موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-16، 23-26)
15 إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي. 16 وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد... 23 أَجابَه يسوع: ((إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً. 24 ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني. 25 قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم 26 ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم.
مُقَدِّمَةٌ
وَعَدَ سيِّدُنا يَسوعُ المسيحُ تلاميذَهُ، في خِطابِ الوَداعِ بعدَ العَشاءِ الأَخيرِ (يوحنّا 14: 15–26)، أَنْ يَظلَّ حاضِرًا معَهُم، بالرَّغمِ من رَحيلِهِ عَنهُم، وذلكَ عن طَريقِ إِرسالِ الرُّوحِ القُدُسِ إِليهِم في يومِ العَنْصَرَة. ويُعتَبَرُ يومُ العنصرةِ تتويجًا لِمسيرةِ فَرَحِ القِيامَةِ، واِخْتِتامًا لِلزَّمَنِ الفِصحيّ. فالعَنْصَرَةُ تُشَكِّلُ جَوْهَرَ الحياةِ المسيحيَّةِ، ومُنْطَلَقًا أَساسيًّا لِوِلادَةِ الكنيسةِ، من خِلالِ حُلولِ الرُّوحِ القُدُسِ على التلاميذِ في اليَومِ الخَمسينَ بعدَ قِيامَةِ يَسوعَ من بَينِ الأَموات، بِناءً على وَعدِ المسيحِ: "إِنِّي أُرسِلُ إِلَيْكُم ما وَعَدَ بِهِ أَبي. فَامكُثوا أَنتُم في المَدينَةِ إِلى أَنْ تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى" (لوقا 24: 49). فالرُّوحُ القُدُسُ هو العامِلُ الأَساسيُّ في البِشارةِ الإِنجيليَّةِ؛ فَهُو الَّذي يَدفَعُ كُلَّ امرِئٍ إِلى إِعلانِ الإِنجيلِ، وهو، في قَرارَةِ الضَّميرِ، يُلْهِمُ كُلَّ إِنسانٍ قَبولَ وإِدراكَ "كَلِمَةِ الخَلاص". ويُعَلِّقُ البابا بِنِدِكتُس السَّادِسَ عَشَرَ قائِلًا: "الكَثيرونَ يَعتَرِفونَ أَنَّهُم مَسيحيُّونَ، لكِنَّهُم لا يَستطيعونَ أَنْ يُدْلُوا بِشَيءٍ عن الرُّوحِ القُدُسِ، الَّذي هو حياةُ الكنيسةِ". ومِن هُنا تَكمُنُ أَهمِّيَّةُ التَّأَمُّلِ في وَقائِعِ النَّصِّ الإِنجيليِّ وتَطبيقاتِه الرُّوحيَّةِ والرَّعويَّةِ.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-16، 23-26)
15 إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي
تُشِيرُ عِبَارَةُ "تُحِبُّونِي" إِلَى صَدَى سِفْرِ الحِكْمَةِ: "المَحبَّةُ هِيَ حِفْظُ شَرَائِعِ الله" (الحِكْمَةُ 6: 18). فَالمَحَبَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَوَاطِفَ، بَلْ عَمَلٌ يَتَجَسَّدُ فِي الحَيَاةِ اليَوْمِيَّةِ. تَتَجَسَّدُ المَحَبَّةُ فِي حَيَاةِ خِدْمَةٍ لِلآخَرِينَ، خُصُوصًا لِمَنْ هُمْ بِالقُرْبِ مِنَّا. المَحَبَّةُ تَقُودُنَا إِلَى طَاعَةِ كُلِّ أَوَامِرِ المَسِيحِ: كَمَحَبَّةِ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ، وَإِنْكَارِ ذَوَاتِنَا، وَحَمْلِ صَلِيبِنَا، وَاتِّبَاعِ المَسِيحِ. وَيُؤَكِّدُ شارل دي فوكو قَائِلًا: "عِنْدَمَا نُحِبُّ إِنْسَانًا، نَتَّحِدُ بِهِ حَقًّا بِوَاسِطَةِ المَحَبَّةِ، وَلَا نَعُودُ نَعِيشُ لِذَوَاتِنَا، بَلْ نَتَخَلَّى عَنْهَا، فَنَعِيشَ خَارِجَ ذَوَاتِنَا". لَكِنَّنَا اليَومَ نُخَاطِرُ بِأَنْ نُصْبِحَ بَابِلَ عَصْرِنَا، أَيْ مُشَتَّتِينَ، لِأَنَّنَا نُفْرِغُ ذَوَاتِنَا مِنَ اللهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "حَفِظْتُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى العَمَلِ بِالوَصَايَا وَطَاعَتِهَا، وَلَيْسَ اسْتِظْهَارَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ المَسِيحِ. فَمَحَبَّتُنَا تُخْتَبَرُ فِي حِفْظِ الوَصَايَا – أَيْ طَاعَتِهَا –، حَيْثُ إِنَّ المَحَبَّةَ لَا تَكُونُ بِالكَلَامِ وَالعَوَاطِفِ فَقَط، بَلْ بِحِفْظِ وَصَايَا يَسُوعَ أَيْضًا، كَمَا يُؤَكِّدُ يُوحَنَّا الرَّسُولُ: "لَا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكَلامِ وَلَا بِاللِّسانِ، بَلْ بِالعَمَلِ وَالحَقِّ" (1 يُوحَنَّا 3: 18). "مَنْ قَالَ: إِنِّي أَعرِفُهُ وَلَمْ يَحفَظْ وَصَايَاهُ، كَانَ كَاذِبًا وَلَمْ يَكُنِ الحَقُّ فِيهِ" (1 يُوحَنَّا 2: 4). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "اللهُ يَطْلُبُ الحُبَّ الَّذِي يَظْهَرُ بِالأَعْمَالِ". فَوَصَايَا اللهِ هِيَ إِثْبَاتٌ لِحُبِّهِ لَنَا، وَإِطَاعَةُ وَصَايَاهُ هِيَ تَعبِيرٌ عَنْ حُبِّنَا لَهُ. أَرَادَ المَسِيحُ أَنْ يُظْهِرَ لِتَلَامِيذِهِ كَيْفَ يُبْدُونَ لَهُ مَحَبَّتَهُمْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهُم، لا بِدُمُوعِهِم وَأَقْوَالِهِم، بَلْ بِطَاعَتِهِم لَهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَصَايَايَ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἐντολάς إينتولاس، فَلَا تُشِيرُ هُنَا إِلَى تَعْلِيمَاتٍ قَانُونِيَّةٍ فَقَط، بَلْ تَتَضَمَّنُ فِكْرَةَ شَرِيعَةِ الوَحْيِ الإِلَهِيِّ. وَبِالتَّالِي، فَالوَصَايَا هِيَ أَسَاسُ الحَيَاةِ الدِّينِيَّةِ وَالاِجْتِمَاعِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ يَسُوعُ نَفْسَ الكَلِمَةِ "وَصِيَّةٌ" الَّتِي تَصِفُ شَرِيعَةَ العَهْدِ القَدِيمِ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ لِوَصِيَّتِهِ نَفْسَ السُّلْطَانِ الَّذِي لِلشَّرِيعَةِ. فَـيَسُوعُ المَسِيحُ أَعْطَى تَلَامِيذَهُ طَرِيقًا أَو دَرْبًا، وَنِظَامًا لِلْحَيَاةِ، وَنَسَقًا فِي العَمَلِ، أَسَاسُهُ الحُبُّ.
فَكَيْفَ نَعيشُ حِفْظَ الوَصَايَا اليَوم؟
1. بِالمَحَبَّةِ الفَاعِلَةِ: نُظْهِرُ مَحَبَّتَنَا بِخِدْمَةِ الضُّعَفَاءِ، وَرَفْضِ الكَرَاهِيَةِ، وَبِالسَّعْيِ لِلسَّلَامِ.
2. بِطَاعَةِ كَلِمَةِ اللهِ: نَفْتَحُ قُلُوبَنَا لِلتَّعْلِيمِ الإِلَهِيِّ، وَنَتْرُكُ لِلرُّوحِ القُدُسِ أَنْ يُنِيرَ خُطَانَا.
3. بِعِيشِ الوَصَايَا كَدَرْبِ قَدَاسَةٍ: نَتْخِذُ مِنْهَا مِعْيَارًا لِلضَّمِيرِ، لا حَرْفًا يُقَيِّدُ، بَلْ رُوحًا يُحَرِّرُ.
4. بِالوَحْدَةِ فِي المَحَبَّةِ: فالوَصَايَا تُوَحِّدُنَا فِي المَسِيحِ، وَتَبْنِي جَسَدَ الكَنِيسَةِ.
5. بِالصَّلَاةِ وَطَلَبِ الرُّوحِ القُدُسِ: نُرَاجِعُ أَعْمَالَنَا فِي الضُّوءِ الإِلَهِيِّ، وَنَسْتَمِدُّ القُوَّةَ مِنَ العُلى.
16 وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد
تُشِيرُ عِبَارَةُ "سَأَسْأَلُ الآبَ" إِلَى شَفَاعَةِ المَسِيحِ أَمَامَ الآبِ، بَعْدَ مَوْتِهِ وَصُعُودِهِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ: "فَهُوَ لِذٰلِكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ خَلَاصًا تَامًّا، لِأَنَّهُ حَيٌّ دَائِمًا أَبَدًا لِيَشْفَعَ لَهُم" (العِبْرَانِيِّينَ 7: 25). فَالمَسِيحُ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رُوحَهُ القُدُوسَ عِنْدَمَا افْتَدَانَا بِدَمِهِ عَلَى خَشَبَةِ الصَّلِيبِ، وَالرُّوحُ القُدُسُ هُوَ الَّذِي يُسَاعِدُنَا عَلَى حِفْظِ الوَصَايَا. فَمَنْ يُحِبُّ يَطِيعُ الوَصَايَا، وَالرُّوحُ القُدُسُ هُوَ الَّذِي يُعْطِينَا المَحَبَّةَ لِكَيْ نَحْفَظَ الوَصَايَا. لِذٰلِكَ، فَإِنَّ إِرْسَالَ الرُّوحِ القُدُسِ مِنْ قِبَلِ الآبِ هُوَ تَلْبِيَةٌ لِطَلَبِ يَسُوعَ، وَيَرْتَبِطُ بِرِسَالَتِهِ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا (يُوحَنَّا 14: 13–14). وَبِذٰلِكَ، فَإِنَّ حُضُورَ الرُّوحِ القُدُسِ فِينَا مُرْتَبِطٌ بِصَلَاةِ المَسِيحِ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ، فَالرُّوحُ هُوَ العَطِيَّةُ المُثْلَى الَّتِي يُعْطِيهَا الآبُ لِسَائِلِيهِ (لوقا 11: 13). وعبارة "فَيَهَبُ لَكُم" تُشِيرُ إِلَى الآبِ الَّذِي يُرْسِلُ الرُّوحَ القُدُسَ، كَمَا عُيِّنَ فِي عَهْدِ الفِدَاءِ مُنْذُ الأَزَلِ. وعبارة "مُؤَيِّدًا": فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ παράκλητος (باراكليتوس)، وَفِي الآرَامِيَّةِ "مَنَحِمْنَا"، وَفِي العِبْرِيَّةِ "מֵלִיץ"، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى مَنْ يُدْعَى لِلدِّفَاعِ عَنِ الإِنْسَانِ، أَوْ لِلتَّوَسُّطِ لَهُ، خُصُوصًا فِي لُغَةِ القَانُونِ. وَحَيْثُ إِنَّ لَنَا مَنْ يَشْكُونَا، وَهُوَ الشَّيْطَانُ، كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ: "كُنْتُ أَرَى الشَّيْطَانَ يَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ كَالْبَرْقِ" (لوقا 10: 18)، فَإِنَّ لَنَا أَيْضًا مَنْ يُدَافِعُ عَنَّا، وَهُوَ الرُّوحُ البَارَاقْلِيطُ، المُؤَيِّدُ. هٰذَا هُوَ الوَعْدُ الرَّابِعُ الَّذِي يُقَدِّمُهُ الرَّبُّ لِتَعْزِيَةِ تَلَامِيذِهِ وَتَشْجِيعِهِم. وَهُوَ مُقْتَرِنٌ بِـ حِفْظِ وَصَايَاهُ، وَيُعْتَبَرُ شَرْطًا ضَرُورِيًّا لِنَيْلِهِ. فَالمَعْنَى الأَوَّلُ لِكَلِمَةِ "مُؤَيِّدٍ" هُوَ: المُحَامِي، المُسَاعِد، المُدَافِع، الشَّفِيع (1 يُوحَنَّا 2: 1). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إيرِينِيُّوس: "وَعَدَ الرَّبُّ أَنْ يُرْسِلَ الرُّوحَ البَارَاقْلِيطَ (المُؤَيِّدَ) الَّذِي يَجْعَلُنَا أَهْلًا للهِ (Sources Chrétiennes 34, 302). وَبِنَاءً عَلَى هٰذَا المَعْنَى، ظَهَرَتْ مَعَانٍ أُخْرَى، مِثْلَ "المُعَزِّي" وَ"المُشَجِّع". الرُّوحُ الَّذِي يُتَابِعُ عَمَلَ المَسِيحِ: فَالمَسِيحُ عَزَّى تَلَامِيذَهُ حِينَمَا كَانَ مَعَهُم بِالجَسَدِ، وَإِذْ يُفَارِقُهُم بِالجَسَدِ، يُرْسِلُ لَهُم رُوحَهُ القُدُوسَ، مُعَزِّيًا آخَر. وَهٰذِهِ اللَّفْظَةُ تَدُلُّ تَارَةً عَلَى الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي يُتَابِعُ عَمَلَ يَسُوعَ، وَيُعَاوِنُ التَّلَامِيذَ فِي وَجْهِ اضْطِهَادِ العَالَمِ وَاتهَامِهِ. وَوَظِيفَتُهُ: أَنْ يُبَكِّتَ (يُوحَنَّا 16: 8)، وَأَنْ يَشْهَدَ (يُوحَنَّا 15: 26)، وَأَنْ يُعَلِّمَ (يُوحَنَّا 14: 26)، وَأَنْ يُرْشِدَ إِلَى الحَقِّ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ:"لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ بِهِ" (يُوحَنَّا 16: 14).
