ العَالَمِ. إِنَّهَا مَحَبَّةُ الآبِ الَّتِي ظَهَرَتْ لَنَا عَلَى الصَّلِيبِ (يُوحَنَّا 3: 16؛ رُومَة 5: 8). لِذَلِكَ، يُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس: "أَنَّ المَجْدَ هُنَا هُوَ "المَعْرِفَةُ" الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا سِوَى الآبِ وَالاِبْنِ، وَمَنْ يُرِيدُ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَهَا لَهُ (مَتَّى 11: 27)، المَعْرِفَةُ الَّتِي لَا يُعْلِنُهَا لَا لَحْمٌ وَلَا دَمٌ، بَلِ الآبُ السَّمَاوِيُّ (مَتَّى 16: 17). أَمَّا عِبَارَةُ "فِي ذَاتِهِ" فَتَشِيرُ إِلَى ذَاتِ اللهِ الَّذِي يَتَمَجَّدُ بِالمَسِيحِ وَبِسَبَبِهِ. وَحِينَ يُمَجَّدُ المَسِيحُ، يَصِيرُ بِجَسَدِهِ كَمَا بِلَاهُوتِهِ فِي الآبِ (1 يُوحَنَّا 1: 1).  أَمَّا عِبَارَةُ "وَبَعْدَ قَلِيلٍ يُمَجِّدُهُ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: εὐθὺς δοξάσει αὐτόν (مَعْنَاهَا: سَيُمَجِّدُهُ حَالًا)، فَتَشِيرُ إِلَى اللهِ الَّذِي سَيُمَجِّدُ ابْنَهُ يَسُوعَ المَسِيحَ مِنْ خِلَالِ قِيَامَتِهِ وَصُعُودِهِ وَجُلُوسِهِ عَنْ يَمِينِ الآبِ، وَخُضُوعِ البَشَرِ لَهُ يَوْمَ يَأْتِي حَالًا لِلدَّيْنُونَةِ مَعَ مَلَائِكَتِهِ (يُوحَنَّا 17: 1–5)، لِأَنَّ كُلَّ وَسَائِلِ التَّمْجِيدِ كَانَت مُتَعَلِّقَةً بِمَوْتِهِ الَّذِي كَانَ عَلَى وَشْكِ الوُقُوعِ. فَمِنْ نَاحِيَةٍ، يَتَمَجَّدُ الآبُ بِالصَّلِيبِ مُعْلِنًا حُبَّهُ الإِلَهِيَّ نَحْوَ البَشَرِيَّةِ؛ وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، يَتَمَجَّدُ يَسُوعُ، ابْنُ الإِنْسَانِ، لِأَنَّ الآبَ اخْتَارَهُ مُخَلِّصًا لِلْعَالَمِ. وَبِكَلِمَةٍ مُوْجَزَةٍ، بَعْدَ رَحِيلِ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيِّ، أَعْلَنَ يَسُوعُ أَنَّ سَاعَةَ تَمْجِيدِهِ قَدْ دَنَتْ. إِنَّ اللهَ يُمَجَّدُ فِي مَوْتِ الاِبْنِ. وَتَمْجِيدُ ابْنِ الإِنْسَانِ لَيْسَ فَقَطْ فِي الحَاضِرِ، بَلْ أَيْضًا فِي المُسْتَقْبَلِ عِندَ إِتْمَامِ إِرْسَالِيَّتِهِ الإِلَهِيَّةِ (يُوحَنَّا ١٣: ٣٢).

 

33 يا بَنِيَّ، لَستُ باقِياً مَعَكُم إِلاَّ وَقْتاً قليلاً فستَطلُبوني وما قُلتُه لِليَهود أَقولُه الآنَ لَكُم أَيضاً: حَيثُ أَنا ذاهِب لا تَستَطيعونَ أَن تَأتوا"

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "بَنِيَّ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ τεκνία إِلَى اسْمٍ لِلتَّحَبُّبِ يُوَجِّهُهُ المُعَلِّمُ الإِلَهِيُّ إِلَى تَلَامِيذِهِ، وَهُوَ تَعبِيرٌ يَحْمِلُ عَاطِفَةً قَوِيَّةً، وَعِنَايَةً كَبِيرَةً بِهِمْ، وَحَنُوًّا عَظِيمًا، كَحَنُوِّ الأُمِّ نَحْوَ رَضِيعِهَا. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ضَعْفِهِم، إِذْ كَانَ التَّلَامِيذُ خُدَّامًا قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا أَبْنَاءً صِغَارًا، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ كَلِمَاتِ يَسُوعَ: "أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي ((المُعَلِّمَ وَالرَّب))، وَأَصَبْتُمْ فِيمَا تَقُولُونَ" (يُوحَنَّا 13: 13). وَبَعْدَ قِيَامَةِ المُخَلِّصِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ "بَنِيَّ" صَارُوا لَهُ إِخْوَةً، كَمَا قَالَ يَسُوعُ لِمَرْيَمَ المَجْدَلِيَّةِ: "اِذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي، فَقُولِي لَهُمْ..." (يُوحَنَّا 20: 17). وَالْجَدِيرُ بِالمُلَاحَظَةِ أَنَّ العَبْدَ صَارَ تِلْمِيذًا، وَبَعْدَ ذَلِكَ اِبْنًا صَغِيرًا، ثُمَّ أَخًا لِلمَسِيحِ، ثُمَّ اِبْنًا لِلهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَقْتًا قَلِيلًا" فَتَشِيرُ إِلَى وَقْتِ مَوْتِ يَسُوعَ وَقِيَامَتِهِ وَصُعُودِهِ إِلَى الآبِ (فُصُول 13، 14، 15). وَلَكِنَّ التَّلَامِيذَ لا يَنْفَصِلُونَ عَنْ يَسُوعَ نِهَائِيًّا كَمَا سَتَكُونُ الحَالُ مَعَ اليَهُودِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: حَقًّا إِنَّنِي سَأَتَمَجَّدُ بِقِيَامَتِي، وَلَكِنَّنِي لَا أَصْعَدُ فَوْرًا إِلَى السَّمَاءِ، بَلْ "أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا قَلِيلًا بَعْدُ". وَفِي الوَاقِعِ، قَضَى يَسُوعُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَعَ تَلَامِيذِهِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 1: 3)، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي شَرِكَةِ الضَّعْفِ البَشَرِيِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَمَا قُلْتُهُ لِلْيَهُودِ"، فَتَشِيرُ إِلَى قَوْلِ يَسُوعَ لِلْيَهُودِ: "أَنَا بَاقٍ مَعَكُمْ وَقْتًا قَلِيلًا، ثُمَّ أَذْهَبُ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. سَتَطْلُبُونَنِي فَلَا تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا" (يُوحَنَّا 7: 33–34). وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَضَّحَ يَسُوعُ قَوْلَهُ: "أَنَا ذَاهِبٌ، سَتَطْلُبُونَنِي، وَمَعَ ذَلِكَ تَمُوتُونَ فِي خَطِيئَتِكُمْ. وَحَيْثُ أَنَا ذَاهِبٌ، فَأَنْتُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَأْتُوا" (يُوحَنَّا 8: 21). أَمَّا عِبَارَةُ "لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَأْتُوا"، فَتَشِيرُ إِلَى عَدَمِ مَقْدِرَةِ اليَهُودِ الذَّهَابَ إِلَى حَيْثُ يَذْهَبُ يَسُوعُ، بِسَبَبِ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ، كَمَا أَعْلَنَهُ يَسُوعُ. وَهِيَ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى عَدَمِ مَقْدِرَةِ التَّلَامِيذِ حَالِيًّا عَلَى الذَّهَابِ إِلَى حَيْثُ يَذْهَبُ يَسُوعُ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْدِمُوا المَسِيحَ عَلَى الأَرْضِ، كَمَا قَالَ: "وَإِذَا ذَهَبْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مُقَامًا، أَرْجِعُ فَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، لِتَكُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا حَيْثُ أَنَا أَكُونُ" (يُوحَنَّا 14: 3). إِنَّ تَمْجِيدَ يَسُوعَ يَتِمُّ عَنْ طَرِيقِ المَوْتِ (الرَّفْعِ عَلَى الصَّلِيبِ) (يُوحَنَّا 8: 28)، وَهَذَا الذَّهَابُ الَّذِي أَعْلَنَهُ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ (يُوحَنَّا 8: 21) يَفْصِلُ التَّلَامِيذَ أَيْضًا عَنْ يَسُوعَ إِلَى حِينٍ، لِأَنَّ التَّلَامِيذَ سَوْفَ يَرَوْنَهُ (يُوحَنَّا 14: 18)، بَلْ يَكُونُ حَاضِرًا لَدَيْهِمْ بِطَرِيقَةٍ سَامِيَةٍ بَعْدَ عَوْدَتِهِ إِلَى الآبِ.

 

