موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 10: 1-20)
وبَعدَ ذلِكَ، أَقامَ الرَّبُّ اثنَينِ وسبعينَ تِلميذاً آخَرين، وأَرسَلَهمُ اثنَينِ اثنَينِ يتَقَدَّمونَه إِلى كُلِّ مَدينَةٍ أَو مَكانٍ أَوشَكَ هو أَن يَذهَبَ إِلَيه. 2 وقالَ لَهم: ((الحَصادُ كثيرٌ ولكِنَّ العَمَلَةَ قَليلون، فاسأَلوا رَبَّ الحَصَاد أَن يُرسِلَ عَمَلَةً إِلى حَصادِه. 3 اِذهَبوا! فهاءنَذا أُرسِلُكم كَالحُملانِ بَينَ الذِّئاب. 4 لا تَحمِلوا كِيسَ دَراهِم ولا مِزوَداً ولا حِذاءً ولا تُسَلِّموا في الطَّريقِ على أَحد. 5 وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ على هذا البَيت. 6 فإن كانَ فيهِ ابنُ سَلام، فسَلامُكُم يَحِلُّ بِه، وإِلاَّ عادَ إِلَيكُم. 7 وأَقيموا في ذلكَ البَيتِ تأَكُلونَ وتَشرَبونَ مِمَّا عِندَهم، لِأَنَّ العامِلَ يَستَحِقُّ أُجرَتَه، ولا تَنتَقلوا مِن بَيتٍ إِلى بَيت. 8 وأَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم وقَبِلوكم، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكم. 9 واشفْوا المَرْضى فيها وقولوا لِلنَّاس: قَدِ اقتَرَبَ مِنكُم مَلَكوتُ الله. 10 وأَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم ولَم يَقبَلوكم فاخرُجوا إِلى ساحاتِها وقولوا: 11 حتَّى الغُبارُ العالِقُ بِأَقدامِنا مِن مَدينَتِكم نَنفُضُه لَكم. ولكِنِ اعلَموا بِأَنَّ مَلكوتَ اللهِ قدِ اقتَرَب. 12 ((أَقولُ لَكم: إِنَّ سَدومَ سَيَكونُ مصيرُها في ذلكَ اليَومِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِ تِلكَ المَدينَة. 13 الوَيلُ لكِ يا كُورَزِين! الوَيلُ لكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صورَ وصَيدا ما جَرى فيكُما مِنَ المُعجِزات، لَأَظهَرتا التَّوبَةَ مِن زَمَنٍ بَعيد، فلَبِستا المُسوحَ وقَعَدتا على الرَّماد. 14 ولكِنَّ صورَ وصَيدا سَيَكونُ مصيرُهما يومَ الدَّينونةِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مصيرِكما. 15 وأَنتِ يا كَفَرناحوم، أَتُراكِ تُرفَعينَ إِلى السَّماء؟ سَيُهبَطُ بِكِ إلى مَثْوى الأَمْوات. 16 ((مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني)).17 ورَجَعَ التَّلامِذَةُ الاثنانِ والسَّبعونَ وقالوا فَرِحين: ((يا ربّ، حتَّى الشَّياطينُ تَخضَعُ لَنا بِاسمِكَ)). 18 فقالَ لَهم: ((كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق. 19 وها قَد أولَيتُكم سُلطاناً تَدوسونَ بِه الحَيَّاتِ والعَقارِب وكُلَّ قُوَّةٍ لِلعَدُوّ، ولَن يَضُرَّكُم شَيء. 20 ولكِن لا تَفرَحوا بِأَنَّ الأَرواحَ تَخضَعُ لَكُم، بلِ افرَحوا بِأَنَّ أَسماءَكُم مَكْتوبَةٌ في السَّموات)).
مُقَدِّمَةٌ
بَعْدَ الإِرْسَالِيَّةِ الأُولَى الخَاصَّةِ بِالاِثْنَيْ عَشَرَ رَسُولًا، الَّتِي وُجِّهَتْ لِتَبْشِيرِ اليَهُودِ (لوقا 9: 1–6)، وَتَمْهِيدِ طَرِيقِ يَسُوعَ لِمُرُورِهِ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى أُخْرَى فِي تَوَجُّهِهِ إِلَى أُورَشَلِيمَ (لوقا 9: 51)، يَتَنَاوَلُ إِنْجِيلُ اليَوْمِ الإِرْسَالِيَّةَ الثَّانِيَةَ، الخَاصَّةَ بِالتَّلَامِيذِ الاِثْنَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، وَالمُوَجَّهَةَ لِتَبْشِيرِ الأُمَمِ بِقرْب مَجيء الرَّب (لوقا 10: 1–17).
يَنفَرِدُ لوقا بذِكرِ هذهِ الإرساليَّةِ، لأنَّهُ أَرادَ أَن يُعلِنَ أَنَّ يَسوعَ هو مَسيحُ العالَمِ كُلِّه، لا مَسيحُ اليَهودِ فَحَسْب. فَرِسالةُ الإنجيلِ ليست مَقصورةً على اليَهودِ، إنَّما هِيَ مَفتوحةٌ لِجَميعِ الشُّعوبِ أيضًا، وهيَ صُورةٌ مُسْبَقَةٌ عن الرُّسُلِ المُرسَلينَ إِلى العالَمِ أَجمَع. ومِن هُنا تَكمُنُ أَهمِّيَّةُ البَحثِ في وِقائِعِ النَّصِّ الإنجيليِّ وتَطْبيقاتِه.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 10: 1-20)
1 وبَعدَ ذلِكَ، أَقامَ الرَّبُّ اثنَينِ وسبعينَ تِلميذاً آخَرين، وأَرسَلَهمُ اثنَينِ اثنَينِ يتَقَدَّمونَه إلى كُلِّ مَدينَةٍ أَو مَكانٍ أَوشَكَ هو أَن يَذهَبَ إِلَيه
تُشيرُ عِبارةُ "بَعدَ ذلِكَ" إلى ما تَلَا تَركَ يَسوعَ الجَليلَ نِهائيًّا، وبَعدَ الإرساليَّةِ الأُولى لِلرُّسُلِ الاثنَي عَشَرَ والحَوادثِ الوارِدةِ في الفَصلِ السَّابِقِ (لوقا 9: 1–50). أَمَّا عِبارةُ "أَقامَ الرَّبُّ اثنَينِ وسَبعينَ تِلميذًا آخَرينَ" فَتُشيرُ إلى زيادَة عَددِ المُرسَلينَ، مِن ١٢ رَسولًا (لوقا 9: 1) إلى 72 تِلميذًا، نظرًا لِاتِّساعِ حقلِ الرِّسالةِ في بيريَّة. بيريَّة، في الأصلِ اليونانيِّ: πέραν τοῦ Ἰορδάνου (مَعناها: "عَبرَ الأردنّ")، تُشيرُ إلى الأرضِ الواقِعةِ شَرقَ نهرِ الأردنِّ وبَحرِ طَبرِيَّة، والمُشتَمِلةِ على بلادِ باشان وجِلعاد، أي أراضي رَأوبين وجاد ونِصفِ سِبطِ مَنَسَّى، ما يعني أنَّ المَبشَّرينَ يُرسَلونَ لِليَهودِ والوَثَنِيّينَ السَّاكنينَ مَعًا في تِلكَ المَنطِقةِ، كما أنَّ الوقتَ الباقيَ لِلتَّبشيرِ كانَ قَصيرًا، ما استَدعى اتِّساعَ دَائِرَةِ الرِّسالةِ. ويَحمِلُ عددُ الاثنين والسَّبعين دَلالاتٍ رمزيَّةً عَميقَة، فهو يَرمزُ إلى شُعوبِ الأرضِ كافَّةً، كما وَرَدَ في سِفرِ التَّكوين (الفصل 10). وتَذكرُ بَعضُ المَخطوطاتِ "سَبعينَ"، وَفقًا للنَّصِّ العِبريِّ، وأُخرى "اثنَينِ وسَبعينَ"، وَفقًا لِلتَّرجمةِ السَّبعينيَّةِ، وهُما قِراءتانِ مُتَّفِقتانِ مِن حيثُ الرَّمزِ: أي الأُممِ جميعًا. ولأنَّ لوقا يَكتُب إنجيلَه لليونانِ والأُمَمِ، فقد اتَّبعَ النَّصَّ اليونانيَّ الذي يَزيدُ اسميَنِ على القائمَةِ في التَّكوين لِلدَّلالةِ على العالَمِ كُلِّه. إنَّ هذه الإرساليَّةَ تُعَدُّ صُورةً رمزيَّةً مُسبَقَةً عن انطِلاقِ الرِّسالةِ الشَّامِلةِ، الَّتي لا تُقصَرُ على اليَهودِ، بل تَشمَلُ الأُمَمَ كافَّةً. ويُشيرُ العددُ كذلك إلى السبعينَ شيخًا الذين اختارهم موسى لمُساعدتهِ في قيادةِ الشَّعبِ (عدد 11: 16–25)، أو إلى السَّبعينَ نَخلةً في إيليم (خروج 15: 27)، أو إلى السَّبعينَ عضوًا في السنهدرين، أي مجمَعِ حُكماءِ اليَهود. وأَمَّا عِبارةُ "أَقامَ الرَّبُّ"، فهي في الأصلِ اليونانيِّ ἀναδείκνυμι، وتَعني "عَيَّنَ" أو "أَظهرَ وأَرسلَ"، ما يُظهِرُ أنَّ الرَّبَّ يَسوعَ هو الَّذي يُبادِرُ بِالدَّعوةِ إلى الخِدمة، كما يُؤكِّدُ ذلك كاتِبُ الرِّسالةِ إلى العِبرانيِّين: "وما مِن أَحَدٍ يَتَوَلَّى بِنَفْسِه هذا المَقام، بل مَن دَعاهُ اللهُ" (عبرانيين 5: 4). وفي هذا العددِ من المُرسَلينَ، يرى العديدُ من الآباءِ واللاهوتيّينَ إشارةً إلى دَورِ العَلمانيِّينَ في الرِّسالة. فقد أكَّد المجمعُ الفاتيكانيُّ الثَّاني هذا الأمر، إذ جاءَ في قرارهِ "رسالةُ العَلمانيين" (عدد 2): "وُجِدَت الكنيسة لكي يمتدّ ملكوت المسيح على الأرض لمجد الله الآب: إنّها تُشرِكُ جميعَ الناس في ثمار الفداء والخلاص، وبهم يتوجّهُ العالم كلّه نحو الرّب يسوع المسيح. ويُعدُّ عملاً رسوليًّا كلُّ نشاطٍ يقومُ به الجسد السريّ، ويهدفُ إلى هذا الغرض." وأَمَّا عِبارةُ "أَرسَلَهم"، فتُشيرُ إلى أنَّ يسوعَ هو الَّذي يُرسِلُ المُبشِّرينَ باسمهِ، كما يُعلِّمُ بولس الرَّسول: "كَيْفَ يَدْعونَ مَن لم يُؤمِنوا بِه؟ وكَيْفَ يُؤمِنونَ بِمَن لم يَسمَعوه؟ وكَيْفَ يَسْمَعونَه مِن غَيرِ مُبَشِّر؟ وكَيْفَ يُبَشِّرونَ إِن لم يُرسَلوا؟" (رومة 10: 14–15). وهكذا، يُعلِنُ لوقا أنَّ التَّبشيرَ هو دَعوةٌ جماعيَّةٌ، لا يَقتصرُ على الكهنوتِ والرسلِ فقط، بل يَشمَلُ كُلَّ مُؤمِنٍ، كما جاءَ في رسالةِ بطرس: "أَمَّا أَنتُم فَإِنَّكُم ذُرِّيَّةٌ مُختارة، وجَماعَةُ المَلِكِ الكَهَنوتِيَّة، وأُمَّةٌ مُقَدَّسَة، وشَعبٌ اقتَناه اللهُ، للإِشادةِ بِآياتِ الَّذي دَعاكم مِنَ الظُّلُماتِ إِلى نُورِهِ العَجيب" (1 بطرس 2: 9). وقد عبَّرَت صلاةٌ قديمةٌ عن هذا البُعدِ الرَّسوليِّ بهذه الكلمات: "يَسوعُ ما له أيدٍ غيرُ أيدينا، لتَتميمِ عملهِ اليوم؛ لا أقدامَ لهُ سوى أقدامِنا، لنَقودَ النّاسَ على طُرُقِه؛ لا شِفاهَ لهُ سوى شِفاهِنا، لنُخبِرَ النّاسَ عنه؛ لا مُساعَدةَ لهُ سِوى مُساعَدَتِنا، لنَقودَ النّاسَ إلى جانبه." أمَّا عِبارةُ "اثنَينِ اثنَينِ" فتُشيرُ إلى إرسالِ التَّلاميذِ زَوجًا زَوجًا، وذلك لِغايَتَينِ رَئيسيَّتينِ: لِتشديدِ بَعضِهم البَعضَ ودَعمِ أحدِهم للآخَر، كما جاءَ في إنجيلِ مرقس 6: 7: "وأخَذَ يَرسِلُهمُ اثنَينِ اثنَين"، وفي إنجيلِ لوقا 9: 1-6، حيثُ أَرسَلَ يسوعُ الرُّسُلَ الاثنَي عَشَرَ أيضًا على هَذا النَّحوِ.وهكذا فَعَلَت الكنيسةُ الأولى، كما نَقرأ في أعمالِ الرُّسُل 13: 2، عندما أَفرَزَ الرُّوحُ القُدُسُ برنابا وشاوُل معًا للعملِ الرَّسوليّ. ويُؤيِّدُ هذا التوجُّه ما جاءَ في سِفرِ الجامعة (4: 9–10): "إثْنانِ خَيرٌ مِن واحِد، لأَنَّ لَهما خَيرَ جَزاءٍ عن تَعَبِهما. إِذا سَقَطَ أَحَدُهُما أَنهَضَه صاحِبُه، والوَيلُ لِمَن هو وَحدَه فسَقَط، إِذْ لَيسَ هُناكَ آخَر يُنهِضُه". ويُعلِّق القدّيس أوغسطينوس على هذه العِبارةِ قائلًا: "إنَّ الرَّقم اثنَين يُشيرُ إلى المحبَّةِ للهِ والقريب، وكأنَّ إرساليَّةَ التلاميذِ لم تَكُن كَرازةَ كلامٍ ووعظٍ فقط، بَل كانت كرازةَ مَحبَّةٍ وشَرِكةٍ مع اللهِ والنَّاس." يُعَبِّرُ هٰذَا النَّصُّ عَنِ البُعْدِ الجَمَاعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ، حَيْثُ لَا يُرْسِلُ يَسُوعُ أَحَدًا مُنْفَرِدًا، بَلْ دَائِمًا فِي شَرِكَةٍ، لِيُظْهِرَ أَنَّ البِشَارَةَ لَا تُعْلَنُ بِالكَلَامِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ خِلَالِ عَيْشِ المَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ. ويعلق القِدِّيسِ يُوحَنَّا الذَّهَبِيِّ الفَمِ: "لَيْسَ شَيْءٌ يُغْضِبُ ٱلشَّيْطَانَ مِثْلَ ٱتِّحَادِ ٱلْإِخْوَةِ فِي ٱلْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ قُوَّتَهُمْ فِي وَحْدَتِهِمْ، وَضَعْفَهُمْ فِي ٱنْقِسَامِهِمْ. لِذٰلِكَ أَرْسَلَهُمُ ٱلسَّيِّدُ ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ، لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ مُتَبَادَلِينَ لِلْمَحَبَّةِ، وَيَكُونَ كَلَامُهُمْ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا، لِأَنَّهُ صَادِرٌ مِنْ شَرِكَةٍ حَيَّةٍ" (عِظَةٌ عَلَى إِنْجِيلِ لُوقَا، تَفْسِيرٌ لِـلُوقَا 10: 1). أمَّا عِبارةُ "يَتَقَدَّمونَه"، ففي الأصلِ اليونانيِّ: πρὸ προσώπου، وتعني "أمامَ وجهِه". ، وهذه العِبارةُ تُشيرُ إلى التَّلاميذِ الَّذين يُرسَلونَ ليسيروا أمام وجه يسوع تَمهيدًا للطريقِ أمامَه ، فيَصيرونَ كيوحنَّا المعمدان، صوتًا نَبويًّا يُنادِي في البَرِّيَّة. وهم لا يعملونَ من تلقاءِ أنفُسِهم، بل تَحتَ نَظرِ الرَّبِّ ورِعايتِه، وهُم في آنٍ معًا رُعاةٌ ومَرعيُّون. وتَحمِلُ العِبارةُ أيضًا بُعدًا ليتورجيًّا ومسيانيًّا، إذ تُشيرُ إلى قُدومِ الرَّبِّ يَسوعَ بِنَفْسِه إلى تِلك المُدُنِ والأمَاكِنِ التي يَتهيَّأُ فيها الشَّعبُ لِلِّقائهِ. إِنَّ رِسَالَةَ التَّلَامِيذِ هِيَ رِسَالَةٌ تَحْضِيرِيَّةٌ، تُنَفَّذُ فِي ضَوْءِ مَجِيءِ الرَّبِّ يَسُوعَ. وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ تِلْمِيذٍ، أَوْ عَلَى كُلِّ عُضْوٍ فِي الْكَنِيسَةِ، أَنْ يُهَيِّئَ الطَّرِيقَ لِآخَرَ سَيَأْتِي، وَهُوَ الرَّبُّ نَفْسُهُ. أمَّا عِبارةُ "إِلى كُلِّ مَدينَةٍ"، فتُبرِزُ أنَّ الرِّسالةَ الإنجيليَّةَ ليست مَحصورةً في شَعبٍ مُعيَّنٍ أو أُمَّةٍ خاصَّةٍ، بل هيَ مُوجَّهَةٌ إلى جَميعِ الشُّعوبِ، إذ لم يَمنَعِ المسيحُ تلاميذَه هذهِ المرَّةَ مِن الذَّهابِ إلى الوَثنيِّين، كما فَعَلَ مع الاثنَي عَشَرَ في إرساليَّتِهم الأُولى، حيثُ قالَ: "لا تَسلُكوا طَريقًا إلى الوَثَنِيِّين" (متى 10: 5). والسَّببُ هو أنَّ اليَهودَ والوَثنيِّينَ كانوا يَسكنونَ مَعًا في بيريَّة، ما يَجعلُ من الإرساليَّةِ شاملةً. أمَّا عِبارةُ "أوشَكَ هو أن يَذهَبَ إليه" فتُشيرُ إلى أنَّ التَّلاميذَ هُم الَّذين يَتقدَّمونَ يسوعَ، لِيُعِدُّوا النَّاسَ لاستقبالِهِ وسَماعِ كلمتِه. فهم مُبشِّرونَ يَهيِّئونَ القُلوبَ لقبولِ المَسيح، تمامًا كما فَعَلَ يوحنَّا المعمدان. فالمَسيحُ ليسَ مَسيحَ اليَهودِ فقط، بَل هو مَسيحُ العالَمِ كُلِّه. ورِسالَتُه، الَّتي بَدأتْ مع الاثنَي عَشَرَ، لا تَنتهي بهم، بَل تَمتدُّ إلى كافَّةِ تَلاميذِه الّذينَ يَحمِلونَ بِشارتَه إلى أَقصى الأرضِ.