نَعْلَمُ أَنَّ "الحَقَّ" فِي الإِنْجِيلِ الرَّابِعِ هُوَ يَسُوعُ نَفْسُهُ، كَمَا يَقُولُ: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاةُ" (يوحنا 14: 7). فَهُوَ يُعَزِّي لَيْسَ فَقَط بِالمُوَاسَاةِ، بَلْ أَيْضًا بِإِعْلَانِ طَبِيعَةِ يَسُوعَ وَعَمَلِهِ. الرُّوحُ الَّذِي يَبْقَى مَعَنَا: فَهٰذَا الرُّوحُ لا يُحِلُّ مَحَلَّ يَسُوعَ الَّذِي هُوَ مَعَنَا إِلَى نِهَايَةِ العَالَمِ (متى 28: 20)، بَلْ يَعْمَلُ فِي التَّقْدِيسِ، وَيَتَجَاوَزُ حُدُودَ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ (يُوحَنَّا 15: 26 و16: 7). وَيَدُلُّ الرُّوحُ القُدُسُ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ عَلَى المَسِيحِ نَفْسِهِ (1 يُوحَنَّا 2: 1). "مُؤَيِّدًا آخَرَ": تُشِيرُ إِلَى الرُّوحِ القُدُسِ، لِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ المُعَزِّي الأَوَّلُ، كَوْنُهُ مَعَ تَلَامِيذِهِ بِالجَسَدِ (لوقا 2: 25). عبارة "يَكُونُ مَعَكُم لِلأَبَد": تُشِيرُ إِلَى مَوْهِبَةِ الرُّوحِ الَّتِي تُعْطَى بِلَا سَقْفٍ زَمَنِيٍّ، وَهِيَ تَضْمَنُ لِلأَبَدِ الاِتِّحَادَ بِالمَسِيحِ الَّذِي يَهَبُ الرُّوحَ (يُوحَنَّا 18: 20). الرُّوحُ القُدُسُ هُوَ كَمَالُ الفِصْحِ وَخَاتِمُهُ، بِهِ تَتِمُّ زَمَانِيَّةُ الخَلاصِ، وَفِيهِ تَبْدَأُ الحَيَاةُ الجَدِيدَةُ. فِي هٰذِهِ الآيَةِ، نَجِدُ ذِكْرَ الأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ: الاِبْنُ الطَّالِبُ، وَالآبُ المُجِيبُ، وَالرُّوحُ القُدُسُ المُرْسَلُ وَالمُعَزِّي.
23 أَجابَه يسوع: إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَجابَهُ يَسوعُ" إِلى تَوجِيهِ الكَلامِ إِلى يَهوذا (لا الإِسخَريوطيّ)، بَعدَ دَهشَتِهِ مِن أَنَّ يَسوعَ يُظهِرُ ذاتَهُ لِتلامِيذِهِ دُونَ العالَمِ (يوحنا 14: 22). وَيَهوذا هُو أَخُو يَعقوب (لوقا 6: 16)، وَأَحدُ أَقارِبِ يَسوعَ المَسيحِ حَسَبَ الجَسَدِ (متى 13: 55)، وَهُو كَاتِبُ رِسَالَةِ يَهوذا. وَمِن خِلالِ سُؤَالِهِ، يُوَجِّهُ يَسوعُ خِطَابَهُ لا إِلَى تَلامِيذِهِ فَحَسْب، بَل إِلَى كُلِّ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. وعبارة إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ: "إِذا": تُشِيرُ إِلَى رَبْطٍ شَرْطِيٍّ يُفِيدُ الاِمْتِلاَكَ وَالوُقُوعَ، لا الاِفْتِرَاضَ أو الشَّكّ. فَلَنْ نَبلُغَ شَرِكَةَ الحَيَاةِ مَعَ اللهِ، إِلَّا إِذَا سَكَنَّا فِي المَحَبَّةِ وَقَبِلْنَا حُبَّ اللهِ لَنَا. وعبارة "إِذا أَحَبَّني أَحَدٌ، حَفِظَ كَلامي": جُملَةٌ شَرْطِيَّةٌ تُفيدُ الاِمْتِلاَكَ لا الاِفتِرَاضَ. فَالمَحبَّةُ هِيَ الشَّرْطُ الجَوهَرِيُّ الَّذِي تَنْبَعُ مِنهُ الطَّاعَةُ الكَامِلَةُ لِكَلِمَةِ اللهِ وَوَصَايَاهُ، وَمِنْهَا يَتَحَقَّقُ الاِتِّحَادُ الرُّوحِيُّ مَعَ اللهِ. المَحبَّةُ تَظْهَرُ فِي حِفْظِ الكَلِمَةِ، وَلا تَكْتَفِي بِالمَعْرِفَةِ أو الحِفْظِ الذِّهْنِيِّ، بَل تَتَجَسَّدُ فِي العَمَلِ وَالطَّاعَةِ. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "لا يَكفِي أَنْ نَقْتَنِيَ الوَصَايَا، بَل نَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِهَا". وَالحِفْظُ لا يَعني خَزنَ المَعلوماتِ، بَل تَطْبِيقَها فِي الحَيَاةِ، تَرجَمَتَها إِلَى أَفْعَالٍ، وَتَجْسِيدَ الإِيمَانِ بِالمَحبَّةِ العَامِلَةِ. قَد أَشارَ جُبران خَلِيل جُبران فِي قَصيدَتِهِ "المَوَاكِب" إِلَى هذِهِ الحَقِيقَةِ بِقَولِهِ: "أَعْطِنِي النَّايَ وَغَنِّ، وَانْسَ مَا قُلْتُ وَقُلْتَ، إِنَّمَا النُّطْقُ هَبَاءٌ، فَأَفِدْنِي مَا فَعَلْتَ". فَالكَلِمَةُ تَذْهَبُ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وَالأَفْعَالُ هِيَ الَّتِي تَبْقَى. المَسِيحُ، المِثَالُ الأَعْلَى فِي الطَّاعَةِ. كانَ يَسوعُ أَوَّلَ مَن اخْتَبَرَ الطَّاعَةَ لِلآبِ، سَاعِيًا لِتَحقيقِ مَشِيئَتِهِ، كَمَا فِي جِثْسِيمَانِي: "يَا أَبَتِ، إِنْ أَمْكَنَ الأَمْرُ، فَلْتَبتَعِدْ عَنِّي هذِهِ الكَأس، وَلَكِنْ لا كَمَا أَنَا أَشَاءُ، بَل كَمَا أَنْتَ تَشَاءُ!" (متى 26: 39). فَمَنْ يُحِبُّ، يَبْقَى أَمِينًا لِكَلِمَةِ المَسِيحِ، وَيُتَرْجِمُ المَحَبَّةَ إِلَى طَاعَةٍ. وعبارة "فَأَحَبَّهُ أَبِي": تُشِيرُ إِلَى مُبَادَلَةِ الحُبِّ، فَـمَن يُحِبُّ الابْنَ، يُحِبُّهُ الآبُ، لِأَنَّ الابْنَ وَالآبَ وَاحِدٌ (يوحنا 10: 30). وعبارة "نَأتِي إِلَيْهِ": أَي الآبُ وَالابْنُ، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى سُكْنَى اللهِ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ. وعبارة "مُقَامًا" أي المَكَانُ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ الثَّالُوثُ الأَقْدَسُ أَصْبَحَ قَرِيبًا مِنَّا، بَل فِينَا؛ إِذْ لَمْ يَعُدْ حُضُورُهُ حُضُورًا خَارِجِيًّا، بَل حُضُورًا دَاخِلِيًّا. وهو مَسْكَنٌ ثَابِتٌ، لَيسَ زِيَارَةً عَابِرَةً. فَٱلرُّوحُ لَا يَكُونُ مَعَنَا فَقَط فِي أَوْقَاتِ ٱلشِّدَّةِ وَٱلظُّلْمَةِ، وَلَا فِي ٱللَّحَظَاتِ ٱلْمَصِيرِيَّةِ فَحَسْب، بَلْ هُوَ حَاضِرٌ عَلَى ٱلدَّوَامِ، يُنْعِشُ فِينَا بِٱسْتِمْرَارٍ حَيَاةَ ٱلْمَسِيحِ. وتشير إلى الحُضُورُ الإِلَهِيُّ. فَالآبُ وَالابْنُ وَالرُّوحُ القُدُسُ يَجْعَلُونَ مِن قَلْبِ المُؤْمِنِ هَيْكَلًا إِلَهِيًّا. قَالَ القِدِّيسُ أُوغُسطِينُوس: "لا يَسْكُنُ الرُّوحُ فِي إِنسَانٍ دُونَ الآبِ وَالابْنِ، وَلا الابْنُ دُونَ الآبِ وَالرُّوحِ، وَلا الآبُ دُونَهُمَا. سُكْنَاهُم غَيْرُ مُنْفَصِلٍ". فَـبَعدَ اليَومِ، لا يَكُونُ هَيْكَلُ أُورَشَلِيمَ مَوْضِعَ الحُضُورِ الإِلَهِيِّ، بَل قَلْبُ المُحِبِّينَ الَّذِينَ يَحفَظُونَ وَصَايَا المَسِيحِ. قَالَ بُولُس الرَّسُولُ: "نَحنُ هَيْكَلُ اللَّهِ الحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ: سَأَسكُنُ بَيْنَهُم، وَأَسِيرُ بَيْنَهُم، وَأَكُونُ إِلهَهُم، وَيَكُونُونَ شَعْبِي" (2 قورنتس 6: 16). وَقَالَ بُطرُسُ الرَّسُولُ: "أَنْتُمْ أَيْضًا، شَأْنَ الحِجَارَةِ الحَيَّة، تُبْنَونَ بَيْتًا رُوحِيًّا، فَتَكُونُونَ جَمَاعَةً كَهَنُوتِيَّةً مُقَدَّسَة، لِكَيْمَا تُقَرِّبُوا ذَبَائِحَ رُوحِيَّةً، يَقبَلُهَا اللهُ عَنْ يَدِ يَسُوعَ المَسِيحِ" (1 بطرس 2: 5). جَاءَ جَوَابُ يَسُوعَ إِلَى يَهوذا تَدَّاوُس لِيُصَحِّحَ فِهمَهُ: فَهُوَ لَنْ يَظهَرَ مَلِكًا أَرْضِيًّا فِي أُورَشَلِيمَ، بَل سَيَظهَرُ رُوحِيًّا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحفَظُونَ وَصَايَاهُ. فَمَلَكُوتُهُ لَيْسَ مِنْ هٰذَا العَالَمِ (يوحنا 18: 36)، وَظُهُورُهُ لِلْمُحِبِّينَ الطَّائِعِينَ، لَا لِلمُتَفَرِّجِينَ.
24 ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني
تُشِيرُ عِبَارَةُ "مَن لا يُحِبُّني" إِلَى مَن يَرفُضُ المَسِيحَ، وَمِن يَرفُضُهُ يَرفُضُ كَلِمَتَهُ، لأَنَّهُ يَنجَرِفُ فِي تِيَارِ مَحَبَّةِ العَالَمِ وَيَتَنَكَّرُ للهِ وَكَلِمَتِهِ. وَقَد أَكَّدَ ذٰلِكَ يَعقُوبُ الرَّسُولُ قَائِلًا: "أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صَداقَةَ العالَمِ عَداوَةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَمِ أَقامَ نَفسَه عَدُوًّا لله" (يَعقُوب 4: 4). وعبارة "لا يَحفَظُ كَلامي" تُشِيرُ ِإلَى عَدَمِ الطَّاعَةِ، وَالَّتِي هِيَ نَتِيجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لِعَدَمِ المَحَبَّةِ. غِيَابُ الطَّاعَةِ يُفصِحُ عَن غِيَابِ المَحَبَّةِ. فَـلا طَاعَةَ بِلَا مَحَبَّة، وَهٰذِهِ العِبَارَةُ تُشَكِّلُ جَوَابًا عَلَى سُؤَالِ يَهوذا: "يا رَبّ، مَا الأَمرُ حَتَّى إِنَّكَ تُظِهرُ نَفْسَكَ لَنَا وَلا تُظهِرُها لِلعَالَم؟ (يوحنا 14: 22). َالْعَالَمُ لا يُحِبُّ المَسِيحَ، وَبِالتَّالِي يَرفُضُهُ، وَلَا يُعْطِيهِ المَكَانَةَ الَّتِي تَخصُّهُ. تُشِيرُ عِبَارَةُ: "الكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بَل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني" إِلَى أَنَّ كَلَامَ يَسُوعَ هُوَ نَفْسُهُ كَلَامُ الآبِ. الكَلِمَةُ الإِلَهِيَّةُ – وَاحِدَةٌ بَينَ الآبِ وَالاِبنِ. الابن يَرفَعُ سُلْطَةَ كَلِمَتِهِ إِلَى مُسْتَوَى الرِّسَالَةِ الإِلَهِيَّةِ. فَمَنْ يَرْفُضُ كَلِمَةَ يَسُوعَ، يَرْفُضُ الآبَ نَفْسَهُ، لأَنَّهُم وَاحِدٌ فِي الجَوْهَرِ وَالمَحَبَّةِ وَالمَقْصَدِ. تُقَابِلُ هٰذِهِ الآيَةُ (24) الآيَةَ السَّابِقَةَ (23)، وَهِيَ تَأْتِي بِصُورَةٍ سَلْبِيَّة: "إِذا أَحَبَّني أَحَدٌ، حَفِظَ كَلامي..." (يوحنا 14: 23)، مُقَابِل: "مَن لا يُحِبُّني، لا يَحفَظُ كَلامي..." (يوحنا 14: 24). فَـلَا مَحَبَّةَ بِدُونِ طَاعَةٍ، وَلَا مَكَافَأَةَ حَيْثُ لا طَاعَةَ. وَالمَكَافَأَةُ هُنَا هِيَ: مَحَبَّةُ الآبِ، وَسُكْنَاهُ مَعَ الاِبْنِ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ، وَإِظْهَارُ المَسِيحِ ذَاتَهُ لَهُ. أَمَّا مَنْ يَرفُضُ كَلِمَةَ المَسِيحِ، فَقَدْ أَغْلَقَ بَابَ الشَّرِكَةِ مَعَ الآبِ.