 34 أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "أُعْطِيكُمْ" إِلَى عَطَاءِ المَسِيحِ لِتَلَامِيذِهِ. وَقَدْ كَانَتِ الدِّيَانَةُ اليَهُودِيَّةُ تَسْتَعْمِلُ فِعْلَ "أَعْطَى" فِي الكَلَامِ عَنِ الشَّرِيعَةِ دَلَالَةً عَلَى النِّعْمَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَصِيَّةً جَدِيدَةً"، فَتَشِيرُ إِلَى وَصِيَّةٍ جَدِيدَةٍ، لِأَنَّهَا أَصْبَحَتْ سِمَةَ تَلَامِيذِ يَسُوعَ وَعَلَامَتَهُمُ الفَارِقَةَ، كَمَا جَاءَ فِي رِسَالَةِ يُوحَنَّا الرَّسُولِ: "وَصِيَّتُهُ هِيَ أَنْ نُؤمِنَ بِاسْمِ ابْنِهِ يَسُوعَ المَسِيح، وَأَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، كَمَا أَعْطَانَا وَصِيَّةً بِذَلِكَ" (1 يُوحَنَّا 3: 23). وَهِيَ وَصِيَّةٌ جَدِيدَةٌ أَيْضًا، لِأَنَّهَا تَجْعَلُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الجَمَاعَةِ الأَخِيرِيَّةِ شَرْطًا جَوْهَرِيًّا، وَهِيَ جَدِيدَةٌ أَيْضًا بِقَدْرِ مَا تَقْتَضِي تَوَاضُعًا وَرَغْبَةً فِي الخِدْمَةِ، يَحْمِلَانِ عَلَى اخْتِيَارِ المَكَانِ الأَخِيرِ وَعَلَى المَوْتِ فِي سَبِيلِ الآخَرِينَ. وَالْوَصِيَّةُ هِيَ أَمْرٌ وَاجِبٌ القِيَامُ بِهِ بِشَكْلٍ ضَرُورِيّ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: ἀγαπᾶτε ἀλλήλους، وَمَعْنَاهَا: أَنْ تُحِبَّ الآخَرَ مِنْ أَجْلِ ذَاتِهِ. وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى المَحَبَّةِ الأُخُوِيَّةِ المُتَبَادَلَةِ، أَيْ تُبَادَلَ المَحَبَّةَ بِالمَحَبَّةِ. هَذِهِ المَحَبَّةُ أَصْبَحَتْ سِمَةً يُمَيَّزُ بِهَا التَّلَامِيذُ عَنْ غَيْرِهِم، وَمَا المَحَبَّةُ الأُخُوِيَّةُ إِلَّا تَعْبِيرٌ عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ. "كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ، أَحِبُّوا أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا". فَلَا عَجَبَ أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةُ يَسُوعَ الجَدِيدَةُ هِيَ المَحَبَّةُ. وَتَظْهَرُ الأَهَمِّيَّةُ الكُبْرَى الَّتِي أَعْطَاهَا يَسُوعُ لِهَذِهِ الوَصِيَّةِ فِي تِكْرَارِهِ لَهَا مَرَّتَيْنِ فِي نَفْسِ اللَّيْلَةِ (يُوحَنَّا 15: 12–17). تُعَلِّقُ القِدِّيْسَةُ الأُمُّ تِرِيزَا: "يَسْهُلُ عَلَيْنَا الاِدِّعَاءُ بِأَنَّنَا نُحِبُّ الأَشْخَاصَ البَعِيدِينَ عَنَّا، لَكِنَّنَا نَجِدُ صُعُوبَةً أَكْبَرَ فِي مَحَبَّةِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ مَعَنَا أَوْ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَّا". المَحبَّةُ أَساسُ العَلاقَةِ بَيْنَ المُؤمِنينَ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى نَمُوذَجٍ جَدِيدٍ لِوَصِيَّةِ المَحَبَّةِ، وَهُوَ مَحَبَّةُ المَسِيحِ. يُوصِينَا المَسِيحُ بِأَنْ نُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، بِقَدْرِ مَحَبَّتِهِ لَنَا، مَحَبَّةٍ مَجَّانِيَّةٍ، شَامِلَةٍ. مِقياسُ المَحبَّةِ هُنا لَيسَ مَحبَّةً عاديَّةً، بَل مَحبَّةً مُضَحِّيَةً، كَما أَحبَّنا يَسوعُ.  وَلَكِن، كَمْ أَحَبَّنَا؟ يُعْطِينَا بُولُسُ الرَّسُولُ الجَوَابَ: "سِيرُوا فِي المَحَبَّةِ، سِيرَةَ المَسِيحِ الَّذِي أَحَبَّنَا، وَجَادَ بِنَفْسِهِ لِأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ طَيِّبَةَ الرَّائِحَةِ" (أَفَسُس 5: 2). فَالدَّافِعُ إِلَى مَحَبَّةِ المَسِيحِيِّينَ بَعْضِهِم لِبَعْضٍ هُوَ اِنْتِمَاؤُهُم جَمِيعًا إِلَى المَسِيحِ الفَادِي، وَتَوْصِيَتُهُ لَهُم بِهَا. لا نُبادِلُ مَحبَّةَ اللهِ إِلَّا عندما نُحِبُّ بَعضَنا بَعضًا، فالمحبَّةُ الأُخُوِيَّةُ هِيَ السَّبيلُ إِلى مَحبَّتِهِ، كما ورد في رسالة يوحنا الأولى: "مَن لا يُحِبّ أَخاه، وهو يَراه، لا يَسَعْه أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنا 4: 20). أَمَّا عِبَارَةُ "أَحِبُّوا أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" فَتُشِيرُ إِلَى المَحَبَّةِ الَّتِي تَبْلُغُ نُمُوَّهَا التَّامَّ فِي جَمَاعَةٍ يَسُودُهَا التَّبَادُلُ وَالعَطَاءُ وَحُسْنُ القَبُولِ، كَمَا يُوَضِّحُ بُطْرُسُ الرَّسُولُ: "كَيْمَا يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا حُبًّا أَخَوِيًّا بِلَا رِيَاء. فَلْيُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا حُبًّا ثَابِتًا بِقَلْبٍ طَاهِرٍ"(1 بُطْرُس 1: 22).

 

35 إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ الرَّبِّ يَسُوعَ: "إِذَا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا، عَرَفَ النَّاسُ جَمِيعًا أَنَّكُم تَلَامِيذِي"، إِلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ الأُخُوِيَّةَ هِيَ العَلَامَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِلتَّلْمَذَةِ الصَّادِقَةِ. فَلَيْسَتْ سُلْطَةُ الكَنِيسَةِ، وَلَا عَظَمَتُهَا أَوْ قُدْرَاتُهَا، وَلَا الْمُعْجِزَاتُ، أَوْ كَثْرَةُ أَتْبَاعِهَا، أَوْ فَخَامَةُ أَبْنِيَتِهَا وَكَنَائِسِهَا، هِيَ مَا يُقْنِعُ العَالَمَ بِصِدْقِ انْتِمَائِنَا لِلمَسِيحِ، بَلِ الْمِحَكُّ الْفَاصِلُ هُوَ مِقْدَارُ الْمَحَبَّةِ الَّتِي نُظْهِرُهَا بَعْضُنَا لِبَعْضٍ. وَبِهذِهِ الْمَحَبَّةِ عَيْنِهَا، تُعْرَفُ الْكَنِيسَةُ عَلَى أَنَّهَا جَسَدُ الْمَسِيحِ، إِذْ تَسْرِي فِيهَا الْمَحَبَّةُ بَيْنَ أَعْضَائِهَا كَالرُّوحِ فِي الْجَسَدِ، فَتَشْهَدُ لِلرَّبِّ الْقَائِمِ وَتُجَسِّدُ حُضُورَهُ فِي الْعَالَمِ. فَالْمَحَبَّةُ الأُخُوِيَّةُ هِيَ وَجْهُ اللّٰهِ الْمَرْئِيُّ فِي الْعَالَمِ، وَبِهَا يُعْرَفُ تَلَامِيذُ يَسُوعَ وَيُشْهَدُ لَهُ. وَبِدُونِهَا، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ تِلْمِيذُهُ، مَهْمَا بَلَغَ فِي الْمَعْرِفَةِ أَوِ الْخِدْمَةِ أَوِ الظُّهُورِ الدِّينِيِّ.  فَالمَحَبَّةُ هِيَ العَلَامَةُ المُـمَيِّزَةُ لِلتَّلْمَذَةِ، وَمِنْ ثَمَّ مِحَكُّهَا فِي مَحَبَّتِهِم بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. فَالحَيَاةُ فِي المَحَبَّةِ الأُخُوِيَّةِ هِيَ الدَّلِيلُ المِثَالِيُّ عَلَى حُضُورِ مَحَبَّةِ اللهِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ، كَمَا جَاءَ فِي صَلَاةِ يَسُوعَ: يَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني، وَأَنَّكَ أَحبَبتَهُم كَمَا أَحبَبتَني" (يُوحَنَّا 17: 23). لَيْسَتِ ٱلْعَقَائِدُ أَوِ ٱلْمُعْجِزَاتُ أَوِ ٱلتَّدَيُّنُ ٱلْخَارِجِيُّ هِيَ مِقْيَاسَ ٱلتَّلْمَذَةِ، بَلِ ٱلْمَحَبَّةُ ٱلْأَخَوِيَّةُ ٱلصَّادِقَةُ. فَٱلْعَالَمُ يَتَعَرَّفُ إِلَى يَسُوعَ مِنْ خِلَالِ نَوْعِيَّةِ ٱلْعَلَاقَاتِ بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ قَالَ العلاَّمَة تِرْتُلْيَانُس فِي وَصْفِ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِلْمَسِيحِيِّينَ ٱلأَوَائِل: "اُنْظُرْ كَيْفَ يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَيْفَ هُمْ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ يَمُوتُوا بَدَلًا مِنْ أَنْ يُؤْذُوا أَحَدَهُمْ." أَمَّا عِبَارَةُ: "أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا"، فَتَشِيرُ إِلَى دَعْوَةِ يَسُوعَ الْمُلِحَّةِ لِتَلَامِيذِهِ لِيُحِبَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ "بَعْضُكُمْ بَعْضًا"، لَيْسَتْ غَرِيبَةً عَنْ سِيَاقِ الإِنْجِيلِ، فَقَدْ سَبَقَ لِيَسُوعَ أَنْ نَطَقَ بِهَا فِي بِدَايَةِ الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ، حِينَ غَسَلَ أَقْدَامَ تَلَامِيذِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: "إِنْ كُنْتُ وَأَنَا الرَّبُّ وَالْمُعَلِّمُ، قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ" (يُوحَنَّا 13: 14). فِي الْمَرَّتَيْنِ، يَسْتَعْمِلُ يَسُوعُ تِكْرَارَ "بَعْضُكُمْ بَعْضًا"، لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْخِدْمَةَ لا تَكْتَمِلُ إِلَّا فِي تَوَاضُعٍ مُتَبَادَلٍ، وَفِي انْحِنَاءٍ وَاحِدٍ أَمَامَ الْآخَرِ. وَقَبْلَ أَنْ يُحِبُّوا، وَقَبْلَ أَنْ يَخْدِمُوا، عَلَيْهِمْ أَنْ يُدْرِكُوا حَقًّا أَنَّ يَسُوعَ قَدْ أَحَبَّهُم أَوَّلًا، وَخَدَمَهُم أَوَّلًا، وَبِذَلِكَ صَارَ لَهُم عِبْرَةً وَقُدْوَةً. "فَقَدْ جَعَلْتُ لَكُمْ مِنْ نَفْسِي قُدْوَةً لِتَفْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا كَمَا فَعَلْتُ أَنَا لَكُمْ" (يُوحَنَّا 13: 15). فَالْمَحَبَّةُ الْمَسِيحِيَّةُ لَيْسَتْ مَبْدَأً نَظَرِيًّا، بَلْ تَجَلٍّ عَاشَهُ الْمُعَلِّمُ وَدَعَانَا لِنَسِيرَ فِيهِ.  أَمَّا عِبَارَةُ: "عَرَفَ النَّاسُ جَمِيعًا"، فَتَشِيرُ إِلَى أَنَّ لُغَةَ الْمَحَبَّةِ هِيَ لُغَةٌ مَفْهُومَةٌ لِلْجَمِيعِ. فَلَيْسَتِ الْمَحَبَّةُ مَعَاهَدَةً فَلْسَفِيَّةً، وَلَا تَعْلِيمًا مُعَقَّدًا مَخْصُوصًا لِفِئَةٍ نُخْبَوِيَّةٍ. إِنَّهَا اللُّغَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي يَفْهَمُهَا كُلُّ إِنْسَانٍ، وَيَقْدِرُ كُلُّ إِنْسَانٍ أَنْ يُمَارِسَهَا. فَكُلُّ قَلْبٍ بَشَرِيٍّ يَعْرِفُ بِفِطْرَتِهِ فَرْقَ الْمَحَبَّةِ عَنْ الْجَفَاءِ، وَالْحُضُورَ الْمُحِبَّ عَنِ الْغِيَابِ الْبَارِدِ. لُغَةُ الْمَحَبَّةِ هِيَ الدَّعْوَةُ الْمُوَجَّهَةُ إِلَى الْجَمِيعِ، لِلتَّوَاصُلِ، وَلِبِنَاءِ جِسُورِ الْحَقِّ وَالْحَيَاةِ وَالسَّلَامِ. فَفِيهَا تَتَجَلَّى تِلْمَذَةُ الْمَسِيحِ، وَمِنْ خِلَالِهَا يَتَعَرَّفُ الْعَالَمُ عَلَى حُضُورِ اللهِ الْمُخَلِّصِ فِي وَسَطِنَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يوسابيوس القَيْصَرِيّ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ قَائِلًا: "لَوْ أَظْهَرْنَا الْمَحَبَّةَ فِي سُلُوكِنَا، لَصَارَتْ حَيَاتُنَا بِذَاتِهَا مَبْشَرَةً بِالإِنْجِيلِ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا أَيَضًا رَسُولًا حَيًّا." أَمَّا عِبَارَةُ "جَمِيعًا"، فَتَشِيرُ إِلَى كُلِّ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانُوا أَصْحَابًا أَمْ أَعْدَاءً. أَمَّا عِبَارَةُ "تَلَامِيذِي"، فَتُشِيرُ إِلَى العَلَاقَةِ السَّامِيَةِ الخَاصَّةِ بَيْنَ المَسِيحِ وَتَلَامِيذِهِ، الَّذِينَ عَاشَرُوهُ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَمِنْ هَذِهِ العِشْرَةِ صَارَتْ لَهُم نَفْسُ صِفَاتِ المَسِيحِ، كَمَا يَقُولُ المَثَلُ المَأْثُور: "قُلْ لِي مَنْ تُعَاشِرْ، أَقُولُ لَكَ مَنْ أَنْتَ." وَقَدْ جَرَى المَسِيحِيُّونَ الأَوَّلُونَ عَلَى هَذِهِ الوَصِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي شَهَادَاتِ الرُّومَانِيِّينَ الوَثَنِيِّينَ: "اُنْظُرْ كَيْفَ يُحِبُّ هَؤُلَاءِ المَسِيحِيُّونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا؛ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُسْتَعِدٌّ أَنْ يَبْذُلَ حَيَاتَهُ لِأَجْلِ الآخَر." وَقَالَ وَثَنِيٌّ آخَرُ فِيهِم: "إِنَّهُمْ يُحِبُّ أَحَدُهُمْ الآخَرَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَرَّفَ بِهِ." تِلْكَ المَحَبَّةُ هِيَ عَلَامَةٌ وَاضِحَةٌ لِأَبْنَاءِ اللهِ، كَمَا جَاءَ فِي رِسَالَةِ يُوحَنَّا الرَّسُولِ: "نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا انْتَقَلْنَا مِنَ المَوْتِ إِلَى الحَيَاةِ، لِأَنَّنَا نُحِبُّ إِخْوَتَنَا. مَنْ لَا يُحِبُّ، بَقِيَ رَهْنَ المَوْتِ" (1 يُوحَنَّا 3: 14). وَهِيَ عَلَامَةٌ لِلنَّاسِ يَعْرِفُونَهُ بِهَا: "مَنْ أَحَبَّ أَخَاهُ أَقَامَ فِي النُّورِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سَبَبُ عَثْرَةٍ" (1 يُوحَنَّا 2: 10). وَهِيَ العَلَامَةُ الَّتِي يُمَيِّزُ بِهَا اللهُ أَوْلَادَهُ: "إِذَا قَالَ أَحَدٌ: ((إِنِّي أُحِبُّ اللهَ))، وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، كَانَ كَاذِبًا، لِأَنَّ الَّذِي لَا يُحِبُّ أَخَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَهُوَ لَا يَرَاهُ" (1 يُوحَنَّا 4: 20).  ٱلْمَحَبَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ وَصِيَّةٍ، بَلْ هِيَ هُوِيَّةُ ٱلتِّلْمِيذِ. فَعِنْدَمَا يُحِبُّ ٱلْمُؤْمِنُ كَمَا أَحَبَّ يَسُوعُ، يُصْبِحُ إِنْجِيلًا حَيًّا، وَيَكْشِفُ لِلْعَالَمِ وَجْهَ ٱللهِ، لِأَنَّ "ٱللهَ مَحَبَّةٌ" (1 يُوحَنَّا 4: 8). وَقَالَ ٱلْقِدِّيسُ بَاسِيلِيُوس ٱلْكَبِير: "لَا يَكْفِي أَنْ نَعْرِفَ ٱلْمَسِيحَ بِٱلْعَقْلِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ نُصِيرَ مِثْلَهُ بِٱلْمَحَبَّةِ، حَتَّى يَكُونَ ٱلْإِنْجِيلُ كِتَابًا مَقْرُوءًا فِي حَيَاتِنَا." المَحبَّةُ هِيَ المِقياسُ الجَديدُ الَّذي تَظهَرُ فيهِ حَقيقَةُ تَلمَذَتِنا لِلرَّبِّ القائم.