2 وقالَ لَهم: الحَصادُ كثيرٌ ولكِنَّ العَمَلَةَ قَليلون، فاسأَلوا رَبَّ الحَصَاد أَن يُرسِلَ عَمَلَةً إلى حَصادِه
تُشِيرُ عِبَارَةُ "الحَصَادُ" إِلَى اِسْتِعَارَةٍ كِتَابِيَّةٍ مَأْلُوفَةٍ تُسْتَعْمَلُ فِي الحَدِيثِ عَنْ دَيْنُونَةِ اللهِ الأَخِيرَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى 3:12، وَفِي نُبُوءَاتِ أَنْبِيَاءِ العَهْدِ القَدِيمِ، مِنْ ذٰلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ يُوئِيل: "الحِصَادُ قَدْ بَلَغَ، وَهَلُمُّوا دُوسُوا، فَإِنَّ المَعْصَرَةَ مَلأَى، وَالدِّنَانَ فَائِضَةٌ، لأَنَّ شَرَّهُمْ قَدْ كَثُرَ" (يوئِيل 4:13)، وَكَذٰلِكَ فِي نُبُوءَاتِ إِشَعْيَاء (41:15) وَإِرْمِيَا (51:33). يَرْتَبِطُ الحَصَادُ أَيْضًا بِـيَوْمِ الدَّيْنُونَةِ وَمَجِيءِ الرَّبِّ وَسَطَ شَعْبِهِ، كَمَا فِي إِشَعْيَاء 63:1–6، حِينَ يَجِيءُ الرَّبُّ كَدَيَّانٍ لِلْحَصَادِ النِّهَائِيِّ. وَقَدْ رَسَمَ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ صُورَةً وَاضِحَةً لِهٰذَا الحَصَادِ، بِاعْتِبَارِهِ العَمَلَ الأَقْوَى الَّذِي سَيَأْتِي بِهِ المَسِيحُ: "أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِالمَاءِ، وَلَكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي... يَفْصِلُ الحِنْطَةَ عَنِ التِّبْنِ" (لوقا 3:16–17). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ عَلَى هٰذَا بِقَوْلِهِ: "لَا أُرْسِلُكُمْ لِتَقُومُوا بِالزَّرْعِ، بَلْ بِالحَصَادِ. وَمِنْ قَوْلِهِ هٰذَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الرَّبَّ أَعْطَاهُمْ الثِّقَةَ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّ العَمَلَ الأَهَمَّ قَدْ تَمَّ بِالفِعْلِ." (العِظَةُ 32 عَلَى إِنْجِيلِ مَتَّى). أَمَّا عِبَارَةُ "فَاسْأَلُوا رَبَّ الحَصَادِ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّلَامِيذَ، رَغْمَ دَعْوَتِهِم، لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِهِم، بَلْ عَلَيْهِم أَنْ يَبْدَأُوا بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الوَسِيلَةُ الأُولَى وَالأَسَاسِيَّةُ لِانْتِشَارِ الإِنْجِيلِ. فَالمَسِيحُ هُوَ رَبُّ الحَصَادِ، هُوَ الَّذِي يَبْذُرُ الكَلِمَةَ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي يَحْصُدُ النُّفُوسَ، وَبِدُونِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْمَلَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ هُوَ بِنَفْسِهِ: "بِمَعْزِلٍ عَنِّي لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَعْمَلُوا شَيْئًا" (يُوحَنَّا 15:5)). وَتُعَلِّقُ القِدِّيسَةُ تِرِيزَا الطِّفْلِ يَسُوعَ وَالوَجْهِ الأَقْدَسِ عَلَى هٰذِهِ الآيَةِ بِعُمْقٍ رُوحِيٍّ: "أَلَيْسَ الرَّبُّ يَسُوعُ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ أَلَيْسَتِ المَخْلُوقَاتُ لَهُ؟ فَلِمَاذَا إِذًا قَالَ: اِسْأَلُوا رَبَّ الحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ عُمَّالًا إِلَى حَصَادِهِ؟ لِمَاذَا؟لِ أَنَّهُ يُحِبُّنَا حُبًّا يُفَاوِقُ الإِدْرَاكَ، لِدَرَجَةٍ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ نُشَارِكَهُ فِي خَلَاصِ النُّفُوسِ. لَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا دُونَنَا." (الرِّسَالَة 135). وَيُؤَكِّدُ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ أَنَّ الكِرَازَةَ هِيَ مِنْ صَمِيمِ عَمَلِهِ هُوَ، فَهُوَ الَّذِي عَيَّنَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يُسْنِدُهُمْ، كَمَا أَنَّهُ يُشْرِكُهُمْ فِي عَمَلِهِ الخَلَاصِيِّ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس عَلَى ذٰلِكَ قَائِلًا: "الرَّبُّ نَفْسُهُ هُوَ الَّذِي يَبْذُرُ، إِذْ كَانَ سَاكِنًا فِي الرُّسُلِ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي يَحْصُدُ، فَبِدُونِهِ يُحْسَبُونَ كُلَّهُمْ لَا شَيْءَ." وَيُضِيفُ إِنْجِيلُ مَتَّى 9:37: "الحَصَادُ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّ الفَعَلَةَ قَلِيلُونَ"، فَيُشِيرُ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الصَّلَاةِ لِكَيْ يُرْسِلَ الرَّبُّ عُمَّالًا إِلَى حَقْلِهِ، وَيَدْعُو المُؤْمِنِينَ إِلَى المُشَارَكَةِ فِي الكِرَازَةِ بِالصَّلَاةِ وَالعَمَلِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ مَنْصُورُ دِي بُول، مُؤَسِّسُ جَمَاعَةِ "رِسَالَةِ المَحَبَّةِ"، بِقَوْلِهِ: "إِنَّ الكَنِيسَةَ تُقَارَنُ بِمَوْسِمِ حَصَادٍ كَبِيرٍ، يَتَطَلَّبُ عُمَّالًا، وَلَكِنْ لَيْسَ أَيَّ عُمَّالٍ، إِنَّمَا عُمَّالًا يَعْمَلُونَ." (مِنَ الإِرْشَادَاتِ الرُّوحِيَّةِ لِلْمُرْسَلِينَ). وَيُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ إِنَّ زَمَنَ يَسُوعَ كَانَ أَيْضًا زَمَنَ الحَصَادِ، لِأَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَدِ اقْتَرَبَ، كَمَا أَعْلَنَ يَسُوعُ فِي أَوَائِلِ كِرَازَتِهِ: "تُوبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" (مَتَّى 3:2). وَهَكَذَا، فَإِنَّ الدَّيْنُونَةَ تَبْدَأُ مِنَ الآنَ، فِي المَوْقِفِ مِنْ يَسُوعَ وَمِنْ بَشَارَتِهِ. فَهَلْ نُصَلِّي لِكَيْ يُرْسِلَ الرَّبُّ عُمَّالًا أُمَنَاءَ، مُتَوَاضِعِينَ، وَمَمْلُوئِينَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، إِلَى حَصَادِهِ؟
3 اِذهَبوا! فهاءنَذا أُرسِلُكم كَالحُملانِ بَينَ الذِّئاب
تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَهاءَنَذا أُرْسِلُكُم" إِلَى يَسُوعَ الَّذِي يَحْمِلُ مَسْؤُولِيَّةَ إِرْسَالِ تَلَامِيذِهِ. فَهُوَ، بِصِفَتِهِ المُرْسِلَ، المَسْؤُولُ عَنِ المُرْسَلِينَ، وَالمُحَامِي عَنْهُم، وَالعَامِلُ فِيهِم. وَلَيْسَ إِرْسَالُهُمْ إِلَى المَوْتِ أَوِ الِافْتِرَاسِ، بَلْ إِلَى تَحْوِيلِ الذِّئَابِ نَفْسِهَا إِلَى حِمْلَانٍ، مِنْ خِلَالِ وَدَاعَةِ التَّلَامِيذِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس عَلَى ذٰلِكَ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ الذِّئَابَ تَلْتَهِمُ الحِمْلَانَ، لَكِنْ بِقُوَّةِ اللهِ تَتَحَوَّلُ الذِّئَابُ إِلَى حِمْلَانٍ." وهذا مَا يُظْهِرُ هَدَفَ الإِرْسَالِيَّةِ: لَيْسَ لِلانْتِقَامِ وَلَا لِلتَّحَدِّي، بَلْ لِتَحْوِيلِ القَلْبِ القَاسِي بِـلُطْفِ الحَمَلِ الوَدِيعِ. وَيُتَابِعُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ تَعْلِيقَهُ فِي وَعْظِهِ قَائِلًا: "إِنَّ الشَّرَاسَةَ لَا تُطْفَأُ بِالشَّرَاسَةِ، بَلْ بِاللُّطْفِ، فَالمَسِيحُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ يَعْرِفُ طَبِيعَةَ الأَشْيَاءِ." مُبْرِزًا أَنَّ سِلَاحَ الرَّسُولِ لَيْسَ القُوَّةَ بَلِ الوَدَاعَةَ، وَلَيْسَ العُنْفَ بَلِ المَحَبَّةَ. وَهٰذَا مَا يُجَسِّدُهُ تَارِيخُ الكَنِيسَةِ مُنْذُ بَدَايَاتِهَا: فَـمَرْقُسُ الإِنْجِيلِيُّ، مَثَلًا، أَتَى إِلَى مِصْرَ كَـحَمَلٍ وَدِيعٍ، وَذُبِحَ هُنَاكَ، وَلَكِنَّ قُوَّةَ اللهِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ فِيهِ نَشَرَتِ المَسِيحِيَّةَ فِي البِلَادِ، وَأَثْمَرَتْ حَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَهاءَنَذَا"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: ἰδοὺ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ العِبْرِيَّةِ הִנְנִי، فَهِيَ تُعَبِّرُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ الكَامِلِ وَالإِيجَابِيِّ لِلإِرَادَةِ الإِلٰهِيَّةِ. وَقَدِ اسْتُخْدِمَتْ مِنْ قِبَلِ الأَنْبِيَاءِ عِنْدَ قَبُولِهِم الدَّعْوَةَ (كَمَا فِي دَعْوَةِ صَمُوئِيلَ، وَإِشَعْيَاءَ)، وَلَكِنَّهَا هُنَا تَخْرُجُ مِنْ فَمِ يَسُوعَ نَفْسِهِ، مُعْلِنًا ذَاتَهُ بِتَوَاضُعٍ فَيَقُولُ: "فَهاءَنَذَا" - وَكَأَنَّهُ يُعِيدُ مَا قَالَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ إِشَعْيَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، رَمْزِ البَشَرِيَّةِ: "هَاءَنَذَا أُمِيلُ إِلَيْهَا السَّلَامَ كَالنَّهْرِ، وَمَجْدَ الأُمَمِ كَالوَادِي الطَّافِحِ" (إِشَعْيَاء 66:12). إِنَّ هٰذِهِ الـ"فَهاءَنَذَا" الإِلٰهِيَّةَ تُظْهِرُ قُرْبَ اللهِ مِنَ الإِنْسَانِ، وَاسْتِعْدَادَهُ لِيَخْدِمَهُ وَيُحِبَّهُ، وَيُشَجِّعَهُ عَلَى قُبُولِ الخَلَاصِ. إِنَّهُ يَأْتِي وَيَنْحَنِي، لَا لِيَأْخُذَ، بَلْ لِيَهَبَ، وَلَا لِيُفْتَرَسَ، بَلْ لِيَفْتَدِي. أَمَّا عِبَارَةُ "أُرْسِلُكُم" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ يَسُوعَ يُهَيِّئُ تَلَامِيذَهُ، وَيَمْنَحُهُمْ سُلْطَانًا، كَمَا أَوْضَحَ لَاحِقًا بِقَوْلِهِ: "مَنْ سَمِعَ إِلَيْكُم سَمِعَ إِلَيَّ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنكُم أَعْرَضَ عَنِّي، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِّي أَعْرَضَ عَنِ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (لوقا 10:16). وَهَكَذَا، تُصْبِحُ الرِّسَالَةُ المَسِيحِيَّةُ اِمْتِدَادًا حَقِيقِيًّا لِرِسَالَةِ المَسِيحِ نَفْسِهِ، وَيَصِيرُ كُلُّ تِلْمِيذٍ صُورَةً حَيَّةً عَنْ يَسُوعَ المُرْسَلِ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَالحُملانِ بَيْنَ الذِّئَابِ"، فَهِيَ تُنْبِئُ بِـالتَّحَدِّيَاتِ الَّتِي تَنْتَظِرُ التَّلَامِيذَ: الِاضْطِهَادِ، وَالرَّفْضِ، وَالتَّجْرِبَةِ، وَلَكِنْ أَيْضًا النُّصْرَةِ بِالنِّعْمَةِ، وَالوَدَاعَةِ، وَالمَحَبَّةِ. هٰذَا مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الرَّسُولُ بُطْرُسُ بِقَوْلِهِ: "فَقَدْ تَأَلَّمَ المَسِيحُ أَيْضًا مِنْ أَجْلِكُم، وَتَرَكَ لَكُم مِثَالًا لِتَقْتَفُوا آثَارَهُ. شُتِمَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى الشَّتِيمَةِ بِمِثْلِهَا، تَأَلَّمَ وَلَمْ يُهَدِّدْ، بَلْ أَسْلَمَ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالعَدْلِ" (1 بطرس 2:21–23). فَإِنَّ إِعْلَانَ المَلَكُوتِ يُهَدِّدُ مَصَالِحَ العُظَمَاءِ فِي هٰذَا العَالَمِ، وَلِذَا، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لِلحَقِّ لَا بُدَّ أَنْ تُوَاجَهَ بِالرَّفْضِ. وَمَعَ ذٰلِكَ، لَا يُطْلَبُ مِنَ المُرْسَلِينَ أَنْ يَتَسَلَّحُوا بِالقُوَّةِ، بَلْ بِاللِّيْنِ، كَمَا أَوْصَى الرَّبُّ: "تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ القَلْبِ" (متّى 11:29). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس (340–397)، أُسْقُفُ مِيلَانُو، عَلَى هٰذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ: "حِينَ أَرْسَلَ الرَّبُّ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ إِلَى الحَصَادِ، لَمْ يَخَشَ عَلَى قَطِيعِهِ مِنَ الذِّئَابِ؛ أُرْسِلَ أُولٰئِكَ التَّلَامِيذُ لَا لِيَكُونُوا فَرِيسَةً، بَلْ لِيَنْشُرُوا النِّعْمَةَ أَيْنَمَا حَلُّوا. إِنَّ عِنَايَةَ الرَّاعِي الصَّالِحِ تَقِي الحِمْلَانَ مِنِ اعْتِدَاءَاتِ الذِّئَابِ." إِنَّهُ يُرْسِلُهُمْ لِيُتِمُّوا نُبُوءَةَ إِشَعْيَاءَ: "ٱلذِّئْبُ وَٱلْحَمَلُ يَرْعَيَانِ مَعًا" (إِشَعْيَاء 65:25). أي: أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُبَدِّلُ العَلَاقَاتِ، وَيُقِيمُ سَلَامًا حَتَّى فِي أَكْثَرِ الأَمَاكِنِ عَدَائِيَّةً. (تَفْسِيرٌ لِإِنْجِيلِ القِدِّيسِ لُوقَا، الفَصْل 7: الآيَات 44–59).
4 لا تَحمِلوا كِيسَ دَراهِم ولا مِزوَداً ولا حِذاءً ولا تُسَلِّموا في الطَّريقِ على أَحد
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "لا تَحْمِلُوا" إِلَى دَعْوَةِ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ إِلَى التَّخَلِّي الْكَامِلِ عَنْ كُلِّ مَا قَدْ يُعِيقُ الْمَسِيرَةَ الرَّسُولِيَّةَ، وَيُشَتِّتُ الْقَلْبَ عَنِ الرِّسَالَةِ. إِنَّهَا دَعْوَةٌ إِلَى الْحُرِّيَّةِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَالتَّجَرُّدِ مِنْ كُلِّ اعْتِمَادٍ بَشَرِيٍّ، وَالِاكْتِفَاءِ بِالْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ.أَمَّا عِبَارَةُ: "كِيسَ دَرَاهِمَ"، فَتُشِيرُ إِلَى التَّجَرُّدِ مِنَ الْمَالِ، وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الِاتِّكَالِ عَلَى الْغِنَى الْمَادِّيِّ فِي الْكِرَازَةِ. فَالْكِرَازَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، بَلْ إِلَى النِّعْمَةِ وَالْكَلِمَةِ الْحَيَّةِ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسَ قَائِلًا: "مَاذَا يَعْنِي: لا تَحْمِلُوا كِيسًا؟ أَيْ: لا تَكُونُوا حُكَمَاءَ بِذَوَاتِكُمْ، بَلِ اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ، فَيَكُونَ فِيكُمْ يَنْبُوعًا لا كِيسًا، مِنْهُ تُنْفِقُونَ عَلَى الْآخَرِينَ دُونَ أَنْ يَنْضُبَ. وَهَكَذَا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمِزْوَدِ". وَيُجَسِّدُ بُطْرُسُ الرَّسُولُ هَذَا التَّجَرُّدَ فِي مَوْقِفِهِ مَعَ الْفَقِيرِ عِنْدَ بَابِ الْهَيْكَلِ، إِذْ قَالَ: «لا فِضَّةَ عِنْدِي وَلَا ذَهَبَ، وَلَكِنِّي أُعْطِيكَ مَا عِنْدِي: بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ، امْشِ!» (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 3: 6). أَمَّا عِبَارَةُ: "مِزْوَدًا"، فَتَشِيرُ إِلَى الْوِعَاءِ الْجِلْدِيِّ الَّذِي كَانَ يُوضَعُ فِيهِ الزَّادُ لِلسَّفَرِ. وَهُنَا تُشِيرُ رَمْزِيًّا إِلَى أَنَّ التَّبْشِيرَ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ الْغِذَائِيِّ أَوِ الِاكْتِفَاءِ الذَّاتِيِّ، بَلْ عَلَى الضِّيَافَةِ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ: «الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ» (لوقا 10: 7)، أَيْ أَنَّ الرَّبَّ سَيُدَبِّرُ احْتِيَاجَاتِ مُرْسَلِيهِ مِنْ خِلَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي تَفْتَحُ أَبْوَابَهَا لَهُمْ. إِنَّ هَذَا التَّوَجُّهَ يَتَوَافَقُ مَعَ تَعْلِيمِ يَسُوعَ الْوَاضِحِ: "لا يُهِمَّكُمْ لِلْعَيْشِ مَا تَأْكُلُونَ، وَلَا لِلْجَسَدِ مَا تَلْبَسُونَ" (متى 6: 25)، وَهُوَ دَعْوَةٌ إِلَى الِاتِّكَالِ الْكُلِّيِّ عَلَى عِنَايَةِ الْآبِ السَّمَاوِيِّ. أَمَّا عِبَارَةُ: "وَلَا حِذَاءً"، فَتَحْمِلُ دَلَالَةً رَمْزِيَّةً غَنِيَّةً. فَفِي الثَّقَافَةِ الْقَدِيمَةِ، كَانَ الْحِذَاءُ عَلَامَةً عَلَى السُّلْطَةِ وَالْحُرِّيَّةِ: فَالْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ يَلْبَسُ الْحِذَاءَ، وَالْحَاكِمُ كَانَ يَطَأُ بِحِذَائِهِ رَقَبَةَ الْعَدُوِّ الْمُنْتَصَرِ عَلَيْهِ، وَنَزْعُ الْحِذَاءِ عَلَامَةٌ عَلَى الْوُقُوفِ فِي حَضْرَةِ اللهِ، كَمَا فِي دَعْوَةِ مُوسَى: "اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ" (خُرُوجُ 3: 5). وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسَ عَلَى ذَلِكَ قَائِلًا: "نَسْتَخْدِمُ الْأَحْذِيَةَ مِنْ جِلْدِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَيِّتَةِ، فَتُغَطِّي أَقْدَامَنَا. لِذَلِكَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَجْحَدَ الْأَعْمَالَ الْمَيِّتَةَ. فَالرِّسَالَةُ لَا تَحْتَمِلُ سِوَى الْحَيَّةِ وَالنَّاشِطَةِ، لَا الْمُتَكَلِّسَةِ فِي الْمَادَّةِ وَالْخَطِيئَةِ". إِنَّ التَّلَامِيذَ إِذًا، لَا يَخْرُجُونَ فِي إِرْسَالِيَّتِهِمْ وَهُمْ يَتَّكِلُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ عَلَى مَا يَمْلِكُونَ، بَلْ يَتَّكِلُونَ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُمْ. نَجَاحُهُمْ هُوَ مِنْ نَجَاحِ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ، وَقُوَّتُهُمْ مِنْ ضَعْفِهِ الَّذِي غَلَبَ بِهِ الْعَالَمَ. تُشِيرُ عِبَارَةُ: "وَلَا تُسَلِّمُوا فِي الطَّرِيقِ عَلَى أَحَدٍ" إِلَى دَعْوَةِ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ إِلَى التَّرْكِيزِ الْكَامِلِ عَلَى رِسَالَتِهِمْ دُونَ تَشَتُّتٍ، وَعَدَمِ الِانْشِغَالِ بِالتَّحِيَّاتِ وَالْمُجَامَلَاتِ وَالتَّوَقُّفَاتِ غَيْرِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي قَدْ تُبْطِئُ مِنْ وَتِيرَةِ الْإِرْسَالِيَّةِ في التبشير بالـملكوت. فَالسَّلَامُ فِي ذَاتِهِ لَيْسَ أَمْرًا مَرْفُوضًا، بَلْ هُوَ عَادَةٌ مُقَدَّسَةٌ وَمُحَبَّبَةٌ، وَلَكِنْ حِينَ يُصْبِحُ مُجَرَّدَ شَكْلِيَّاتٍ بِلَا هَدَفٍ أَوْ يُعَطِّلُ الرِّسَالَةَ، يُصْبِحُ عَائِقًا أَمَامَ الْإِنْجِيلِ. فَالْكَلِمَةُ هُنَا لَا تُدِينُ السَّلَامَ ذَاتَهُ، بَلْ تُشَجِّعُ عَلَى عَدَمِ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ الثَّمِينِ فِي الطَّرِيقِ، خَاصَّةً أَنَّ الْإِرْسَالِيَّةَ عَاجِلَةٌ وَمُلِحَّةٌ. الْمَطْلُوبُ مِنَ التِّلْمِيذِ أَنْ يَكُونَ مُكَرَّسًا بِالْكُلِّيَّةِ لِلَّهِ، وَمَنْدَفِعًا بِشَغَفٍ نَحْوَ الرِّسَالَةِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنْ وَرَدَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، حِينَ أَرْسَلَ النَّبِيُّ أَلِيشَاعُ خَادِمَهُ جِيحَزِي لِيُقِيمَ ابْنَ الشُّونَمِيَّةِ مِنَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ: "اشْدُدْ حَقْوَيْكَ، وَخُذْ عَصَايَ فِي يَدِكَ، وَامْضِ، وَإِنْ لَقِيتَ أَحَدًا فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ أَحَدٌ فَلَا تُجِبْهُ" (2 مُلُوكَ 4: 29). لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَجَالٌ لِلتَّوَقُّفِ، لِأَنَّ الرِّسَالَةَ كَانَتْ ذَاتَ طَابِعٍ مَصِيرِيٍّ وَمُسْتَعْجَلٍ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوسَ عَلَى هَذَا النَّصِّ بِقَوْلِهِ: "السَّيِّدُ لَمْ يَمْنَعْنَا مِنْ تَحِيَّةِ السَّلَامِ، إِنَّمَا مِنْ تَقْدِيمِهَا فِي الطَّرِيقِ، أَيْ أَنْ لَا تَكُونَ سَبَبًا لِتَعْطِيلِ الرِّسَالَةِ، كَمَا فَعَلَ أَلِيشَاعُ النَّبِيُّ مَعَ خَادِمِهِ، إِذْ أَمَرَهُ بِالْإِسْرَاعِ لِإِتْمَامِ الْمُهِمَّةِ". إِذًا، لَا يُقْصَدُ بِالتَّحْذِيرِ هُنَا قَطْعُ الْعَلَاقَاتِ أَوْ تَجَاهُلُ الْآخَرِينَ، بَلْ الْحِفَاظُ عَلَى الذِّهْنِ وَالنِّيَّةِ نَقِيَّيْنِ وَمُرَكَّزَيْنِ عَلَى الْهَدَفِ الْأَسْمَى: التَّبْشِيرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ. فَالْمُرْسَلُ لَا يَجِبُ أَنْ يَسْمَحَ لِشَيْءٍ أَنْ يُشَتِّتَهُ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أُرْسِلَ، كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "هُوَذَا الْآنَ وَقْتُ الرِّضَى، هُوَذَا الْآنَ يَوْمُ الْخَلَاصِ" (2 قُورِنْتُس 6: 2). وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا النَّصِّ أَنَّ الزَّمَنَ ثَمِينٌ، وَالرِّسَالَةَ عَاجِلَةٌ، وَالْمَلَكُوتَ قَرِيبٌ. فَلَا مَجَالَ لِلْمُمَاطَلَةِ أَوِ الْمُسَاوَمَةِ. فَكَمَا أَنَّ الْحَصَادَ لَا يَنْتَظِرُ، كَذَلِكَ الْكَلِمَةُ لَا تَتَحَمَّلُ التَّأْجِيلَ. إِنَّهَا دَعْوَةٌ لِأَنْ يَحْفَظَ الْمُرْسَلُ قَلْبَهُ وَفِكْرَهُ مُنْحَصِرَيْنِ فِي اللهِ، مَدْفُوعًا بِحُبِّهِ، دُونَ أَنْ يَتَشَتَّتَ فِي تَفَاصِيلَ يَوْمِيَّةٍ لَا تَخْدِمُ الْهَدَفَ، لِأَنَّ: "مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قَدِ اقْتَرَبَ"، وَإِتْمَامَهُ مُلْقًى عَلَى عَاتِقِهِمْ.
5 وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ على هذا البَيت
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "أَيَّ بَيْتٍ" إِلَى سُلُوكِ التَّلَامِيذِ فِي الْبَيْتِ، فِي حِينِ أَنَّ الْآيَاتِ 8–11 تُشِيرُ إِلَى سُلُوكِ التَّلَامِيذِ فِي الْمَدِينَةِ.أَمَّا عِبَارَةُ: "السَّلَامُ" فَفِي الْأَصْلِ الْيُونَانِيِّ Εἰρήνη، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعِبْرِيَّةِ שָׁלוֹם، فَتُشِيرُ إِلَى فَيْضِ الْبَرَكَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي بَدَأَتْ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ الْقَائِلِ: "وأَنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرةً، وأُبارِكُكَ، وأُعظِّمُ اسمَكَ، وتَكُونُ بَركَة. وأُبارِكُ مُبارِكيكَ" (التكوين 12: 2–3). إِنَّهَا الْبَرَكَةُ الْمَسِيحَانِيَّةُ الَّتِي تَفِيضُ بِهَا يَدُ اللهِ الْحَنُونُ عَلَى بَنِيهِ. وَهِيَ جَوْهَرُ رِسَالَةِ الْمُرْسَلِينَ فِي الْعَالَمِ، وَرِسَالَتُنَا نَحْنُ، إِذْ إِنَّ رِسَالَتَنَا هِيَ امْتِدَادٌ لِرِسَالَتِهِمْ. وَهُوَ السَّلَامُ الْمَأْلُوفُ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: "قولوا لَه: كُلُّ سَنَةٍ وأَنتَ سالِم، وبَيتُكَ، وكُلُّ ما لَكَ سالِم" (1 صموئيل 25: 6)، وَهُوَ تَمَنٍّ لِلِازْدِهَارِ وَالْعَافِيَةِ وَالْهَنَاءِ وَالْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْعِبْرِيَّةِ שָׁלוֹם، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ". وَالْمَقْصُودُ هُنَا لَيْسَ ذَلِكَ السَّلَامَ الرَّخِيصَ وَالْخَالِيَ مِنَ الْمُتَطَلَّبَاتِ، الَّذِي وَعَدَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ الْكَذَبَةُ، كَمَا قَالَ مِيخَا النَّبِيُّ: "هكذا قالَ الرَّبُّ على الأَنبِياءِ الَّذينَ يُضِلُّونَ شَعْبي، ويَعَضُّونَ بِأَسنانِهم، ويُنادونَ بِالسَّلام" (ميخا 3: 5)، إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ "سَلَامُ" الْمَسِيحِ الَّذِي يَحْمِلُهُ الْإِنْجِيلُ، كَمَا جَاءَ فِي نَشِيدِ الْكَاهِنِ زَكَرِيَّا، أَبِي يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ: "فَقَد ظَهَرَ لِلْمُقِيمِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلَالِ الْمَوْتِ، لِيُسَدِّدَ خُطَانَا لِسَبِيلِ السَّلَامِ" (لوقا 1: 79). هُوَ سَلَامُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي حَمَلَهُ مُنْذُ تَجَسُّدِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ:"السَّلامَ أَستَودِعُكُم، وَسَلامي أُعْطيكُم. لا أُعْطي أَنا كَما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكُم ولا تَفْزَعْ" (يوحنا 14: 27). فَالْمُرْسَلُ أَوِ الرَّسُولُ يُعْطِي مِنْ عِنْدِ اللهِ سَلَامًا يُمْلِئُ الْقَلْبَ، وَهَذَا السَّلَامُ فَعَّالٌ لِمَنْ يَتَلَقَّاهُ بِإِيمَانٍ. وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، أَرْسَلَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ لِلتَّبْشِيرِ بِطُرُقٍ سِلْمِيَّةٍ، لَا بِالْحَرْبِ وَالسَّيْفِ، لِأَنَّهُ: "كُلُّ مَنْ يَأْخُذُ بِالسَّيْفِ، بِالسَّيْفِ يَهْلِكُ" (متى 26: 52).
6 فإن كانَ فيهِ ابنُ سَلام، فسَلامُكُم يَحِلُّ بِه، وإِلاَّ عادَ إِلَيكُم
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "ابْنُ سَلَامٍ" إِلَى الإِنْسَانِ الَّذِي يَتَقَبَّلُ سَلَامَ اللهِ بِصِدْقٍ، وَيَتَجَاوَبُ مَعَهُ، وَهُوَ بِالتَّالِي إِنْسَانٌ مُسْتَعِدٌّ لِسَمَاعِ كَلِمَةِ اللهِ وَاسْتِقْبَالِهَا فِي قَلْبِهِ. فَعِبَارَةُ "ابْن" فِي اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ تُعْنِي الِانْتِمَاءَ إِلَى الصِّفَةِ؛ أَيْ: إِنَّهُ يَنْتَمِي إِلَى السَّلَامِ، فِي شَخْصِيَّتِهِ وَمَيْلِهِ الدَّاخِلِيِّ، وَقَدْ صَارَ مُهَيَّأً لِاسْتِقْبَالِ الْبِشَارَةِ. إِنَّ السَّلَامَ الَّذِي يُقَدِّمُهُ الرَّسُولُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَحِيَّةٍ تَقْلِيدِيَّةٍ أَوْ شَكْلِيَّةٍ، بَلْ هُوَ سَلَامٌ إِلَهِيٌّ فِعْلِيٌّ، يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ نِعْمَةً وَبَرَكَةً، وَيُنْقَلُ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَى الآخَرِ، كَمَا قَالَ الرَّبُّ الْقَائِمُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ لِتَلَامِيذِهِ: "السَّلَامُ لَكُمْ!" (يوحنّا 20: 19)، فَهُوَ سَلَامُ الْقِيَامَةِ، وَسَلَامُ الْغُفْرَانِ، وَسَلَامُ الْمُصَالَحَةِ مَعَ اللهِ. أَمَّا عِبَارَةُ: "وَإِلَّا عَادَ إِلَيْكُمْ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ السَّلَامَ الَّذِي يُقَدَّمُ لَا يَضِيعُ سُدًى، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ، فَإِنَّهُ يَعُودُ عَلَى صَاحِبِهِ بَرَكَةً وَسَلَامًا. فَالْمُرْسَلُ لَا يَخْسَرُ شَيْئًا إِنْ رُفِضَ، بَلْ يَحْفَظُ نِعْمَةَ اللهِ فِي قَلْبِهِ، كَمَا يُؤَكِّدُ يَسُوعُ لَاحِقًا: "مَنْ سَمِعَ إِلَيْكُمْ، سَمِعَ إِلَيَّ، وَمَنْ رَذَلَكُمْ، رَذَلَنِي" (لوقا 10: 16). وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَلَامَ الْمَسِيحِيِّ هُوَ عَطِيَّةٌ، لَا تَفَاوُضٌ، وَهُوَ يُعْطَى بِالْمَجَّانِ، لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ بَشَرِيٍّ. وَلَكِنْ، فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، لَا يُفْرَضُ عَلَى أَحَدٍ. فَالتَّحِيَّةُ الَّتِي يَحْمِلُهَا التِّلْمِيذُ لَيْسَتْ مِنْ ذَاتِهِ، بَلْ مِنَ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ، "رَجُلِ السَّلَامِ" (أشعيا 9: 5)، وَهِيَ تَحِيَّةٌ تَحْمِلُ بُعْدَيْنِ: سَلَامٌ بَاطِنِيٌّ: مَنْ يَلْتَقِي بِالْمَسِيحِ الْحَقِيقِيِّ، تُنْتَزَعُ مِنْهُ الْمَخَاوِفُ، وَيَغْمُرُهُ رَجَاءٌ دَاخِلِيٌّ لَا يُزَعْزَعُ، لِأَنَّ سَلَامَ الْمَسِيحِ لَا يُعْطِي كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ (يوحنّا 14: 27). وَسَلَامٌ خَارِجِيٌّ: فَالْمَسِيحِيُّ الَّذِي نَالَ هَذَا السَّلَامَ، يَحْمِلُهُ إِلَى الآخَرِينَ، وَيَصِيرُ رَسُولًا وَوَاسِطَةً لِنَقْلِ حُضُورِ الْمَسِيحِ الْقَائِمِ. وَهَكَذَا، لَا تَتَوَقَّفُ مُهِمَّةُ التِّلْمِيذِ عَلَى إِبْلَاغِ التَّعْلِيمِ، بَلْ عَلَى نَقْلِ السَّلَامِ نَفْسِهِ، وَهُوَ سَلَامٌ يُغَيِّرُ الْقُلُوبَ وَالْبُيُوتَ وَالْمُجْتَمَعَاتِ.
7 أَقيموا في ذلكَ البَيتِ تأَكُلونَ وتَشرَبونَ مِمَّا عِندَهم، لِأَنَّ العامِلَ يَستَحِقُّ أُجرَتَه، ولا تَنتَقلوا مِن بَيتٍ إلى بَيت
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ" إِلَى مَبْدَأٍ رَاسِخٍ فِي التَّقْلِيدِ الْيَهُودِيِّ، مَفَادُهُ أَنَّ الْمُعَلِّمَ (الرَّابِّي) لَهُ الْحَقُّ أَنْ يَعِيشَ مِنْ عَطَايَا تَلَامِيذِهِ. إِنَّهَا قَاعِدَةٌ تَحْتَرِمُ كَرَامَةَ الْعَامِلِ فِي الْحَقْلِ الْإِلَهِيِّ، وَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى الطَّمَعِ أَوِ الِاسْتِغْلَالِ، بَلْ عَلَى اعْتِرَافِ الْجَمَاعَةِ بِقِيمَةِ الْخَادِمِ الَّذِي يُكَرِّسُ ذَاتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ لِخِدْمَةِ الْإِنْجِيلِ. وَقَدِ اعْتَمَدَ الرَّسُولُ بُولُسُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فِي تَنْظِيمِ خِدْمَتِهِ التَّبْشِيرِيَّةِ، فَقَالَ: "أَوْصَى الرَّبُّ أَيْضًا بِأَنْ يُعِيشَ مُبَشِّرُو الإِنْجِيلِ مِنَ الإِنْجِيلِ" (1 قورنتس 9: 14)، مَعَ أَنَّهُ تَنَازَلَ شَخْصِيًّا عَنْ هَذَا الْحَقِّ، لِيَشْهَدَ مَجَّانًا لِبِشَارَةِ الْخَلَاصِ دُونَ عَائِقٍ (1 قورنتس 9: 15–18). وَيَسْتَشْهِدُ بُولُسُ بِالنَّصِّ نَفْسِهِ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى تِلْمِيذِهِ طِيمُوتَاوُس، فَيَقُولُ: "فَإِنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ: لا تَكُمَّ ثَوْرًا فِي حِينِ دَوْسِهِ. وَالْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ" (1 طيموتاوس 5: 18)، مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ إِنْجِيلَ لُوقَا كَانَ مَعْرُوفًا وَمُتَدَاوَلًا قَبْلَ كِتَابَتِهِ لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَقَدِ اعْتُبِرَ مَرْجِعًا مَوْثُوقًا. فَالرَّبُّ إِذًا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمُرْسَلَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعَلُّقِ بِالْمَادِّيَّاتِ، أَوِ الْقَلَقِ بِشَأْنِ الْغِذَاءِ وَالْإِقَامَةِ، لِأَنَّ اللهَ يَعْتَنِي بِهِ مِنْ خِلَالِ مَحَبَّةِ الْمُضِيفِينَ. وَالرِّسَالَةُ هُنَا تَتَضَمَّنُ بُعْدًا رَعَوِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا: مَنْ يَسْتَقْبِلْ رَسُولَ الْمَسِيحِ، يَسْتَقْبِلِ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ، وَمَنْ يُكْرِمْ خَادِمَهُ، يُكْرِمْهُ.أَمَّا عِبَارَةُ: "وَلَا تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ"، فَتُشِيرُ إِلَى دَعْوَةِ التَّلَامِيذِ الْمُرْسَلِينَ إِلَى الِاسْتِقْرَارِ فِي الْبَيْتِ الَّذِي اسْتَضَافَهُمْ، وَعَدَمِ التَّقَلُّبِ بَحْثًا عَنْ ظُرُوفٍ مَعِيشِيَّةٍ أَفْضَلَ، أَوْ طَعَامٍ أَطْيَبَ، أَوْ ضِيَافَةٍ أَغْنَى. فَالْمُرْسَلُ مَدْعُوٌّ أَنْ يَعِيشَ بِبَسَاطَةٍ، وَاتِّضَاعٍ، وَرِضًى، وَأَمَانَةٍ فِي الْخِدْمَةِ. وَهَذَا التَّنْبِيهُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي تَجْرِبَةِ الِانْشِغَالِ بِالْمُجَامَلَاتِ، أَوِ الْوَلَائِمِ، أَوِ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تُشَتِّتُ ذِهْنَهُمْ عَنْ جَوْهَرِ دَعْوَتِهِمُ الرَّسُولِيَّةِ. فَمَنْ يَقْبَلْهُم فِي بَيْتِهِ، يُصْبِحْ بَيْتَهُمْ، وَهُمْ أَعْضَاءٌ فِي أُسْرَتِهِ. لِذَلِكَ، يَحْتَرِمُونَ الضِّيَافَةَ وَيُكَرِّسُونَ وَقْتَهُمْ لِلْبِشَارَةِ، لَا لِلرَّاحَةِ. إِنَّهُ تَعْلِيمٌ تَرْبَوِيٌّ وَرَسُولِيٌّ، يَهْدِفُ إِلَى التَّرْكِيزِ، وَالثَّبَاتِ، وَالْجِدِّيَّةِ فِي الْعَمَلِ التَّبْشِيرِيِّ.
8 وأَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم وقَبِلوكم، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكم
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "أَيَّةَ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمْ" إِلَى أَنَّ وَصِيَّةَ الرَّبِّ يَسُوعَ بِالْكِرَازَةِ وَالْبِشَارَةِ لَمْ تَعُدْ مَحْصُورَةً فِي شَعْبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ أُمَّةٍ خَاصَّةٍ، كَمَا كَانَ الأَمْرُ فِي بِدَايَاتِ الرِّسَالَةِ، بَلْ بَاتَتْ مَفْتُوحَةً لِجَمِيعِ الْمُدُنِ وَالشُّعُوبِ، عَلَامَةً عَلَى الشُّمُولِيَّةِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا مَلَكُوتُ اللهِ. وَهَذَا التَّوَسُّعُ فِي نِطَاقِ الرِّسَالَةِ، الَّذِي يُعْلِنُهُ يَسُوعُ فِي إِرْسَالِ التَّلَامِيذِ، هُوَ صُورَةٌ مُسْبَقَةٌ عَنِ الْكِرَازَةِ لِلأُمَمِ بَعْدَ الْقِيَامَةِ وَالْعَنْصَرَةِ، كَمَا قَالَ هُوَ نَفْسُهُ: "تُعْلَنُ بِاسْمِهِ التَّوْبَةُ وَغُفْرَانُ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ، ابْتِدَاءً مِنْ أُورَشَلِيمَ" (لوقا 24: 47). أَمَّا عِبَارَةُ: "فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ"، فَتُشِيرُ إِلَى دَعْوَةِ الْمُرْسَلِينَ إِلَى الرِّضَى وَالتَّجَرُّدِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يُقَدَّمُ لَهُمْ، دُونَ بَحْثٍ عَنْ ضِيَافَةٍ أَطْيَبَ أَوْ طَعَامٍ أَرْقَى. فَالتِّلْمِيذُ لَا يَطْلُبُ رَاحَتَهُ، بَلْ يَتَفَرَّغُ بِالْكُلِّيَّةِ لِرِسَالَتِهِ، فَيَتْرُكُ التَّرَفَ وَرَاءَهُ، وَيَعِيشُ بِبَسَاطَةٍ، عَلَى عَكْسِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْكُتَّابُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ، الَّذِينَ قَضَوْا جُلَّ وَقْتِهِمْ فِي الْوَلَائِمِ طَلَبًا لِلتَّكْرِيمِ وَالْمَجْدِ الْبَاطِلِ. وَتَحْمِلُ الْعِبَارَةُ أَيْضًا بُعْدًا جَدِيدًا مِنَ الْحُرِّيَّةِ الإِنْجِيلِيَّةِ، إِذْ إِنَّ يَسُوعَ يَدْعُو تَلَامِيذَهُ إِلَى عَدَمِ الْخَشْيَةِ مِنَ التَّنَجُّسِ مِنْ طَعَامِ الأُمَمِ، بِخِلَافِ مَا كَانَتْ تَفْرِضُهُ الشَّرِيعَةُ الْمُوسَوِيَّةُ مِنْ قُيُودٍ عَلَى الأَطْعِمَةِ الْمُحَلَّلَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ. فَالْمَسْأَلَةُ لَمْ تَعُدْ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا، بَلْ: "لَيْسَتْ مَمْلَكَةُ اللهِ أَكْلًا وَشُرْبًا، بَلْ بِرًّا وَسَلَامًا وَفَرَحًا فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ" (رومة 14: 17). إِنَّهَا دَعْوَةٌ إِلَى التَّحَرُّرِ مِنَ الشَّكْلِيَّاتِ، وَالتَّمَسُّكِ بِجَوْهَرِ الرِّسَالَةِ: نَجَاةُ النُّفُوسِ مِنَ الْهَلَاكِ الأَبَدِيِّ، لَا نَقَاوَةُ الأَوَانِي وَالْمَآكِلِ. فَالتِّلْمِيذُ لَا يُكَرِّزُ بِشَرِيعَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، بَلْ يُبَشِّرُ بِالْخَلَاصِ وَالنِّعْمَةِ وَالْحَيَاةِ الْجَدِيدَةِ فِي الْمَسِيحِ. وَهَكَذَا، يُعْلِنُ يَسُوعُ أَنَّ الْمُرْسَلَ يَأْكُلُ مِمَّا يُقَدَّمُ لَهُ، لَا مَا يَطْلُبُهُ هُوَ، وَأَنَّ الأَوْلَوِيَّةَ لَيْسَتْ لِلْأَكْلِ، بَلْ لِلْبِشَارَةِ، لِأَنَّ: "الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَالْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ."
9 واشفْوا المَرْضى فيها وقولوا لِلنَّاس: قَدِ اقتَرَبَ مِنكُم مَلَكوتُ الله
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "واشْفُوا الْمَرْضَى" إِلَى أَنَّ يَسُوعَ أَعْطَى تَلَامِيذَهُ السُّلْطَانَ لِشِفَاءِ الْمَرْضَى، لَيْسَ بِمَعْنًى خَارِقٍ فَقَط، بَلْ كَعَلَامَةٍ عَمَلِيَّةٍ تُثْبِتُ صِدْقَ الْبِشَارَةِ، وَفَاعِلِيَّةَ كَلِمَةِ اللهِ. فَالشِّفَاءُ هُنَا لَيْسَ غَايَةً فِي ذَاتِهِ، بَلْ وَسِيلَةٌ لإِعْلَانِ حُضُورِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُرْبِهِ مِنَ الإِنْسَانِ الْمُتَأَلِّمِ. فَإِنَّ الْمُعْجِزَاتِ فِي تَعْلِيمِ يَسُوعَ وَخِدْمَةِ التَّلَامِيذِ لَمْ تَكُنِ اسْتِعْرَاضًا لِلْقُوَّةِ، بَلْ بُرْهَانًا عَلَى اقْتِرَابِ الْمَلَكُوتِ، وَتَجَلِّيًا لِمَحَبَّةِ اللهِ، الَّذِي لَا يُرِيدُ أَنْ يَبْقَى الإِنْسَانُ مَرِيضًا أَوْ مَكْسُورًا أَوْ مَنْبُوذًا. فَالشِّفَاءُ يُعْلِنُ أَنَّ اللهَ قَدْ بَدَأَ يَمْلِكُ عَلَى الْعَالَمِ مِنْ خِلَالِ ابْنِهِ، وَأَنَّ عَهْدًا جَدِيدًا قَدْ بَدَأَ. أَمَّا عِبَارَةُ: "مَلَكُوتُ اللهِ"، فَهِيَ الْمَوْضُوعُ الْجَوْهَرِيُّ لِبِشَارَةِ يَسُوعَ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا 35 مَرَّةً، مِمَّا يُظْهِرُ مَرْكَزِيَّتَهَا فِي اللَّاهُوتِ اللُّوقَاوِيِّ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَحْمِلُ أَبْعَادًا مُتَعَدِّدَةً: مُلْكُ اللهِ الأَبَدِيُّ، السِّيَادَةُ الَّتِي لَا تَنْقَضِي. حُضُورُ الْمَلَكُوتِ فِي شَخْصِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ تَمَّتِ الْمَوَاعِيدُ. اقْتِرَابُ الْمَلَكُوتِ بِشَكْلٍ رُوحِيٍّ وَعَلَامَةٍ خَلَاصِيَّةٍ. الْمَلَكُوتُ كَحَالَةٍ تُعَاشُ، لَا كَمَكَانٍ يُزَارُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي لُوقَا 8: 1 أَنَّ يَسُوعَ: "كَانَ يُبَشِّرُ وَيُبَشِّرُهُمْ بِمَلَكُوتِ اللهِ"، وَكَذَلِكَ فِي لُوقَا 9: 2، حَيْثُ أَرْسَلَ تَلَامِيذَهُ: "يُبَشِّرُونَ بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُونَ الْمَرْضَى." فَالْمَلَكُوتُ هُوَ وَاقِعٌ حَاضِرٌ، وَرَجَاءٌ مُقْبِلٌ: حَاضِرٌ مُنْذُ الآنِ فِي شَخْصِ الْمَسِيحِ، وَمُمْتَدٌّ إِلَى الْكَنِيسَةِ، وَفَاعِلٌ فِي الْعَالَمِ مِنْ خِلَالِهَا، وَمُكْتَمِلٌ فِي الْمَجِيءِ الثَّانِي. أَمَّا عِبَارَةُ: "اقْتَرَبَ مِنْكُمْ"، فَهِيَ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ لَمْ يَعُدْ بَعِيدًا، بَلْ صَارَ حَاضِرًا بِقُوَّةٍ فِي شَخْصِ يَسُوعَ وَتَعْلِيمِهِ وَأَعْمَالِهِ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الأُولَى الَّتِي يَسْتَعْمِلُ فِيهَا لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ عِبَارَةَ:"اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ"، إِعْلَانًا عَنْ بَدْءِ زَمَنِ الْخَلَاصِ الْفِعْلِيِّ. وَهَذَا الِاقْتِرَابُ يَسْتَدْعِي اسْتِجَابَةً بَشَرِيَّةً وَاضِحَةً، هِيَ التَّوْبَةُ، كَمَا جَاءَ فِي كَرَازَةِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ: "تُوبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" (متى 3: 2)، وَكَمَا قَالَ يَسُوعُ فِي بَدَايَةِ خِدْمَتِهِ: "قَدْ تَمَّ الزَّمَانُ، وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ" (مرقس 1: 15). فَاقْتِرَابُ مَلَكُوتِ اللهِ هُوَ قَلْبُ رِسَالَةِ يَسُوعَ الإِنْجِيلِيَّةِ، وَهُوَ مَا يَحْمِلُ التَّلَامِيذَ إِلَى السَّيْرِ عَلَى خُطَاهُ: فِي تَمَنِّي السَّلَامِ لِلنَّاسِ، فِي شِفَاءِ الْمَرْضَى بِعِنَايَةِ اللهِ، وَفِي إِعْلَانِ اقْتِرَابِ الْمَلَكُوتِ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. وَهَكَذَا، فَإِنَّ مُهِمَّةَ التَّلَامِيذِ الِاثْنَيْنِ وَالسَّبْعِينَ هِيَ مُهِمَّةُ كُلِّ مَنْ يَتْبَعُ يَسُوعَ: أَنْ يَحْمِلَ بَشَارَةَ السَّلَامِ، وَيَشْفِيَ بِجِرَاحِ الرَّحْمَةِ، وَيُبَشِّرَ بِرَجَاءِ الْمَلَكُوتِ. وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ لَا تَزَالُ حَاضِرَةً وَمُوَجَّهَةً إِلَيْنَا الْيَوْمَ، نَحْنُ الَّذِينَ نَحْمِلُ فِي ذَوَاتِنَا كَلِمَةَ الْخَلَاصِ، وَأَمَانَةَ الرِّسَالَةِ، وَمَسْؤُولِيَّةَ الْكِرَازَةِ.