وعبارة "لَيسَت كَلِمَتي بَل كَلِمَةُ الآبِ" يُعْلِنُ بها يَسُوعُ بِكُلِّ وُضُوحٍ أَنَّ كَلِمَتَهُ هِيَ كَلِمَةُ الآبِ الَّذِي أَرسَلَهُ. فَقَبُولُ كَلَامِهِ هُوَ قَبُولٌ لِلآبِ، وَرَفْضُهُ هُوَ إِهَانَةٌ لِلهِ نَفْسِهِ. وَبِذٰلِكَ، فَالمَسِيحُ يُظْهِرُ سُلْطَانَ كَلِمَتِهِ، وَيَكْشِفُ وَحْدَتَهُ الذَّاتِيَّةَ مَعَ الآبِ. وباختصار:
1. المَحَبَّةُ هِيَ شَرْطُ الرُّؤْيَةِ: فَمَنْ يُحِبُّ، يَحفَظُ، وَمَنْ يَحفَظُ، يَسْكُنُ فِيهِ الآبُ وَالاِبنُ.
2. رَفْضُ الكَلِمَةِ رَفْضٌ لِلهِ: لِأَنَّ كَلَامَ المَسِيحِ هُوَ كَلَامُ الآبِ. فَكَيْفَ نَدَّعِي المَحَبَّةَ إِن كُنَّا نَرفُضُ أَنْ نُطِيعَ؟
3. العَالَمُ لا يَرَى المَسِيحَ: لِأَنَّهُ لا يُحِبُّهُ، وَمِن ثَمَّ لا يَفْهَمُهُ، وَيَغْلِقُ قَلْبَهُ أَمَامَ نُورِهِ.
يا رَبِّي يَسُوعَ، أَفْتَحْ قَلْبِي لِكَلِمَتِكَ، فَلَا تَكُونَ لِي صَوْتًا مِنْ بَعِيدٍ، بَل نُورًا فِي دَاخِلِي. أَعْطِنِي نِعْمَةَ المَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ، لِكَيْ تَسكُنَ أَنتَ وَأَبُوكَ فِي قَلْبِي، وَتَكونَ حَيَاتِي مَسْكِنًا لَكَ. آمِينَ.
25 قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم
تُشِيرُ عِبَارَةُ "قُلتُ لَكُم هذِهِ الأَشْيَاءَ" إِلَى تَعالِيمِ يَسُوعَ الَّتِي بَاحَ بِهَا لِتَلامِيذِهِ اسْتِعْدَادًا لِرَحِيلِهِ، وَلِتَسْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى مُعَلِّمٍ آخَرَ، أَلَا وَهُوَ الرُّوحُ القُدُسُ، لِيُذَكِّرَهُمْ بِهَا، وَلِيُفَسِّرَهَا لَهُمْ، وَلِيُعَلِّمَهُم كُلَّ شَيْءٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَأَنَا مُقِيمٌ عِندَكُم"، فَتُشِيرُ إِلَى وُجُودِ المَسِيحِ بِالْجَسَدِ فِي وَسْطِهِم، حَيْثُ كَانَ يُعَلِّمُهُم وَيُخَاطِبُهُم بِشَخْصِهِ، وَيَضَعُ كَلِمَاتِهِ وَتَعَالِيمَهُ أَمَانَةً فِي قُلُوبِهِم، إِلَى أَنْ يُرْسِلَ لَهُم الرُّوحَ القُدُسَ، الَّذِي سَيَكُونُ لَهُم مُعَلِّمًا وَمُذَكِّرًا بِكُلِّ مَا قَالَهُ لَهُم.
26 ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم.
عِبَارَةُ "ٱلْمُؤَيِّد" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ "ٱلْبَارَاقْلِيط (παράκλητος)، وَمَعْنَاهَا: ٱلْمُحَامِي، وَفِي ٱلْآرَامِيَّةِ "מנחמנא" (مِنَحَمْنَا)، تُشِيرُ إِلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَقَدْ تَرَدَّدَتْ هٰذِهِ ٱللَّفْظَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (يوحنا 14:16، 14:26؛ 15:26؛ 16:7)، وَمَرَّةً وَاحِدَةً فِي رِسَالَةِ يُوحَنَّا (1 يوحنا 2:1). وَٱلْمَعْنَى ٱلْحَرْفِيُّ لِلَّفْظَةِ "ٱلْبَارَاقْلِيط" هُوَ: "ذَاكَ ٱلَّذِي يَقِفُ قُرْبَ ٱلْمُتَّهَمِ وَيُدَافِعُ عَنْهُ فِي ٱلْمَحَاكِمِ أَمَامَ ٱلْقَضَاءِ"، لِذٰلِكَ دُعِيَ "ٱلْمُحَامِي"، لِأَنَّهُ يَتَدَخَّلُ أَمَامَ عَدَالَةِ ٱلْآبِ لِحِسَابِ ٱلْخُطَاةِ. وَدُعِيَ أَيْضًا "ٱلشَّفِيع"، كَمَا فِي (1 يوحنا 2:1)، إِذْ "ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ لَنَا بِأَنَّاتٍ لَا تُوصَفُ" (رومة 8:26). وَهٰذَا ٱلرُّوحُ نَفْسُهُ يُدْعَى "ٱلْمُعَزِّي"، لِأَنَّهُ يُولِدُ ٱلرَّجَاءَ فِي ٱلْغُفْرَانِ لِلَّذِينَ يَحْزَنُونَ عَلَى خَطَايَاهُمْ. وَهُوَ يُقَوِّي، لَيْسَ فَقَطْ بِٱلْمُؤَاسَاةِ، بَلْ أَيْضًا بِإِعْلَانِ طَبِيعَةِ يَسُوعَ وَعَمَلِهِ. فَهٰذِهِ ٱلْآيَةُ تُثْبِتُ أُقْنُومَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَهٰذَا مَا يُؤَكِّدُهُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ قَائِلًا: "وَلْتَكُنْ نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللَّهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَكُمْ جَمِيعًا" (2 قورنتس 13:13). وَإِنَّ وَظِيفَةَ ٱلرُّوحِ هِيَ أَنْ "يُبَكِّتَ" (أَيْ يُقْنِعَ وَيُخْزِيَ) "ٱلْعَالَمَ عَلَى ٱلْخَطِيئَةِ وَٱلْبِرِّ وَٱلدَّيْنُونَةِ" (يوحنا 16:8)، وَأَنْ "يَشْهَدَ" (يوحنا 15:26)، وَأَنْ "يُعَلِّمَنَا مَاذَا نَقُولُ فِي ٱلصَّلَاةِ" (رومة 8:26-27)، وَأَنْ "يُعَلِّمَنَا كُلَّ شَيْءٍ يَخُصُّ ٱلْمَسِيحَ" – مَجْدَهُ وَعَظَمَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَطَبِيعَتَهُ – لِنَحْصَلَ عَلَى رُؤْيَةٍ صَحِيحَةٍ عَنْهُ فَنُحِبَّهُ (يوحنا 16:14). أَمَّا عِبَارَةُ "ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ" فَتُشِيرُ إِلَى ٱلْمُؤَيِّدِ ، وَهُوَ ٱلْأُقْنُومُ ٱلثَّالِثُ مِنَ ٱللَّاهُوتِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا بِنْدِكْتُس ٱلسَّادِسَ عَشَرَ قَائِلًا: "إِنَّ ٱسْمَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، ٱلْأُقْنُومِ ٱلثَّالِثِ، لَيْسَ تَعْبِيرًا عَنْ شَخْصِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ هُوَ يُعَبِّرُ عَمَّا هُوَ مُشْتَرَكٌ مَعَ ٱللَّهِ. هُنَا، تَظْهَرُ خُصُوصِيَّةُ ٱلْأُقْنُومِ ٱلثَّالِثِ: إِنَّهُ «مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ»، وَحْدَةُ ٱلْآبِ وَٱلِابْنِ، ٱلْوَحْدَةُ بِحَدِّ ذَاتِهَا" (الربّ يسوع المسيح، 2013). وُصِفَ ٱلرُّوحُ بِٱلْقُدُسِ لِأَنَّ وَظِيفَتَهُ تَقْدِيسُ قُلُوبِ ٱلنَّاسِ، كَمَا فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ: "إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلَّذِي يَعْمَلُ فِيكُمُ ٱلْإِرَادَةَ وَٱلْعَمَلَ فِي سَبِيلِ رِضَاه" (فيلبّي 2:13)، وَيَعْمَلُ عَمَلَ ٱلتَّقْدِيسِ فِي ٱلْكَنِيسَةِ، دُونَ أَنْ يَكُونَ لِعَمَلِهِ حُدُودٌ فِي ٱلزَّمَانِ وَٱلْمَكَانِ. وُصِفَ بِٱلْحَقِّ: "رُوحَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ ٱلْعَالَمُ أَنْ يَتَلَقَّاه، لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُه. أَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُقِيمُ عِندَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ" (يوحنا 14:17)، لِأَنَّ ٱلْحَقَّ هُوَ آلَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّتِي يُقَدِّسُ بِهَا. وَيَتَابَعُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَمَلَ يَسُوعَ، وَيُعَاوِنُ ٱلتَّلَامِيذَ عِنْدَ ٱتِّهَامِ ٱلْعَالَمِ لَهُمْ. هٰذَا ٱلرُّوحُ يَبْقَى مَعَنَا، وَلَا يَحُلُّ مَحَلَّ يَسُوعَ، ٱلَّذِي "هُوَ مَعَنَا كُلَّ ٱلْأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ" (متى 28:20). وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا فْرَنسِيس قَائِلًا: "مَعَ اقْتِرَابِ لَحْظَةِ ٱلصَّلِيبِ، يُطَمْئِنُ يَسُوعُ ٱلرُّسُلَ بِأَنَّهُمْ لَنْ يَبْقَوْا وَحْدَهُمْ: سَيَكُونُ مَعَهُم دَائِمًا ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلْبَارَاقْلِيط، ٱلَّذِي سَيَعْضُدُهُمْ فِي رِسَالَةِ حَمْلِ ٱلْإِنْجِيلِ إِلَى ٱلْعَالَمِ كُلِّهِ". أمَّا عِبَارَةُ "يُرسِلُهُ الآبُ بِاسمي"، فَتُشِيرُ إِلَى وَعْدِ يَسُوعَ بِإِرْسَالِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ إِلَى تَلَامِيذِهِ، كَمَا قَالَ: "وَمَتَى جَاءَ ٱلْمُؤَيِّدُ ٱلَّذِي أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ مِنْ لَدُنِ ٱلْآبِ، رُوحُ ٱلْحَقِّ ٱلْمُنْبَثِقُ مِنَ ٱلْآبِ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي" (يوحنا 15:26). وَهٰذَا يُؤَكِّدُ صِدْقَ وَصَلَاحِيَّةَ ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ بِكُلِّ أَسْفَارِهِ، كَمَا كَتَبَ بُولُسُ: "فَلَنَا كَشَفَهُ ٱللَّهُ بِٱلرُّوحِ، لِأَنَّ ٱلرُّوحَ يَفْحَصُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى عَنْ أَعْمَاقِ ٱللَّهِ" (1 قورنتس 2:10). سَيُرْسِلُ ٱلْآبُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ، ٱلَّذِي سَيَنْقُلُ إِلَيْنَا حَيَاةَ ٱللَّهِ فِي ٱلْمَسِيحِ. وَلِذٰلِكَ، فَكُلُّ رِسَالَةٍ قَائِمَةٍ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لَا يُمْكِنُ إِلَّا أَنْ تُثْمِرَ: ثِمَارَ ٱلسَّلَامِ وَٱلتَّقْدِيسِ، ثِمَارَ شِفَاءِ ٱلنَّفْسِ وَٱلْجَسَدِ، ثِمَارَ ٱلْمُصَالَحَةِ وَٱلْمَحَبَّةِ، ثِمَارَ ٱلِٱسْتِنَارَةِ وَٱلْحَيَاةِ ٱلْحَقَّةِ. أمَّا عِبَارَةُ "بِٱسْمِي"، فَتُشِيرُ إِلَى وَسَاطَةِ ٱلابْنِ وَحُضُورِهِ وَطَبِيعَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَعَمَلِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ وَلِذٰلِكَ، فَإِنَّ إِرْسَالَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنْ قِبَلِ ٱلْآبِ هُوَ ٱسْتِجَابَةٌ لِطَلَبِ يَسُوعَ، وَلِقُوَّةِ وَقُدْرَةِ عَمَلِهِ ٱلْفِدَائِيِّ فِي خَلَاصِ ٱلْعَالَمِ (يوحنا 14:13–14). كَمَا أَتَى ٱلْمَسِيحُ بِٱسْمِ ٱلْآبِ، مُصَرِّحًا: "جِئْتُ أَنَا بِٱسْمِ أَبِي" (يوحنا 5:43)، كَذٰلِكَ أَتَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ بِٱسْمِ ٱلْمَسِيحِ، لِأَنَّهُ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ. أمَّا عِبَارَةُ "فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ جَمِيعَ ٱلْأَشْيَاءِ"، فَتُشِيرُ إِلَى وَعْدِ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ بِأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ سَيُفْهِمُهُم حَقِيقَةَ شَخْصِيَّةِ يَسُوعَ تَفَهُّمًا تَدْرِيجِيًّا، وَسَيُدْرِكُونَ مَعْنَى أُمُورِ ٱلْخَلَاصِ فِي ٱتِّصَالِهَا بِهِ. فَإِنَّ تَعْلِيمَ يَسُوعَ أَعَدَّهُم لِقُبُولِ أَسْمَى تَعَالِيمِ ٱلرُّوحِ: "فَمَتَى جَاءَ هُوَ، أَي رُوحُ ٱلْحَقِّ، أَرْشَدَكُمْ إِلَى ٱلْحَقِّ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ لَنْ يَتَكَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَسْمَع، وَيُخْبِرُكُمْ بِمَا سَيَحْدُث" (يوحنا 16:13). فَٱلرُّوحُ ٱلَّذِي يَفْحَصُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَادِرٌ أَنْ يَكْشِفَ لَنَا حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللَّهِ (1 قورنتس 2:10)، وَهٰذَا يُنْشِئُ فِينَا حَيَاةَ ٱلْبُنُوَّةِ، أَيْ حَيَاةَ ٱلطَّاعَةِ. وَقَدْ أَنْجَزَ يَسُوعُ هٰذَا ٱلْوَعْدَ فِي ٱلْجَمَاعَةِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ ٱلْأُولَى كَمَا جَاءَ فِي "أَعْمَالِ ٱلرُّسُل". وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا فْرَنسِيس قَائِلًا: "إِنَّ ٱلرَّبَّ يَدْعُونَا ٱلْيَوْمَ لِكَيْ نَفْتَحَ ٱلْقَلْبَ عَلَى عَطِيَّةِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، كَيْ يَقُودَنَا فِي دُرُوبِ ٱلتَّارِيخِ. فَهُوَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ يُعَلِّمُنَا مَنْطِقَ ٱلْإِنْجِيلِ، مَنْطِقَ ٱلْمَحَبَّةِ ٱلْمُضْيَافَةِ". أمَّا عِبَارَةُ "يُذَكِّرُكُمْ جَمِيعَ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ"، فَتُشِيرُ إِلَى وَعْدِ يَسُوعَ بِأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ سَيُعِينُ تَلَامِيذَهُ عَلَى تَذَكُّرِ كُلِّ مَا كَانَ يُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهُ، فِي حَيَاتِهِ عَلَى ٱلْأَرْضِ (يوحنا 17:15)، وَسَيُسَاعِدُهُم ٱلرُّوحُ ٱلْقَائِمُ مِنَ ٱلْمَوْتِ عَلَى إِدْرَاكِ مَعْنَى أَعْمَالِهِ ٱلْعَمِيقِ (يوحنا 2:22؛ 12:16) لِيَبْقَوْا مُطِيعِينَ لِلآبِ. وَقَدْ تَحَقَّقَ هٰذَا ٱلْوَعْدُ بِشَكْلٍ وَاضِحٍ فِي بَشَارَةِ يُوحَنَّا، فَكُلُّهَا كَانَتْ بِوَحْيٍ مِنْ تَذْكِيرِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ لِكَاتِبِهَا، إِذْ كُتِبَتْ بَعْدَ نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ رَفْعِ ٱلْمَسِيحِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا فْرَنسِيس قَائِلًا: "إِنَّ مُهِمَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ هِيَ أَنْ يُذَكِّرَ، أَيْ أَنْ يُفْهَمَ تَمَامًا، وَأَنْ يَقُودَ إِلَى تَطْبِيقِ تَعَالِيمِ يَسُوعَ بِشَكْلٍ مَلْمُوسٍ". إِنَّ عَمَلَ ٱلرُّوحِ لَيْسَ أَنْ يَأْتِيَ بِنَبِيٍّ جَدِيدٍ، بَلْ أَنْ يُذَكِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ. إِنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ هُوَ ضَمَانَةُ ٱسْتِمْرَارِ ٱلرَّبِّ فِي حَيَاةِ ٱلْكَنِيسَةِ، وَهُوَ ضَمَانَةُ صِحَّةِ تَعْلِيمِهَا ٱلْيَوْمَ. وَيُعَلِّقُ ٱلْبَابَا غِرِيغُورِيُوس قَائِلًا: "يَهَبُكُمُ ٱلْمَعْرِفَةَ، بِكَوْنِهِ يَعْرِفُ مَا هُوَ خَفِيٌّ". وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ مُجَرَّدِ تَذْكِيرٍ بِكَلِمَاتِ ٱبْنِ ٱللَّهِ، إِنَّهُ صُورَةٌ حَيَّةٌ لِكُلِّ مَا نَطَقَ بِهِ أَمَامَ تَلَامِيذِهِ. فَٱلرُّوحُ لَيْسَ لَهُ رِسَالَةٌ شَخْصِيَّةٌ، بَلْ هُوَ شَرْحٌ لِلْإِنْجِيلِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أَوْغُسْطِينُوس عَلَى هٰذِهِ ٱلْآيَةِ قَائِلًا: "إِنَّ ٱلثَّالُوثَ ٱلْقُدُّوسَ كُلَّهُ يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ (يوحنا 6:45)، وَلٰكِنَّهُمْ غَيْرُ مُنْفَصِلِينَ".
ثانيًا: تطبيقاتُ النَّصِّ الإنجيليّ (يوحنّا 14: 15-16، 23-26)
بَعدَ دِراسةِ وَقائِعِ النَّصِّ الإنجيليّ (يوحنّا 14: 15-16، 23-26)، نَستَنتِجُ أَنَّهُ يَتمَحوَرُ حَولَ وَعدِ يَسوعَ بِحُضورِهِ مِن خِلالِ الرُّوحِ القُدُسِ، وَحِفظِ وَصاياهُ.
1) الرُّوح القُدس، الحُضور الإلهي المُقيم في تَلاميذِهِ
يُشَدِّدُ يوحنّا البَشيرُ على تَحقيقِ الوَعدِ بِإرسالِ الرُّوحِ القُدُس، إِذ يُعلِنُ يَسوعُ لِتَلاميذِهِ أَنَّهُم سَيَرَونَهُ عَمّا قَريب:
"بَعدَ قَليلٍ لَن يَراني العالَم. أَمّا أَنتُم فَسَتَرَونَني، لِأَنّي حَيٌّ، وَلأَنَّكُم أَنتُم أَيضًا سَتَحيَون" (يوحنّا 14: 19). وَيَقصِدُ يَسوعُ هُنا قِيامَتَهُ وَتَرائيه لِتَلاميذِهِ (يوحنّا 16: 16-22). إِنَّ نِعْمَةَ الرُّوحِ مُرْتَبِطَةٌ بِفِصْحِ يَسُوع، بِمَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ.
يُعْلِنُ يَسُوعُ أَنَّ الرُّوحَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِذَا مَضَى هُوَ، كَمَا يَقُولُ لِتَلَامِيذِهِ فِيمَا بَعْدُ: "غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ لَكُمُ الحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَذْهَبَ. فَإِنْ لَمْ أَذْهَبْ، لَا يَأْتِكُمُ الـمُؤَيِّدُ"(يُوحَنَّا 16: 7). وَيَصِيرُ الرُّوحُ القُدُسُ هُوَ قَلْبَ العَلَاقَةِ الجَدِيدَةِ بَيْنَ يَسُوعَ وَبَيْنَنَا بَعْدَ أَحْدَاثِ مَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ.
وَلَكنَّ هذا الحُضورَ لَن يَكونَ حِسّيًا مَحضًا، بَل سَيُرافِقُهُ اكْتِشافٌ رُوحيٌّ. فَهُم يَكتَشِفونَ عَلاقَةَ يَسوعَ بِأَبيهِ: "إِنَّكُم في ذلِكَ اليَومِ تَعرِفونَ أَنّي في أَبي، وَأَنَّكُم فيَّ، وَأَنّي فيكُم"، فَيَتَضِحُ لَهُم حُضورُهُ فيهِم، وَيَحيَونَ حَياةً جَديدةً بِيَسوعَ الحاضِرِ فيهِم. وَهٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلْجَدِيدَةُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَقِّقَهَا إِلَّا ٱلرُّوحُ. فَهُوَ ٱلَّذِي يُجَدِّدُ ٱلْقَلْبَ، وَيَنْقُشُ فِيهِ نَامُوسَ ٱللَّهِ، وَيُضِيءُ ظُلُمَاتِ ٱلْفِكْرِ، وَيُحْيِي نَفْسَ ٱلْإِنْسَانِ. لَا تُولَدُ هٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ مِنْ جَهْدٍ بَشَرِيٍّ، وَلَا تُكْتَسَبُ بِٱلْمَعْرِفَةِ فَقَط، بَلْ تُوهَبُ نِعْمَةً لِكُلِّ مَنْ يَفْتَحُ قَلْبَهُ لِعَمَلِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَٱلرُّوحُ هُوَ ٱلْمُحَرِّكُ وَٱلْمُقَدِّسُ، وَهُوَ ٱلَّذِي يَجْعَلُنَا نَصِيرُ خَلِيقَةً جَدِيدَةً فِي ٱلْمَسِيحِ. وَكَمَا هُوَ ٱلرُّوحُ نَفَخَ فِي ٱلْبَدْءِ نَفْسَ ٱلْحَيَاةِ، هُوَ أَيْضًا مَنْ يَنْفُخُ فِي أَعْمَاقِنَا رُوحَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلْتَّجَدُّدِ.
وَسَيَخلُفُ الرُّوحُ القُدُسُ يَسوعَ المَسيح، وَيُؤمِّنُ حُضورَهُ معَ التَّلاميذِ بِفَضلِ صَلاتِهِ: "وأَنا سَأَسأَلُ الآبَ فَيَهَبَ لَكُم مُؤَيِّدًا آخَرَ يَكونُ مَعَكُم لِلأَبَد (يوحنّا 14: 16). فَيَكونُ الرُّوحُ القُدُسُ فيهِم، وَيَقودُهُم إِلى الحَقِّ كُلِّهِ، فَيُتَمِّمُ كُلَّ ما بَدأَ بِهِ يَسوعُ بِواسِطَةِ الرُّسُلِ الّذِينَ سَيُؤَلِّفونَ نَواةَ الكَنيسَةِ الأُولى. وَتَتَحوَّلُ الكَنيسةُ بِفِعلِ حُلولِ هذَا الرُّوحِ إِلى كَنيسةٍ شاهِدَةٍ لِلمسيحِ وَلبِشارَتِهِ، حَيثُ يُشرِكُ اللهُ القُدُّوسُ جَميعَ الشُّعوبِ بِحَياتِهِ، وَيَدعوهُم إِلى فَهمِ لُغَتِهِ الوَحيدة، لُغَةِ المَحبَّةِ وَالغُفرانِ وَالسَّلام. كَانَ حُضورُ اللهِ المُوقَّتِ في المَسيحِ عَلى الأَرضِ شَيئًا حَتميًّا، لأَنَّ المَسيحَ، مِن حَيثُ إِنَّهُ إِنسانٌ، ما كانَ يَستَطيعُ أَن يَبقَى عَلى الأَرضِ إِلى الأَبَدِ مَعَ المُؤمِنين. وَلَكن، بِالرَّغمِ مِن صُعودِ يَسوعَ بِالجَسَدِ إِلى أَبيهِ، بَقِيَ حُضورُ اللهِ مُستَمرًّا بِطَريقَةٍ جَديدةٍ، عَن طَريقِ الرُّوحِ القُدُس. فَالمُؤَيِّدُ، رُوحُ اللهِ ذاتُه، يَجيءُ بَعدَ صُعودِ يَسوعَ لِيَعتَنِيَ بِتَلاميذِهِ وَيَرعاهُم وَيُرشِدَهُم. وَقَد حَدَثَ هذَا في يَومِ العَنصَرَةِ (أَعمالُ الرُّسُلِ 2: 1-4).