 

 

ثانِيًا: تَطْبيقاتُ النَّصِّ الإِنْجيليِّ (يُوحَنَّا 13: 31-35)

 

اِنْطِلاقًا مِن هذِهِ المُلاحَظاتِ الوَجيزَةِ حَوْلَ وَقائِعِ النَّصِّ الإِنْجيليِّ (يُوحَنَّا 13: 31-35)، يُمكِنُ أَنْ نَسْتَنْتِجَ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ خِطابِ سَيِّدِنا يَسوعَ المَسيحِ في وَداعِهِ في العَشاءِ الأَخيرِ؛ وَيُعَبِّرُ هذَا الخِطابُ عَنْ وَصِيَّتِهِ الجَديدَةِ في المَحَبَّةِ الأُخَوِيَّةِ. وَمِنْ هُنا نَبْحَثُ في نُقْطَتَيْنِ: وَصِيَّةٌ جَديدَةٌ، وأَوْجُ جِدَّةِ الوَصِيَّةِ الجَديدَةِ في المَحَبَّةِ الأُخَوِيَّةِ.

 

1) لِماذا وَصِيَّةٌ جَديدة؟

 

يُعطي سَيِّدُنا يَسوعُ المَسيحُ في العَشاءِ الأَخيرِ "وَصِيَّةً جَديدةً: أَحِبُّوا بَعضُكُم بَعضًا. كَما أَحبَبتُكُم، أَحِبُّوا أَنتُم أَيضًا بَعضُكُم بَعضًا" (يُوحَنَّا 13: 34). وتَرِدُ عِبارةُ "وَصِيَّةٌ جَديدةٌ" أَربعَ مَرَّاتٍ في العَهدِ الجَديدِ: مَرَّةً في إِنجيلِ يُوحَنَّا، وَثَلاثَ مَرَّاتٍ في رَسائِلِ يُوحَنَّا (1 يُوحَنَّا 2: 7-8، 2 يُوحَنَّا 5). وتَتَكَرَّرُ هذِهِ الوَصِيَّةُ مِرارًا في العَهدِ الجَديدِ (يُوحَنَّا 15: 12 و17، رُومَة 13: 8، 1 بُطرُس 1: 22، 1 يُوحَنَّا ٣: 11 و23، 4: 7 و11 و12)، دُونَ أَنْ تُسَمَّى جَديدةً.

تُوجَدُ أَكثَرُ مِن خَمسِمِئَةِ وَصِيَّةٍ في الكِتابِ المُقَدَّسِ، وَهِيَ مُلَخَّصَةٌ في الوَصايا العَشْرِ (خُرُوج 20: 3-17، تَثنِيَة 5: 7-21). وَإِنَّ كَلِمَةَ "وَصِيَّة" فِي الأَصْلِ اليُونانِيِّ (ἐντολή) تُشِيرُ إِلَى "الصِّفَةِ الإِلْهِيَّة"، وَلا تَعنِي مُجَرَّدَ القانُونِيَّةِ، أَيِ الوَثِيقَةَ الَّتي يُعلِنُ فيها الشَّخصُ إِرادَتَهُ الأَخِيرَةَ، بَل تَتَضَمَّنُ فِكرَةَ شَريعَةِ الوَحيِ الإِلَهِيِّ، أَساسِ الحَياةِ الدِّينيَّةِ وَالاجتِماعِيَّةِ.

 

عَهِدَ َيَسوعُ المَسيحُ إِلَى تَلامِيذِهِ، وَكَلَّفَهُم بِأُسلوبٍ لِلحَياةِ، وَنَسَقٍ فِي العَمَلِ أَساسُهُ المَحبَّةُ. وَقَدِ اختارَ الرَّبُّ يَسوعُ نَفْسَ الكَلِمَةِ "وَصِيَّة" الَّتي تَصِفُ شَريعَةَ العَهدِ القَديمِ، مِمَّا يَعني أَنَّ لِوَصِيَّتِهِ نَفْسَ السُّلْطانِ الَّذي لِلشَّريعَةِ. وَقَد وَصَفَ الرَّسولُ بُولُسُ "المَحبَّةَ" بِأَنَّها "شَريعَةُ المَسيحِ" (غَلاطِيَّة 6: 2). كَما يُؤَكِّدُ أَيضًا يَعقُوبُ الرَّسُولُ أَنَّ وَصِيَّةَ المَحبَّةِ هِيَ: "الشَّريعَةُ السَّامِيَةُ" (يَعقُوب 2: 8)، "الشَّريعَةُ الكامِلَةُ، شَريعَةُ الحُرِّيَّةِ" (يَعقُوب 1: 25).

 

مَرَّت وَصِيَّةُ المَحبَّةِ في ثَلاثِ مَراحِل:

1. مَرحَلَةُ الغابِ: حَيثُ كانَ الإِنسانُ يُحِبُّ نَفسَهُ فَقَط، وَالقَوِيُّ يَقتُلُ الضَّعِيفَ.

2. مَرحَلَةُ الدِّيانَةِ اليَهودِيَّةِ: "العَينُ بِالعَينِ، وَالسِّنُّ بِالسِّنِّ" (تَثنِيَة 19: 21).