10 وأَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم ولَم يَقبَلوكم فاخرُجوا إلى ساحاتِها وقولوا:
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "وأَيَّةَ مَدِينَةٍ دَخَلْتُم وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ" إِلَى أَنَّ التَّلَامِيذَ، وَهُمْ حَامِلُو بَشَارَةِ الْحَيَاةِ وَالسَّلَامِ، قَدْ يُقَابَلُونَ بِالرَّفْضِ، رَغْمَ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ أَثْمَنَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطَى: كَلِمَةَ اللهِ، وَشِفَاءَهُ، وَخَلَاصَهُ. فَهَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ وَاقِعِ الرِّسَالَةِ. وَلَا يُقَلِّلُ هَذَا الرَّفْضُ مِنْ قِيمَةِ الرِّسَالَةِ، بَلْ يُؤَكِّدُ أَنَّ قُبُولَ الْبِشَارَةِ يَتَطَلَّبُ حُرِّيَّةً وَمَسْؤُولِيَّةً مِنْ قِبَلِ السَّامِعِينَ.أَمَّا عِبَارَةُ: "فَاُخْرُجُوا إِلَى سَاحَاتِهَا"، فَتُشِيرُ إِلَى دَعْوَةِ الرَّبِّ لِتَلَامِيذِهِ بِأَنْ يُعْلِنُوا فِي الْعَلَنِ، أَمَامَ الْجَمِيعِ، رَفْضَ الْمَدِينَةِ لِلْبِشَارَةِ، وَأَنْ لَا يُخْفُوا الْحَقَّ، بَلْ يُظْهِرُوهُ بِشَجَاعَةٍ وَرُوحٍ نَبَوِيَّةٍ. فَالسَّاحَةُ هِيَ الْمَكَانُ الْعَامُّ، الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ، وَبِهَذَا يَجْعَلُ يَسُوعُ الرَّفْضَ فِعْلًا عَلَنِيًّا يُدَانُ أَمَامَ الْجَمَاعَةِ. وَإِنَّ هَذَا الْخُرُوجَ إِلَى السَّاحَةِ لَا يَعْنِي الِانْتِقَامَ، بَلْ هُوَ إِعْلَانٌ نَبَوِيٌّ يُدِينُ خَطِيئَةَ الرَّفْضِ، كَمَا فَعَلَ أَنْبِيَاءُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، الَّذِينَ لَمْ يَخَافُوا مِنَ الْجَهْرِ بِالْحَقِّ، حَتَّى حِينَ أُسِيءَ إِلَيْهِمْ. فَمَنْ يَرْفُضِ الْمُرْسَلَ، يَرْفُضِ الْمُرْسِلَ، وَبِالتَّالِي يَرْفُضُ الْخَلَاصَ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَفْتَحْ قَلْبَهُ لِكَلِمَةِ اللهِ، يَحْرِمْ نَفْسَهُ مِنَ السَّلَامِ وَمِنَ الْمَلَكُوتِ.
11 حتَّى الغُبارُ العالِقُ بِأَقدامِنا مِن مَدينَتِكم نَنفُضُه لَكم. ولكِنِ اعلَموا بِأَنَّ مَلكوتَ اللهِ قدِ اقتَرَب
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "الغُبَارُ الْعَالِقُ بِأَقْدَامِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ" إِلَى تَعْلِيمٍ وَاضِحٍ مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ، يُوَجِّهُهُمْ فِيهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَيِّ بَيْتٍ أَوْ مَدِينَةٍ تَرْفُضُ اسْتِقْبَالَهُمْ أَوْ قُبُولَ بَشَارَتِهِمْ. وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَكُنْ غَرِيبًا عَنْ تَقَالِيدِ الشَّرْقِ الْقَدِيمِ، إِذْ لَا تَزَالُ هَذِهِ الْعَادَةُ قَائِمَةً حَتَّى الْيَوْمِ، حَيْثُ يَقُومُ الْخَارِجُ مِنْ مَكَانٍ لَمْ يُفْلِحْ فِيهِ بِمُهِمَّتِهِ أَوْ مَشْرُوعِهِ بِنَفْضِ غُبَارِ قَدَمَيْهِ، كَعَلَامَةٍ عَلَى الْقَطِيعَةِ أَوِ الْفَشَلِ أَوْ إِنْهَاءِ الْعَلَاقَةِ. وَهُنَا، لَا يَكُونُ نَفْضُ الْغُبَارِ لِأَجْلِ النَّظَافَةِ، بَلْ هُوَ فِعْلٌ رَمْزِيٌّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ يَتَخَلَّى حَتَّى عَنْ أَصْغَرِ ذَرَّةٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَا يَحْمِلُ مَعَهُ شَيْئًا مِنْهُ، لَا مَادِّيًّا وَلَا رُوحِيًّا. فَالْيَهُودِيُّ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ كَانَ يَنْفُضُ غُبَارَ حِذَائِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَرْضٍ وَثَنِيَّةٍ، لِيُعَبِّرَ عَنْ تَطْهِيرِ ذَاتِهِ مِنْ أَثَرِ الْوَثَنِيَّةِ. وَهَكَذَا، فَإِنَّ التِّلْمِيذَ يَنْفُضُ الْغُبَارَ أَمَامَ الْمَدِينَةِ الرَّافِضَةِ لِلْمَلَكُوتِ كَعَلَامَةٍ عَلَى دَيْنُونَتِهَا الْمُنْتَظَرَةِ بِسَبَبِ رَفْضِهَا بَشَارَةَ الْخَلَاصِ. تُشِيرُ كَلِمَةُ "الغُبَار" إِلَى الذَّرَّاتِ الصَّغِيرَةِ وَالدَّقِيقَةِ جِدًّا مِنَ التُّرَابِ أَوِ الْأَوْسَاخِ، الَّتِي تَتَطَايَرُ فِي الْهَوَاءِ وَتَعْلَقُ بِالأَرْجُلِ أَوِ الْأَجْسَامِ الصَّلْبَةِ. وَاسْتِخْدَامُهَا هُنَا يُبْرِزُ دِقَّةَ الْعَلَامَةِ الرَّمْزِيَّةِ: حَتَّى مَا لَا يُرَى يُرْفَضُ، لِأَنَّ الْمَدِينَةَ رَفَضَتِ الْحَقَّ. وَأَمَّا عِبَارَةُ: "نَنْفُضُهُ لَكُمْ"، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى إِعْلَانٍ وَاضِحٍ بِقَطْعِ الْعَلَاقَةِ مَعَ الْمَدِينَةِ الرَّافِضَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُظْهِرْ نَفْسَهَا أَهْلًا لِقُبُولِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. وَهَذَا مَا فَعَلَهُ بُولُسُ وَبَرْنَابَا فِي أَنْطَاكِيَةِ بِسِيدِيَّةَ، حِينَ رَفَضَهُمَا الْيَهُودُ: "فَنَفَضَا عَلَيْهِمْ غُبَارَ أَقْدَامِهِمَا، وَذَهَبَا إِلَى أَيْقُونِيَّةَ" (أعمال الرسل 13: 51). وَتَأْتِي عِبَارَةُ: "وَلَكِنِ اعْلَمُوا بِأَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَدِ اقْتَرَبَ" لِتُشِيرَ إِلَى حَقِيقَةٍ لاهُوتِيَّةٍ حَاسِمَةٍ: مَلَكُوتُ اللهِ قَدِ اقْتَرَبَ، سَوَاءٌ قُبِلَ أَمْ رُفِضَ. الْقُبُولُ يَفْتَحُ الْبَابَ إِلَى الْخَلَاصِ، أَمَّا الرَّفْضُ، فَيَجْعَلُ مِنَ الْكَلِمَةِ شَهَادَةً ضِدَّ الرَّافِضِينَ، وَتُصْبِحُ عِلَّةَ دَيْنُونَةٍ لَهُمْ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. فَاللهُ لَا يَفْرِضُ مَلَكُوتَهُ، بَلْ يَعْرِضُهُ بِمَحَبَّةٍ؛ وَلَكِنَّ رَفْضَهُ لَا يَمُرُّ مِنْ دُونِ مَسَاءَلَةٍ. وَلِهَذَا، فَإِنَّ نَفْضَ الْغُبَارِ هُوَ إِنْذَارٌ نَبَوِيٌّ، لَا انْتِقَامٌ شَخْصِيٌّ، وَهُوَ يَضَعُ الْمَدِينَةَ فِي مُوَاجَهَةٍ مَعَ مَسْؤُولِيَّتِهَا أَمَامَ اللهِ. إِنَّهَا رِسَالَةٌ صَارِخَةٌ: لَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ مِنْكُمْ... فَمَاذَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟
12 أَقولُ لَكم: إِنَّ سَدومَ سَيَكونُ مصيرُها في ذلكَ اليَومِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِ تِلكَ المَدينَة
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "سَدُومَ" إِلَى إِحْدَى مُدُنِ السَّهْلِ الْخَمْسِ الَّتِي أُحْرِقَتْ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ مِنَ السَّمَاءِ، بِسَبَبِ شُرُورِ أَهْلِهَا وَخَطِيئَتِهِمُ الْفَادِحَةِ، كَمَا يَرِدُ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ (19: 24–28). وَقَدْ صَارَتْ سَدُومُ رَمْزًا أَبَدِيًّا لِلْخَطِيئَةِ وَالدَّيْنُونَةِ الإِلَهِيَّةِ، وَمَضْرِبَ مَثَلٍ فِي رَفْضِ اللهِ وَانْعِدَامِ التَّوْبَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِ يَسُوعَ نَفْسِهِ:"الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ سَتَكُونُ أَهْوَنَ مَصِيرًا فِي يَوْمِ الدِّينِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ" (متى 10: 15). وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَوْقِعَ سَدُومَ يَقَعُ الْيَوْمَ تَحْتَ مِيَاهِ الْبَحْرِ الْمَيِّتِ، فِي الْجِهَةِ الْجَنُوبِيَّةِ، وَقَدْ بَقِيَتْ قِصَّتُهَا حَاضِرَةً فِي الذَّاكِرَةِ الْكِتَابِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، كَشَهَادَةٍ عَلَى عَدَالَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَلَى عَاقِبَةِ الرَّفْضِ وَالتَّعَنُّتِ. أَمَّا عِبَارَةُ: "أَخَفَّ وَطْأَةً مِنْ مَصِيرِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ دَيْنُونَةَ الْمَدِينَةِ الَّتِي تَرْفُضُ الْبِشَارَةَ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْ دَيْنُونَةِ سَدُومَ نَفْسِهَا، رَغْمَ بِشَاعَةِ مَا فَعَلَتْهُ سَدُومُ. لِمَاذَا؟ لِأَنَّ سَدُومَ لَمْ تَسْمَعِ الإِنْجِيلَ، بَيْنَمَا الْمُدُنُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا – كُورَزِين، وَبَيْتُ صَيْدَا، وَكَفْرَنَاحُوم – قَدْ سَمِعَتْ، وَشَهِدَتْ، وَرَأَتْ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تُؤْمِنْ. فَكُلَّمَا ازْدَادَتْ نِعَمُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ الْمُعْلَنَةُ بِوُضُوحٍ، ازْدَادَتْ مَعَهَا الْمَسْؤُولِيَّةُ. فَرَفْضُ الْبِشَارَةِ بَعْدَ سَمَاعِهَا يُضَاعِفُ الدَّيْنُونَةَ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ يَرْفُضُ الْحَقَّ وَهُوَ يَعْرِفُهُ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "لَوْ لَمْ آتِ وَأُكَلِّمْهُمْ، لَمَا كَانَتْ لَهُمْ خَطِيئَةٌ. أَمَّا الآنَ، فَلَيْسَتْ لَهُمْ مَعْذِرَةٌ عَنْ خَطِيئَتِهِمْ" (يوحنّا 15: 22). وَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الآيَةُ رِثَاءً نَبَوِيًّا يُوَجِّهُهُ يَسُوعُ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ لَا تَقْبَلُ بَلَاغَ الإِنْجِيلِ الطَّاهِرِ. إِنَّهُ لَيْسَ فَقَط تَحْذِيرًا، بَلْ حُزْنٌ عَمِيقٌ عَلَى انْغِلَاقِ الْقَلْبِ الْبَشَرِيِّ أَمَامَ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. وَيَسْتَهْدِفُ هَذَا الرِّثَاءُ خُصُوصًا مُدُنَ الْجَلِيلِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الشَّاطِئِ الشِّمَالِيِّ مِنْ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، الَّتِي رَأَتْ مُعْجِزَاتِ يَسُوعَ وَسَمِعَتْ تَعَالِيمَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ، فَاسْتَحَقَّتْ تَوْبِيخًا أَقْسَى مِنْ سَدُومَ. وَهَكَذَا، يَكْشِفُ يَسُوعُ أَنَّ الدَّيْنُونَةَ لَا تُبْنَى فَقَط عَلَى فِعْلِ الْخَطِيئَةِ، بَلْ بِالأَكْثَرِ عَلَى رَفْضِ النِّعْمَةِ بَعْدَ أَنْ يُقَدَّمَ الْخَلَاصُ. كَمَا قَالَ: "الْوَيْلُ لَكِ يَا كَفْرَنَاحُوم... لَوْ حَدَثَتِ الْقُوَّاتُ الَّتِي جَرَتْ فِيكِ فِي سَدُومَ، لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ" (متى 11: 23).
13 الوَيلُ لكِ يا كُورَزِين! الوَيلُ لكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صورَ وصَيدا ما جَرى فيكُما مِنَ المُعجِزات، لَأَظهَرتا التَّوبَةَ مِن زَمَنٍ بَعيد، فلَبِستا المُسوحَ وقَعَدتا على الرَّماد
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "الوَيْلُ لَكِ" إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لَعْنَةً لَا رَجْعَةَ فِيهَا، بَلْ رِثَاءٌ نَبَوِيٌّ مَعْنَاهُ: "مَا أَتْعَسَكِ!"، إِذْ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا تَأَسُّفًا وَتَهْدِيدًا مَقْرُونَيْنِ بِالنِّدَاءِ إِلَى التَّوْبَةِ، كَمَا نَجِدُ فِي (لوقا 6: 24). فَهَذَا التَّعْبِيرُ يُعَبِّرُ عَنْ بَالِغِ الأَسَى لِمَا تُقْدِمُ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ مِنْ رَفْضٍ لِبَلَاغِ الإِنْجِيلِ، مُعْلِنًا بِذَلِكَ أَهَمِّيَّةَ الِاسْتِجَابَةِ وَالْخُضُوعِ لِدَعْوَةِ التَّوْبَةِ. وَعِبَارَةُ: "كُورَزِين!" تُشِيرُ إِلَى مَدِينَةِ كَرَازَةٍ تَقَعُ شِمَالَ تَلِّ حُوم، وَقَدْ حَدَّدَهَا الْمُؤَرِّخُ الْكَنَسِيُّ أُوسَابِيُوس عَلَى بُعْدِ ثَلَاثَةِ كِيلُومِتْرَاتٍ مِنْ كَفْرَنَاحُوم (كَمَا وَرَدَ فِي متى 11: 21). وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَدِينَةُ مَعَ بَيْتِ صَيْدَا وَكَفْرَنَاحُوم، إِذْ شَاهَدَتْ مِرَارًا مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ وَمَوَاعِظَهُ الْجَلِيلَةَ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَسْتَفِدْ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، فَاسْتَحَقَّتْ بِذَلِكَ سِلْسِلَةً مِنَ الْوَيْلَاتِ الإِنْذَارِيَّةِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنَ الآثَارِ أَنَّ الْمَدِينَةَ قَدْ هُدِمَتْ جُزْئِيًّا؛ إِذْ تَشْمَلُ بَقَايَا جُدْرَانٍ وَعَوَامِيدَ وَطَرِيقًا مَبْلَّطًا يُؤَدِّي إِلَى الطَّرِيقِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أُورَشَلِيمَ وَدِمَشْق، كَمَا وَرَدَتْ إِشَارَاتٌ إِلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي التَّلْمُودِ .وَعِبَارَةُ: "بَيْتَ صَيْدَا" تُشِيرُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ مَصَبِّ نَهْرِ الأُرْدُنِّ فِي شِمَالِ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ. وَقَدْ أَعَادَ هِيرُودُس فِيلِبُّس بِنَاءَهَا، فَسَمَّاهَا "يُولْيَا" فِي مَطْلَعِ الْعَصْرِ الْمَسِيحِيِّ (كَمَا وَرَدَ فِي متى 11: 21). وَتَأْتِي هَذِهِ الإِشَارَةُ لِتُظْهِرَ أَنَّ تِلْكَ الْمُدُنَ الَّتِي شَهِدَتْ مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ وَمَوَاعِظَهُ لَمْ تَدُمْ صِفَاتُهَا الدَّاخِلِيَّةُ الْمُسْتَقْبِلَةُ لِلْإِنْجِيلِ؛ بَلْ ظَلَّتْ مُتَمَسِّكَةً بِعَالَمِهَا وَشَهَوَاتِهَا. وَعِبَارَةُ: "لَبِسْتَا الْمَسُوحَ وَقَعَدَتَا عَلَى الرَّمَادِ" تُشِيرُ إِلَى حَالَةِ الِاعْتِرَافِ بِالْخَطِيئَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى التَّوْبَةِ؛ إِذْ يَدُلُّ اللُّبْسُ بِالْمَسُوحِ (أَوِ الْعَبَاءَةِ الْمُمَزَّقَةِ) وَالْجُلُوسُ عَلَى الرَّمَادِ عَلَى حَالَةِ نَدَمٍ عَمِيقٍ وَاسْتِعْدَادٍ لِلتَّوْبَةِ، كَمَا كَانَ السُّلُوكُ الْمُعْتَادُ فِي الثَّقَافَةِ النَّبِيلَةِ، لِلإِظْهَارِ الْعَامِّ لِلنَّدَمِ (كَمَا فِي التَّقَالِيدِ الْيَهُودِيَّةِ الْقَدِيمَةِ). وَقَدْ أَقَرَّ يَسُوعُ بِأَنَّ كِرَازَتَهُ وَمُعْجِزَاتِهِ لَمْ تُفْضِ دَائِمًا إِلَى التَّوْبَةِ، وَالْسَّبب فِي ذَلِكَ هُوَ تَمَسُّكُ تِلْكَ الْمُدُنِ بِالْعَالَمِ وَشَهَوَاتِهِ، مِمَّا يَجْعَلُهَا غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لِلنِّدَاءِ الإِلَهِيِّ. وَهَذَا مَا يُؤَكِّدُهُ يَسُوعُ حِينَ يَقُولُ: "مَا مِنْ خَادِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ لِسَيِّدَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ أَحَدَهُمَا وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلَزِّمَ أَحَدَهُمَا وَيَزْدَرِيَ الآخَرَ؛ فَأَنْتُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَعْمَلُوا لِلهِ وَلِلْمَالِ" (لوقا 16: 13). نَرَى أَنَّ الرِّسَالَةَ الإِنْجِيلِيَّةَ تَسْتَعْمِلُ تَعَابِيرَ قَوِيَّةً وَرَمْزِيَّةً لِإِدَانَةِ رَفْضِ الْمُدُنِ الْبَشَرِيَّةِ لِبَلَاغِ الإِنْجِيلِ، مُقَدِّمَةً نِدَاءً حَقِيقِيًّا لِلتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ. فَالْمَسْؤُولِيَّةَ الْفَرْدِيَّةَ وَالْجَمَاعِيَّةَ فِي اسْتِقْبَالِ كَلِمَةِ الْخَلَاصِ أَمْرٌ حَاسِمٌ، وَفِي حِينِ أَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ شَاهِدًا عَلَى مُعْجِزَاتِهِ، فَإِنَّ رَفْضَهُ لِلْإِنْجِيلِ يُفَسِّرُ بِجَلَاءٍ الْمَكَانَ الَّذِي يَجْدُرُ أَنْ يَتَحَلَّى بِهِ قَلْبُ الإِنْسَانِ بِالإِيمَانِ وَالْخُضُوعِ لِنِدَاءِ الْمَلَكُوتِ.
14 ولكِنَّ صورَ وصَيدا سَيَكونُ مصيرُهما يومَ الدَّينونةِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مصيرِكما
تُشِيرُ عِبَارَةُ: "صورَ وصَيدا" إِلَى مَدِينَتَيْنِ وَثَنِيَّتَيْنِ تَقَعَانِ فِي فِينِيقِيَّةَ، عَلَى السَّاحِلِ الشَّرْقِيِّ لِلْبَحْرِ الأَبْيَضِ الْمُتَوَسِّطِ، بَيْنَ جِبَالِ لُبْنَانَ وَالْبَحْرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ (1: 15). "صور" هُوَ اسْمٌ سَامِيٌّ مَعْنَاهُ "صَخْرٌ"، و"صَيْدُون" (أَوْ صَيْدَا) هُوَ أَيْضًا اسْمٌ سَامِيٌّ مَعْنَاهُ "مَكَانُ صَيْدِ السَّمَكِ"، وَهِيَ تُعَدُّ مِنْ أَقْدَمِ مُدُنِ الْعَالَمِ الْمَأْهُولَةِ بِالسُّكَّانِ. وَرَغْمَ أَنَّهُمَا مَدِينَتَانِ وَثَنِيَّتَانِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ تَكُونَا بِمُنْأًى عَنْ تَأْثِيرِ يَسُوعَ، إِذْ مَرَّ الرَّبُّ يَسُوعُ عَلَى شَوَاطِئِ صُورَ وَصَيْدَا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلِ الْمَدِينَتَيْنِ نَفْسِيهِمَا، كَمَا وَرَدَ فِي (متى 15: 21–28)، فِي لِقَائِهِ بِالْمَرْأَةِ الْكَنْعَانِيَّةِ. وَقَدْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ تِلْكَ النَّوَاحِي لِيَسْمَعُوا تَعَالِيمَهُ وَيُشَاهِدُوا مُعْجِزَاتِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي (مرقس 3: 8)، وَكَذَلِكَ فِي (لوقا 6: 17): "وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَأُورَشَلِيمَ، وَمِنْ سَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَا، لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ." وَعِبَارَةُ: "سَيَكُونُ مَصِيرُهُمَا يَوْمَ الدَّيْنُونَةِ أَخَفَّ وَطْأَةً مِنْ مَصِيرِكُمَا"، فِيهَا يُعْلِنُ يَسُوعُ أَنَّ مَسْؤُولِيَّةَ مُدُنِ صُورَ وَصَيْدَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مَسْؤُولِيَّةِ مُدُنِ الْجَلِيلِ، كَـكُورَزِين وَبَيْتِ صَيْدَا وَكَفْرَنَاحُوم، لأَنَّ هَذِهِ الأُخْرَى قَدْ سَمِعَتِ الْبِشَارَةَ مِرَارًا، وَرَأَتِ الْمُعْجِزَاتِ عَلاَنِيَةً، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَتُبْ. وَيُؤَكِّدُ يَسُوعُ أَنَّهُ لَوْ أُتِيحَ لِصُورَ وَصَيْدَا أَنْ تَرَيَا مَا رَأَتْ تِلْكَ الْمُدُنُ، وَتَسْمَعَا مَا سَمِعَتْ، لَتَابَتَا تَوْبَةً صَادِقَةً، كَمَا قَالَ: "لَوْ جَرَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَا الْعَجَائِبُ الَّتِي جَرَتْ فِيكُنَّ، لَتَابُوا مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ، لَابِسِينَ الْمُسُوحَ وَقَاعِدِينَ عَلَى الرَّمَادِ" (لوقا 10: 13؛ متى 11: 21). فَفِي هَذَا التَّوْبِيخِ، لَا يُعَظِّمُ يَسُوعُ الْوَثَنِيِّينَ، بَلْ يُبْرِزُ قَسَاوَةَ قَلْبِ الَّذِينَ نَالُوا امْتِيَازَ الْقُرْبِ مِنْ كَلِمَةِ اللهِ وَرَفَضُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِهَا. إِنَّ الدَّيْنُونَةَ سَتَكُونُ أَشَدَّ عَلَى مَنْ عَرَفَ النُّورَ وَرَفَضَهُ، مِنَ الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَصْلًا. لِذَلِكَ، يُصْبِحُ عَدَمُ التَّوْبَةِ فِي ظِلِّ هَذَا النُّورِ عِلَّةً لِلدَّيْنُونَةِ.