إِنَّ "العَنصَرَةَ" هِيَ صِيغَةٌ عَرَبِيَّةٌ لِكَلِمَةٍ آرامِيَّةٍ سُريانيَّةٍ تَعني "التَّجَمُّعَ" أَو "المَحفَلَ". وَالعِبارةُ اليونانيّة εντηκοστή تَعني "اليَومَ الخَمسينَ"، النّاتِجَ عَن العِيدِ العِبريّ שָּׁבֻעוֹת، وَهُوَ مُختَصَرٌ لِعبارَة שִׁבְעַת הַשָּׁבֻעוֹת، أَي "سَبعَةُ أَسابيعَ" (وَالمَجموعُ تِسعَةٌ وَأَربعونَ). وَكانَ عِيدَ الحَصادِ (الخُروجُ 23: 16)، ثُمَّ أُدخِلَ إِلَيهِ في القَرنِ الثّاني قَبلَ المِيلادِ مَعنًى لاهوتيٌّ آخَر، وَهُوَ "نُزولُ التَّوراةِ عَلى موسى".
والعنصرة هي عهدُ الرّوحِ ووحدةُ الكنيسة. وفي يَومِ العَنصَرَةِ، قَطَعَ اللهُ عَهدًا جَديدًا معَ البَشَرِيَّةِ، فَشُفِيَ تَبلبُلُ الألسِنَةِ الّذي بَدَأَ في بابلَ (التَّكوينُ 11: 6-9)، وَوُلِدَتِ الجَماعَةُ المَسيحيَّةُ المُتَمَثِّلَةُ في التَّلاميذِ الّذينَ "كانوا مُجتَمِعينَ كُلُّهُم في مَكانٍ واحِدٍ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 2: 1). فَالرّوحُ القُدُسُ، بِالتَّحديدِ، هُوَ الحُبُّ الإلهيُّ، وَثَمَرَتُهُ هِيَ الوَحدةُ وَالتَّغلُّبُ على كُلِّ الانقِساماتِ. وهَكَذا، قَطَعَ اللهُ عَهدًا جديدًا معَنا، يَخْتُمُهُ بِسُكنى رُوحِهِ القُدُّوسِ فينا. وَيُعلِّقُ القدِّيسُ يُوحنّا فَمُ الذَّهَبِ على يَومِ العَنصَرَةِ قائلًا: "اليَومَ استَحالَتِ الأرضُ لنا سَماءً، لا لأَنَّ النُّجومَ انحَدَرَت مِن السَّماءِ إلى الأرض، بَل لأَنَّ الرّوحَ القُدُسَ أَفاضَ اليَومَ نِعَمهُ الوافِرَةَ على الأرضِ، وَأَحالَها إِلى فِردَوسٍ". وَهذا ما أَكَّدَهُ بولسُ الرَّسولُ: "أَمَا تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وَأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟" (1قورنتس 3: 16). فَحُضورُ الرُّوحِ في حَياتِنا هُوَ تَتْمِيمٌ لِمُخَطَّطِ اللهِ الخَلاصِيِّ لَنا. وَقَد قالَ القدِّيسُ أَثناسيوس الإِسكَندريّ: "لقد أَصبحَ اللهُ إِنسانًا لِيَجعَلَنا أَهلًا لِقُبولِ الرُّوحِ القُدُس".
وَقد كُشِفَ لَنا الرُّوحُ عَن ذاتِهِ مِن خِلالِ الصُّوَر: "حَمامَة" في عِمادِ يَسوعَ في الأُردُنّ، وَ"ريحٍ وَأَلسِنَةِ نارٍ" في يَومِ العَنصَرَة. وَفِي العِبريَّةِ، مَصدَرُ اللفظَين "الرِّيح" وَ"الرُّوح" واحِد، وَهُوَ: רוּחַ، كَما جاءَ في سِفرِ التَّكوينِ: "رُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياهِ" (التَّكوين 1: 2). وَقَد شَبَّهَ الأَنبِياءُ الرُّوحَ بِالَّذي "يَمسَحُ" مُختاريهِ. فَالإِنسانُ الَّذي يَحصُلُ على هذِهِ المَسحَةِ يُصبِحُ "مَمسوحًا" أَو "مَسيحًا". وَتَكتَمِلُ هذِهِ الصُّورَةُ فينا عِندَما نَحصُلُ على سِرِّ المِيرونِ المُقَدَّسِ (أَو التَّثبيتِ)، الّذي بِهِ نُخَتَمُ بِخَتمِ الرُّوحِ القُدُس. وَيَتَكلَّمُ القدِّيسُ بولُسُ الرَّسولُ عَنِ الرُّوحِ القُدُسِ وَيُشَبِّهُهُ بِـ"الخَتمِ" في عَلاقَتِنا معَ اللهِ. فَالمُعَمَّدُ يُصبِحُ خاصَّةَ الرَّبِّ، إِذ خَتَمهُ الرَّبُّ بِرُوحِهِ. وَالرُّوحُ القُدُسُ، حَسَبَ القدِّيسِ باسيليوس الكبير، هُوَ: "عَربونُ المِيراثِ الآتي، وَباكورَةُ الخَيراتِ الأَبديَّةِ" (اللِّيتورجِيّا الإِلهِيَّة). وَيَدعوهُ الرَّسولُ بولُس: "الضَّمانةَ" لِلحُصولِ على الحَياةِ الأَبديَّة: "هُوَ عُربونُ مِيراثِنا، إِلى أَن يَتِمَّ فِداءُ خاصَّتِهِ، لِلتَّسبيحِ بِمَجدِهِ" (أَفسُس 1: 14). وَلَن يَترُكنا الرُّوحُ القُدُسُ، بَل يَبقى معنا إِلى الأَبَدِ، وَيَقودُنا إِلى الحَقِّ كُلِّه: "رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقّاه، لأَنَّه لا يَراهُ وَلا يَعرِفُه" (يوحنّا 14: 17). فَهُوَ يَحيا مَعَنا وَفينا، لأَنَّهُ في وَسَطِنا وَفي داخِلِنا: "تَعلَمونَ أَنَّهُ يُقيمُ عِندَكُم وَيَكونُ فيكُم" (يوحنّا 14: 17). إِنَّ هَذا الرُّوحَ هُوَ هِبَةُ الآبِ وَالابنِ المُشتَرَكَة، إِنَّهُ: المُؤَيِّدُ، المُدافِعُ، المُعَزِّي، الشَّفيعُ، عَلامَةُ حُلولِ الأَزمنَةِ الجَديدة، الّذي يَقودُ كُلَّ شَيءٍ نَحوَ كَمالِهِ.
هَكَذا يَكشِفُ لَنا إِنجيلُ يُوحنّا عُمْقَ العَلاقَةِ بَينَ المَحبَّةِ وَالطّاعَةِ وَحُضورِ اللهِ. فَالمَسيحُ لا يَترُكُنا يَتامى، بَل يَهبُنا رُوحَهُ القُدُّوسَ لِيَسكُنَ فينا، وَيَقودَنا إِلى مِلءِ الحَقِيقَةِ، وَيَجعَلَنا شُهَداءَ لَهُ في عالَمٍ يَتَعَطَّشُ لِلنّورِ وَالسَّلامِ. إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ، حُبَّ الآبِ وَالابنِ، لا يَزالُ يُلهِمُ الكَنيسَةَ وَيُجَدِّدُ وَجهَ الأَرضِ. فَمَن يَفتَحْ قَلبَهُ لَهُ، يَختَبِرْ في أَعماقِهِ نِعمَةَ السُّكنى الإِلهِيَّةِ، وَيُصبِحْ مَسكَنًا حَيًّا لِلهِ، وَهَيكَلًا لِمَجدِهِ.
فِي الوَاقِعِ، مَن يُعْطَ لَهُ الرُّوحُ، يُدْعَى "اِبْنًا"، كَمَا أَنَّ المَسِيحَ هُوَ "الاِبْنُ" بِالطَّبِيعَةِ. فيسوع هو ابن الآب الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، لا بالتبنّي، بل بالجوهر، كما نعلن في قانون الإيمان: "ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر." أمّا نحن، فبفضل موت المسيح وقيامته، وموهبة الروح القدس التي أُفيضت في قلوبنا، صِرْنا أبناءً لله بالتبنّي. يقول بولس الرسول: "إِذ لم تأخُذوا رُوحَ العُبُودِيَّةِ لِتَعودوا إِلى الخَوف، بل أَخَذتُم رُوحَ التَّبنِّي الَّذي نَصرُخُ بِهِ: أَبّا، أَيُّها الآب!" (رومة 8: 15). ويضيف أيضًا: "لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ يَقْتَادُهُمْ رُوحُ الله، أُولٰئِكَ هُم أَبْنَاءُ الله" (رومة 8: 14). فالرّوح القُدُس، إذ يُسكننا في المسيح، يُشركنا في بنوته، فنصبح أبناءً في الابن، لا من استحقاقنا، بل من نعمته. وبذلك، لا تعود العلاقة بالله علاقة خوف أو دينونة، بل علاقة حبّ وثقة وقرابة. هذه هي العلاقة الجديدة التي تَجلَّت بعد الفصح: علاقة البنوة. وفي هذا يقول القديس أثناسيوس الكبير: "الابن صار إنسانًا لكي نصير نحن أبناء الله."
2) الرُّوح القُدس، الحُضور الإلهي المُقيم في الكَنيسة
أ) الرُّوحُ القُدُسُ استِمراريَّةُ حُضورِ المَسيح
يُكمِلُ الرُّوحُ القُدُسُ استِمراريَّةَ حُضورِ يَسوعَ في تَلاميذِهِ، مِن خِلالِ التَّعليمِ وَالتَّذكيرِ. فَهُوَ يُعَلِّمُنا كُلَّ شَيءٍ، كَما قالَ الرَّبُّ يَسوع: "المُؤَيِّدُ، الرُّوحُ القُدُسُ، الَّذي يُرسِلُهُ الآبُ بِاسمي، هُوَ يُعَلِّمُكُم جَميعَ الأَشياءِ" (يُوحنّا 14: 26)، وَيُذَكِّرُنا بِكُلِّ أَقوالِ يَسوعَ المَسيحِ: "يُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُهُ لَكُم" (يُوحنّا 14: 26). وَيُؤَكِّدُ ذلِكَ بولُسُ الرَّسولُ في وَصيَّتِهِ لِتِلميذِهِ طيموتاوُس: "اِحفَظِ الوَديعَةَ الكَريمَةَ بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي يُقيمُ فينا" (2 طيموتاوس 1: 14). إِنَّ مَهَمَّةَ الرُّوحِ القُدُسِ هِيَ تَأمينُ استِمراريَّةِ وُجودِ يَسوعَ مَعَ تَلاميذِهِ، كَما وَعَدَ الرَّبُّ رُسُلَهُ: "وأَنا سَأَسأَلُ الآبَ، فَيَهَبَ لَكُم مُؤَيِّدًا آخَرَ، يَكونُ مَعَكُم لِلأَبَدِ" (يُوحنّا 14: 16). فَالعِلاقَةُ بَينَ المُعَلِّمِ وَتَلاميذِهِ هِيَ عِلاقَةٌ مِهَنِيَّةٌ تَنتَهي بانتِهاءِ العَملِ، أَمَّا العِلاقَةُ بَينَ يَسوعَ وَتَلاميذِهِ فَهِيَ عِلاقَةٌ رُوحيَّةٌ وُجدانيَّةٌ، لا تَنتهي بِانقِضاءِ التَّعليمِ، بَل تَستَمِرُّ مِن خِلالِ الرُّوحِ القُدُسِ. فَالرُّوحُ سَيَبقَى مَعَ تَلاميذِ يَسوعَ على الدَّوامِ، لأَنَّ ما يَهُمُّهُ هُوَ إِقامَةُ عَلاقَةِ صَداقةٍ حقيقيَّةٍ مَعَهُم، بِشَرطِ حِفظِ وَصايا يَسوعَ:"إِذا أَحَبَّني أَحَدٌ، حَفِظَ كَلامي، فأَحَبَّهُ أَبي، وَنَأتي إِلَيهِ، فَنَجعَلُ لَنا عِندَهُ مُقامًا" (يُوحنّا 14: 23). فَبَقاءُ الرُّوحِ القُدُسِ مَعَنا هُوَ طَريقَةُ مَحبَّةِ اللهِ لَنا، وَضَمانُ حُضورِ المَسيحِ الدّائِمِ في كَنيسَتِهِ وَفي قُلوبِ مُؤمِنيهِ.
ب) مَهَمَّةُ الرُّوحِ القُدُسِ: التَّعليمُ
إِلى جانِبِ تَأمينِ استِمراريَّةِ وُجودِ يَسوعَ مَعَ التَّلاميذِ، فَإِنَّ مَهَمَّةَ الرُّوحِ القُدُسِ تَقُومُ أَيضًا على تَعليمِهِم:
"هُوَ يُعَلِّمُكُم جَميعَ الأَشياءِ" (يُوحنّا 14: 26). وَيُوضِحُ ذلِكَ بولُسُ الرَّسولُ بقَولِهِ: "لَيسَ مَلَكوتُ اللهِ أَكْلًا وَشُرْبًا، بَل بِرٌّ وَسَلامٌ وَفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُسِ" (رومة 14: 17). لا يأتي الروح ليعطي تعليمًا مختلفًا، بل ليُذكّر بكلام المسيح ويُفسِّره للكنيسة في كل الأزمنة. دور الروح القدس هو الاستمرار في إعلان الإنجيل بطريقة حيّة ومستنيرة، تقود المؤمنين إلى فهم أعمق وأمانة أوفى.