3. مَرحَلَةُ وَصِيَّةِ الوَحيِ الجَديدَةِ: "أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ" (مَتّى 19: 19).

 

وَبِهذَا المَعْنَى قالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "اِلبَسوا عَواطِفَ الحَنانِ وَاللُّطْفِ وَالتَّواضُعِ وَالوَداعةِ وَالصَّبْرِ. اِحتَمِلوا بَعضُكُم بَعضًا، وَاصفَحوا بَعضُكُم عَنْ بَعضٍ إِذا كانَت لِأَحَدٍ شَكْوَى مِنَ الآخَرِ. فَكَمَا صَفَحَ عَنكُمُ الرَّبُّ، اِصفَحوا أَنتُم أَيضًا. وَالبَسوا فَوقَ ذلِكَ كُلِّهِ ثَوبَ المَحبَّةِ، فَإِنَّها رِباطُ الكَمالِ" (كُولُسِّي 3: 12-14).

 

وَفي مَوضِعٍ آخَرَ يَقولُ: "لَو كانَ لِيَ الإِيمانُ الكامِلُ فَأَنقُلَ الجِبالَ، وَلَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّةُ، فَما أَنا بِشَيءٍ" (1 قُورِنْتُس 13: 2). فَدِيَانَةٌ لا مَكانَ فيها لِمَحبَّةِ اللهِ وَلا لِلقَريبِ، هِيَ لَيسَت دِيَانَةً.

 

أَمَّا كَلِمَةُ "جَديدَة" فِي الأَصْلِ اليُونانِيِّ (καινός)، فَتَعني، فِي هذَا السِّياقِ الإِنْجيليِّ، الاِنتِعاشَ وَالتَّجديدَ. فَيُوحَنَّا الإِنْجيليُّ يَصِفُ وَصِيَّةَ المَحبَّةِ الأُخَوِيَّةِ بِالجَديدَةِ، وَلِهذَا النِّظامِ الجَديدِ مِيزَةٌ خاصَّةٌ فِي كِتاباتِ يُوحَنَّا الحَبِيبِ، فَيَقولُ: "هذِهِ الوَصِيَّةُ القَديمَةُ هِيَ الكَلِمَةُ الَّتي سَمِعتُموها. عَلَى أَنَّها أَيضًا وَصِيَّةٌ جَديدَةٌ أَكتُبُ بِها إِلَيْكُم" (1 يُوحَنَّا 2: 8). فَالوَصِيَّةُ قَديمَةٌ، فَقَد جاءَ فِي سِفْرِ الأَحْبارِ: "أَحبِبْ قَرِيبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ" (أَحْبار 19: 18)، لَكِنَّ الصَّليبَ قَدَّمَها لَنا بِأَعْماقٍ جَديدةٍ، وَهَبَنا اِنتِعاشًا لِإِمكانيَّةِ مُمَارَسَتِها بِمَفْهُومٍ جَديدٍ.  وَكَما يُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسطِينُوس:
"لِماذا يُسَمِّي الرَّبُّ إِذًا جَديدًا ما هُوَ واضِحٌ أَنَّهُ قَديمٌ؟ أَم هِيَ وَصِيَّةٌ جَديدةٌ لأَنَّ المُؤمِنَ يَخلَعُ الإِنسانَ القَديمَ وَيَلبَسُ الإِنسانَ الجَديدَ؟ لَيسَ كُلُّ مَحبَّةٍ تُجَدِّدُ مَنْ يَسمَعُ هذِهِ الوَصِيَّةَ وَيَعمَلُ بِها، بَلِ المَحبَّةُ الَّتي مَيَّزَها الرَّبُّ عَنِ المَحبَّةِ الجَسَدِيَّةِ فَقَط، وَلِذلِكَ قالَ: كَما أَحبَبتُكُم أَنا. لِهذَا أَحبَّنا، حَتّى نُحِبَّ بَعضُنا بَعضًا. وَمَنَحَنا هذِهِ المَحبَّةَ لِنَكونَ مُتَّحِدِينَ بِالمَحبَّةِ المُتَبادَلَةِ فِيمَا بَيْنَنا، فَنَكونَ جَسَدًا لِهذَا الرَّأسِ الرَّفِيعِ، رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ."

 

2) ما هي أوجُهُ الوَصِيَّةِ الجَديدةِ؟

 

نَجِدُ وَصِيَّةَ المَحبَّةِ الأُخَوِيَّةِ في العَهدِ القَديمِ (أَحبار 19: 17-18، 34)، إِلَّا أَنَّ وَصِيَّةَ يَسوعَ تُعَدُّ جَديدةً بِمِثالِها، وَبِمَصدَرِها، وَبِمِقياسِها، وَبِدَوافِعِها، وَبارتِباطِها بِالعَهدِ الجَديدِ، وَبِعَلامَتِها الفارِقَةِ، وَبِشُمولِيَّتِها، وَبِأُسلوبِها.

 

أ) وَصِيَّةٌ جَديدةٌ بِمِثالِها

 

يَجِبُ عَلَى التَّلامِيذِ أَنْ يُحِبُّوا بَعضَهُم بَعضًا، لِأَنَّ يَسوعَ قَد أَحَبَّهُم. فَالمَحبَّةُ الأُخَوِيَّةُ هِيَ وَصِيَّةٌ قَديمَةٌ وَرَدَت في شَريعَةِ موسى: "أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ" (الأَحبار 19: 18). وَمَعَ ذلِكَ، فَإِنَّ وَصِيَّةَ المَسيحِ جَديدةٌ في نَوْعِيَّةِ الحُبِّ، فَقَد أَحَبَّ يَسوعُ إِلى أَقصى الحُدودِ: "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظَمُ مِن أَنْ يَبذُلَ نَفْسَهُ في سَبيلِ أَحِبَّائِهِ" (يُوحَنَّا 15: 13).  فَالمَحبَّةُ وَصِيَّةٌ جَديدةٌ لأَنَّهُ مَطلوبٌ مِنَّا أَنْ نُحِبَّ كَما أَحَبَّنا الرَّبُّ يَسوعُ، وَنَحنُ نَعلَمُ كَم أَحَبَّنا الرَّبُّ حَتَّى آخِرِ نُقطَةٍ مِن دَمِهِ عَلَى الصَّليبِ. لَقَد أَحَبَّ الرَّبُّ يَسوعُ تَلامِيذَهُ بِكُلِّ نُكرانٍ لِذَاتِهِ، فِي أَسمَى دَرَجاتِ المَحبَّةِ الإِنسانيَّةِ، وَفِي أَسمَى دَرَجاتِ التَّضحِيَةِ. فَالمَسيحُ جَسَّدَ الحُبَّ.

 

فَبِصِفَتِهِ إِنسانًا، عاشَ يسوع في حُبٍّ بُنُوِيٍّ مَعَ اللهِ، مُكَرِّسًا نَفسَهُ لِلآبِ (لوقا 2: 49)، وَعاشَ فِي جَوٍّ مِنَ الصَّلاةِ وَالشُّكرِ (مرقُس 1: 35)، خُصُوصًا فِي تَتْمِيمِ الإِرادَةِ الإِلهِيَّةِ (يُوحَنَّا 4: 34)، وَكانَ في حالَةِ الإِصغاءِ الدَّائِمِ إِلَى اللهِ (يُوحَنَّا 5: 30).  وَأَحَبَّ تَلامِيذَهُ حُبًّا مَجَّانيًّا، وَبَرْهَنَ عَلَى حُبِّهِ بِالخِدمَةِ وَالتَّواضُعِ، فَغَسَلَ أَقدامَ التَّلامِيذِ، وَمَسَحَها بِالمِندِيلِ (يُوحَنَّا 13: 5)، وَبَذَلَ ذاتَهُ عَلَى الصَّليبِ لأَجلِ أَحبَّائِهِ كَما يَصْرِّحُ إِنْجيلُ يُوحَنَّا: "يَبذُلُ يَسوعُ نَفْسَهُ في سَبيلِ الخِرافِ" (يُوحَنَّا 10: 12). فَالصَّلِيبُ الّذِي حَمَلَهُ يَسوعُ لَمْ يَكُن نِهَايَةَ الرِّسَالَةِ، بَلْ مَفْتَاحَ الحَيَاةِ الجَدِيدَةِ. وَكَمَا قَالَ: "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ، فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ، تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ" (يوحنّا 12: 24). عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ لا يَهْرُبَ مِنَ الصَّلِيبِ، بَلْ أَنْ يَحْيَا فِيهِ بِذَاتِ مَنْطِقِ المَحَبَّةِ وَالبَذْلِ.
فَالصَّلِيبُ لَيْسَ عِبْئًا نَتَجَنَّبُه، بَلْ دَعْوَةٌ نَحْمِلُهَا بِحُرِّيَّةِ الأَبْنَاءِ، عَلَى خُطَى السَّيِّدِ المَسِيحِ، الّذِي "إِذْ كَانَ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ... أَحَبَّهُم إِلَى الْمُنْتَهَى" (يوحنّا 13: 1)

 

وَبِصِفَتِهِ إِلَهًا، أَتى يَسوعُ لِيَعيشَ حُبَّهُ لِلْبَشَرِ وَبَيْنَهُم، فَقَد جاءَ لِيُعْطِيَ حَياتَهُ كُلَّها، لَيسَ فَقَط لِبَعضِ أَحبَّائِهِ (يُوحَنَّا ١١: ٣)، بَل لِلجَمِيعِ (مرقُس ١٠: ٤٥). وَقَدِ اعتَنى بِالجَمِيعِ، خُصُوصًا بِالـمَنبوذِينَ وَالخُطاةِ (لوقا 7: 36-50)، وَاخْتارَ مَنْ يَشاءُ لِيَجْعَلَهُم تَلامِيذَهُ وَأَحبَّاءَهُ (يُوحَنَّا 15: 10-16). وَعَلَى الصَّليبِ، كَشَفَ يَسوعُ شِدَّةَ مَحبَّتِهِ، لِيَسْطَعَ بِبَهاءِ طاعَتِهِ لِلآبِ (فِيلِبِّي 2: 8) وَمَحبَّتِهِ لِخاصَّتِهِ: “كانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَهُ الَّذينَ في العالَمِ، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إِلى أَقصى حُدودِه" (يُوحَنَّا 13: 1).  وَكَمَا أَنَّ عَظَمَةَ مَحبَّةِ الرَّبِّ يَسوعَ جَعَلَتْهُ "يَضَعُ نَفسَهُ لأَجلِ أَحبَّائِهِ" (يُوحَنَّا 15: 13)، كَذلِكَ يَنبَغي لَنا أَنْ نَضَعَ نُفوسَنا لأَجلِ إِخوَتِنا، كَما جاءَ فِي تَعليماتِ يُوحَنَّا الرَّسُولِ: "وَإِنَّما عَرَفْنا المَحبَّةَ بِأَنَّ ذاكَ قَد بَذَلَ نَفْسَهُ في سَبيلِنا. فَعَلَيْنا نَحنُ أَيضًا أَنْ نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا" (1 يُوحَنَّا 3: 16).