15 وأَنتِ يا كَفَرناحوم، أَتُراكِ تُرفَعينَ إلى السَّماء؟ سَيُهبَطُ بِكِ إلى مَثْوى الأَمْوات
تُشِيرُ عِبَارَةُ "كَفَرناحوم" إِلَى مَدِينَةٍ تَقَعُ عَلَى الشَّاطِئِ الشِّمَالِيِّ الْغَرْبِيِّ مِنْ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ (راجع: متى 4:13). كَانَتْ مَدِينَةً نَشِطَةً، يَسْكُنُهَا الْيَهُودُ وَالْوَثَنِيُّونَ، وَتَتَمَيَّزُ بِمَوْقِعِهَا التِّجَارِيِّ، إِذْ كَانَتْ مَرْكَزًا لِجِبَايَةِ الضَّرَائِبِ (مرقس 2:1)، كَمَا وُجِدَ فِيهَا مَرْكَزٌ عَسْكَرِيٌّ رُومَانِيٌّ (لوقا 7:1–10). اِتَّخَذَهَا يَسُوعُ مَقَرًّا رَئِيسِيًّا لِتَبْشِيرِهِ فِي الْجَلِيلِ، حَتَّى دُعِيَتْ: "مَدِينَتَهُ" (متى 9:1)، وَأَجْرَى فِيهَا عَدَدًا كَبِيرًا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ أَبْرَزِ عَلَامَاتِ حُضُورِهِ الْمَسِيَانِيِّ، مِنْهَا: شِفَاءُ غُلَامِ قَائِدِ الْمِئَةِ (لوقا 7:1–10)، شِفَاءُ حَمَاةِ بُطْرُسَ الْمَحْمُومَةِ (متى 8:14–17)، طَرْدُ رُوحٍ نَجِسٍ مِنْ رَجُلٍ فِي الْمَجْمَعِ (لوقا 4:31–37)، شِفَاءُ الْمَفْلُوجِ الَّذِي أَنْزَلَهُ أَصْحَابُهُ مِنَ السَّقْفِ (مرقس 2:1–13)، شِفَاءُ ابْنِ خَادِمِ الْمَلِكِ (يوحنّا 4:46–54)، وَشِفَاءُ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمَرْضَى وَالْمَمْسُوسِينَ (متى 8:16). كَذَلِكَ كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَسْكُنُ فِيهَا وَيَخْدِمُ انْطِلَاقًا مِنْهَا. وَقَدْ ذُكِرَتْ كَفَرناحوم 16 مَرَّةً فِي الْأَنَاجِيلِ، مِمَّا يَجْعَلُهَا أَكْثَرَ الْمُدُنِ ذِكْرًا بَعْدَ أُورَشَلِيمَ، وَهَذَا يُدِلُّ عَلَى مَكَانَتِهَا الْمَرْكَزِيَّةِ فِي حَيَاةِ يَسُوعَ التَّبْشِيرِيَّةِ فِي الْجَلِيلِ.وَمَعَ ذَلِكَ، وَرَغْمَ كُلِّ هَذَا الِامْتِيَازِ، يُوَجِّهُ يَسُوعُ إِلَيْهَا أَشَدَّ كَلِمَاتِ التَّوْبِيخِ، قَائِلًا:"أَلَعَلَّكِ تَرْتَفِعِينَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِلَى الْجَحِيمِ سَتَهْبِطِينَ!" فَفِي هَذَا التَّوْبِيخِ، يَرَى يَسُوعُ أَنَّ امْتِيَازَاتِ النِّعْمَةِ لَا تَعْنِي الْخَلَاصَ إِنْ لَمْ تُقَابَلْ بِإِيمَانٍ وَتَوْبَةٍ. فَكَفَرناحوم رَأَتْ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَتْ مُدُنٌ أُخْرَى، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَتُبْ، فَكَانَ لَهَا الْوَيْلُ. أَمَّا كَلِمَاتُ: "تَرْتَفِعِينَ إِلَى السَّمَاءِ؟"، فَتُذَكِّرُ بِمَصِيرِ لُوسِيفُورَ الْمُتَكَبِّرِ فِي أَشْعِيَا 14:13–15، الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ فَهَبَطَ إِلَى الْجَحِيمِ. وَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنَّ الرَّفْضَ الْمُتَكَبِّرَ لِلنِّعْمَةِ، يَجْعَلُ مِنْ كَفَرناحوم مَدِينَةً سَاقِطَةً رُوحِيًّا. هَذِهِ الْآيَةُ تُظْهِرُ مَبْدَأً هَامًّا فِي الْفِكْرِ الْإِنْجِيلِيِّ: "كُلَّمَا زَادَتِ النِّعْمَةُ، زَادَتِ الْمَسْؤُولِيَّةُ، وَزَادَتْ مَعَهَا شِدَّةُ الدَّيْنُونَةِ فِي حَالِ الرَّفْضِ."
16 مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني
تُشِيرُ عِبَارَةُ "مَن سَمِعَ إِلَيْكُم سَمِعَ إِلَيَّ" إِلَى عَظَمَةِ الرِّسَالَةِ الَّتِي يَحْمِلُهَا الْمُرْسَلُونَ بِاسْمِ يَسُوعَ، وَإِلَى الْكَرَامَةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي مَنَحَهَا الرَّبُّ لِتَلَامِيذِهِ، إِذْ إِنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي رِسَالَتِهِ، لاَ كَمُجَرَّدِ نَاقِلِينَ، بَلْ كَأَعْضَاءٍ حَقِيقِيِّينَ فِي جَسَدِهِ، هُوَ الرَّأْسُ، وَهُمْ الأَعْضَاءُ. لَقَدْ أَعْطَاهُمُ الرَّبُّ السُّلْطَةَ لِلتَّبْشِيرِ بِالإِنْجِيلِ، وَالتَّكَلُّمِ بِاسْمِهِ، وَالشَّهَادَةِ لَهُ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُصْغِي إِلَيْهِمْ، إِنَّمَا يُصْغِي إِلَى يَسُوعَ نَفْسِهِ، لأَنَّهُمْ يُمَثِّلُونَهُ أَمَامَ الْعَالَمِ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْكُمْ أَعْرَضَ عَنِّي"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ رَفْضَ التَّلَامِيذِ هُوَ فِي جَوْهَرِهِ رَفْضٌ لِلْمَسِيحِ نَفْسِهِ. وَهَذِهِ نَتِيجَةُ الْعَلَاقَةِ الْحَمِيمَةِ وَالْوَحْدَةِ الْوُجُودِيَّةِ بَيْنَ يَسُوعَ وَرُسُلِهِ، الَّذِينَ أَصْبَحُوا امْتِدَادَ حُضُورِهِ وَكَلِمَتِهِ فِي التَّارِيخِ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ اللَّاهُوتِيَّةِ الْعَمِيقَةِ، قَائِلًا: "جَاءَ الْمَسِيحُ فِي أَشْخَاصِ تَلَامِيذِهِ، فَيَتَكَلَّمُ مَعَنَا بِوَاسِطَتِهِمْ. إِنَّهُ حَاضِرٌ فِيهِمْ. وَبِوَاسِطَةِ كَنِيسَتِهِ يَأْتِي، وَبِوَاسِطَتِهَا يَتَحَدَّثُ مَعَ الْأُمَمِ." وَيُضِيفُ مُشِيرًا إِلَى كَلِمَاتِ الرَّبِّ: "مَنْ قَبِلَكُمْ قَبِلَنِي أَنَا" (متى 10:40)، وَيَقُولُ الرَّسُولُ بُولُسُ: "إِنَّ الْمَسِيحَ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِي" (2 قورنتس 13:3). وَتُشِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ إِلَى الْكَرَامَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَحْمِلُهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ يُعْتَبَرُونَ سُفَرَاءَ لِلْمَسِيحِ، كَمَا قَالَ بُولُسُ: "فَإِنَّنَا سُفَرَاءُ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا" (2 قورنتس 5:20). فَكَلِمَةُ يَسُوعَ هُنَا تُعْطِي ثِقَلًا كَبِيرًا لِمُهِمَّةِ الْمُرْسَلِينَ، لِأَنَّهُمْ لاَ يُمَثِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ، بَلْ يُمَثِّلُونَ حُضُورَ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ. وَمِنْ هُنَا، فَإِنَّ الِاسْتِمَاعَ إِلَيْهِمْ، أَوْ رَفْضَهُمْ، لاَ يَكُونُ عَمَلًا شَخْصِيًّا فَقَطْ، بَلْ فِعْلَ قَبُولٍ أَوْ رَفْضٍ لِلْمَسِيحِ، بَلْ لِلآبِ نَفْسِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ. إِنَّهَا لَيْسَتْ فَقَطْ رِسَالَةً، بَلْ تَمْثِيلٌ؛ لَيْسَتْ فَقَطْ خِدْمَةً، بَلْ شَرَكَةٌ؛ لَيْسَتْ فَقَطْ وَاجِبًا، بَلْ شَرَفٌ عَظِيمٌ.
17 ورَجَعَ التَّلامِذَةُ الاثنانِ والسَّبعونَ وقالوا فَرِحين: يا ربّ، حتَّى الشَّياطينُ تَخضَعُ لَنا بِاسمِكَ
تُشِيرُ عِبَارَةُ "وَرَجَعَ التَّلَامِيذَةُ الاثْنَانِ وَالسَّبْعُونَ" إِلَى عَوْدَةِ التَّلَامِيذِ بَعْدَ أَنْ أَتَمُّوا الإِرْسَالِيَّةَ الَّتِي أَوْكَلَهَا إِلَيْهِمُ الرَّبُّ. وَقَدْ ذَهَبُوا "اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ" (لوقا 10: 1)، مَا يَعْنِي أَنَّهُمْ زَارُوا خَمْسَةً وَثَلاَثِينَ بَيْتًا عَلَى الأَقَلِّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الزَّخَمِ الإِرْسَالِيِّ وَقُوَّةِ الامْتِدَادِ الرَّسُولِيِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَرِحِينَ"، فَتُشِيرُ إِلَى الفَرَحِ الرُّوحِيِّ العَمِيقِ، الَّذِي اخْتَبَرَهُ التَّلَامِيذُ بِسَبَبِ نَجَاحِ رِسَالَتِهِمْ، وَاسْتِجَابَاتِ النَّاسِ، وَخُضُوعِ الأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ، وَخُصُوصًا لِمُعَايَنَتِهِمِ ٱنْتِصَارَ ٱلْخَيْرِ عَلَى ٱلشَّرِّ. وَلَكِنَّ ٱلسَّيِّدَ ٱلْمَسِيحَ يُصَوِّبُ نَظَرَهُمْ إِلَى مَرْكَزِ ٱلْفَرَحِ ٱلْحَقِيقِيِّ، فَيَقُولُ لَهُمْ: «لَا تَفْرَحُوا بِأَنَّ ٱلْأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ ٱفْرَحُوا بِأَنَّ أَسْمَاءَكُمْ مَكْتُوبَةٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (لوقا 10: 20)،أَيْ أَنَّهُمْ نَالُوا نَصِيبًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ بِفَضْلِ أَمَانَتِهِمْ وَمَسِيرَتِهِمْ فِي حَيَاةِ الفَضِيلَةِ. فَفَرَحُ ٱلتَّلَامِيذِ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا، يَظَلُّ نَاقِصًا إِنْ لَمْ يَتَجَذَّرْ فِي ٱلْخَلَاصِ ٱلَّذِي وَهَبَهُ ٱللَّهُ لَهُمْ. فَٱلْمَوَاهِبُ وَٱلنَّجَاحَاتُ، وَإِنْ كَانَتْ نِعَمًا مِنَ ٱلرَّبِّ، لَا تَضْمَنُ لِصَاحِبِهَا ٱلْخَلَاصَ إِنْ لَمْ يُرَافِقْهَا ٱلتَّوَاضُعُ وَٱلْتِصَاقُ بِٱلرَّبِّ. لِذٰلِكَ، فَفَرَحُ ٱلْمُرْسَلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا فِي كَوْنِهِ ٱبْنًا لِلَّهِ، مَكْتُوبَ ٱسْمُهُ فِي سِجِلِّ ٱلْحَيَاةِ، وَثَانِيًا فِي ثِمَارِ ٱلرِّسَالَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ"، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّلَامِيذَ اخْتَبَرُوا قُوَّةَ التَّحْرِيرِ مِنْ عُبُودِيَّةِ الشَّيْطَانِ، لاَ بِقُوَّتِهِمِ الشَّخْصِيَّةِ، بَلْ بِقُوَّةِ اسْمِ يَسُوعَ، الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ السُّلْطَانُ الحَقِيقِيُّ. وَهَذِهِ المَوَاهِبُ الخَارِقَةُ هِيَ فِي حَدِّ ذَاتِهَا عَلاَمَاتٌ عَلَى حُضُورِ مَلَكُوتِ اللهِ وَانْتِصَارِ النُّورِ عَلَى الظُّلْمَةِ. غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ المَوَاهِبَ لاَ تَعْنِي بِالضَّرُورَةِ القَدَاسَةَ الشَّخْصِيَّةَ، فَقَدْ يَتَمَتَّعُ بِهَا إِنْسَانٌ مُنْحَرِفٌ أَوْ خَائِنٌ. وَهَذَا مَا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ القِدِّيسُ أَنْطُونِيُوسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "أَلَمْ يَتَمَتَّعْ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ بِهَذِهِ المَوَاهِبِ العَجَائِبِيَّةِ؟ وَمَعَ ذَلِكَ، هَلَكَ لأَنَّهُ خَانَ الرَّبَّ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النِّعْمَةِ." وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مِعْيَارَ الكَرَامَةِ لاَ يَكْمُنُ فِي المَوْهِبَةِ، بَلْ فِي الأَمَانَةِ وَالإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ المُسْتَمِرَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "بِاسْمِكَ"، فَهِيَ إِعْلاَنٌ وَاضِحٌ لِلتَّوَاضُعِ، وَنِسْبَةُ كُلِّ المَجْدِ لِلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ هُوَ مَصْدَرُ السُّلْطَانِ وَقُوَّةُ العَمَلِ العَجَائِبِيِّ. فَالتَّلَامِيذُ لَمْ يَنْسِبُوا النَّجَاحَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، بَلْ رَدُّوا المَجْدَ إِلَى صَاحِبِ الرِّسَالَةِ، يَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِمْ وَبِهِمْ.
18 فقالَ لَهم: كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق
تُشِيرُ عِبَارَةُ "ٱلشَّيطانَ" إِلَى إِبْلِيسَ، عَدُوِّ ٱللَّهِ وَٱلإِنْسَانِ (متى 13: 39)، الَّذِي يُقَاوِمُ ٱلخَيْرَ، وَيَزْرَعُ ٱلبَاطِلَ، وَيُضِلُّ ٱلبَشَرَ. أَمَّا عِبَارَةُ "كُنتُ أَرى"، فَفِي ٱلأَصْلِ ٱليُونَانِيِّ: Ἐθεώρουν، وَهِيَ صِيغَةُ ٱلْمَاضِي ٱلنَّاقِصِ، مَا يُفِيدُ رُؤْيَةً مُسْتَمِرَّةً دَائِمَةً فِي ٱلزَّمَنِ ٱلْمَاضِي، وَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا رَآهُ يَسُوعُ وَاقِعٌ لاَ مَحَالَةَ، وَلَوْ كَانَ بَعْدُ غَيْرَ مَنْظُورٍ مِنَ ٱلتَّلاَمِيذِ. فَٱلْمَسِيحُ، بِكَوْنِهِ هُوَ ٱللَّهَ، يَرَى مَا وَرَاءَ ٱلزَّمَانِ وَٱلْمَكَانِ، وَقَدْ عَايَنَ سُقُوطَ ٱلشَّيْطَانِ نَتِيجَةً أَكِيدَةً لِنَجَاحِ ٱلتَّلاَمِيذِ فِي رِسَالَتِهِمْ، حَتَّى قَبْلَ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "كُنتُ أَرى ٱلشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ ٱلسَّماءِ كَٱلبَرْقِ"، فَهِيَ عِبَارَةٌ مَجَازِيَّةٌ تُعَبِّرُ عَنِ ٱلانْهِيارِ ٱلسَّرِيعِ وَٱلْمُذْهِلِ لِسُلْطَانِ ٱلشَّرِّ، وَسُقُوطِ إِبْلِيسَ مِنْ مَقَامِهِ ٱلعَالِي إِلَى هَاوِيَةِ ٱلْهَوَانِ وَٱلهَلَاكِ. هَذَا ٱلإِعْلاَنُ يُجَسِّدُ ٱنْتِصَارَ ٱلتَّلاَمِيذِ لاَ عَلَى بَشَرٍ فَقَطْ، بَلْ عَلَى ٱلقُوَى ٱلرُّوحِيَّةِ ٱلْخَفِيَّةِ فِي عَالَمِ ٱلأَرْوَاحِ. فَـيَسُوعُ، ٱلَّذِي جَاءَ لِيَهْدِمَ مَلَكُوتَ ٱلشَّيْطَانِ، يَرَى فِي ٱنْتِصَارِ تَلاَمِيذِهِ بَدَايَةَ تَحْقِيقِ هَذَا ٱلهَدْمِ، تَمَامًا كَمَا قَالَ يُوحَنَّا ٱلإِنْجِيلِيّ: "وَإِنَّمَا ظَهَرَ ٱبْنُ ٱللَّهِ لِيُحبِطَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ" (1 يوحنّا 3: 8). وَٱلتَّعْبِيرُ "كَٱلبَرْقِ"، يُشِيرُ مِنْ جِهَةٍ إِلَى سُرْعَةِ ٱلسُّقُوطِ وَٱنْعِدَامِ ثَبَاتِهِ، فَٱلْبَرْقُ يُومِضُ لِلَحْظَةٍ ثُمَّ يَخْتَفِي، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إِلَى حَقِيقَةِ إِبْلِيسَ ٱلَّذِي كَانَ مَخْلُوقًا نُورَانِيًّا، ثُمَّ سَقَطَ مِنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظَّلاَمِ بِسَبَبِ كِبْرِيَائِهِ. فَقَدْ كَانَ مَلاَكًا مِنْ نُورٍ، فَأَصْبَحَ رَئِيسَ مَمْلَكَةِ ٱلظُّلْمَةِ. وَلَعَلَّ فِي ٱلْمُقَارَنَةِ بَيْنَ ٱلْبَرْقِ وَٱلْمَسِيحِ عِبْرَةً أَيْضًا: فَٱلْبَرْقُ زَائِلٌ، أَمَّا نُورُ ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ ثَابِتٌ كَٱلشَّمْسِ، كَمَا جَاءَ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا: "وَكَانَ وَجْهُهُ كَٱلشَّمْسِ وَهِيَ تُشْرِقُ بِقُوَّتِهَا" (رؤيا 1: 16). وَيُعَلِّقُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ عَلَى طَبِيعَةِ هَذِهِ ٱلْحَرْبِ ٱلرُّوحِيَّةِ قَائِلًا: "فَلَيْسَ صِرَاعُنَا مَعَ ٱللَّحْمِ وَٱلدَّم، بَلْ مَعَ أَصْحَابِ ٱلرِّئَاسَةِ وَٱلسُّلْطَانِ، وَوُلاَةِ هَذَا ٱلْعَالَمِ، عَالَمِ ٱلظُّلُمَاتِ، وَٱلأَرْوَاحِ ٱلْخَبِيثَةِ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ" (أفسس 6: 12).
19 وها قَد أولَيتُكم سُلطاناً تَدوسونَ بِه الحَيَّاتِ والعَقارِب وكُلَّ قُوَّةٍ لِلعَدُوّ، ولَن يَضُرَّكُم شَيء
تُشيرُ عبارةُ "وَهَا قَد أَوْلَيْتُكُم سُلطانًا"، وفي الأصلِ اليونانيِّ: δέδωκα ὑμῖν (أي: أَعطَيتُكُم)، إِلَى وَعْدِ يَسُوعَ ٱلصَّرِيحِ بِتَفْوِيضِ ٱلسُّلْطَةِ لِتَلَامِيذِهِ، تَعْزِيَةً لَهُم وَتَشْجِيعًا فِي وَجْهِ ٱلتَّعَبِ وَٱلاضْطِهَادِ وَٱلْمُقَاوَمَةِ، وَإِعْلَانًا أَنَّهُمْ لَيْسُوا وَحْدَهُمْ فِي مِيدَانِ ٱلرِّسَالَةِ، بَلْ مُرْسَلُونَ بِٱسْمِ مَنْ يَمْلِكُ كُلَّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ (رَاجِع متى 28: 18). أَمَّا عِبَارَةُ "ٱلْحَيَّاتِ"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلْمَكْرِ وَٱلْخِدَاعِ وَٱلسُّمِّ ٱلْمُمِيتِ، وَهِيَ رَمْزٌ كْلاَسِيكِيٌّ لِلشَّيْطَانِ وَلأَعْدَاءِ ٱللَّهِ ٱلرُّوحِيِّينَ، إِذْ قِيلَ عَنْهَا فِي بَدْءِ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ: "وَكَانَتِ ٱلْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ ٱلْبَرِّيَّةِ ٱلَّتِي صَنَعَهَا ٱلرَّبُّ ٱلإِلَهُ" (ٱلتَّكْوِين 3: 1). وَيُؤَكِّدُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ هَذَا ٱلْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: "وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُم أَنْ يَكُونَ مَثَلُكُم مَثَلَ حَوَّاءَ ٱلَّتِي أَغْوَتْهَا ٱلْحَيَّةُ بِحِيلَتِهَا، فَتَفْسُدَ بَصَائِرُكُم وَتَتَحَوَّلَ عَنْ صَفَائِهَا لَدَى ٱلْمَسِيحِ" (2 قورنتس 11: 3). أَمَّا عِبَارَةُ "ٱلْعَقَارِبِ"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلشَّرِّ ٱلْمُسْتَتِرِ، وَٱلسُّمِّ ٱلْقَاتِلِ، وَلَسْعَةِ ٱلْأَذَى ٱلْفُجَائِيِّ. فَهِيَ، كَٱلْحَيَّاتِ، رَمْزٌ لِقُوَّةِ ٱلشَّرِّ ٱلْخَفِيَّةِ وَٱلْمُؤْذِيَةِ، وَٱلَّتِي يُمْنَحُ ٱلتَّلَامِيذُ ٱلسُّلْطَانَ لِـدَوْسِهَا وَٱلِانْتِصَارِ عَلَيْهَا. وَتُذَكِّرُنَا هَذِهِ ٱلصُّورَةُ بِمَا قَالَهُ ٱلرَّبُّ لِلْحَيَّةِ: "وَأَجْعَلُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا، فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تُصِيبِينََ عَقِبَهُ" (ٱلتَّكْوِين 3: 15). أَمَّا عِبَارَةُ "وَكُلَّ قُوَّةٍ لِلْعَدُوِّ"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلْعَدُوِّ ٱلْأَوَّلِ لِلْإِنْسَانِ، أَيْ إِبْلِيسَ، ٱلَّذِي يُرْمَزُ إِلَيْهِ بِٱلْحَيَّةِ وَٱلْعَقَارِبِ. وَتَشْمَلُ هَذِهِ "ٱلْقُوَّةَ" أَضْرَارًا رُوحِيَّةً وَجَسَدِيَّةً: التَّجَارِبُ ٱلقَاسِيَةُ، وَٱلْكَوَارِثُ ٱلطَّبِيعِيَّةُ، وَتَهْيِيجُ ٱلأَشْرَارِ، والتَّخويف وَٱلِاضْطِهَادُ، وَكُلُّهَا يَسْعَى بِهَا ٱلشَّيْطَانُ لِإِسْقَاطِ ٱلْمُؤْمِنِ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَلَنْ يَضُرَّكُمْ شَيْءٌ"، فَتُشِيرُ إِلَى وَعْدِ يَسُوعَ بِٱلْحِمَايَةِ ٱلْإِلَهِيَّةِ ٱلْكَامِلَةِ لِلْمُرْسَلِينَ ٱلْأُمَنَاءِ، لاَ حِمَايَةً مِنَ ٱلْأَلَمِ، بَلْ مِنَ ٱلضَّرَرِ ٱلرُّوحِيِّ وَٱلْمَصِيرِ ٱلأَبَدِيِّ، لِأَنَّ قُوَّةَ ٱلْمَسِيحِ تَحْفَظُهُمْ فِي مَعْرَكِتِهِم مَعَ ٱلشَّيْطَانِ. وَيُرَدِّدُ هَذَا ٱلْوَعْدُ مَا جَاءَ فِي ٱلْمَزْمُورِ: "تَدُوسُ ٱلشِّبْلَ وَٱلتِّنِّينَ"(مزمور 91: 13)، وَيُعِيدُنَا أَيْضًا إِلَى نُبُوءَةِ ٱلتَّكْوِينِ: "فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ".