فَالرُّوحُ القُدُسُ يُعَلِّمُ الأُمُورَ الَّتي تَتَعَلَّقُ بِخَلاصِنا وَاتِّحادِنا بِالمَسيحِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَنطونيوس البادوانيّ قائلًا: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ "يُعَلِّمُكُم" (يوحنّا 16: 13)، لِكَي تَعلَموا؛ يُقْتَرِحُ عَلَيكُم لِتَشتَهوا. هُوَ يُعطِي المَعرِفَةَ وَالإِرادَةَ؛ فَلنُضِفْ إِلى ذلِكَ "طاقَتَنا"، عَلى قَدرِ إِمكاناتِنا، فَنُصبِحَ هَياكِلَ لِلرُّوحِ القُدُسِ"(عِظاتٌ لِأَيّامِ الآحادِ وَأَعيادِ القِدِّيسين).
قَد شَكَّ التَّلاميذُ فِي تَعليمِ يَسوعَ، أَو لَم يَفهَموهُ مِرارًا، وَلم يَكونوا قادِرينَ عَلى البِشارَةِ بِالمَسيحِ القائمِ مِن بَينِ الأَمواتِ، رُغمَ أَنَّهُم رَأَوهُ، وَأَصغَوا إِلَيهِ، وَأَكَلوا مَعَه. وَلَكن، مَعَ حُلولِ الرُّوحِ القُدُسِ، تَلاشَت مَخاوِفُهُم، وَلم يَعودوا يَخشَونَ الموتَ، فَبَعدَ أَن كانوا فِي دارٍ أُغلِقَت أَبوابُها، أَصبَحوا يُبَشِّرونَ جَميعَ الأُمَمِ. وَبَعدَ أَن كانوا يَنتَظِرونَ، حتّى صُعودِ يَسوعَ، أَن يُعيدَ اللهُ الـمُلْكَ إِلى إِسرائيلَ (أَعمالُ الرُّسُلِ 1: 6)، أَصبَحوا مُتَلَهِّفينَ لِلتَّبشيرِ فِي مَلَكوتِ السَّماواتِ، وَبِشارةِ الإِنجيلِ إِلى كُلِّ مَكانٍ وَلِكُلِّ إِنسانٍ، بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ، كَما يُؤَكِّدُ ذلِكَ بولُسُ الرَّسولُ: "ولا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقولَ: «يَسوعُ رَبٌّ»، إِلّا بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ" (1قورنتس 12: 3).
وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ غريغوريوس الكَبير قائلًا: "فَإِن لَم يَلمِسِ الرُّوحُ قَلبَ الّذينَ يَسمَعونَ، تَكونُ كَلِمَةُ الّذينَ يُعَلِّمونَ باطِلَةً. لِذا، فلا يَنسبَنَّ أَحدٌ فَهمَهُ لِلتَّعاليمِ إِلى أَيِّ مُعَلِّمٍ بَشَرِيٍّ. فَإِن لَم يَكُنِ المُعَلِّمُ الدّاخِلِيُّ حاضِرًا، يَكونُ لِسانُ المُعَلِّمِ الخارِجِيِّ ناطِقًا مِن دونِ جَدوى" (عِظاتٌ حَولَ الأَناجيل، العِظَة 30).
وَقَد أَخَذَتِ الجَماعَةُ المَسيحيَّةُ الأُولى تُعَلِّنُ المَسيحَ مِن خِلالِ الرُّوحِ القُدُسِ: "فَنَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ عَلَيهِم، وَأَخَذوا يَتَكَلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهِم، وَيَتَنَبَّأون" (أَعمالُ الرُّسُلِ 19: 6). وَالرُّوحُ القُدُسُ يَدافِعُ عَنهُم فِي أَوقاتِ الشِّدَّةِ وَالاضطِهادِ: "فَإِذا ساقوكُم لِيُسلِموكُم، فلا تَهتَمُّوا مِن قَبلُ بِماذا تَتَكَلَّمون، بَل تَكَلَّموا بِما يُلقى إِلَيكُم فِي تِلكَ السّاعَةِ، لِأَنَّكُم لَستُم أَنتُمُ المُتَكَلِّمين، بَلِ الرُّوحُ القُدُسُ" (مرقس 13: 11). وَفي الواقِعِ، فَقَد أَيَّدَ الرُّوحُ القُدُسُ التَّلاميذَ، فَلم يَنهَزِموا أَمامَ ضَرَباتِ المُضطَهِدينَ، بَل ازدادوا فِي مَحبَّتِهِم أَمانَةً لِلمَسيح. فَثَبَّتَهُم الرُّوحُ القُدُسُ فِي حَياةٍ جَديدةٍ، فَصَيَّرَهُم رِجالًا آخَرين، كَما جاءَ فِي تَعليمِ بولُسَ الرَّسولِ: "نَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صُورَةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفَةٍ كَما في مِرآةٍ، فَنَتَحَوَّلُ إِلى تِلكَ الصُّورَةِ، وَنَزدادُ مَجدًا عَلى مَجدٍ، وَهَذا مِن فَضلِ الرَّبِّ الَّذي هُوَ رُوح" (2 قورنتس 3: 18).
الرُّوحُ القُدُسُ يُحَوِّلُ الإِيمانَ إلى حَياةٍ. يَحمِلُ الرُّوحُ القُدُسُ حَياةَ التَّناغُمِ داخِلَ الإِنسانِ، فَيَشعُرُ أَنَّهُ بِحاجَةٍ إِلى التَّغييرِ. إِنَّهُ يُحَوِّلُ تَعليمَ يَسوعَ إِلى خِبرَةٍ يَوميَّةٍ حيَّةٍ، فَيُصبِحُ الإِيمانُ فِعلًا وُجوديًّا. وَيُعلِّقُ المطرانُ بِيير باتيستا قائلًا: "لا يَكفي مَعرِفَةُ أَنَّ يَسوعَ قَد ماتَ، بَل عَلَيَّ أَن أُؤمِنَ أَنَّهُ ماتَ مِن أَجلي. وَلا يَكفي مَعرِفَةُ أَنَّ اللهَ مَحبَّة، بَل عَلَيَّ أَن أُؤمِنَ أَنَّهُ يُحِبُّني تَمامًا كَما أَنا". وَيُؤَكِّدُ ذلِكَ القِدِّيسُ بولُسُ الرَّسولُ قائلًا: "لَم تَتَلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إِلى الخَوف، بَل روحَ تَبَنٍّ، بِهِ نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ!" (رومة 8: 15). فَـلم يَظَلَّ يَسوعُ شَخصِيَّةً مِنَ الماضِي، بَل بِالرُّوحِ القُدُسِ يُصبِحُ شَخصَ يَسوعَ حيًّا اليَومَ، وَتَعليمُهُ كَلِمَةَ حَياةٍ، وَالمَسيحيَّةُ أُسلوبَ حَياةٍ. فَلا يَكفي لِلتَّلاميذِ أَن يَرَوا المَسيحَ قائِمًا مِن بَينِ الأَمواتِ إِن لَم يَستَقبِلوهُ فِي قُلوبِهِم، وَلا يَكفي أَن يَعرِفوا أَنَّ المَسيحَ قامَ وَهُوَ حَيٌّ، إِن لَم يَحيَوا مَعَهُ. فَالرُّوحُ القُدُسُ هُوَ مَن يَجعَلُ يَسوعَ يَحيَا فينا مِن جَديدٍ، هُوَ مَن يُقِيمُنا في داخِلِنا. إِنَّهُ يُرَسِّخُ تَعليمَ يَسوعَ فينا، فَيُصبِحُ جُزءًا مِن كِيانِنا، وَحَياةً لَنا.
وَيَحمِلُ الرُّوحُ القُدُسُ التَّناغُمَ لَيسَ فقط داخِلَ الإِنسانِ، بَل أَيضًا فِي الخارجِ، بَينَ الأَشخاصِ. فَهُوَ الَّذي يَجعَلُنا كَنيسَةً واحِدَةً، رُغمَ تَنَوُّعِ المَواهِبِ وَالخِدماتِ وَالأَعمالِ، كَما جاءَ فِي تَعليمِ بولُسَ الرَّسولِ: "الرُّسُلُ أَوَّلًا، وَالأَنبِياءُ ثانِيًا، وَالمُعَلِّمونَ ثالِثًا، ثُمَّ هُناكَ المُعجِزاتُ، ثُمَّ مَواهِبُ الشِّفاءِ وَالإِسعافِ، وَحُسنِ الإِدارَةِ، وَالتَّكَلُّمِ بِلُغاتٍ" (1 قورنتس 12: 28). فَالرُّوحُ القُدُسُ يَبني الوَحدَةَ فِي هذَا التَّنَوُّعِ؛ وَرُوحُ الوَحدَةِ يَجعَلُ الكَنيسَةَ وَالعالَمَ أَبناءً وَإِخوَةً. وَيُعَلِّقُ البابا فِرنْسيس قائلًا: "مَن يَعيشُ حَسَبَ الرُّوحِ القُدُسِ، يَحمِلُ السَّلامَ حَيثُما هُناكَ خِلاف، وَالتَّوافُقَ حَيثُما هُناكَ صِراع. يُقابِلُ الشَّرَّ بِالخَير، وَيُجيبُ عَنِ الكِبرياءِ بِالوَداعَة، وَعَنِ الضَّجيجِ بِالصَّمت، وَعَنِ الثَّرثَرَةِ بِالصَّلاة، وَعَنِ الانهِزامِيَّةِ بِالابتِسامَة" (عِظَةُ العَنصَرَةِ، 9/6/2019).
نَستَنتِجُ أَوَّلًا مِمَّا سَبَق، أَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ كانَ عامِلًا بَينَ النّاسِ مُنذُ بَدءِ الزَّمانِ، وَلَكِن، بَعدَ العَنصَرَةِ، سَكَنَ فِي المُؤمِنينَ (أَعمالُ الرُّسُلِ 2: 1-13). الرُّوحُ القُدُسُ هُوَ اللهُ داخِلَنا، وَفي داخِلِ كُلِّ مُؤمِنٍ، يَعمَلُ مَعَنا وَلأَجلِنا، وَهُوَ يُعِينُنا أَن نَحيا كَأَبناءِ اللهِ. وَفِي هذَا الصَّدَدِ كَتَبَ بولُسُ الرَّسولُ: "إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ اللهِ، يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا. لَم تَتَلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إِلى الخَوف، بَل روحَ تَبَنٍّ، بِهِ نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ! وَهَذا الرُّوحُ نَفسُهُ يَشهَدُ مَعَ أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله" (رومة 8: 14-16)). فَبِالرُّوحِ القُدُسِ نُصبِحُ أَبناءً لِلآبِ، وَإِخوَةً بَعضُنا لِبَعضٍ، وَلِكُلِّ النّاسِ.
ج) مَهَمَّةُ الرُّوحِ القُدُسِ: التَّذكِيرُ
لا تَقتَصِرُ مَهَمَّةُ الرُّوحِ القُدُسِ على استِمراريَّةِ تَعليمِ يَسوعَ لَنا، بَل تَشمَلُ أَيضًا تَذكيرَنا بِما تَعلَّمناهُ سابِقًا مِنَ السَّيِّدِ المَسيحِ وَمِن إِنجيلِهِ المُقَدَّس. فَالرُّوحُ يُذَكِّرُنا مَعنى الحَياةِ وَهَدَفَها وَرَجاءَ دَعوتِنا، فِي حِينَ أَنَّ الخَطيئَةَ تُؤَدِّي إِلى نِسيانِ كُلِّ ذلِكَ، وَتَجعلُنا نُصغي لِمُعَلِّمينَ آخَرينَ، يَؤدُّونَ بِنا إِلى المَوتِ. الرُّوحُ وَحدَهُ هُوَ الَّذي يُعطِي حَياتَنا مَعنًى وَهَدَفًا وَكَمالًا. وَيُعَلِّقُ البابا فِرنْسيس قائلًا: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ هُوَ السَّلامُ عِندَ الاضطِرابِ، وَالثِّقَةُ عِندَ الإِحباطِ، وَالفَرَحُ عِندَ الحُزنِ، وَالشَّبابِيَّةُ فِي الشَّيخوخَةِ، وَالشَّجاعَةُ فِي المِحَنِ. الرُّوحُ القُدُسُ هُوَ مَن يُثَبِّتُ مِرساةَ الرَّجاء وَسْطَ تَيّاراتِ الحَياةِ العاصِفَةِ".
وَالرُّوحُ القُدُسُ يَشهَدُ لِلحَقِّ الَّذي هُوَ المَسيح، كَما صَرَّحَ يَسوعُ: "فَهُوَ يَشهَدُ لي" (يُوحنّا 15: 26)، فَهُوَ مَصدَرُ كُلِّ الحَقِّ، لأَنَّهُ: "رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب" (يُوحنّا 15: 26)، وَهُوَ الَّذي يُقنِعُنا بِخَطيئَتِنا وَبِدَينونَةِ الله: "وَهُوَ، مَتَى جاءَ، أَخْزَى العالَمَ عَلى الخَطيئَةِ وَالبِرِّ وَالدَّينونَةِ" (يُوحنّا 16: 8). وَهُوَ يُعطينا بَصيرَةً إِلى أَحداثِ المُستَقبَلِ: "فَمَتَى جاءَ هُوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدَكُم إِلى الحَقِّ كُلِّه، لأَنَّهُ لَن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِهِ، بَل يَتَكَلَّمُ بِما يَسمَع، وَيُخبِرُكُم بِما سَيَحدُث" (يُوحنّا 16: 13).