 

وَمِن هذَا الـمَنطَلَقِ، لا يُمكِنُ لِلمُؤمِنِ أَنْ يُغْلِقَ أَحشاءَهُ أَمامَ مُؤمِنٍ آخَرَ في احْتِياجِهِ (1 يُوحَنَّا 3: 17)، بَل وَاجِبُهُ أَنْ يَبذُلَ ما يَملِكُ لِمُعاوَنَةِ الآخَرِ وَبَرَكَتِهِ. فَهذِهِ الوَصِيَّةُ جَديدةٌ بِمِثَالِها الأَعلى، وَهُوَ يَسوعُ المَسيحُ. وَيَتَّسِمُ الحُبُّ بِأَنْ نَبذُلَ الغالِيَ وَالرَّخِيصَ في سَبيلِ أَحبَّائِنا. وَبِعِبارَةٍ أُخرى، أَعْطى يَسوعُ مِثالَ مَحبَّتِنا بَعضُنا لِبَعضٍ مِثالَ مَحبَّتِهِ لَنا، وَلِذلِكَ يَدْعُونا حُبُّ المَسيحِ إِلى المُعامَلَةِ بِالمِثلِ.

 

ب) وَصِيَّةٌ جَديدةٌ بِمَصدَرِها

 

إِنَّ وَصِيَّةَ المَحبَّةِ الأُخَوِيَّةِ جَديدةٌ أَيضًا مِن حَيْثُ مَصدَرُها، لأَنَّها عَمَلُ اللهِ فينا. فَلَن يَتَسَنّى لَنا أَنْ نَكونَ رُحَماءَ مِثلَ الآبِ السَّماوِيِّ — كَما قالَ الرَّبُّ: "كونوا رُحَماءَ كَما أَنَّ أَباكُم رَحيمٌ" (لوقا 6: 36) — إِن لَم يَسكُبِ الرُّوحُ القُدُسُ في قُلوبِنا المَحبَّةَ، كَما جاءَ فِي الرِّسالَةِ إِلى أَهلِ رُومة: "لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رُومة 5: 5). وَفِي هذَا الصَّدَدِ، جاءَت صَلاةُ يَسوعَ الكَهَنُوتِيَّةُ: "لِتَكُنْ فيهِمُ المَحبَّةُ الَّتي أَيّايَ أَحبَبتَني بِها، فأَكونَ أَنا فيهِم" (يُوحَنَّا 17: 26). فَالمَحبَّةُ هِيَ النَّتيجَةُ الطَّبِيعِيَّةُ لِبَركَةِ اللهِ، وَلَيسَت شَرطًا لَها؛ فَالوَصِيَّةُ تُعَبِّرُ عَن كَيفَ يَجِبُ أَنْ يَتَصَرَّفَ الإِنسانُ الَّذي يَعيشُ فِعلاً فِي فَرحِ بَركَةِ اللهِ. وَكَمَا قالَ الرَّبُّ: "لا تَستَطيعونَ أَنتُم أَنْ تُثمِروا إِنْ لَم تَثبُتوا فيَّ" (يُوحَنَّا 15: 4).

 

ج) وَصِيَّةٌ جَديدةٌ بِمِقياسِها

 

تَطلُبُ وَصِيَّةُ المَحبَّةِ الوارِدَةُ في سِفْرِ الأَحْبارِ مَحبَّةَ القَريبِ (أَحبار 19: 18)، كَما يُحِبُّ الإِنسانُ نَفسَهُ، حَيثُ أَنَّ مِقياسَ المَحبَّةِ عِندَ اليَهودِ يَكمُنُ في عَدمِ الخُروجِ عَن وَصايا اللهِ، وَعَدمِ إِيذاءِ القَريبِ. أَمَّا مِقياسُ المَحبَّةِ في العَهدِ الجَديدِ، فَهُوَ مَحبَّةُ القَريبِ كَما أَحَبَّنا المَسيحُ وَبَذَلَ نَفسَهُ في سَبيلِنا (يُوحَنَّا 13: 1). فَوَصِيَّةُ المَحبَّةِ قَديمَةٌ، وَلَكِنَّ الصَّليبَ قَدَّمَها لَنا بِأَبعادٍ جَديدةٍ. وَيُعَلِّقُ الكاردينالُ اللّاهوتِيُّ شارل جُورنيِه: "حينَ يَكبُرُ الحُبُّ، فَإِنَّ مِقياسَ الحُبِّ يَكبُرُ أَيضًا." لِذلِكَ، فَإِنَّ أَنْ نُحِبَّ كَما أَحَبَّنا المَسيحُ، يَعني أَنْ نُحِبَّ نَفْسَ مَحبَّةِ اللهِ الآبِ لِلاِبْنِ يَسوعَ المَسيحِ، كَما جاءَ في صَلاةِ يَسوعَ الكَهنُوتِيَّةِ: "عَرَّفتُهُم بِاسمِكَ، وَسأُعَرِّفُهُم بِهِ، لِتَكونَ فيهِمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها، وَأَكونَ أَنا فيهِم" (يُوحَنَّا 17: 26).

 

يُذَكِّرُنا يُوحَنَّا الإِنْجيليُّ:"فإِذا أَحَبَّ بَعضُنا بَعضًا، فَاللهُ فينا مُقيمٌ، وَمَحبَّتُهُ فينا مُكتَمِلَةٌ" (1 يُوحَنَّا 4: 12). وَبِذلِكَ تَكونُ وَصِيَّةُ المَحبَّةِ جَديدةً، لأَنَّها تَدعُونا لا أَنْ نَعكِسَ صُورَةَ هذِهِ المَحبَّةِ فَحَسْب، بَل أَنْ نُمارِسَ عَمَلِيًّا مَحبَّةَ اللهِ الآبِ لِابنِهِ — وَهيَ مَحبَّةٌ لَم تَظهَرْ بِمِثلِ هذِهِ القُوَّةِ قَبلَ تَجَسُّدِ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ وَمَوتِهِ لأَجلِنا على صَليبِ الجُلجُثَّةِ. فَيَقومُ مِقياسُ المَحبَّةِ عِندَ المَسيحِ على بَذلِ الذَّاتِ: "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظَمُ مِن أَنْ يَبذُلَ نَفْسَهُ في سَبيلِ أَحِبَّائِهِ" (يُوحَنَّا 15: 13). لَيْسَتِ الوَصِيَّةُ الجَدِيدَةُ جَدِيدَةً فِي شَكْلِهَا، فَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ: "تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (أحبار 19: 18)، وَلَكِنَّهَا جَدِيدَةٌ فِي مِقْيَاسِهَا: "كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا".  فَالمَحَبَّةُ المَسِيحِيَّةُ لَيْسَتْ مَجَرَّدَ مَشَاعِرَ أَو عَوَاطِف، بَلْ هِيَ عَطَاءٌ حَتَّى بَذْلِ الذَّات، كَمَا أَحَبَّ يَسوعُ حَتَّى الصَّلِيبِ. بِهَذَا المِقْيَاسِ الجَدِيدِ، يَصِيرُ الصَّلِيبُ مِعْيَارَ المَحَبَّة، وَيُصْبِحُ التَّلَمُذُ لِيَسوعَ مَرْهُونًا بِالاقْتِدَاءِ بِهِ فِي خِدْمَةِ الإِخْوَةِ، حَتَّى النِّهَايَة.

 

يَكمُلُ هذَا المِقياسُ فِي أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ لِلآخَرينَ ما يُحِبُّونَ لِأَنفُسِهِم، وَأَنْ يُحِبُّوا في النَّاسِ المَسيحَ الَّذي أَحبَّهُم، وَأَنْ يُحِبُّوا بِلا قُيودٍ وَبِلا حُدودٍ. فَمَنْ يُحِبُّ المَسيحَ وَيُحِبُّ مِن أَجلِهِ النَّاسَ أَجمَعينَ، لا يَعرِفُ البُغضَ وَلا الحَسَدَ، وَلا يَتَمَنّى الشَّرَّ لأَحَدٍ، وَإِنَّهُ لا يَتَباهى، وَلا يَنتَفِخُ، وَلا يَأتي قُباحَةً، وَلا يَسعَى وَراءَ مَكسَبٍ خاصٍّ على حِسابِ اللهِ وَالقَريبِ، وَلا يُخاصِمُ أَحدًا، وَلا يُنافِقُ مَعَ أحد. "إِنَّهُ لا يَظُنُّ بِالسُّوءِ، وَلا يَفْرَحُ بِالظُّلْمِ." (1 قورنتس 13).  هيَ وَصِيَّةٌ جَديدةٌ بِقَدْرِ ما تَقْتَضِي تَواضُعًا وَرَغْبَةً فِي الخِدْمَةِ، تَحْمِلانِ عَلَى اخْتِيارِ الْمَكانِ الأَخِيرِ، وَعَلَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الآخَرِينَ؛ وَتَذْهَبُ الْمَحَبَّةُ الأَخَوِيَّةُ إِلَى أَقْصى حُدودِ الْبَذْلِ وَالْعَطاءِ. وَلَيْسَتِ الْمَحَبَّةُ مُجَرَّدَ مَشَاعِرَ حَارَّةٍ، لَكِنَّهَا سُلُوكٌ وَعَمَلٌ. وَالْمَحَبَّةُ الأَخَوِيَّةُ فِي نَظَرِ بُولُسَ الرَّسُولِ هِيَ خِدْمَةٌ مُتَبَادَلَةٌ، كَما يَقُولُ: "بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (غلاطِيَّة 5: ١٣). 

 

أَخيرًا، فِي الْمَحَبَّةِ، يُنْكِرُ الْمَرْءُ ذَاتَهُ مَعَ الْمَسِيحِ الْمَصْلُوبِ، كَمَا عاشَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "مِن أَجْلِ الْمَسِيحِ َسِرْتُ كُلَّ شَيْءٍ، وَعَدَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ نُفَايَةً لِأَرْبَحَ الْمَسِيحَ." (فيلبِّي 3: 1-11). وَيُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّهُ لا قِيمَةَ لِشَيْءٍ بِدُونِ مَحَبَّةِ الْغَيْرِ، كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ: "وَأَدْعُو اللهَ أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي الْفَهْمِ وَكُلِّ فِطْنَةٍ، لِتُمَيِّزُوا بَيْنَ الأَفْضَلِ، فَتَكُونُوا أَنْقِيَاءَ بِلا عَيْبٍ لِيَوْمِ الْمَسِيحِ. (فيلبِّي 1: 9-11). 