20 ولكِن لا تَفرَحوا بِأَنَّ الأَرواحَ تَخضَعُ لَكُم، بلِ افرَحوا بِأَنَّ أَسماءَكُم مَكْتوبَةٌ في السَّموات
تَشِيرُ عِبَارَةُ "لا تَفرَحوا بِأَنَّ الأَرواحَ تَخضَعُ لَكُم" إِلَى أَنَّ ٱلْخَلاصَ ٱلأَبَدِيَّ هُوَ ٱلْأَهَمُّ مِنْ خُضُوعِ ٱلشَّيَاطِينِ وَٱلْمَوَاهِبِ ٱلْخَارِقَةِ. فَلا يَنبَغِي لِٱلْمُرْسَلِ أَنْ يَفْرَحَ بِٱلسُّلْطَانِ عَلَى ٱلْأَرْوَاحِ ٱلنَّجِسَةِ، بَلْ بِٱلتَّمَتُّعِ بِثِمَارِ ٱلرُّوحِ ٱلقُدُسِ، وَبِٱلِٱنْتِمَاءِ ٱلْحَقِيقِيِّ إِلَى ٱللَّهِ. فَٱلْمَوْهِبَةُ لا تُبَرِّرُ صَاحِبَهَا إِنْ لَمْ يَتُبْ وَيَحْيَا مَعَ ٱللَّهِ، إِذْ يَقُولُ ٱلرَّبُّ: "فَسَوفَ يَقولُ لي كثيرٌ مِنَ ٱلنَّاسِ في ذلِكَ ٱليَوم: يا رَبّ، يا رَبّ، أَما بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنا؟ وبِٱسْمِكَ طَرَدْنا ٱلشَّياطين؟ وبِٱسْمِكَ أَتَيْنا بِٱلْمُعْجِزاتِ ٱلْكَثِيرَة؟" (متى 22: 7). بَلْ إِنَّ يَهوذا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ نَفْسَهُ نَالَ مِثْلَ هَذَا ٱلسُّلْطَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ هَلَكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلرَّبِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "مَكْتوبَةٌ في ٱلسَّمواتِ"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱسْتِعَارَةٍ تَقْلِيدِيَّةٍ تُفِيدُ أَنَّ أَسْمَاءَ ٱلْمُخْتَارِينَ مَحْفُوظَةٌ فِي كُتُبِ ٱلسَّمَاءِ، أَيْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْتَرِفُ بِهِم أَوْلَادًا لَهُ وَوَرَثَةً لِٱلْمَلَكُوتِ، كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ ٱلرُّؤْيَا: "فَٱلْغَالِبُ سَيَلبَسُ هكَذَا ثِيَابًا بِيضًا، وَلَنْ أَمْحُوَ ٱسْمَهُ مِنْ سِفْرِ ٱلْحَيَاة، بَلْ أَعْتَرِفُ بِٱسْمِهِ أَمَامَ أَبِي وَأَمَامَ مَلَائِكَتِهِ" (رؤيا III: 5). فَعِبَارَةُ "مَكْتُوبَةٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ" هِيَ إِعْلَانٌ أَنَّ ٱلْمُؤْمِنَ مَحْفُوظٌ فِي فِكْرِ ٱللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ٱلسَّمَاوِيَّةِ، لِأَنَّ ٱسْمَهُ نُقِشَ لا عَلَى ٱلْأَرْضِ، بَلْ فِي قَلْبِ ٱللَّهِ. وَهَذَا هُوَ ٱلْفَرَحُ ٱلْحَقِيقِيُّ: أَنَّ حَيَاتِي - وَحَيَاةَ كُلِّ مَنْ بُلِّغَ إِلَيْهِ ٱلْبِشَارَةُ - هِيَ فِي يَدِ ٱللَّهِ، وَفِي دَائِرَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَخَلاصِهِ ٱلْأَبَدِيِّ. وَمِنْ هُنَا، يَتَعَلَّمُ ٱلتِّلْمِيذُ أَنَّ: هِبَةَ ٱلنِّعْمَةِ أَسْمَى مِنْ هِبَةِ ٱلْقُوَّةِ، وَأَنَّ ٱلْمَوَاهِبَ ٱلرُّوحِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ رَائِعَةً، فَهِيَ لا تُغْنِي عَنِ ٱلْقَدَاسَةِ وَٱلتَّوْبَةِ، وَأَنَّ ٱلْفَرَحَ ٱلْحَقِيقِيَّ لَيْسَ فِي ٱلْعَمَلِ، بَلْ فِي ٱلِانْتِمَاءِ لِلَّهِ.
ثانياً: تَطْبيقاتُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لوقا 10: 1–17)
اِنْطِلاقًا مِن هذِهِ المُلَاحَظَاتِ الوَجِيزَةِ حَوْلَ وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لوقا 10: 1–17)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ الإِرْسَالِيَّةِ وَتَوْصِيَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ.
١) الإِرْسَالِيَّةُ (البِعْثَةُ)
وَرَدَ مَوْضُوعُ الإِرْسَالِيَّةِ لِلتَّبْشِيرِ فِي العَهْدَيْنِ: العَهْدِ القَدِيمِ وَالعَهْدِ الجَدِيدِ. فَفِي العَهْدِ القَدِيمِ، اِرْتَبَطَتْ الإِرْسَالِيَّةُ بِالأَنْبِيَاءِ، أَمَّا فِي العَهْدِ الجَدِيدِ، فَصَارَتْ مُرْتَبِطَةً بِالمَسِيحِ وَالرُّسُلِ وَكُلِّ المُرْسَلِينَ.
أ) إِرْسَالِيَّةُ الأَنْبِيَاءِ فِي العَهْدِ القَدِيمِ
تَفْرِضُ الإِرْسَالِيَّةُ الإِلَهِيَّةُ وُجُودَ نِدَاءٍ أَوْ دَعْوَةٍ مِن قِبَلِ الله. فَاللهُ يَدْعُو، وَالإِنْسَانُ يَسْتَجِيب. وَقَدْ تَجَلَّتْ هذِهِ الإِرْسَالِيَّةُ فِي دَعْوَةِ اللهِ لِلأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُوسَى، كَمَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الرَّبِّ: "مِن يَومِ خَرَجَ آباؤُكُم مِن أَرضِ مِصرَ إِلى هذا اليَوم، ما زِلتُ أُرسِلُ إِلَيكُم جَميعَ عَبيدِيَ الأَنبِياءَ بِلا مَلَل" (إرميا 7: 25). فَالإِرْسَالُ هُوَ مِحْوَرُ كُلِّ دَعْوَةٍ نُبُوِيَّةٍ، كَمَا فِي قَوْلِ الرَّبِّ لإِرْمِيَا: "فَإِنَّكَ لِكُلِّ ما أُرسِلُكَ لَه تَذهَب، وَكُلَّ ما آمُرُكَ بِه تَقول" (إرميا 1: 7).
يُجِيبُ كُلُّ نَبِيٍّ بِحَسَبِ تَكْوِينِهِ الخَاصِّ عَلَى هذِهِ الدَّعْوَةِ، فَنَرَى أَشْعِيَا يُقَدِّمُ نَفْسَهُ بِحَمَاس: "هاءَنَذَا، فَأَرْسِلْنِي!" (أشعيا 6: 8). أَمَّا إِرْمِيَا، فَيَثُورُ بِالاعْتِرَاضِ، لِشُعُورِهِ بِالضَّعْفِ: "آهِ، أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبّ، هاءَنَذَا لا أَعرِفُ أَن أَتَكَلَّم، لأَنِّي وَلَدٌ" (إرميا 1: 6). أمَّا مُوسَى، فَيَطْلُبُ عَلاَمَةً تُثْبِتُ إِرْسَالِيَّتَهُ: "مَن أَنا حَتَّى أَذهَبَ إِلى فِرعَون وأُخرِجَ بَني إِسرائيلَ مِن مِصر؟" (خروج 3: 11). فَالرَّبُّ يُجِيبُهُ وَيُطَمْئِنُهُ: "أَنا أَكونُ مَعَكَ، وَهذِهِ عَلامَةٌ لَكَ..." (خروج 3: 12). وَإِنْ اِسْتَثْنَيْنَا حَالَةَ يُونَان، الَّذِي رَفَضَ دَعْوَتَهُ فِي البِدَايَةِ: "فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلى تَرْشِيشَ مِن وَجهِ الرَّبّ" (يونان 1: 3)، فَسَبَبُ رَفْضِهِ كَانَ اِسْتِنْكَارَهُ خَلاصَ الأُمَمِ، رَافِضًا أَنْ تَتَّسِعَ الرَّحْمَةُ الإِلَهِيَّةُ لِغَيْرِ الشَّعْبِ المُخْتَارِ. فَالأَنْبِيَاءُ هُم مُرْسَلُونَ لِحَثِّ القُلُوبِ عَلَى التَّوْبَةِ، وَإِنْذَارِهَا بِالعُقُوبَاتِ، أَوِ التَّبْشِيرِ بِالوُعُودِ. فَيَرْتَبِطُ دَوْرُهُم بِكَلِمَةِ الله، الَّتِي هُم مُكَلَّفُونَ بِإِعْلَانِهَا وَتَبْلِيغِهَا، وتَارِيخُ الخَلاصِ يَتَحَقَّقُ بِفَضْلِ هذِهِ الإِرْسَالِيَّاتِ المُتَتَالِيَة.
ب) إِرْسَالِيَّةُ يَسُوعَ المَسِيحِ
بَعدَ ظُهُورِ يُوحَنَّا المَعْمَدَان، آخِرِ الأَنْبِيَاءِ وَأَعْظَمِهِم، (متى ١١: ٩–١٤)، تَقَدَّمَ يَسُوعُ المَسِيحُ إِلَى النَّاسِ، بِاعْتِبَارِهِ المُرْسَلَ مِنَ اللهِ، أَوْ الرَّسُولَ بِكُلِّ مَعْنَى الكَلِمَةِ، ذَاكَ الَّذِي تَحَدَّثَ عَنْهُ أَشْعِيَا النَّبِيُّ: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي، وَأَرْسَلَنِي لِأُبَشِّرَ الفُقَرَاءَ، وَأَجْبُرَ مُنْكَسِرِي القُلُوبِ، وَأُنَادِيَ بِإِفْرَاجٍ عَنِ المَسْبِيِّينَ، وَبِتَخْلِيَةٍ لِلمَأْسُورِينَ" (أشعيا ٦١: ١–٢). أَرْسَلَ اللهُ فِي آخِرِ الأَزْمِنَةِ اِبْنَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي إِنجِيلِ مَرْقُس: "فَبَقِيَ عِندَهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ ٱبْنُهُ الحَبِيب. فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ آخِرَ الأَمْرِ" (مرقس 12: 2–8). أَرْسَلَهُ الآبُ: لِيُبَشِّرَ بِالإِنْجِيلِ (مرقس 1: 38)، وَلِيُكَمِّلَ الشَّرِيعَةَ وَالأَنْبِيَاءَ (متى 5: 17)، وَلِيُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ (لوقا 12: 49)، لا لِيُحْضِرَ سَلاَمًا، بَلْ سَيْفًا (متى 10: 34)، لا لِيَدْعُوَ الأَبْرَارَ، بَلِ الْخُطَاةَ (مرقس 2: 17)، وَلِيَبْحَثَ عَنِ الهَالِكِ فَيُخَلِّصَهُ (لوقا ١٩: ١٠)، وَلِيَخْدِمَ وَيَفْدِيَ بِنَفْسِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً (مرقس 10: 45). لِذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ يَقْبَلُهُ أَوْ يَنْبِذُهُ، إِنَّمَا يَقْبَلُ أَوْ يَنْبِذُ الَّذِي أَرْسَلَهُ، أَيْ الآب (لوقا 10: 16).
وَعَلَيْهِ، فَإِنَّ مَوْضُوعَ الإِيمَانِ الَّذِي يَطْلُبُهُ يَسُوعُ مِنَ النَّاسِ، هُوَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ الآبِ (يوحنا 11: 42). وَهٰذَا يَفْتَرِضُ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ: الإِيمَانَ بِالابْنِ أَنَّهُ المُرْسَلُ (يوحنا ٦: ٢٩)، وَالإِيمَانَ بِالآبِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ (يوحنا 5: 24). وَلَمْ يَتَرَدَّدْ بُولُسُ الرَّسُولُ فِي تَأْكِيدِ هٰذِهِ الحَقِيقَةِ، فَقَالَ لِأَهْلِ غَلاطِيَّةَ: "فَلَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ، مَوْلُودًا لاِمْرَأَةٍ، مَوْلُودًا فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ هُمْ فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، فَنَحْظَى بِالتَّبَنِّي" (غلاطية 4: 4–5). إِنَّ اللهَ أَرْسَلَ ابْنَهُ إِلَى العَالَمِ مُخَلِّصًا وَكَفَّارَةً عَنْ خَطَايَانَا، حَتَّى نَحْيَا بِهِ. ذٰلِكَ هُوَ الدَّلِيلُ الأَسْمَى لِمَحَبَّتِهِ لَنَا: "مَا ظَهَرَتْ بِهِ مَحَبَّةُ اللهِ بَيْنَنَا، هُوَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ إِلَى العَالَمِ، لِنَحْيَا بِهِ"(1 يوحنا 4: 9). فَيُصْبِحُ يَسُوعُ، هٰكَذَا، المُرْسَلَ الحَقِيقِيَّ بِالمَعْنَى الأَكْمَلِ (يوحنا 9: 7)، ورَسُولَ اعْتِرَافِ إِيمَانِنَا، كَمَا يُعْلِنُ صَاحِبُ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ: "تَأَمَّلُوا رَسُولَ شَهَادَتِنَا وَعَظِيمَ كَهَنَتِهَا، يَسُوع" (عبرانيين 3: 1).
ج) إِرْسَالِيَّةُ التَّلامِيذِ
لَيْسَتْ بُشْرَى الإِنْجِيلِ مُجَرَّدَ فِكْرَةٍ، بَلْ حَدَثًا يَحْتَاجُ إِلَى بَيْتٍ – أَوْ بَلَدٍ – يَدْخُلُهُ المُرْسَلُ، لِيَبُثَّ فِيهِ حَيَاةَ الإِنْجِيلِ الَّتِي جَاءَ بِهَا يَسُوعُ المَسِيحُ. وَإِرْسَالِيَّةُ التَّلامِيذِ تَرْتَبِطُ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا بِإِرْسَالِيَّةِ يَسُوعَ: "كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ، أُرْسِلُكُمْ أَنَا أَيْضًا" (يوحنّا 20: 21). فَالتِّلْمِيذُ هُوَ الشَّخْصُ الَّذِي اخْتَارَهُ السَّيِّدُ المَسِيحُ، وَيَتْبَعُهُ. حَيَاةُ التِّلْمِيذِ هِيَ مُشَارَكَةٌ فِي رِسَالَةِ يَسُوعَ نَفْسِهَا لِنَشْرِ إِنْجِيلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، إِنْجِيلِ الخَلاصِ. وَنَشْرُ هٰذَا الخَلاصِ لَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا، بَلْ مُلْزِمًا، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ تَنْتَشِرِ الرِّسَالَةُ المَسِيحِيَّةُ، فَكَيْفَ يَخْلُصُ النَّاسُ؟
لِذٰلِكَ، فَإِنَّ إِرْسَالِيَّةَ يَسُوعَ لا بُدَّ أَنْ تَسْتَمِرَّ: أَوَّلًا، عَنْ طَرِيقِ رُسُلِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، ثَانِيًا، عَنْ طَرِيقِ التَّلامِيذِ الاثْنَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، ثَالِثًا، عَنْ طَرِيقِ الكَنِيسَةِ. لِهٰذَا السَّبَبِ بِالذَّاتِ، يَحْمِلُ التَّلَامِيذُ لَقَبَ "المُرْسَلِينَ" أَوْ "الرُّسُلِ". َفِي أَثْنَاءِ حَيَاتِهِ، يُرْسِلُهُم يَسُوعُ لِيَتَقَدَّمُوهُ (رَاجِعْ لوقا 10: 1)، وَلِيُعْلِنُوا مَلَكُوتَ اللهِ، وَيَشْفُوا المَرْضَى (لوقا 9: 1–2)، وَهٰذَا هُوَ مَوْضُوعُ إِرْسَالِيَّتِهِ الشَّخْصِيَّةِ. فَهُمُ العُمَّالُ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ رَبُّ الحَصَادِ إِلَى حَصَادِهِ (متى 9: 38).
قَدْ أَرْسَلَ يَسُوعُ المَسِيحُ تَلَامِيذَهُ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ، لأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُدَرِّبَهُمْ، لَيْسَ فَقَطْ عَلَى الجِهَادِ فِي اليَهُودِيَّةِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ الشَّدَائِدِ الَّتِي سَيَلْقَوْنَهَا فِي كُلِّ الأَرْضِ. وَلِذٰلِكَ، يَنْبَغِي أَلَّا يَنْخَدِعَ المُرْسَلُونَ بِخُصُوصِ المَصِيرِ الَّذِي يَنْتَظِرُهُمْ: "مَا كَانَ الخَادِمُ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلا كَانَ الرَّسُولُ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ" (يوحنا 13: 16)، وَ"كَفَى التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ" (متى 10: 24–25).
عِنْدَ ظُهُورِ المَسِيحِ لِلرُّسُلِ بَعْدَ القِيَامَةِ، يُرْسِلُهُمْ: "كَالخِرَافِ بَيْنَ الذِّئَابِ" (متى 10: 16). إِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ "الجِيلَ الفَاسِدَ" سَوْفَ يُضْطَهِدُ مَنْ يُرْسِلُهُمْ، وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى المَوْتِ: "مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ هاءَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَبَعْضَهُمْ تَقْتُلُونَ وَتُصْلِبُونَ، وَبَعْضَهُمْ فِي مَجَامِعِكُمْ تَجْلِدُونَ، وَمِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ تُطَارِدُونَ" (متى 23: 34). فَهُمْ يَذْهَبُونَ إِذًا لِيُبَشِّرُوا بِالإِنْجِيلِ (مرقس 16: 15)، وَلِيُتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ (متى 28: 19)، وَلِيُقَدِّمُوا شَهَادَتَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ (أعمال 1: 8). وَبِذٰلِكَ، تَبْلُغُ إِرْسَالِيَّةُ الِابْنِ فِعْلًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، بِفَضْلِ إِرْسَالِيَّةِ رُسُلِهِ وَكَنِيسَتِهِ.
وَالمُعَامَلَةُ الَّتِي يُعَامَلُ بِهَا المُرْسَلُونَ، سَوْفَ تَعُودُ عَلَى يَسُوعَ المَسِيحِ نَفْسِهِ، وَبِالتَّالِي عَلَى الآبِ: "مَنْ سَمِعَ إِلَيْكُمْ سَمِعَ إِلَيَّ. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْكُمْ، أَعْرَضَ عَنِّي، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِّي، أَعْرَضَ عَنِ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (لوقا 10: 16)، "وَمَنْ قَبِلَ الَّذِي أُرْسِلُهُ، قَبِلَنِي أَنَا. وَمَنْ قَبِلَنِي، قَبِلَ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يوحنا 13: 20). وَلَمْ يَعْتَمِدِ المُرْسَلُونَ وَالمُبَشِّرُونَ بِالإِنْجِيلِ عَلَى قُوَاهُمْ البَشَرِيَّةِ وَحْدَهَا، بَلْ أَدَّوْا مَهَمَّتَهُمْ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ.وَقَدْ أَوْضَحَ يَسُوعُ دَوْرَ الرُّوحِ القُدُسِ بِقَوْلِهِ: "المُؤَيِّدُ، الرُّوحُ القُدُسُ، الَّذِي يُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، هُوَ يُعَلِّمُكُمْ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ، وَيُذَكِّرُكُمْ جَمِيعَ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ" (يوحنا ١٤: ٢٦). وَقَدْ أَعْطَاهُم نَفْسَ التَّوْصِيَاتِ وَالتَّعْلِيمَاتِ الَّتِي أَعْطَاهَا لِلِاثْنَيْ عَشَرَ (لوقا 10: 3–12).
2) تَوصِيَاتُ يَسُوعَ فِي الإِرْسَالِيَّةِ (البَعْثَةِ التَّبْشِيرِيَّةِ)
أَرْسَلَ يَسُوعُ الِاثْنَيْ عَشَرَ فِي الإِرْسَالِيَّةِ الأُولَى إِلَى مَنَاطِقِ الشِّمَالِ، نَظَرًا لِقِلَّةِ العَامِلِينَ وَكَثْرَةِ الحَصَادِ (مَتّى 9: 1-7)، أَمَّا فِي الإِرْسَالِيَّةِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ أَرْسَلَ أَعْدَادًا مُضَاعَفَةً مِنْ تَلَامِيذِهِ إِلَى المِنْطَقَةِ الجَنُوبِيَّةِ الَّتِي كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَجْتَازَ فِيهَا (لُوقَا 10: 1-2).
وَقَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ تَلَامِيذَهُ لِلتَّبْشِيرِ فِي حَقْلِ الرَّبِّ، أَعْطَاهُمْ بَعْضَ التَّوْصِيَاتِ. وَلَيْسَتْ هٰذِهِ التَّوْصِيَاتُ تَوْصِيَاتٍ عَقَائِدِيَّةً تَتَعَلَّقُ بِمَضْمُونِ الإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ تَعْلِيمُهُ، بَلْ هِيَ إِرْشَادَاتٌ عَمَلِيَّةٌ، لأَنَّ رِسَالَةَ يَسُوعَ هِيَ أَوَّلًا حَدَثٌ خَلاَصِيٌّ. فَالمُرْسَلُونَ يُبَشِّرُونَ بِمَلَكُوتِ اللهِ أَوَّلًا مِنْ خِلَالِ أُسْلُوبِ حَيَاتِهِم، لِذَلِكَ أَرْسَلَهُمْ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. وَكَمَا قَالَ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "إِنَّ الرَّقْمَ (2) يُشِيرُ إِلَى الْمَحَبَّةِ للهِ وَالنَّاسِ"، وَكَأَنَّ إِرْسَالِيَّتَهُ لَمْ تَكُنْ كَرَازَةَ كَلِمَةٍ وَوَعْظٍ فَحَسْب، بَلْ كَرَازَةَ مَحَبَّةٍ وَشَرَاكَةٍ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ. وَلِذٰلِكَ، فَإِنَّ إِرْسَالِيَّةَ يَسُوعَ لِتَلاَمِيذِهِ لَمْ تَقُمْ عَلَى أَيَّةِ مَخَطَّطَاتٍ أَوْ أَيَّةِ اسْتِرَاتِيجِيَّاتٍ بَشَرِيَّةٍ، بَلْ عَلَى أُسْلُوبٍ إِنْجِيلِيٍّ يَحْتَوِي عَلَى التَّوْصِيَاتِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلًا: الصَّلَاةُ
تَوصِيَةُ يَسُوعَ الأُولَى لِتَلاَمِيذِهِ فِي الإِرْسَالِيَّةِ هِيَ الصَّلَاةُ، إِذْ قَالَ: "فَاسْأَلُوا رَبَّ الحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ عَامِلِينَ إِلَى حَصَادِهِ" (لوقا 10: 2). إِنَّ اخْتِيَارَ المُرْسَلِينَ المُدْعُوِّينَ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ، لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ هُوَ الَّذِي يُبْذِرُ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي يَحْصُدُ، فَبِدُونِهِ يُحْسَبُونَ لا شَيْءَ... إِذْ يَقُولُ: "بِمَعْزِلٍ عَنِّي لا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَعْمَلُوا شَيْئًا" (يوحنّا 15: 5).