وَيُبَيِّنُ الروح مَجدَ المَسيحِ: "سَيُمَجِّدُني، لأَنَّهُ يَأخُذُ مِمَّا لي، وَيُخبِرُكُم بِهِ" (يُوحنّا 16: 14). وَنَختَبِرُ حُضورَ الرُّوحِ القُدُسِ فِينا بِالصَّلاةِ، كَما جاءَ فِي تَعليمِ بولُسَ الرَّسولِ: "فَإِنَّ الرُّوحَ أَيضًا يَأتي لِنَجدَةِ ضُعفِنا، لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كَما يَجِب، وَلَكِنَّ الرُّوحَ نَفسَهُ يَشفَعُ لَنا بِأَنَّاتٍ لا تُوصَف. وَالَّذي يَختَبِرُ القُلوبَ يَعلَمُ ما هُوَ نُزوعُ الرُّوحِ، فَإِنَّهُ يَشفَعُ لِلقِدِّيسينَ بِما يُوافِقُ مَشيئَةَ الله" (رومة 8: 26-27). وَيُعَلِّقُ العَلّامَةُ أوريجانُّوس قائلًا: "حينَما نُصَلِّي، نَكونُ دائمًا إِثنَين: نَحنُ وَالرُّوحُ القُدُس. وَبِواسِطَةِ الرُّوحِ القُدُسِ، نَدخُلُ فِي حِوارٍ أَبَدِيٍّ مَعَ الآبِ وَالابنِ، وَلا يُستَجابُ لِلصَّلاةِ بِحَسَبِ صَوتِنا، بَل بِحَسَبِ صَوتِ الرُّوحِ القُدُسِ الّذي يُصَلِّي لَنا، وَهُوَ الوسيطُ الدّائِمُ لَدَى الآبِ، وَالّذي يَطلُبُ دائمًا ما هُوَ الأَفضَلُ لَنا". فَلا عَجَبَ مِن تَوصِيَةِ يَهوذا الرَّسولِ: "فَابْنُوا أَنفُسَكُم عَلى إِيمانِكُمُ المُقَدَّس، وَصَلُّوا بِالرُّوحِ القُدُسِ" (يَهوذا 1: 20). بِٱخْتِصَارٍ، إِنَّ مَهَمَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ هِيَ أَنْ يُعَلِّمَ وَيُذَكِّرَ بِكُلِّ مَا قَالَهُ يَسُوع، أَيْ أَنْ يَفْتَحَ أَمَامَنَا إِمْكَانِيَّةَ فَهْمِ ٱلْحَيَاةِ مِنْ مَنْظُورٍ فِصْحِيٍّ، وَأَنْ يُحَوِّلَ كُلَّ حَدَثٍ فِيهَا إِلَى فُرْصَةٍ نَسْمَحُ مِنْ خِلَالِهَا لِأَنْفُسِنَا بِأَنْ نَتَغَيَّرَ.
وَمِن هُنا نَتَساءَل: ما هُوَ دَورُ الرُّوحِ القُدُسِ اليَومَ فِي حَياةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَّا؟ ماذا عَمِلنا بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي أُعطِيَ لَنا يَومَ عِمادِنا؟ هَل نَسمَحُ لَهُ أَن يَعمَلَ فِي حَياتِنا؟ هَل لَهُ أَيُّ دَورٍ فِينا؟ هَل نُصغي حَقًّا إِلى الرُّوحِ الَّذي فينا؟ هَل نَسيرُ بِحَسَبِ تَوَجُّهاتِ وَثِمارِ الرُّوحِ القُدُس: "المَحبَّةُ، الفَرَحُ، الأَمانَةُ، طولُ الأَناةِ، السَّلامُ، العَفافُ، اللُّطْفُ، الوَداعَةُ، وَدَماسَةُ الأَخلاقِ"؟ دعونا نَطلُب مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، الرُّوحِ المُعَزِّي، أَن يَأتي وَيَسكُنَ فِي قُلوبِنا، فَنَشعُرَ بِحُضورِ المَسيحِ فينا، وَنَتَذَكَّرَ تَعاليمَهُ وَصَلاتَهُ، وَنَعمَلَ عَلى حِفظِ وَصاياهُ. وَلنَضَعْ نَظْرَةَ الرُّوحِ القُدُسِ قَبلَ نَظْرَتِنا، فَتَتَغَيَّرَ الأُمورُ.
3) الحُبُّ والطَّاعة كشَرط لنَوال الرُّوحِ القُدُسِ
يَحُثُّ يَسوعُ تَلاميذَهُ عَلى المَحبَّةِ الَّتي تُشَكِّلُ جَوهَرَ الحَياةِ الدِّينيَّةِ وَالأَخلاقيَّةِ: "إِذا كُنتُم تُحِبُّونَني، حَفِظتُم وَصاياي" (يُوحنّا 14: 15). فَفي عَيشِ هذِهِ الوَصِيَّةِ، أَرادَ يَسوعُ أَن يَشقَّ طَريقًا جَديدًا لِتَلاميذِهِ، حَيثُ أَعطاهُم نِظامًا جَديدًا، وَأَوْكَلَ إِلَيهِم عَمَلًا أَساسُهُ المَحبَّةُ. فَـحِفظُ الوَصِيَّةِ هُوَ المِيزَةُ الخاصَّةُ في كِتاباتِ القِدِّيسِ يُوحنّا، لأَنَّ الوَصِيَّةَ تَتَطَلَّبُ الأَمانَةَ، وَالالتِزامَ، وَالتَّضحِيَةَ، وَتَرتَبِطُ بِالمَحبَّةِ الأَخَوِيَّةِ وَبِعَيشِ الحَياةِ اليَوميَّةِ. وَإِنَّ حِفظَ الوَصِيَّةِ بِدونِ مَحبَّةٍ، يَتَحوَّلُ مَعَ يَسوعَ مِن عَلاقَةٍ شَخصِيَّةٍ وُجدانِيَّةٍ إِلى عَلاقَةٍ قانُونِيَّةٍ، كَما جاءَ فِي الرِّسالَةِ الأُولى لِيُوحنّا: "أَنَّ مَحبَّةَ اللهِ أَن نَحفَظَ وَصاياه، وَلَيسَت وَصاياهُ ثَقيلَةَ الحَملِ" (1 يُوحنّا 5: 3).
لا يُصبِحُ حُبُّ يَسوعَ وَاقِعًا مَلموسًا إِلّا عِندَما نَحفَظُ وَصاياهُ، فَنَنالَ بِها عَطيَّةَ الرُّوحِ القُدُسِ، كَما جاءَ فِي تَعليمِ الرَّبِّ: أُعطِيكُم وَصِيَّةً جَديدةً: أَحِبُّوا بَعضُكُم بَعضًا، كَما أَحبَبتُكُم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضًا بَعضُكُم بَعضًا" (يُوحنّا 13: 34). المحبة الحقيقية للمسيح لا تُفصل عن حفظ كلمته. والطاعة ليست فرضًا ثقيلًا بل ثمرة المحبة، وهي ما يهيّئ القلب لسكنى الثالوث فيه: "نَأتي إليه فنُقيم عنده".
فَهذِهِ الوَصِيَّةُ هِيَ خُلاصَةُ الشَّريعَةِ وَالأَنبِياءِ. وَبِعَطيَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ، يَتحوَّلُ المُؤمِنونَ مِن "مَحبَّةِ الشَّريعَةِ" إِلى "شَريعَةِ المَحبَّةِ"، كَما يُؤَكِّدُ ذلِكَ بولُسُ الرَّسولُ: "لأَنَّ مَحبَّةَ اللهِ أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5: 5). لِذلِكَ، فَالوَصِيَّةُ الجَديدةُ تَتَعَلَّقُ بِالحَقائِقِ المُميَّزَةِ لِلأَزمِنَةِ الأَخِيرَةِ. إِنَّهَا عَلاقَةُ الميثاقِ الجَديدِ وَالنِّهائيِّ، الَّذي خَتَمَهُ يَسوعُ بِدَمِهِ، كَما قالَ بولُسُ الرَّسولُ: "فِيهِ أَنتُم أَيضًا، سَمِعتُم كَلِمَةَ الحَقِّ، أَي بِشارَةَ خَلاصِكُم، وَفِيهِ آمَنتُم، فَخُتِمتُم بِالرُّوحِ المَوعودِ، الرُّوحِ القُدُسِ" (أَفسُس 1: 13).
يَدعونا القِدِّيسُ يُوحنّا، فِي بَشارَتِهِ، إِلى استِقبالِ كَلامِ المَسيحِ مِن كُلِّ قَلبِنا. فَبِاستِقبالِنا لَهُ، نَجعَلُ المَسيحَ نَفسَهُ حاضِرًا فِي حَياتِنا. "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وَحَفِظَها، فَذاكَ الَّذي يُحِبُّني، وَالَّذي يُحِبُّني يُحِبُّهُ أَبي، وَأَنا أَيضًا أُحِبُّهُ، فَأُظهِرُ لَهُ نَفْسي" (يُوحنّا 14: 21). فَيَنشَأُ رِباطٌ وَثيقٌ بَينَ يَسوعَ وَالتِّلميذِ الأَمِينِ لِوصاياهُ، إِذ يَقومُ حِوارٌ حَمِيمٌ بَينَهُ وَبَينَ يَسوعَ، فَيَكشِفُ لَهُ الرَّبُّ ذَاتَهُ كَما هُو. وَحَيثُ إِنَّ يَسوعَ لا يَنفَصِلُ عَنِ الآبِ، فَوُجودُ الأَحَدِ لا يُعقَلُ دُونَ وُجودِ الآخَرِ: "إِنِّي فِي الآبِ، وَإِنَّ الآبَ فِيَّ" (يُوحنّا 14: 10). وَعَليهِ، يَنتهي الوَعدُ بِمَجيءِ الآبِ وَالابنِ إِلى التِّلميذِ: "إِذا أَحَبَّني أَحَدٌ، حَفِظَ كَلامي، فَأَحَبَّهُ أَبي، وَنَأتي إِلَيهِ، فَنَجعَلَ لَنا عِندَهُ مُقامًا" (يُوحنّا 14: 23). فَيُصبِحُ المَسيحيُّ مُضِيفًا وَهَيكَلًا لِلأقانيمِ الثَّلاثَةِ.
وَيُؤَكِّدُ يَسوعُ المَسيحُ لِتَلاميذِهِ أَنَّهُ الضَّمانَةُ لِحُضورِ الآبِ وَالابنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ. وَهَذا الحُضورُ يَختَلِفُ عَن ذاكَ الَّذي كَانَ التَّلاميذُ يَحلُمونَ بِهِ (يُوحنّا 14: 8–22)، كَما كانَ الحالُ فِي العَهدِ القَديمِ مِن خِلالِ عَلاماتٍ حِسِّيَّةٍ مُبهِرَةٍ تُثيرُ حَماسَهُم، كَما ظَهَرَ إِلى مُوسى النَّبِيِّ: "غَطَّى الغَمامُ الجَبَل، وَحَلَّ مَجدُ الرَّبِّ عَلى جَبَلِ سيناء" (خُروج 24: 15-16). وَلَكِنَّ يَسوعَ أَدخَلَ تَلاميذَهُ فِي عالَمِ الإِيمانِ، حَيثُ لا تُرى العَجائِبُ بِالعَينِ، بَل تُدرَكُ بِالقَلبِ وَالرُّوحِ، فَيَسكُنُ اللهُ فِي المُؤمِنِ، وَيَتَحوَّلُ الحِوارُ مَعَهُ إِلى شَرِكَةِ حَياةٍ أَبَدِيَّةٍ.
نَستَنتِجُ مِمّا سَبَقَ أَنَّهُ يَجِبُ أَن نُؤمِنَ أَوَّلًا بِالرَّبِّ، ثُمَّ أَن نَستَسلِمَ دُونَ تَحَفُّظٍ لِوصاياهُ، وَنَعتَمِدَ الإِيمانَ عُنوانًا لِمَحبَّتِنا. فَـالإِيمانُ يَأتي أَوَّلًا، ثُمَّ الحُبّ، كَما قالَتِ القِدّيسَةُ تِريزا دي كالكوتا: "ثَمَرَةُ الإِيمانِ: الحُبّ." فَمَن يُؤمِنْ، يَرَ المَسيحَ، وَمَن يَرَ المَسيحَ يُحِبَّهُ، وَمَن يُحِبَّ المَسيحَ يُطيعْ وَصاياهُ. وَالرُّوحُ القُدُسُ هُوَ الَّذي يُعطينا ذاكَ الحُبَّ الَّذي يَجعَلُنا نَحفَظُ الوَصايا، كَما جاءَ فِي تعليمِ الكنيسَةِ الكاثوليكيَّة): "إِنَّ المَحبَّةَ، الَّتي هِيَ ثَمَرَةُ الرُّوحِ وَكَمالُ النّاموسِ، تَحفَظُ وَصايا اللهِ وَمَسيحِهِ" (رَقْم 1824).