 

يُمْكِنُنَا الْقَوْلُ بِاخْتِصَارٍ: إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ يُوصِينَا أَنْ نُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا بِقَدْرِ مَحَبَّتِهِ لَنَا. وَلَكِنْ، كَمْ أَحَبَّنَا؟ يُجِيبُنَا الْقِدِّيسُ بُولُسُ الرَّسُولُ قَائِلًا: "سِيرُوا فِي الْمَحَبَّةِ سِيرَةَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَحَبَّنَا وَجَادَ بِنَفْسِهِ لِأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً لِلَّهِ طَيِّبَةَ الرَّائِحَةِ"(أفسس 5: 2).  فَالصَّلِيبُ هُوَ قِيَاسُ حُبِّ يَسُوعَ لَنَا.  وَيُبَيِّنُ بُطْرُسُ الرَّسُولُ كَيْفَ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَيَقُولُ: "فَطَهَّرْتُمْ نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ، لِتُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مَحَبَّةً أَخَوِيَّةً بِلا رِيَاء، فَلْيُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مَحَبَّةً ثَابِتَةً بِقَلْبٍ طَاهِرٍ"(1 بطرس 1: 22).  فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ بِنَفْسِ الْمَحَبَّةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا يَسُوعُ، كما يوضَّح يوحنا الرسول قائلاً: "أَمَّا نَحنُ فإِنَّنا نُحِبّ لأَنَّه أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه" (1يوحنا 4: 19). فَيَسُوعُ أَعْطَى وَصِيَّتَهُ الْجَدِيدَةَ لِلرُّسُلِ بَعْدَمَا غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ:"أَتَرَى أَخَاكَ الْجَالِسَ مُقَابِلَكَ عَلَى الْمَائِدَةِ؟ أُرِيدُكَ أَنْ تُحِبَّ هَذَا الشَّخْصَ، وَبِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي بِهَا أَحْبَبْتُكُمْ، أُوصِيكَ الآنَ أَنْ تُحِبَّ أَخَاكَ هَذَا.

 

د) وَصِيَّةٌ جَدِيدَةٌ بِدَوَافِعِهَا

 

تُعْتَبَرُ وَصِيَّةُ الْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ جَدِيدَةً فِي دَوَافِعِهَا. فَمِنْ دَوَافِعِهَا: عَلاقَةُ الْمَسِيحِيِّينَ بِفَادٍ وَاحِدٍ، هُوَ الْمَسِيحُ، الَّذِي أَحَبَّهُمْ: "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لِأَجْلِ الْجَمِيعِ" طيموتاوس 2: 6).  فَعَلاقَاتُ الْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ هِيَ ثَمَرَةُ مَحَبَّةِ يَسُوعَ، وَقَدْ نَشَأَتْ بِفَضْلِهِ، إِذْ هُوَ نَبْعُهَا وَيَنْبُوعُهَا. وَقَدْ كَلَّفَهُمُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، قَبْلَ مَوْتِهِ، كَآخِرِ وَصِيَّةٍ لَهُمْ، فَقَالَ:
"
أُعْطِيكُمْ وَصِيَّةً جَدِيدَةً: أَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (يُوحنّا 13: 34).

 

قَبْلَ مَجِيءِ الْمَسِيحِ، لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ الْعَالَمِ مِثْلُ هَذَا الْحُبِّ، إِذْ إِنَّ الْمَسِيحَ هُوَ الَّذِي عَرَّفَنَا عَلَيْهِ، كَمَا يُصَرِّحُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ: "إِنَّمَا عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ بِأَنَّ ذَاكَ قَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِنَا، فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنْ نَبْذُلَ نُفُوسَنَا فِي سَبِيلِ إِخْوَتِنَا" (١ يُوحَنَّا 3: 16).

 

ه) وَصِيَّةٌ جَدِيدَةٌ بِمَبْدَئِهَا

 

وَصِيَّةُ الْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ جَدِيدَةٌ بِمَبْدَئِهَا، لأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى مَبْدَإٍ جَدِيدٍ، إِذْ لا تَرْتَكِزُ عَلَى مَحَبَّةِ الإِلَهِ الَّذِي أَخْرَجَ الشَّعْبَ مِنْ عُبُودِيَّةِ مِصْرَ فَحَسْب، بَلْ تُرَكِّزُ أَيْضًا عَلَى مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ عَلَى الصَّلِيبِ فِي سَبِيلِ أَحِبَّائِهِ.  فَهِيَ جَدِيدَةٌ بِعَلَاقَتِهَا بِالْعَهْدِ الْجَدِيدِ، إِذْ تَتَعَلَّقُ بِمَرْحَلَةِ الْخَلاصِ الأَخِيرَةِ الَّتِي افْتَتَحَهَا الْمَسِيحُ بِمَوْتِهِ وَمَجْدِهِ. إِنَّهَا مِيثَاقُ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي خَتَمَهُ الْمَسِيحُ بِدَمِهِ، كَمَا قَالَ: "هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي، الَّذِي يُرَاقُ مِنْ أَجْلِكُمْ " (لوقا 22: 20). فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْمِيزَةُ الْخَاصَّةُ لِلْإِنْسَانِ الْجَدِيدِ وَالْمُتَجَدِّدِ عَلَى صُورَةِ خَالِقِهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "لَبِسْتُمُ الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ، ذَاكَ الَّذِي يُجَدَّدُ عَلَى صُورَةِ خَالِقِهِ لِيَصِلَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ... فَالبَسُوا مَحَبَّةً، فَهِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ" (كولُسِّي 3: 10–14). فَهِيَ جَدِيدَةٌ، لأَنَّهَا تَجْعَلُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْجَمَاعَةِ الْمَسِيحِيَّةِ شَرْطًا جَوْهَرِيًّا.

 

و) وَصِيَّةٌ جَدِيدَةٌ بِارْتِبَاطِهَا بِالْعَهْدِ الْجَدِيدِ

 

تُعْتَبَرُ وَصِيَّةُ الْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ جَدِيدَةً نَظَرًا لِارْتِبَاطِهَا بِالْعَهْدِ الْجَدِيدِ. فَهُنَاكَ عَلاقَةٌ وَثِيقَةٌ بَيْنَ "الْعَهْدِ الْجَدِيدِ" وَ"الْوَصِيَّةِ الْجَدِيدَةِ"، كَمَا قَالَ الرَّبُّ يَسُوعُ: "هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي، الَّذِي يُرَاقُ مِنْ أَجْلِكُمْ"
(لوقا 22: 20).  فَفِي "الْعَهْدِ الْجَدِيدِ" كَتَبَ اللهُ نَامُوسَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ (عِبْرَانِيِّين 10: 16)، أَيْ أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِمْ بِقُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ (2 قُورِنْتُس 3: 3). وَهِيَ وَصِيَّةٌ جَدِيدَةٌ لأَنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي فِينَا هُوَ الَّذِي يُعْطِينَا هَذِهِ الْمَحَبَّةَ، حَتَّى لِأَعْدَائِنَا، فَجَوْهَرُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِينَا هُوَ الْمَحَبَّةُ، لأَنَّ "اللهَ مَحَبَّةٌ"، وَلِذَلِكَ فَالْمَحَبَّةُ هِيَ أَوَّلُ ثِمَارِ الرُّوحِ الْقُدُسِ (غَلاطِيَّة 5: 22–23).

 

وَهِيَ وَصِيَّةٌ جَدِيدَةٌ، "لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَخْلَعُ الإِنْسَانَ الْقَدِيمَ وَيَلْبَسُ الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ. هَذِهِ هِيَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تُجَدِّدُنَا، وَتَجْعَلُنَا إِنْسَانًا جَدِيدًا، وَارِثَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ"، كَمَا يُعَلِّقُ الْعَلَّامَةُ أُوغُسْطِينُوس. فَالْوَصِيَّةُ الْجَدِيدَةُ تُحَقِّقُ كُلَّ مَطَالِبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ: "مَنْ أَحَبَّ قَرِيبَهُ فَقَدْ أَتَمَّ النَّامُوسَ" (رُومَة 13: 8). فَقَدْ بَدَأَ عَصْرٌ جَدِيدٌ مَعَ تَجَسُّدِ الْمَسِيحِ (1 يُوحَنَّا 2: 8). وَقَبْلَ مُغَادَرَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِتَلاَمِيذِهِ، تَرَكَ لَهُم هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْجَدِيدَةَ، لِتَكُونَ نِبْرَاسًا لَهُمْ عَلَى تَوَالِي الأَيَّامِ، إِلَى أَنْ يَجِيءَ ثَانِيَةً، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ يُوحَنَّا الرَّسُولِ: "اِكْتِمَالُ الْمَحَبَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَيْنَا، أَنْ تَكُونَ لَنَا الطُّمَأْنِينَةُ لِيَوْمِ الدَّيْنُونَةِ، فَكَمَا يَكُونُ هُوَ كَذلِكَ نَكُونُ فِي هذَا الْعَالَمِ (1 يُوحَنَّا 4: 17).

 

تِلْكَ الْمَحَبَّةُ هِيَ "وَصِيَّةٌ جَدِيدَةٌ" لأَنَّهَا ثَمَرُ الطَّبِيعَةِ الْجَدِيدَةِ، أَيْ الطَّبِيعَةِ الَّتِي نَسْتَقْبِلُهَا بِالْوِلادَةِ الْجَدِيدَةِ، وَالَّتِي تُدْعَى أَيْضًا فِي الإِنْجِيلِ: "الإِنْسَانُ الْجَدِيدُ" (أَفَسُس 4: 24) أَو "الرُّوحُ" (غَلاطِيَّة 5: 25)، وَيَنْمُو كُلَّمَا سَارَ أَصْحَابُهُ فِي نِعْمَةِ الرُّوحِ. فَمُنْذُ يَوْمِ الْعَنْصَرَةِ وَحَتَّى الآن، يَسْتَطِيعُ النَّاسُ بِكُلِّ حُرِّيَّةٍ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا هذِهِ الطَّبِيعَةَ الْجَدِيدَةَ، عَنْ طَرِيقِ الاِعْتِرَافِ بِأَفْوَاهِهِمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَالإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "فَإِذَا شَهِدْتَ بِفَمِكَ أَنَّ يَسُوعَ رَبٌّ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، نِلْتَ الْخَلَاصَ" (رُومَة 10: 9). وَمِنْ ثَمَّ، يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَحَبَّةِ، مِنْ خِلَالِ هذِهِ الطَّبِيعَةِ الْجَدِيدَةِ. وَلِهذَا السَّبَبِ، سَمَّى يَسُوعُ مَحَبَّةَ بَعْضِنَا بَعْضًا:"الْوَصِيَّةَ الْجَدِيدَةَ". فَقَدْ أَنْهَى يَسُوعُ الْمَسِيحُ عَصْرَ الشَّرِيعَةِ بِعَمَلِ فِدَائِهِ، وَفَتَحَ بِذلِكَ عَصْرًا جَدِيدًا، هُوَ عَصْرُ النِّعْمَةِ.