وَيُشْرِكُ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ فِي الصَّلَاةِ وَرِسَالَةِ التَّبْشِيرِ فِي الحَصَادِ (مَتّى 9: 37)، فَالصَّلَاةُ ضَرُورِيَّةٌ لِيُرْسِلَ الرَّبُّ عَامِلِينَ إِلَى حَصَادِهِ. وَقَدْ أَكَّدَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّ الكِرَازَةَ هِيَ مِنْ صَمِيمِ عَمَلِهِ، فَهُوَ الَّذِي عَيَّنَهُم، وَهُوَ الَّذِي يُسْنِدُهُم بِإِرْسَالِ فَعَلَةٍ يَعْمَلُونَ مَعَهُ لِحِسَابِ حَصَادِهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس قَائِلًا: "الرَّبُّ نَفْسُهُ هُوَ الَّذِي يُبْذِرُ، إِذْ كَانَ (سَاكِنًا) فِي الرُّسُلِ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي يَحْصُدُ، فَبِدُونِهِ يُحْسَبُونَ كُلَّهُمْ لا شَيْءَ." وَيُؤَكِّدُ القِدِّيسُ بُولُس الرَّسُولُ هٰذَا المَبْدَأَ قَائِلًا: "أَنَا غَرَسْتُ، وَأَبُلُّسُ سَقَى، وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي أَنْمى" (1 قورنتس 3: 6).
وَفَوْقَ ذٰلِكَ، يَحْتَاجُ المُرْسَلُونَ أَنْفُسُهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ مَنْصُورُ دِي بُول قَائِلًا": "لَيْسَ هُنَاكَ أَيُّ شَيْءٍ مُتَطَابِقٍ مَعَ الإِنْجِيلِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُخَزِّنَ فِينَا النُّورَ وَالقُوَّةَ الَّتِي تَكْتَسِبُهَا أَنْفُسُنَا مِنْ خِلَالِ المُنَاجَاةِ القَلْبِيَّةِ، وَقِرَاءَةِ الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ، وَالعُزْلَةِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، عَلَيْنَا أَنْ نَذْهَبَ لِنُشَاطِرَ النَّاسَ هٰذِهِ التَّغْذِيَةَ الرُّوحِيَّةَ. عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَ مَا قَامَ بِهِ رَبُّنَا وَرُسُلُهُ مِنْ بَعْدِهِ: إِنَّهُ جَمَعَ مَا قَامَتْ بِهِ مَرْتَا وَمَا قَامَتْ بِهِ مَرْيَمُ" (إِرْشَادَاتٌ رُوحِيَّةٌ لِلْمُرْسَلِينَ).
وَإِنَّ كَلِمَةَ اللهِ تُعْلَنُ أَيْضًا بِالصَّلَاةِ. وَيُعَلِّقُ القَدِيسُ البَابَا فِرَنسِيس قَائِلًا: "بِدُونِ صَلَاةٍ، يُمْكِنُكَ أَنْ تُقَدِّمَ مُحَاضَرَةً جَيِّدَةً أَوْ تَعْلِيمًا جَمِيلًا، وَلَكِنْ لَنْ تَكُونَ هِيَ كَلِمَةَ اللهِ. إِنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَخْرُجُ فَقَطْ مِنَ القَلْبِ المُصَلِّي." فَبِالتَّالِي، فَكَلِمَةُ اللهِ تُعْلَنُ بِالصَّلَاةِ: صَلَاةِ مَنْ يُعْلِنُهَا! وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَقْصِ عَدَدِ العَامِلِينَ فِي الحَقْلِ، فَلا بُدَّ مِنَ التَّغَلُّبِ عَلَيْهِ مِنْ خِلَالِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْضًا، لأَنَّ الدَّعْوَةَ الرَّسُولِيَّةَ هِيَ نِعْمَةٌ مَجَّانِيَّةٌ مِنَ اللهِ. وَقَدْ عَبَّرَ القِدِّيسُ بُولُس عَنْ ذٰلِكَ قَائِلًا: "وَبِنِعْمَةِ اللهِ مَا أَنَا عَلَيْهِ" (1 قورنتس 15: 10). لِذٰلِكَ، لا نَسْتَغْرِبُ مِنْ قَوْلِ المَسِيحِ لِتَلاَمِيذِهِ: "الحَصَادُ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّ العَامِلِينَ قَلِيلُون، فَاسْأَلُوا رَبَّ الحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ عَامِلِينَ إِلَى حَصَادِهِ" (لوقا 10: 2).
ثَانِيًا: اللَّاعُنْف أو الوداعة
أَرْسَلَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ "كَالحُمْلَانِ بَيْنَ الذِّئَابِ" (لوقا 10: 3). فَالحَمَلُ هُوَ وَاحِدٌ مِنَ القَطِيعِ، يَعِيشُ مَعَهُ، َيَخْضَعُ لِرَاعِي القَطِيعِ. فَإِنْ كَانَ "حَمَلُ اللهِ" (يُوحَنَّا 1: 29) قَدْ أَقَامَنَا حِمْلَانًا، فَذٰلِكَ لِنَحْمِلَ سِمَاتِهِ فِينَا.أَمَّا الذِّئَابُ، فَهِيَ وُحُوشٌ كَاسِرَةٌ، لا تَعْرِفُ الرَّحْمَةَ وَاللِّينَ، وَتَفْرِضُ نَفْسَهَا عَلَى غَيْرِهَا بِالمَكْرِ وَالدَّهَاءِ، وَتَخْطَفُ مَنْ تَجِدُ، وَتَبْتَلِعُ مَنْ تَخْطَفُهُ. وَبِذٰلِكَ، فَإِنَّ المُرْسَلِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ قُوَّتَهُمْ لَيْسَتْ نَابِعَةً مِنْ ذَوَاتِهِم، وَأَنَّهُمْ لا يُرِيدُونَ إِكْرَاهَ النَّاسِ عَلَى دُخُولِ المَلَكُوتِ، بَلْ يَحُثُّونَهُمْ عَلَى الِانْضِمَامِ الطَّوْعِيِّ إِلَيْهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس قَائِلًا: "إِنَّ الذِّئَابَ تَلْتَهِمُ الحِمْلَانَ، فَتَتَحَوَّلُ الذِّئَابُ إِلَى حِمْلَانٍ. إِنَّهَا لَيْسَتْ إِرْسَالِيَّةً لافْتِرَاسِ رُسُلِهِ، بَلْ لِتَحْوِيلِ الذِّئَابِ إِلَى حِمْلَانٍ، مِنْ خِلَالِ وَدَاعَةِ حِمْلَانِهِ، أَيْ رُسُلِهِ."
وَمِنْ هٰذَا المُنْطَلَقِ، فَإِنَّ المُرْسَلَ الحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَأَنَّهُ لا يُمْكِنُهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ وَحْدَهُ بَيْنَ الذِّئَابِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ قَائِلًا: "إِنْ لَمْ تَذْهَبْ كَحَمَلٍ بَيْنَ الذِّئَابِ، بَلْ كَذِئْبٍ بَيْنَ الذِّئَابِ، فَالرَّبُّ لَنْ يَحْمِيكَ، وَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُدَافِعَ عَنْ نَفْسِكَ." لِذٰلِكَ، يُوصِي يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ بِبَذْلِ حَيَاتِهِم بِوَدَاعَةِ الحَمَلِ، لأَنَّهُمْ سَيَتَغَلَّبُونَ عَلَى الشَّرِّ بِسُلُوكِهِم الوَدِيعِ، فِي البَسَاطَةِ، وَطَهَارَةِ الأَفْكَارِ، وَالثِّقَةِ بِاللهِ، لا بِالقُوَّةِ، وَلا بِالتَّسَلُّطِ، وَلا بِالعُنْفِ، وَلا بِقُدْرَاتِهِم الشَّخْصِيَّةِ، بَلْ بِشَهَادَةِ المَحَبَّةِ الوَدِيعَةِ الَّتِي تَتَجَلَّى فِي بَذْلِ الذَّاتِ. وَكَمَا يَقُولُ المَثَلُ الهِنْدُوسِيُّ: "سَيَحِلُّ السَّلَامُ فِي قُلُوبِنَا عِنْدَمَا تَحِلُّ قُوَّةُ المَحَبَّةِ مَكَانَ مَحَبَّةِ القُوَّةِ."
وَهٰذَا مَا حَدَثَ بِالفِعْلِ أَثْنَاءَ كَرَازَةِ الرُّسُلِ، الَّذِينَ احْتَمَلُوا اضْطِهَادَاتٍ عَنِيفَةً، فَغَيَّرُوا كَثِيرًا مِنَ القُلُوبِ القَاسِيَةِ، وَجَذَبَ الشُّهَدَاءُ مُعَذِّبِيهِمْ ذَاتَهُمْ إِلَى الإِيمَانِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ قَائِلًا: "إِنَّ الشَّرَاسَةَ لا تُطْفَأُ بِالشَّرَاسَةِ، وَإِنَّمَا بِاللُّطْفِ." وَهٰكَذَا تَتِمُّ هٰذِهِ الكَلِمَةُ: "ٱلذِّئْبُ وَٱلْحَمَلُ يَرْعَيَانِ مَعًا" (أشعيا 65: 25). أَلَمْ يَتَحَوَّلْ شَاوُلُ الطَّرْسُوسِيُّ، الذِّئْبُ المُضْطَهِدُ، إِلَى بُولُسَ الرَّسُولِ، الحَمَلِ الَّذِي يَشْهَدُ نَفْسُهُ قَائِلًا: "إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُعَانِي المَوْتَ طَوَالَ النَّهَارِ، وَنُعَدُّ غَنَمًا لِلذَّبْحِ" (رومة 8: 36)، وَيَعْتَرِفُ أَيْضًا: "أَمَّا فِي الحَمِيَّةِ فَأَنَا مُضْطَهِدُ الكَنِيسَةِ" (فيلِبِّي 3: 6). أَمَّا القِدِّيسُ أَنبْرُوسِيُوس، أُسْقُفُ مِيلَانُو (نَحْوَ 340٠ – 379)، فَيُعَلِّقُ عَلَى تَوصِيَةِ الرَّبِّ قَائِلًا: "حِينَ أَرْسَلَ الرَّبُّ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ إِلَى الحَصَادِ، لَمْ يَخَفْ عَلَى قَطِيعِهِ مِنَ الذِّئَابِ. أُرْسِلَ أُولٰئِكَ التَّلَامِيذُ لا لِيَكُونُوا فَرِيسَةً، بَلْ لِيَنْشُرُوا النِّعْمَةَ أَيْنَمَا حَلُّوا. إِنَّ عِنَايَةَ الرَّاعِي الصَّالِحِ تَقِي الحِمْلَانَ مِنِ اعْتِدَاءَاتِ الذِّئَابِ. إِنَّهُ يُرْسِلُهُمْ لِتَتِمَّ نُبُوءَةُ أَشَعْيَا" الذِّئْبُ وَالحَمَلُ يَرْعَيَانِ مَعًا" (أشعيا 65: 25).
وَإِنَّ مَا أَوْصَى بِهِ الرَّبُّ المُتَوَاضِعُ قَدْ حَقَّقَهُ تَلَامِيذُهُ بِعَيْشِ التَّوَاضُعِ، لأَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ لِغَرْسِ بُذُورِ الإِيمَانِ، لَا مِنْ خِلَالِ الإِكْرَاهِ، وَلَا مِنْ خِلَالِ اسْتِغْلَالِ قُوَّةِ سُلْطَتِهِم، بَلْ مِنْ خِلَالِ مُمَارَسَةِ التَّوَاضُعِ وَالوَدَاعَةِ. وَقَدْ أَوْضَحَ بُولُسُ الرَّسُولُ هٰذَا المَوْقِفَ فَقَالَ: "وَلِذٰلِكَ فَإِنِّي رَاضٍ بِحَالَاتِ الضُّعْفِ، وَالإِهَانَاتِ، وَالشَّدَائِدِ، وَالِاضْطِهَادَاتِ، وَالمَضَايِقِ، فِي سَبِيلِ المَسِيحِ، لأَنِّي عِنْدَمَا أَكُونُ ضَعِيفًا، أَكُونُ قَوِيًّا" (2 قورنتس 12: 10). فَقَدْ أَظْهَرَ التَّلَامِيذُ وِدَاعَةَ الحِمْلَانِ، مَعَ أَنَّهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى الذِّئَابِ، بَلْ أَيْضًا يَعِيشُونَ وَسْطَهُمْ. وَفِي هٰذَا السِّيَاقِ قَالَ لَهُ الرَّبُّ: "حَسْبُكَ نِعْمَتِي، فَإِنَّ القُدْرَةَ تَبْلُغُ الكَمَالَ فِي الضُّعْفِ" (2 قورنتس 12: 9).
ثَالِثًا: الفَقْر
تَوصِيَةُ الرَّبِّ الثَّالِثَةُ لِتَلَامِيذِهِ المُرْسَلِينَ تَنْصُّ عَلَى: "لا تَحْمِلُوا كِيسَ دَرَاهِمَ، وَلَا مِزْوَدًا، وَلَا حِذَاءً" (لوقا 10: 4)، "لَا يَقُولُ يَسُوعُ مَا يَجِبُ عَلَى التِّلْمِيذِ أَنْ يَحْمِلَهُ فِي الطَّرِيقِ، بَلْ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَهُ فِي طَرِيقِ الرِّسَالَةِ. فَالأَدَوَاتُ الَّتِي يَطْلُبُ مِنَّا الرَّبُّ، كَتَلَامِيذٍ، أَنْ نَتَجَرَّدَ مِنْهَا، تَرْتَبِطُ بِالسَّفَرِ وَالتَّرْحَالِ. "لَا لِكِيسِ الدَّرَاهِمِ" لِشِرَاءِ مَا يَلْزَمُ عَلَى الطَّرِيقِ؛ "لَا لِلْمِزْوَدِ" أَيْ حَقِيبَةِ السَّفَرِ الَّتِي تَحْوِي الطَّعَامَ وَالْأَشْيَاءَ الأَسَاسِيَّةَ الأُخْرَى الَّتِي يَعْتَادُ أَنْ يَأْخُذَهَا التِّلْمِيذُ مَعَهُ فِي رِسَالَتِهِ؛ " وَلَا حِذَاءً" الَّذِي يُحَافِظُ عَلَى قَدَمَيِ الْمُرْسَلِ فِي تَحَرُّكِهِ. "إِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ هُوَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِتَجَرُّدِ يَسُوعَ عَلَى الصَّلِيبِ، فَيَكُونَ لَهُمْ ذَاتُ التَّخَلِّي الَّذِي عَاشَهُ الرَّبُّ، تَجَرُّدًا تَامًّا عَنِ الْمُمْتَلَكَاتِ وَالضَّمَانَاتِ البَشَرِيَّةِ، وَاتِّكَالًا كَامِلًا عَلَى العِنَايَةِ الإِلَهِيَّةِ. "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلُوصَهُ مَعَ اللهِ غَنِيمَةً، لَكِنَّهُ أَخْلَى ذَاتَهُ..." (فيلبّي 2: 6–7).
وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ بُونَافِنْتُورَا قَائِلًا: "فَعِنْدَمَا فَهِمَ فِرَنْسِيسُ هٰذَا الكَلَامَ وَحَفِظَهُ، وَقَعَ أَسِيرًا لِحُبِّ الفَقْرِ الرَّسُولِيِّ هٰذَا، وَصَاحَ فَرِحًا: «هٰذَا مَا أُرِيدُه! وَهُوَ مَا تَبْتَغِيهِ نَفْسِي!» ثُمَّ أَسْرَعَ وَخَلَعَ حِذَاءَهُ، وَتَرَكَ العَصَا الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا لِلْمَشْيِ، كَمَا تَرَكَ جُعْبَتَهُ وَنُقُودَهُ، وَلَمْ يَتْرُكْ لِنَفْسِهِ سِوَى رِدَاءٍ وَاحِدٍ، وَاسْتَبْدَلَ الزِّنَارَ بِحَبْلٍ: لَقَدْ وَضَعَ كُلَّ قَلْبِهِ فِي سَبِيلِ تَنْفِيذِ مَا سَمِعَهُ، وَالتَّقَيُّدِ بِطَرِيقَةِ عَيْشِ الكَمَالِ الإِنْجِيلِيِّ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِلرُّسُلِ." (حَيَاةُ القِدِّيسِ فِرَنْسِيس الأَسِّيزِي، الفَصْل 3).
يَطْلُبُ يَسُوعُ مِنْ تَلَامِيذِهِ التَّمَسُّكَ بِالفَقْرِ، بِأَلَّا يَأْخُذُوا أَيَّةَ احْتِيَاطَاتٍ مَادِّيَّةٍ. فَنَجَاحُ الإِرْسَالِيَّةِ لا يَعْتَمِدُ عَلَى الوَسَائِلِ وَالأَدَوَاتِ، بَلْ عَلَى شَهَادَةِ حَيَاةٍ وَدِيعَةٍ تُعْلِنُ عَنْ إِلَهٍ أَصْبَحَ فَقِيرًا وَمُتَضَامِنًا. فَيَتَوَجَّبُ عَلَى المُرْسَلِينَ أَنْ يَعِيشُوا الفَقْرَ، فَلَا يَعْتَمِدُوا عَلَى القُدُرَاتِ وَالمَوَارِدِ البَشَرِيَّةِ، وَلَا عَلَى الضَّمَانَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلا عَلَى الوَسَائِلِ، بَلْ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُمْ. لِأَنَّ العِنَايَةَ الإِلٰهِيَّةَ تَأْتِي إِلَى مَعُونَتِهِم فِي كُلِّ حِينٍ. وَهٰكَذَا، يَنْطَلِقُ التَّلَامِيذُ فُقَرَاءَ لِيَضَعُوا ثِقَتَهُمْ فِي الَّذِي أَرْسَلَهُمْ، وَفِي أُولَئِكَ الَّذِينَ سَيُرَحِّبُونَ بِهِم.فَإِنَّ مَحَبَّةَ الآخَرِينَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى إِعْطَائِهِم شَيْئًا، بَلْ أَيْضًا بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِم.
تَرْكِيزُ يَسُوعَ عَلَى الفَقْرِ الفِعْلِيِّ، لَا يُنْسِينَا القِيمَةَ الرُّوحِيَّةَ الكَامِنَةَ فِيهِ، فَهُوَ عَلَامَةٌ وَوَسِيلَةٌ لِلتَّجَرُّدِ الدَّاخِلِيِّ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ وَنَشْرِ مَلَكُوتِهِ.إِنَّ هٰذَا الفَقْرَ المَادِّيَّ أَمْرٌ حَسَنٌ، عِنْدَمَا تُلْهِمُهُ الرَّغْبَةُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِيَسُوعَ، وَالسَّخَاءِ نَحْوَ إِخْوَتِنَا.وَهُوَ يُتِيحُ تَقَبُّلَ هِبَةِ اللهِ بِمَزِيدٍ مِنَ الحُرِّيَّةِ، وَالتَّكْرِيسِ الأَكْمَلِ لِخِدْمَةِ وَنَشْرِ مَلَكُوتِهِ (لوقا 12: 32-34).
مِنْ هٰذَا المُنْطَلَقِ، فَإِنَّ المُرْسَلِينَ لَيْسُوا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ وَيَعْرِفُونَ كُلَّ شَيْءٍ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَدَيْهِم كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الآخَرُون، بَلْ هُمْ فُقَرَاءُ يَنْطَلِقُونَ بِتَوَاضُعٍ، لأَنَّهُمْ لا يُمْكِنُهُمْ لِقَاءُ الآخَرِينَ إِلَّا إِذَا أَقَرُّوا بِاحْتِيَاجِهِم وَفَقْرِهِم. وَعَلَيْهِ، سَيَسْمَحُونَ لِأَنْفُسِهِم بِأَنْ يَقْبَلُوا كَلِمَةَ اللهِ أَوَّلًا، مِنْ خِلَالِ النَّاسِ الَّذِينَ يَلْتَقُونَ بِهِم.
يَقُومُ مَبْدَأُ الفَقْرِ وَهَدَفُهُ عَلَى المُشَارَكَةِ فِي سِرِّ جُودِ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ: "فَقَدِ افْتَقَرَ لِأَجْلِكُمْ وَهُوَ الغَنِيُّ، لِتَغْتَنُوا بِفَقْرِهِ" (2 قورنتس 8: 9). وَالفَقْرُ الفِعْلِيُّ هُوَ الطَّرِيقُ الأَمْثَلُ لِلْوُصُولِ إِلَى الفَقْرِ الرُّوحِيِّ، الَّذِي يَقُومُ عَلَى الِانْفِتَاحِ عَلَى هِبَةِ اللهِ، فِي إِيمَانٍ مَمْلُوءٍ ثِقَةً وَتَوَاضُعًا وَصَبْرًا. فَالرَّبُّ يَسُوعُ يُوصِي تَلَامِيذَهُ المُرْسَلِينَ بِالِاسْتِسْلَامِ الكُلِّيِّ لَهُ، كَيْ يُتِمُّوا رِسَالَةَ الإِنْجِيلِ. وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ بُطْرُسُ أَوَّلَ مَنْ نَفَّذَ هٰذِهِ الوَصِيَّةَ، مُوَضِّحًا أَنَّهَا لَمْ تُعْطَ بَاطِلًا، فَعِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُ فَقِيرٌ صَدَقَةً عِنْدَ بَابِ الهَيْكَلِ فِي أُورُشَلِيمَ، قَالَ: "لَا فِضَّةَ عِنْدِي وَلَا ذَهَبَ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 3: 6).
رابِعًا: السَّلَامُ
"إِنَّ الهَدَفَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ يُرْسِلُ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ هُوَ السَّلَامُ. فَهُمْ يَحْمِلُونَ السَّلَامَ كَجَوْهَرِ رِسَالَتِهِم، وَيُعْلِنُونَهُ لِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُونَ بُيُوتَهُمْ، فَيَكُونُ السَّلَامُ الَّذِي عَاشَهُ يَسُوعُ، وَالَّذِي مَنَحَهُ لِعَالَمِنَا بِخَلَاصِهِ، حَاضِرًا وَفَعَّالًا فِي كُلِّ لِقَاءٍ وَبَشَارَة. "وَأَيَّ بَيْتٍ دَخَلْتُمْ، فَقُولُوا أَوَّلًا: السَّلَامُ عَلَى هٰذَا البَيْتِ" (لوقا 10: 5). إِنَّ السَّلَامَ هِبَةٌ مِنَ الرَّبِّ، يَجِبُ تَقْدِيمُهَا لِلآخَرِينَ وَمُشَارَكَتُهُم فِيهَا. وَهٰذَا السَّلَامُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَحِيَّةٍ، بَلْ هُوَ جَوْهَرُ إِنْجِيلِ المَسِيحِ. إِنَّهُ سَلَامُ القَائِمِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، الَّذِي غَلَبَ المَوْتَ، وَأَتَمَّ المُصَالَحَةَ بَيْنَ اللهِ وَالإِنْسَانِ، وَحَرَّرَ البَشَرَ مِنْ عُبُودِيَّةِ المَوْتِ. هُوَ سَلَامٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَبَيْنَ اللهِ وَالبَشَرِ، وَسَلَامٌ مِنْ أَجْلِ القَرِيبِ وَالبَعِيدِ. إِنَّهُ لَيْسَ السَّلَامَ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ البَشَرُ، المَبْنِيَّ عَلَى المُسَاوَمَةِ أَوْ الخَوْفِ، بَلْ هُوَ سَلَامُ المَسِيحِ الرَّبِّ، المَبْنِيُّ عَلَى الحَقِّ وَالعَدْلِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَفْرَامُ السُّرْيَانِيُّ قَائِلًا: "هٰذَا السَّلَامُ هُوَ سِرُّ هٰذَا الإِيمَانِ، الَّذِي يُشِعُّ فِي العَالَمِ؛ فَمِنْ خِلَالِهِ تَخْمُدُ نَارُ الحِقْدِ، وَتَتَوَقَّفُ الحُرُوبُ، وَيُحِبُّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا" (تعليق على الدِياطِسَّرُون).