إِنَّ الوَصِيَّةَ تَأتِي دائمًا مِنَ الخارجِ، تُعطى لَنا مِن قِبَلِ آخَر، بَينَما الحُبُّ، عَلى العَكسِ، يَنبَعُ مِن أَعماقِنا. وَالإِيمانُ هُوَ عَمَلُ حُبٍّ لا مَعرِفَةٍ عَقلِيَّةٍ، وَالحُبُّ يُدخِلُنا فِي المَعرِفَةِ الإِلَهِيَّةِ، وَبِالتالي إِلى المَعرِفَةِ العَقلِيَّةِ. وَحِفظُ الوَصايا هُوَ التَّطبيقُ العَمَلِيُّ لِلحُبِّ الإِلَهِيِّ. وَلِلوُصولِ إِلى أَن يَتَجَلّى اللهُ فِي حَياتِنا، لا بُدَّ مِن عَيشِ وَصاياهُ، مِن خِلالِ عَيشِ الحُبِّ الإِلَهِيِّ فِي حَياتِنا اليَوميَّة. فَـالمَحبَّةُ أَكثَرُ مِن كَونِها كَلِمَةً لَطيفَة، فَهيَ الِتزامٌ وَسُلوكٌ. المَحبَّةُ هِيَ الِتزامٌ بِالآخَرِ، لا نَزوَةٌ؛ المَحبَّةُ مَسؤوليَّةٌ تِجاهَ النَّفسِ وَالآخَرينَ، لا أَنَانِيَّة؛ المَحبَّةُ تَتَأنّى وَتَترَفَّقُ، وَتَصبِرُ، كَما جاءَ فِي تَعليمِ بولُسَ الرَّسولِ: "وَهِيَ تَعذِرُ كُلَّ شَيءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيءٍ، وَتَرجو كُلَّ شَيءٍ، وَتَتحمَّلُ كُلَّ شَيءٍ" " (1 قورنتس 13: 7). المَحبَّةُ تُصحِّحُ وَتَغفِرُ، تَلتَزِمُ بِالحَقِّ، وَتُدافِعُ عَنِ العَدلِ، تَنتَبِهُ لِلفَقيرِ، وَتَشفَقُ عَلَى الضَّعيفِ، لا تَبحَثُ عَنِ الغِنَى وَالجَاهِ وَالتَّقديرِ، بَل تَبتَغي فِي كُلِّ شَيءٍ خِدمَةَ اللهِ وَتَمجيدَ اسمِهِ القُدُّوس.
مَن تَبِعَ يَسوعَ، يُظهِر مَحبَّتَهُ لَهُ بِطاعَةِ وَصاياهُ. فَـالوَصايا لَيسَت مَجمُوعَةً مِنَ الأَوامِرِ وَالنَّواهِي مَفروضَةً مِنَ الخارِجِ، بَل هِيَ بَرنامَجُ حَياةٍ؛ فَالوَصايا هِيَ أَن يَدخُلَ الإِنسانُ مَعَ المَسيحِ فِي شَرِكَةِ حُبٍّ وَحَياةٍ، فَيَكونَ تِلميذًا وَشاهِدًا وَرَسولًا. فَإِن أَردنا أَن يَجعَلَ الرَّبُّ لَهُ مُقامًا عِندَنا، فَيَجِبُ عَلَينا أَن نَحفَظَ وَصاياهُ، فَـحِفظُ وَصايا الرَّبِّ هُوَ الدَّليلُ عَلى مَحبَّتِنا لَهُ، وَرَغبتِنا فِي استِقبالهِ فِي حَياتِنا. فَمَن يُحِبُّ اللهَ، يُمكِنُهُ أَن يُعايِنَ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحبَّةٌ، وَمَن يَحيا فِي المَحبَّةِ، يَشتَرِكُ بِالنِّعمَةِ، لا بِالطَّبيعَةِ، فِي جَوهَرِ اللهِ نَفسِهِ. وَالعَلامَةُ الحِسِّيَّةُ لِهذِهِ المَحبَّةِ، هِيَ فِي عَيشِ الوَصايا.
إِنَّ وَعدَ المَسيحِ لِلتِّلميذِ الَّذي يَحفَظُ وَصاياهُ، هُوَ بِحُضورِ الآبِ وَالابنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ فِي حَياتِهِ. وَلَكِن هذَا الحُضورُ يَتَطَلَّبُ مِنَّا الطّاعَةَ وَالمَحبَّةَ، وَهُما ما كانَ اللهُ يَطلُبُهُما فِي العَهدِ القَديمِ: "إِسمَعْ يا إِسرائيل: الرَّبُّ إِلهُنا رَبٌّ واحِدٌ. فَأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ مِن كُلِّ قَلبِكَ... وَاحفَظْ هذِهِ الكَلِماتِ..." (تَثنِيَة الاشتِراع 6: 4-9). كَما يُصَرِّحُ السَّيِّدُ المَسيحُ: "إِذا أَحَبَّني أَحَدٌ، حَفِظَ كَلامي، فَأَحَبَّهُ أَبي، وَنَأتي إِلَيهِ، فَنَجعَلَ لَنا عِندَهُ مُقامًا" (يُوحنّا 14: 23). َما قِيمَةُ الحُبِّ إِن لَم يَقتَرِنْ بِأَعمالٍ وَمُبادَراتٍ فِعليَّة؟ ما قِيمَةُ الحُبِّ إِن لَم نَحتَرِمْ كَلامَ الآخَر؟
فَـحِفظُ التِّلميذِ لِلكَلِمَةِ وَأَمانَتُهُ لَها، يُؤَمِّنُ لَهُ حَياةَ صَداقةٍ وَعَلاقَةٍ حَمِيمَةٍ مَعَ اللهِ، الّذي كَشَفَ عَن ذاتِهِ فِي عَلاقَةٍ ثالوثِيَّةٍ (ثَلاثَةُ أَقَانِيمَ فِي إِلهٍ واحِدٍ). وَعِندَئذٍ تَتَحَقَّقُ نُبُوءَةُ حِزقيال: "أَقطَعُ لَهُم عَهدَ سَلام، عَهدٌ أَبَدِيٌّ يَكونُ مَعَهُم، وَأَجعَلُ مَقدِسي فِي وَسطِهِم لِلأَبَدِ" (حِزقيال 37: 26). فَـالمَحبَّةُ هِيَ العَلامَةُ الأَسَاسِيَّةُ لِحُضورِ الرُّوحِ فِينَا، وَهِيَ الَّتي تُضفِي عَلى كُلِّ عَمَلٍ مَسيحيٍّ صِفَتَهُ الشَّرعِيَّة؛ وَبِدونِ المَحبَّةِ، يَفقِدُ ذلِكَ العَمَلُ كَمالَهُ. يَا رَبِّي يَسُوعَ، عَلِّمْنِي أَنْ أُحِبَّكَ بِأَعْمَالِي، لَا بِكَلِمَاتِي فَقَط. أَجْعَلْنِي أَمِينًا لِوَصَايَاكَ، طَائِعًا لِرُوحِكَ، وَشَاهِدًا لِمَحَبَّتِكَ فِي العَالَمِ. آمِينَ
الخُلاصَةُ
لَمْ يَكُنْ رَحِيلُ يَسُوعَ الجَسَدِيُّ نِهَايَةً، بَلْ كَانَ بَدَايَةَ حُضُورِهِ وَبَقَائِهِ النِّهَائِيِّ وَالدَّائِمِ لِلإِلَهِ الثَّالُوثِ فِي قَلْبِ المُؤمِنِ وَحَيَاتِهِ. وَالمُؤمِنُ الحَقِيقِيُّ هُوَ الَّذِي يَحْيَا كَلِمَةَ يَسُوعَ وَتَعَالِيمَهُ وَيُطَبِّقُهَا بِالمَحَبَّةِ، كَمَا قَالَ الرَّبُّ: "مَن تَلَقَّى وَصَايَايَ وَحَفِظَهَا، فَذَاكَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أَيضًا أُحِبُّهُ، فَأُظْهِرَ لَهُ نَفْسِي" (يُوحَنَّا 14: 21).
وَحُلُولُ الرُّوحِ القُدُسِ عَلَى التَّلَامِيذِ يَوْمَ العَنْصَرَةِ، قَبْلَ أَلْفَيْ عَامٍ، فِي "الغُرْفَةِ العُلْيَا" الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَمِعِينَ، هُوَ اسْتِمْرَارٌ لِحُضُورِ المَسِيحِ فِي حَيَاتِنَا وَفِي عَالَمِنَا. وَيُعَلِّقُ الطُوبَاوِيُّ يُوحَنَّا هِنْرِي نِيومَن قَائِلًا: "وَرُغْمَ قَوْلِ الرَّبِّ يَسُوعَ: 'إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَذْهَبَ، فَإِنْ لَمْ أَذْهَبْ، لَا يَأْتِكُمُ المُؤَيِّدُ' (يُوحَنَّا 16: 7)، فَعَلَيْنَا أَلَّا نُحِيدَ البَتَّةَ نَظَرَنَا عَنِ الابْنِ فِي حُضُورِ المُعَزِّي" (عِظَاتٌ رَعَوِيَّةٌ بَسِيطَةٌ، الفَصْلُ الرَّابِعُ، العَدَدُ 17). فَحُضُورُهُ قَلَبَ كُلَّ المَوَازِينِ. فَلَا يَكْفِي أَنْ نَحْتَرِمَ الوَصَايَا وَنُطَبِّقَهَا، بَلِ الأَهَمُّ أَنْ يَقْبَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَحْيَا مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ، الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ. وَإِذَا قَبِلْنَا أَنْ نَحْيَا مِنْ هٰذِهِ المَحَبَّةِ، فَإِنَّ ذٰلِكَ سَيُغَيِّرُ كُلَّ حَيَاتِنَا. فَيُصْبِحُ المَسِيحُ فِي قَلْبِ حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ، وَنَصِيرُ شُهُودًا لَهُ فِي عَالَمِ اليَوْمِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الآبِلِّي قَائِلًا: "أَنَا لَا أَدْرِي كَيْفَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَعِيشُوا مَحْرُومِينَ مِنْ هٰذِهِ النِّعْمَةِ؟"
فِي عِيدِ العَنْصَرَةِ، الَّذِي فِيهِ تَحْيَا الكَنِيسَةُ مُجَدَّدًا حُلُولَ الرُّوحِ القُدُسِ مَعَ مَرْيَمَ وَالتَّلَامِيذِ المُجْتَمِعِينَ فِي العُلِّيَّةِ بِالصَّلَاةِ، نَطْلُبْ أَنْ يَمْلَأَ الرُّوحُ القُدُسُ حَيَاتَنَا، لِنَخْتَبِرَ حُضُورَ المَسِيحِ فِينَا، فَنُعْلِنَ مَوْتَهُ وَقِيَامَتَهُ، وَنُصْبِحَ شُهُودًا لَهُ وَلِإِنْجِيلِهِ فِي العَالَمِ كُلِّهِ. وَيَدْعُونَا أَخِيرًا عِيدُ العَنْصَرَةِ إِلَى أَنْ نَتَخَلَّى عَنْ كِبْرِيَائِنَا، وَنَبْتَعِدَ عَنِ التَّجَزُّئَةِ وَالاسْتِقْلَالِيَّةِ عَنِ اللهِ، وَنَدَعْهُ يَسْكُنْ فِي قُلُوبِنَا. فَلْنَتَوَقَّفِ اليَوْمَ مُتَسَائِلِينَ: هَلْ نَتَمَتَّعُ بِبَلْبَلَةٍ، أَيْ بِإِفْرَاغِ حَيَاتِنَا مِنَ اللهِ؟ أَمْ نَحْيَا وَحْدَةَ الحَيَاةِ وَالقَلْبِ وَاللِّسَانِ، بِفَيْضِ الرُّوحِ القُدُسِ فِينَا؟ فِي العَنْصَرَةِ، الكَنِيسَةُ وُلِدَتْ بِالرُّوحِ، وَالمَسِيحُ القَائِمُ لَا يَزَالُ حَاضِرًا بَيْنَنَا، لَا بِالجَسَدِ، بَلْ بِقُوَّةِ رُوحِهِ القُدُّوسِ. فَلْنُصْغِ لِصَوْتِهِ، وَلْنَفْتَحْ لَهُ قُلُوبَنَا، وَلْنَطْلُبْ مَعَ الكَنِيسَةِ: "تَعَالَ أَيُّهَا الرُّوحُ القُدُسُ، وَجَدِّدْ وَجْهَ الأَرْضِ!"
دعاء فِي عِيدِ العَنْصَرَةِ
يا رُوحَ اللهِ القُدُّوس،
يا نَفَسَ اللهِ الحَيِّ، يا نارَ المَحبَّةِ الإِلَهِيَّة،
تَعالَ، وَاسْكُنْ فِي قُلُوبِنَا،
أَشْعِلْ فِينَا نُورَكَ، وَقَوِّ إِيمَانَنَا،
وَأَطْلِقْ لِسَانَنَا لِنُعْلِنَ عَجَائِبَكَ فِي كُلِّ لُغَةٍ وَقَوْمٍ وَشَعْبٍ.
يا رُوحَ الحَقِّ،
اجْمَعْنَا فِي وَحْدَةِ القَلْبِ وَالفِكْرِ،
وَاحْفَظْنَا فِي الحَقِّ الَّذِي عَلَّمَنَا إِيَّاهُ الرَّبُّ يَسُوعُ.
لْتَكُنْ مَرْيَمُ العَذْرَاءُ، عَرُوسُ الرُّوحِ القُدُسِ، شَفِيعَتَنَا فِي الطَّرِيقِ،
وَلْتَكُنْ حَيَاتُنَا مَسْرَحًا لِحُضُورِكَ، وَخِدْمَتَنَا إِعْلانًا لِقُوَّتِكَ.
يا رُوحَ القُدُسِ،
هَبْ لَنَا شَجَاعَةَ الرُّسُلِ، وَوَدَاعَةَ القِدِّيسِينَ،
وَاجْعَلْنَا شُهُودًا أَمَنَاءَ لِلمَسِيحِ المُقَامِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ،
فِي البِلَادِ كُلِّهَا وَإِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. آمِينَ.