 

شَرَحَ البَابَا الفَخْرِي بِنِدِكْتُس السَّادِسَ عَشَر مَا هُوَ جَدِيدٌ فِي وَصِيَّةِ الرَّبِّ يَسُوعَ: "إِنَّهَا جَدِيدَةٌ، لأَنَّهُ كَيْ نَعِيشَ هذِهِ الْوَصِيَّةَ الْجَدِيدَةَ، يَجِبُ أَنْ نَغْمُرَ أَنْفُسَنَا فِي الرَّبِّ يَسُوعَ؛ لأَنَّ الْمَحَبَّةَ بِهذَا الشَّكْلِ، كَمَا يَأْمُرُ بِهَا الرَّبُّ يَسُوعُ، مُسْتَحِيلَةٌ بِالْمَجْهُودَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَحْدَهَا.  يَجِبُ أَنْ تَتَوَفَّرَ النِّعْمَةُ الإِلَهِيَّةُ دَاخِلَنَا كَيْ نَسْتَطِيعَ أَنْ نُحِبَّ بِهذَا الشَّكْلِ. لا يُمْكِنُنَا أَنْ نُحِبَّ هَكَذَا سِوَى بِنِعْمَةِ الرَّبِّ.  إِنَّ الْمَحَبَّةَ بِهذَا الشَّكْلِ مُمْكِنَةٌ فَقَطْ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، لأَنَّهُ تَتَوَفَّرُ لَنَا نِعْمَةُ الرَّبِّ يَسُوعَ فِي سِرِّ الإِفْخَارِسْتِيَّا وَفِي سِرِّ التَّوْبَةِ، وَلَدَيْنَا الرُّوحُ الْقُدُسُ مُنْذُ مَعْمُودِيَّتِنَا وَتَثْبِيتِنَا.  لَدَيْنَا الرَّبُّ يَسُوعُ مَعَنَا كَيْ يُسَاعِدَنَا فِي أَنْ نُحِبَّ بِهذَا الشَّكْلِ" (يسوع الناصري، ص 64–65).  وَهَكَذَا أَقَامَ بُولُسُ الرَّسُولُ شُيُوخًا (בְּזְקֵנִים، وَفِي الْيُونَانِيَّةِ: πρεσβυτέρους – "مُتَقَدِّمٌ بِالسِّنِّ") كَهَنَةً فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ أَسَّسَهَا، كَيْ يَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ الْحُصُولِ عَلَى الأَسْرَارِ، وَيَمْنَحُوهُمُ النِّعْمَةَ لِلْمَحَبَّةِ بِهذِهِ الطَّرِيقَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا الرَّبُّ يَسُوعُ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 14: 23).

 

ز) وصية جديدة بعلامتها الفارقة

 

وصية المحبة الأخوية جديدة، لأن المسيح جعلها العلامة الفارقة لأتباعه "إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا 13: 34)؛ فهي العلامة الفارقة التي يعرف بها الناس أتباع المسيح. أراد المسيح أن يمتاز تلاميذه بالمحبة كقول الرسول يوحنا "ووَصِيَّتُه هي أَن نُؤمِنَ بِاسمِ ابنِه يَسوعَ المسيح وأَن يُحِبَّ بَعضُنا بعضًا كَما أَعْطانا وَصِيَّةً بِذلك" (1 يوحنا 3: 23). وإذ يحيا التلاميذ هذه المحبة الأخوية (يوحنا 17: 11)، يصبحون شهودًا ليسوع المرسل من الآب (17: 21) " إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا35:13). وهذه المحبة هي العلامة التي تدل على التلميذ، وبدونها لا يدّعي أحد انه تلميذ يسوع.

 

يرتبط كل المسيحيين بهذه الوصية، لأنهم كلهم أولاد أب واحد سماوي، وإخوة أخ واحد هو المسيح الأخ الأكبر، واهل الإيمان ومعمودية واحدة كما يؤكد ذلك بولس الرسول "هُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة، وإِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا" (أفسس 4: 5-6). ويخبرنا العلامة ترتليانوس وصف الوثنيين للمسيحيين: "انظروا كيف يحبون بعضهم بعضًا!" أمَّا لوقيان الساموسطائي الذي لم ينطق بكلمة صالحة في حق المسيحيين هاجمهم "بأنهم أغبياء، لأنهم يُحبُّون بعضهم البعض إلى درجة يمكن لأي وثني أن يسيء استغلال هذا الحب، فيجمع منهم ثروات طائلة".

 

وهذه المحبة تعارض العنف والحروب المدمِّرة المُسيطرة في العالم، لذلك الذين يمارسونها هم حقّاً تلاميذ يسوع. إن محبتنا التي تشبه محبته ستثبت أننا تلاميذه. ومثل هذه الحب لا يوحِّد المؤمنين فيما بينهم فحسب، بل يجذب غير المؤمنين إلى المسيح. وتشرق هذه المحبة كفجر يوم جديد على العالم " أَنَّ الظَّلامَ على زَوال والنُّورَ الحَقَّ أَخَذَ يُضيء. مَن أَحَبَّ أَخاه أَقامَ في النُّور" (1 يوحنا 2: 8-10). فمن يحب ينتقل من الموت إلى الحياة "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوت إلى الحَياة لأَنَّنا نُحِبُّ إِخوَتَنا"(1 يوحنا 3: 14). وهذه الوصية الجديدة هي شهادة للذين من خارج، إذ تقدم لهم برهاناً قاطعاً على أن أتباع المسيح يتشبهون به في محبتهم للآخرين، وأن أساس المجتمع الإنساني الحي لا يوجد إلا في المسيح.

 

ح) مَحَبَّةٌ جَدِيدَةٌ بِشُمُولِيَّتِهَا

 

إِنَّ وَصِيَّةَ الْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ جَدِيدَةٌ بِشُمُولِيَّتِهَا. فَالمَحَبَّةُ الْمُتَبَادَلَةُ بَيْنَ تَلَامِيذِ يَسُوعَ هِيَ فِي أَصْلِهَا وَصِيَّةٌ قَدِيمَةٌ، كَمَا قَالَ يُوحَنَّا الرَّسُولُ: "لَسْتُ أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ وَصِيَّةً جَدِيدَةً، بَلْ وَصِيَّةً قَدِيمَةً كَانَتْ لَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ (1 يُوحَنَّا 2: 7). فَقَدْ كَانَتْ وَصِيَّةُ الْمَحَبَّةِ فِي العَهْدِ الْقَدِيمِ تَقْتَصِرُ عَلَى الشَّعْبِ الْيَهُودِيِّ وَالْغُرَبَاءِ الْمُقِيمِينَ بَيْنَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الأَحْبَارِ (أَحْبَار 19: 17–34).  وَلَكِنَّهَا فِي الْمَسِيحِ صَارَتْ جَدِيدَةً، إِذْ أَصْبَحَتْ تَمْتَدُّ إِلَى كُلِّ شَخْصٍ، فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، حَتَّى إِلَى الأَعْدَاءِ وَالْمُقَاوِمِينَ، رَاغِبًا فِي خَلاصِ كُلِّ نَفْسٍ. فَهِيَ مَحَبَّةٌ تَشْمَلُ جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ: "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: أَحْبِبْ قَرِيبَكَ وَأَبْغِضْ عَدُوَّكَ. أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُمْ..." (مَتَّى 5: 43–47).

 

إِنَّهَا مَحَبَّةٌ بِلا حُدُودٍ عَلَى مُسْتَوَى الْقَرَابَةِ أَو الْوَطَنِ أَو الدِّينِ. وَلَا تَسْتَثْنِي أَحَدًا، بَلْ تَشْمَلُ حَتَّى الْمُبْغِضِينَ وَاللَّاعِنِينَ وَالْمُضْطَهِدِينَ، وَتَتَّسِمُ بِالصَّفْحِ وَالْمَغْفِرَةِ "بِدُونِ حُدُودٍ"، كَمَا جَاءَ فِي إِجَابَةِ يَسُوعَ لِبُطْرُس:
"
لا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ " (مَتَّى 18: 21–22). وَهِيَ مَحَبَّةٌ شَامِلَةٌ لَا تَقْبَلُ أَيَّ حَاجِزٍ اجْتِمَاعِيٍّ أَوْ عُنْصُرِيٍّ، وَلَا تَزْدَرِي أَحَدًا، كَمَا عَلَّمَ الرَّبُّ: "إِذَا أَقَمْتَ مَأْدُبَةً، فَادْعُ الْفُقَرَاءَ، َالْكُسْحَانَ، وَالْعُرْجَانَ، وَالْعُمْيَانَ " (لوقا 14: 13). وَنَسْتَطِيعُ الْقَوْلَ إِنَّ وَصِيَّةَ الرَّبِّ يَسُوعَ بِأَنْ نُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا جَدِيدَةٌ بِمَعْنًى أَنَّهَا، عَلَى خِلَافِ وَصِيَّةِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ الَّتِي كَانَتْ تُوصِي بِمَحَبَّةِ الْقَرِيبِ، فَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ أَصْبَحَ قَرِيبَنَا، كَمَا عَلَّمَنَا الرَّبُّ فِي مَثَلِ السَّامِرِيِّ الرَّحِيمِ (لوقا 10: 25–37). وَهَكَذَا، فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْقَرِيبِ لَا حُدُودَ لَهَا مُنْذُ تَعْلِيمِ الرَّبِّ يَسُوعَ. فَلَا مَكَانَ لِلْعُنْصُرِيَّةِ فِي الْمَسِيحِيَّةِ؛ بَلْ إِنَّ الْعُنْصُرِيَّةَ تَتَنَاقَضُ كُلِّيًّا مَعَ وَصِيَّةِ الرَّبِّ الْجَدِيدَةِ. إِنَّهَا مَحَبَّةٌ مَجَّانِيَّةٌ، شَامِلَةٌ لِكُلِّ طَبَقَةٍ أَوْ جِنْسٍ، وَبِدُونِ تَمْيِيزٍ اجْتِمَاعِيٍّ أَوْ عُنْصُرِيٍّ، كَمَا يُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "لَيْسَ هُنَاكَ يَهُودِيٌّ وَلَا يُونَانِيٌّ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عَبْدٌ أَوْ حُرٌّ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غَلاطِيَّة 3: 28).