السَّلَامُ هُوَ الرِّسَالَةُ الأَسَاسِيَّةُ الَّتِي يَحْمِلُهَا الرَّسُولُ إِلَى البَيْتِ الَّذِي يَدْخُلُهُ، وَإِلَى الأَشْخَاصِ الَّذِينَ يَلْتَقِي بِهِم، وَإِلَى كُلِّ كَائِنٍ يَحْتَاجُ إِلَى سَلَامِ القَلْبِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ (345–407) قَائِلًا: "إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ يُرِيدُنَا أَنْ نَكُونَ رُسُلًا لِلسَّلَامِ، وَأَنْ تَكُونَ خُطَانَا الأُولَى فِي أَيِّ بَيْتٍ مُكَرَّسَةً بِبَرَكَةِ السَّلَامِ". فَالتَّلَامِيذُ مَدْعُوُّونَ لِمَنْحِهِ، وَلَكِنَّهُ إِنْ رُفِضَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَخْسَرُوا سَلَامَهُمْ، بَلْ سَيَعُودُ إِلَيْهِم. وَنَحْنُ مَدْعُوُّونَ فِي رِسَالَتِنَا الْمَسِيحِيَّةِ، كَتَلَامِيذَ، أَنْ نَحْمِلَ السَّلَامَ كَطَرِيقٍ وَكَرِسَالَةٍ، يُفَجِّرُ فِيهَا السَّلَامُ إِمْكَانِيَّةَ الْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي تَشُعُّ فَرَحًا."
وَمِنْ هٰذَا المُنْطَلَقِ، فَإِنَّ مَهَمَّةَ الرَّسُولِ هِيَ تَبْدِيلُ وَاقِعِ القَلْبِ البَشَرِيِّ، وَدَعْوَتُهُ هِيَ زَرْعُ السَّلَامِ فِي البُيُوتِ الَّتِي يَزُورُهَا، وَنَزْعُ القَلَقِ وَالخَوْفِ مِنْ قُلُوبِهِم، وَاسْتِبْدَالُهَا بِالفَرَحِ الحَقِيقِيِّ، فَرَحِ بُشْرَى الإِنْجِيلِ، الَّتِي تُعْطِي السَّلَامَ الدَّاخِلِيَّ. وَهٰذَا السَّلَامُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَفْرُوضًا، فَالسَّلَامُ الَّذِي يَهَبُهُ المَسِيحُ يَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ بِحُرِّيَّةٍ وَبِرَغْبَةٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْقَى مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ. وَيُعَلِّقُ الذَّهَبِيُّ الفَمِّ عَلَى تَوصِيَةِ يَسُوعَ: "وَأَيَّ بَيْتٍ دَخَلْتُمْ، فَقُولُوا أَوَّلًا: السَّلَامُ عَلَى هٰذَا البَيْتِ"، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: "تَوَجَّهُوا إِلَى الجَمِيعِ، كِبَارًا وَصِغَارًا، لَكِنْ بَرَكَتُكُمْ لَنْ تَحِلَّ عَلَى مَنْ لَيْسُوا أَهْلًا لَهَا". وَأَضَافَ:"فَإِنْ كَانَ فِيهِ ابْنُ سَلَامٍ، فَسَلَامُكُمْ يَحِلُّ بِهِ، وَإِلَّا عَادَ إِلَيْكُمْ"، أَي: "تُطْلِقُونَ عِبَارَاتِ السَّلَامِ، لَكِنَّكُمْ تُطْلِقُونَهَا لِلسَّلَامِ بِنَفْسِهِ، وَأَنَا أُعْطِيهَا لِمَنْ أَرَاهُ خَيْرَ أَهْلٍ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْلًا لَهَا، فَلَنْ تَكُونُوا مُخْطِئِينَ، وَالنِّعْمَةُ الَّتِي تَحْمِلُهَا كَلِمَاتُكُمْ لَنْ تَذْهَبَ سُدًى، بَلْ عَلَى العَكْسِ، تَعُودُ إِلَيْكُمْ، كَمَا وَعَدَهُمْ يَسُوعُ."
وَمِنْ هٰذَا كُلِّهِ نَسْتَنْتِجُ أَنَّ سَلَامَ المَسِيحِ لا يَتَسَاكَنُ وَشَرَّ العَالَمِ؛ فَلَا يُمْكِنُ لِسَلَامِ المَسِيحِ المُحَرِّرِ أَنْ يَحِلَّ فِي قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ حِقْدًا، أَوْ رَغْبَةً فِي الِانْتِقَامِ، أَوْ يَرْفُضُ الصَّفْحَ وَإِقَامَةَ عِلَاقَةٍ سَالِمَةٍ مَعَ الآخَرِ.لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، سَلَامُ الرَّبِّ وَعُنْفُ الإِنْسَانِ وَقَسْوَتُهُ. إِنَّ سَلَامَ الرَّبِّ يَحِلُّ عَلَى ابْنِ السَّلَامِ، أَيْ عَلَى الشَّخْصِ الَّذِي يَقْبَلُ إِرَادَةَ اللهِ فِي حَيَاتِهِ، الشَّخْصِ المُسْتَعِدِّ لِأَنْ يَكُونَ عَلَى صُورَةِ المَسِيحِ، "أَمِيرِ السَّلَامِ"، الَّذِي يُقَابِلُ العُنْفَ بِالسَّلَامِ، وَالشَّرَّ بِالخَيْرِ، وَالأَنَانِيَّةَ بِالعَطَاءِ.سَلَامُ الرَّبِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحِلَّ إِلَّا فِي قَلْبِ مَنْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لإِعْلَانِ قِيَمِ الإِنْجِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلْفَةُ هٰذَا الإِعْلَانِ الشَّتْمَ وَالهُزْءَ مِنَ الآخَرِينَ. وَلِكَيْ يَحِلَّ سَلَامُ الرَّبِّ فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ، لَا بُدَّ أَنْ يَقْبَلَ الإِنْسَانُ أَنْ يُحَوِّلَ قَلْبَهُ إِلَى صُورَةِ قَلْبِ المَسِيحِ المَطْعُونِ بِالحَرْبَةِ، وَهُوَ البَرِيءُ الطَّاهِرُ. فَقَبُولُ السَّلَامِ يُحَوِّلُنَا إِلَى "مَسِيحٍ آخَرَ"!
خَامِسًا: شِفَاءُ المَرْضَى
يُوصِي يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ المُرْسَلِينَ بِعَمَلِ الخَيْرِ وَإِبْعَادِ الشَّرِّ وَالمُوَاسَاةِ، فَيَقُولُ: "اشْفُوا المَرْضَى فِيهَا، وَقُولُوا لِلنَّاسِ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ" (لوقا 10: 9). يَرَى يَسُوعُ فِي المَرَضِ شَرًّا يُعَانِيهِ البَشَرُ، كَنَتِيجَةٍ لِلْخَطِيئَةِ، وَدَلِيلًا عَلَى تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِم (لوقا 13: 16). فَالمَرَضُ هُوَ رَمْزٌ لِلحَالَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا الإِنْسَانُ الخَاطِئُ. وَلَمْ يَنْتَظِرِ يَسُوعُ المَسِيحُ مَجِيءَ المَرْضَى إِلَيْهِ، بَلْ ذَهَبَ هُوَ نَفْسُهُ إِلَيْهِم، حَامِلًا لَهُم فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ خَيْرَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ: البُشْرَى السَّارَّةَ بِالمَلَكُوتِ، وَالشِّفَاءَ مِنْ كُلِّ أَمْرَاضِهِم.
فَشِفَاءُ المَرْضَى هُوَ انْتِصَارُ يَسُوعَ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَإِقَامَةُ مَلَكُوتِ اللهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا. لِذَا، أَشْرَكَ يَسُوعُ رُسُلَهُ وَتَلَامِيذَهُ فِي سُلْطَانِ شِفَاءِ المَرْضَى (متّى 10: 1)، وَذٰلِكَ لِتَأْيِيدِ بِشَارَتِهِم بِالإِنْجِيلِ. فَالمُبَشِّرُ بِالحَقِيقَةِ كَانَ: "يَطْرُدُ الشَّيَاطِينَ، وَيَشْفِي المَرْضَى" (مرقس 16: 17-18). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ قَائِلًا: "لَقَدْ أَعْطَى الرَّبُّ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ القُدْرَةَ عَلَى شِفَاءِ الأَجْسَادِ، فِي انْتِظَارِ أَنْ يُعْهَدَ إِلَيْهِم بِالمُهِمَّةِ الأَكْثَرِ أَهَمِّيَّةً، وَهِيَ شِفَاءُ النُّفُوسِ"(العِظَةُ ٣٢ حَوْلَ إِنْجِيلِ القِدِّيسِ مَتَّى).
وَيَذْكُرُ سِفْرُ أَعْمَالِ الرُّسُلِ فِي مَوَاقِفَ مُتَعَدِّدَةٍ، مَعَجِزَاتِ الشِّفَاءِ الَّتِي تُظْهِرُ قُوَّةَ اسْمِ يَسُوعَ وَحَقِيقَةَ قِيَامَتِهِ، مِثْلَ:
شِفَاءُ بُطْرُسَ الرَّسُولِ لِلْمُقْعَدِ عِنْدَ بَابِ الهَيْكَلِ فِي أُورُشَلِيم (أعمال الرسل 3: 1-3)،
شِفَاءُ الشَّمَّاسِ فِيلِبُّس لِمَجْمُوعَةٍ مِنَ المَمْسُوسِينَ وَالمُقْعَدِينَ وَالكُسَحَى فِي السَّامِرَة (أعمال 8: 7)،
شِفَاءُ بُطْرُسَ الرَّسُولِ لِلمُقْعَدِ أَيْنَاس فِي اللُّدِّ (أعمال 9: 32-34)،
شِفَاءُ بُولُسَ الرَّسُولِ لِكَسِيحٍ فِي لِسْتِرَة (تُرْكِيَا حَالِيًّا) (أعمال 14: 8-10)،
شِفَاءُ بُولُسَ لأَبِي حَاكِمِ جَزِيرَةِ مَالْطَة الَّذِي كَانَ مُصَابًا بِالحُمَّى وَالدُّوسَنْطَارِيَا (أعمال 28: 8-9).
وَيُعَلِّقُ أَغْنَاطِيُوس الأَنْطَاكِيّ عَلَى تَوصِيَةِ المَرْسَلِينَ بِشِفَاءِ المَرْضَى قَائِلًا: "إِنَّ خِدْمَةَ المَرْضَى هِيَ خِدْمَةُ يَسُوعَ نَفْسِهِ فِي أَعْضَائِهِ المُتَأَلِّمَةِ، وَسَوْفَ يَقُولُ يَوْمَ الدَّيْنُونَةِ:" وَمَرِيضًا فَعُدْتُمُونِي" (متّى 25: 36). فَالمَرِيضُ هُوَ صُورَةُ المَسِيحِ، وَعَلَامَتُهُ الظَّاهِرَةُ، وَخِدْمَتُهُ هِيَ مَكَانُ اللِّقَاءِ مَعَ الرَّبِّ نَفْسِهِ. وَتُقَدِّمُ القِدِّيسَةُ تِيرِيزَا الكَالْكُوتِيَّة خِبْرَتَهَا مَعَ المَرْضَى فَتَقُولُ: "نَحْنُ لَا نَحْكُمُ عَلَى هٰؤُلَاءِ المَرْضَى، بَلْ نَهْتَمُّ بِهِم، وَلَا نَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يُعْلِمُونَا بِمَا حَدَثَ لَهُمْ، أَوْ كَيْفَ أَصْبَحُوا مَرْضَى. وَأَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ يُبْعَثُ لَنَا بِرِسَالَةٍ أَكِيدَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَضِ السِّيدَا: فَهُوَ يُرِيدُنَا أَلَّا نَرَى فِيهِ أَيَّ شَيْءٍ سِوَى الفُرْصَةِ لِإِظْهَارِ حُبِّنَا. إِنَّ مَرْضَى السِّيدَا، رُبَّمَا قَدْ أَيْقَظُوا حُبًّا مَلِيئًا بِالحَنَانِ لَدَى كَثِيرٍ مِنَ الأَشْخَاصِ الَّذِينَ تَخَلَّوْا عَنْ هٰذِهِ المَشَاعِرِ فِي حَيَاتِهِم." (A Simple Path, 87)
سَادِسًا: عَدَمُ إِصْدَارِ الحُكْمِ
يُوصِي يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ المُرْسَلِينَ بِعَدَمِ إِصْدَارِ الحُكْمِ، فَالتَّلَامِيذُ غَيْرُ مُخَوَّلِينَ لِإِصْدَارِ الحُكْمِ عَلَى أَحَدٍ.
فَاللهُ وَحْدَهُ هُوَ سَيِّدُ العَالَمِ، وَلهُ الوِلاَيَةُ وَالحُكْمُ. يَقُولُ الرَّبُّ: "وَأَيَّةَ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمْ وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَى سَاحَاتِهَا، وَقُولُوا: حَتَّى الغُبَارُ العَالِقُ بِأَقْدَامِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلَكِنِ اعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَدِ اقْتَرَبَ" (لوقا 10: 10–11). فَفِي حَالَةِ الرَّفْضِ، يَحُثُّ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِالهُدُوءِ، لِيَجْعَلُوا ذٰلِكَ السَّلَامَ "يَعُودُ إِلَيْهِم"، دُونَ أَيِّ اضْطِرَابٍ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ قَائِلًا: "تُطْلِقُونَ عِبَارَاتِ السَّلَامِ، لَكِنَّكُمْ تُطْلِقُونَهَا لِلسَّلَامِ بِنَفْسِهِ، وَأَنَا أُعْطِيهَا لِمَنْ أَرَاهُ خَيْرَ أَهْلٍ لَهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بِأَهْلٍ لَهَا، فَلَنْ تَكُونُوا مُخْطِئِينَ، وَالنِّعْمَةُ الَّتِي تَحْمِلُهَا كَلِمَاتُكُمْ لَنْ تَذْهَبَ سُدًى، بَلْ عَلَى العَكْسِ، تَعُودُ إِلَيْكُمْ، لِذٰلِكَ قَالَ: وَإِلَّا عَادَ إِلَيْكُمْ."
فِي الحَقِيقَةِ، إِنَّ السَّلَامَ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ لِسَانُ المُبَشِّرِ، يَسْتَقِرُّ عَلَى البَيْتِ، إِذَا وُجِدَ فِيهِ أُنَاسٌ مُهَيَّأُونَ لِلْحَيَاةِ، يَتَّبِعُونَ بِطَاعَةٍ التَّعَالِيمَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُمْ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لا يُرِيدُ سَمَاعَهَا، فَلَنْ يَبْقَى المُبَشِّرُ بِدُونِ ثَمَرٍ، بَلْ إِنَّ السَّلَامَ الَّذِي تَمَنَّاهُ سَيَرْجِعُ إِلَيْهِ مَعَ الثَّوَابِ الَّذِي يُعْطِيهِ الرَّبُّ لَهُ مُقَابِلَ أَمَانَتِهِ فِي العَمَلِ.
فَاحْتِرَامُ حُرِّيَّةِ الآخَرِينَ، وَرَفْضُهُم لَنَا، هُوَ جُزْءٌ مِنْ تَحْقِيقِ المَلَكُوتِ. وَنَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ، أَنَّ طُرُقَ المَسِيحِ لا تَمْلِكُ مَعَهَا شَيْئًا مِنَ العَالَمِ، فَلا وَسَائِلَ قَهْرٍ، وَلَا إِكْرَاهٍ، وَلَا أَحْكَامٍ عَلَى النَّوَايَا وَالقُلُوبِ. وَلكِنَّ الضَّمَانَ الوَحِيدَ لِلتَّلَامِيذِ فِي إِرْسَالِيَّتِهِم هُوَ شَخْصُ يَسُوعَ نَفْسُهُ، وَسَلَامُهُ.
خُلَاصَةٌ
يَنْفَرِدُ إِنْجِيلُ القِدِّيسِ لُوقَا بِذِكْرِ مَرَّتَيْنِ عَنْ إِرْسَالِيَّةِ التَّلَامِيذِ: الإِرْسَالِيَّةُ الأُولَى: خَاصَّةٌ بِالِاثْنَيْ عَشَرَ، وَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الشَّعْبِ اليَهُودِيِّ (لوقا 9: 1–6). أَمَّا الإِرْسَالِيَّةُ الثَّانِيَةُ: فَخَاصَّةٌ بِـاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ تَلْمِيذًا، وَهِيَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الجَمِيعِ، حَتَّى الشُّعُوبِ الوَثَنِيَّةِ (لوقا 10: 1–20).
فَإِنَّ رَبَّنَا يَسُوعَ المَسِيحَ يُرْسِلُ لِلْيَهُودِ كَمَا لِلأُمَمِ، طَالِبًا صَدَاقَتَهُمْ، بِلا تَمْيِيزٍ، وَدَاعِيًا الجَمِيعَ إِلَى قُبُولِ البُشْرَى. تَرْتَكِزُ مَهَمَّةُ هَؤُلَاءِ الاِثْنَيْنِ وَالسَّبْعِينَ عَلَى تَهْيِئَةِ البَشَرِ لِقُرْبِ مَجِيءِ مَلَكُوتِ اللهِ، فَأَوْصَاهُمْ:
بِالصَّلَاةِ إِلَى رَبِّ الحَصَادِ، كَيْ يُرْسِلَ فَعَلَةً لِحَصَادِهِ؛
وَبِحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ؛
وَبِنَقْلِ السَّلَامِ إِلَى كُلِّ بَيْتٍ؛
وَبِقَبُولِ الضِّيَافَةِ بِالمَحَبَّةِ وَالتَّجَرُّدِ؛
وَبِدُخُولِ المُدُنِ الرَّاغِبَةِ فِي قَبُولِ البِشَارَةِ؛
حَتَّى إِلَى تَفْضِيحِ الرَّفْضِ بِوَقَارٍ وَهُدُوءٍ، كَمَا أَمَرَهُم: "نَنْفُضُ الغُبَارَ".
وَكُلُّ ذٰلِكَ قَبْلَ أَنْ يُصْدِرَ اللهُ حُكْمَهُ عَلَى سُكَّانِ المَدِينَةِ الرَّافِضِينَ لِلْبُشْرَى.
أَكَّدَ لَهُم الرَّبُّ أَنَّ سُلْطَتَهُمْ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْهُ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يُرْسِلُهُم لِعَمَلٍ كَبِيرٍ جِدًّا فِي وَقْتٍ يَقِلُّ فِيهِ العَامِلُونَ. وَفِي هٰذَا السِّيَاقِ، تَجِدُ كَلِمَاتُ البَابَا القِدِّيسِ يُوحَنَّا بُولُسَ الثَّانِي صَدَاهَا، حِينَ قَالَ لِأَسَاقِفَةِ التَّشَاد: "أَدْعُوكُمْ مَعَ مُؤْمِنِيكُمْ إِلَى رَفْعِ الصَّلَاةِ، كَيْ يُرْسِلَ اللهُ عَامِلِينَ صَالِحِينَ إِلَى كَرْمِهِ، عَامِلِينَ لا يَتَّكِلُونَ عَلَى المَالِ، وَلا يَطْمَئِنُّونَ إِلَى الزَّادِ، وَلا يَنْتَعِلُونَ حِذَاءً خَوْفًا عَلَى صِحَّتِهِم، وَلا يَتَوَقَّفُونَ فِي الطُّرُقَاتِ لِلسَّلَامِ وَالكَلَامِ وَإِضَاعَةِ الوَقْتِ".
إِنَّ كُلَّ مَسِيحِيٍّ نَالَ سِرَّ المَعْمُودِيَّةِ، هُوَ رَسُولٌ فِي خِدْمَةِ سِرِّ البِشَارَةِ، فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ. وَعَلَيْهِ أَنْ يُمَهِّدَ السَّبِيلَ لِدُخُولِ الرَّبِّ وَحُلُولِهِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ وَقَرْيَةٍ وَمَدِينَةٍ وَبَلَدٍ وَقَارَّةٍ. فَالرِّسَالَةُ لَيْسَتْ حِكْرًا عَلَى الرُّسُلِ وَخُلَفَائِهِم مِنَ الأَسَاقِفَةِ وَالكَهَنَةِ وَالشَّمَاسَةِ، بَلْ هِيَ وَاجِبُ كُلِّ مُعَمَّدٍ فِي الكَنِيسَةِ. كُلُّنَا نُشَكِّلُ جُزْءًا مِنْ فَرِيقِ الرِّسَالَةِ هٰذَا، كُلُّ مُعَمَّدٍ يَحْمِلُ فِي طَبِيعَةِ مَعْمُودِيَّتِهِ دَعْوَةَ الرَّبِّ لَهُ لِلِانْطِلَاقِ، وَالمُشَارَكَةِ فِي الحَصَادِ، وَإِعْلَانِ إِنْجِيلِ الرَّبِّ.وَإِنْجِيلُ هٰذَا اليَوْمِ يَدْعُونَا نَحْنُ اليَوْمَ لِأَنْ نَقُومَ بِإِعْلَانِ مَحَبَّةِ الرَّبِّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، مَهْمَا كَانَ لَوْنُهُ، أَوْ أَصْلُهُ، أَوْ مُعْتَقَدُهُ؛ وَلِإِعْلَانِ إِنْجِيلِ السَّلَامِ، وَالعَدْلِ، وَالرَّحْمَةِ.
دُعَاء
أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ،
يَا مَنْ تَعَمَّدْنَا بِاسْمِ ابْنِكَ يَسُوعَ المَسِيحِ،
وَأَصْبَحْنَا تَلَامِيذَهُ،
أَرْسِلْنَا إِلَى العَالَمِ
لِكَيْ نُعْلِنَ إِنْجِيلَ السَّلَامِ وَالمَحَبَّةِ وَالخَلَاصِ،
بِرُوحِ الصَّلَاةِ، وَالفَقْرِ، وَالتَّجَرُّدِ،
فَنَبْذُلَ حَيَاتَنَا بِوَدَاعَةِ الحَمَلِ،
لِنُحَوِّلَ الذِّئَابَ إِلَى حِمْلَانٍ،
وَنَحْمِلَ السَّلَامَ وَالمُصَالَحَةَ لِلنَّاسِ،
وَنَهْتَمَّ بِالمَرْضَى وَنُوَاسِيهِم،
فَتُصْبِحَ حَيَاتُنَا بِأَكْمَلِهَا مُكَرَّسَةً
لِمَجْدِ اللهِ، وَخَلَاصِ النُّفُوسِ. آمِينَ.