 

و) وَصِيَّةٌ جَدِيدَةٌ بِأُسْلُوبِهَا

 

إِنَّ الْمَحَبَّةَ الأَخَوِيَّةَ هِيَ وَصِيَّةٌ جَدِيدَةٌ، أَخِيرًا، بِأُسْلُوبِهَا. فَقَدْ سَبَقَ لِلْعَالَمِ الْوَثَنِيِّ، وَلِلْعَالَمِ الْيَهُودِيِّ أَيْضًا، أَنْ أَشَادَا بِالصَّدَاقَةِ وَبِالْخِدْمَةِ الْمُتَبَادَلَةِ.  وَلَكِنَّ وَصِيَّةَ يَسُوعَ هِيَ جَدِيدَةٌ، لأَنَّهُ جَعَلَهَا شَرْطًا جَوْهَرِيًّا لِلدُّخُولِ فِي الْجَمَاعَةِ الْمَسِيحِيَّةِ. وَهِيَ تَقْتَضِي تَوَاضُعًا وَرَغْبَةً فِي الْخِدْمَةِ، يَحْمِلَانِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَكَانِ الأَخِيرِ، وَعَلَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الآخَرِينَ. فَلَا مَجَالَ لِحَيَاةٍ فَاتِرَةٍ إِزَاءَ وَصِيَّةِ الْمَحَبَّةِ. فَقَدْ ظَهَرَتِ الْمَسِيحِيَّةُ فِي الْعَالَمِ كَمَحَبَّةٍ. وَعَلَى الْمَسِيحِيِّ: إِمَّا أَنْ يُحِبَّ، وَإِمَّا أَنْ يَتَخَلَّى عَنْ مَسِيحِيَّتِهِ.

 

 

الخُلاصَة

 

يَتَكَلَّمُ إِنْجِيلُ يُوحَنَّا عَنِ الْوَصِيَّةِ الْجَدِيدَةِ، بَيْنَ إِعْلَانِ خِيَانَتَيْنِ: خِيَانَةِ يَهُوذَا (يُوحَنَّا 13: 21)، وَإِنْكَارِ بُطْرُسَ لِلْمُعَلِّمِ (يُوحَنَّا 13: 36). وَيَطْلُبُ يَسُوعُ مِنْ تَلَامِيذِهِ أَنْ يُحِبُّوا بَعْضَهُمْ بَعْضًا، بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ، وَبِنَفْسِ الْمِقْيَاسِ الَّذِي أَحَبَّهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ: "أُعْطِيكُمْ وَصِيَّةً جَدِيدَةً: أَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ، أَحِبُّوا أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا "(يُوحَنَّا 13: 34). وَفِي الْوَاقِعِ، لَنْ يَكُونَ التَّلَامِيذُ قَادِرِينَ عَلَى أَنْ يُحِبُّوا بَعْضَهُمْ بَعْضًا، إِلَّا بِالْحُبِّ الَّذِي تَلَقَّوْهُ. وَعِنْدَمَا نُحِبُّ بَعْضَنَا بَعْضًا، نَسْتَطِيعُ أَنْ نُبَادِلَ اللهَ مَحَبَّتَهُ.

 

إِنَّ عَطَاءَ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ وَصِيَّةَ الْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ لَا يَعْنِي فَقَطْ إِظْهَارَ نَوْعِيَّةِ الْحُبِّ، بَلْ هُوَ دَعْوَةٌ لِعَيْشِ هذَا الْحُبِّ فِي عَطَاءٍ كَامِلٍ، وَبَذْلٍ إِلَى أَقْصَى الْحُدُودِ، عَلَى خُطَى الْمُعَلِّمِ الإِلَهِيِّ، يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فَهذَا الْعَطَاءُ يَتَضَمَّنُ مَسْؤُولِيَّةً عَظِيمَةً لَدَى التَّلَامِيذِ، لأَنَّ الْعَالَمَ يَعْرِفُهُمْ كَتَلَامِيذَ لِلْمَسِيحِ مِنْ خِلَالِ هذِهِ الْوَصِيَّةِ. فَقَدْ تَسَلَّمُوا رِسَالَةَ إِظْهَارِ الْحُبِّ لِلْعَالَمِ، هذَا الْحُبُّ الَّذِي تَعَلَّمُوهُ مِنْ مُعَلِّمِهِم.

 

وَخِيَانَةُ وَصِيَّةِ الْمَحَبَّةِ هِيَ خِيَانَةٌ لِلْمَسِيحِ نَفْسِهِ، وَتَشْوِيهٌ لِوَجْهِهِ أَمَامَ الْعَالَمِ. وَأَمَّا الْحِفَاظُ عَلَى وَصِيَّةِ الْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ فَهُوَ إِظْهَارٌ لِلْمَسِيحِ فِي هذَا الْعَالَمِ. إِنَّ مَحَبَّتَنَا الَّتِي تُشْبِهُ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تُثْبِتُ أَنَّنَا تَلَامِيذُهُ. وَقَدْ فَهِمَ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ، رَسُولُ الْمَحَبَّةِ، وَصِيَّةَ يَسُوعَ الْجَدِيدَةَ، فَلَمْ يَتَرَدَّدْ، عِنْدَمَا أَصْبَحَ شَيْخًا طَاعِنًا فِي السِّنِّ، أَنْ يُرَدِّدَ صَوْتَ مُعَلِّمِهِ الإِلَهِيِّ:"أَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (يُوحَنَّا 15: 17).

 

لَمْ يُعْلَنْ مَجْدُ اللهِ فِي لَحْظَةِ انْتِصَارٍ خَارِجِيٍّ، بَلْ فِي فِعْلِ الْمَحَبَّةِ الْكَامِلَةِ، حِينَ بَذَلَ يَسُوعُ نَفْسَهُ حُبًّا بِنَا عَلَى الصَّلِيبِ. لَقَدْ تَمَجَّدَ اللهُ فِي يَسُوعَ، لِأَنَّهُ أَطَاعَهُ حَتَّى الْمَوْتِ، وَأَظْهَرَ مِنْ خِلَالِ مَوْتِهِ وَجْهَ الآبِ الْمَمْلُوءِ رَحْمَةً.

لَم يَتَرَدَّدْ كاتِبُ سِفْرِ الـمَزامِيرِ في التَّرنيمِ بِرَحمةِ اللهِ وَرَأفَتِهِ، قائِلًا: «الرَّبُّ رَحيمٌ، رَؤوفٌ، طَويلُ الأَناةِ، عَظيمُ الرَّحمَةِ. الرَّبُّ يَرأَفُ بِالجَميعِ، ومَراحِمُهُ على كُلِّ أَعْمالِهِ» (مَزمور 144: 8-9).

 

وَلَمْ تَكُنِ الْمَحَبَّةُ غَرِيبَةً عَنِ التَّقْلِيدِ الْيَهُودِيِّ، إِذْ جَاءَ فِي سِفْرِ الأَحْبَارِ: "تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (أَحْبَارُ ١٩: ١٨). لَكِنَّ الْجَدِيدَ فِي وَصِيَّةِ يَسُوعَ هُوَ مِقْيَاسُ الْمَحَبَّةِ: لَيْسَ "كَمَا تُحِبُّ نَفْسَكَ"، بَلْ "كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ"، أَيِ مَحَبَّةٌ تَبْذُلُ الذَّاتَ حَتَّى الْمَوْتِ. إِنَّهَا وَصِيَّةٌ تَجَسَّدَتْ عَلَى الصَّلِيبِ، لا مُجَرَّدُ قَاعِدَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ.

 

وَقَدْ حَدَّدَ يَسُوعُ عَلَامَةَ التَّلْمَذَةِ بِوُضُوحٍ: لَيْسَتِ الْمَعْرِفَةُ، وَلا الْمُعْجِزَاتُ، وَلا الْأَقْوَالُ مَا يَدُلُّ عَلَى تِلْمِيذِ الْمَسِيحِ، بَلِ الْمَحَبَّةُ الْأُخُوِيَّةُ. إِذْ قَالَ: "بِهٰذَا يَعْرِفُ النَّاسُ جَمِيعًا أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ أَحْبَبْتُمْ بَعْضَكُمْ بَعْضًا" (يُوحَنَّا ١٣: ٣٥). فَالْمَحَبَّةُ هِيَ قَلْبُ الإِنْجِيلِ، وَهِيَ شَهَادَةٌ حَيَّةٌ تُبَشِّرُ قَبْلَ الْكِرَازَةِ.

 

وَيَدْعُونَا يَسُوعُ إِلَى مَحَبَّةٍ فَاعِلَةٍ، لا مُجَرَّدَ مَشَاعِرَ لَحْظِيَّةٍ: لَمْ يَدْعُنَا إِلَى "الشُّعُورِ بِالْمَحَبَّةِ"، بَلْ إِلَى الْعَمَلِ بِالْمَحَبَّةِ: غُفْرَانٍ، خِدْمَةٍ، تَضْحِيَةٍ، صَبْرٍ، بَذْلٍ. لِذٰلِكَ، فَإِنَّ الْكَنِيسَةَ مَدْعُوَّةٌ أَنْ تَكُونَ مَدْرَسَةَ مَحَبَّةٍ: كُلُّ جَمَاعَةٍ كَنَسِيَّةٍ تُصْبِحُ "جَاذِبَةً" فَقَطْ عِنْدَمَا تَعِيشُ وَصِيَّةَ الْمَحَبَّةِ. فِي الْبَيْتِ، فِي الْجَمَاعَةِ، فِي الْعَمَلِ الرَّعَوِيِّ، فِي الْعَلَاقَاتِ: نُدْعَى لِنُحِبَّ كَمَا أَحَبَّ يَسُوعُ. وَهٰذِهِ الْوَصِيَّةُ تُنَاقِضُ مَنْطِقَ الْعَالَمِ: فَفِي عَالَمٍ يَسُودُهُ الأَنَانِيَّةُ وَالتَّفْرِقَةُ وَالِانْتِقَامُ، تَأْتِي وَصِيَّةُ يَسُوعَ دَعْوَةً إِلَى ثَوْرَةٍ بِالنِّعْمَةِ، لِلْعَيْشِ عَلَى مِثَالِ الْحُبِّ الإِلٰهِيِّ، الْمَجَّانِيِّ، وَالشَّامِلِ.

 

 

دُعاء
 

يا يَسُوع، يَا مَنْ أَحْبَبْتَنَا حَتَّى ٱلصَّلِيب،

عَلِّمْنَا أَنْ نُحِبَّ كَمَا أَحْبَبْتَ،

أَنْ نَخْدِمَ كَمَا غَسَلْتَ أَرْجُلَ ٱلتَّلَامِيذ،

أَنْ نَغْفِرَ كَمَا غَفَرْتَ لِلَّذِينَ صَلَبُوكَ،

وَٱجْعَلْنَا عَلَامَاتٍ حَيَّةً لِحُضُورِكَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَم.

آمِينَ.