موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٩ أغسطس / آب ٢٠٢٥

عَوْدة المَسيح والاسْتعْداد لاسْتقْبَالِه

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد التَّاسِع عَشَر من زمن السَّنة: عَوْدة المَسيح والاسْتعْداد لاسْتقْبَالِه (لوقا 12: 32-40)

الأحَد التَّاسِع عَشَر من زمن السَّنة: عَوْدة المَسيح والاسْتعْداد لاسْتقْبَالِه (لوقا 12: 32-40)

 

النص الإنجيلي (لوقا 12: 32-40)

 

 32 لا تَخَفْ أَيُّها القَطيعُ الصَّغير، فقد حَسُنَ لدى أَبيكم أَن يُنعِمَ عَليكُم بِالمَلَكوت. 33 بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها واجعَلوا لَكُم أَكْياساً لا تَبْلى، وكَنزاً في السَّمواتِ لا يَنفَد، حَيثُ لا سارِقٌ يَدنو ولا سوسٌ يُفسِد. 34 فحَيثُ يَكونُ كَنزُكُم يَكونَ قَلبُكم. 35 ((لِتَكُنْ أَوساطُكُم مَشدودة، ولْتَكُنْ سُرُجُكُم مُوقَدَة، 36 وكونوا مِثلَ رِجالٍ  يَنتَظِرونَ رُجوعَ سَيِّدِهم مِنَ العُرس، حتَّى إِذا جاءَ وقَرَعَ البابَ يَفتَحونَ لَه مِن وَقتِهِم. 37 طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين. الحَقَّ. أَقولُ لكم إِنَّه يَشُدُّ وَسَطَه ويُجلِسُهُم لِلطَّعام، ويَدورُ علَيهم يَخدُمُهم. 38 وإِذا جاءَ في الهَزيعِ الثَّاني أَوِ الثَّالِث، ووَجدَهم على هذِه الحال فَطوبى لَهم. 39 وأَنتُم تعلَمونَ أَنَّه لْو عَرَفَ رَبُّ البَيتِ في أَيَّةِ ساعَةٍ يأتي السَّارِق لَم يَدَعْ بَيتَه يُنقَب. 40 فكونوا أَنتُم أَيضاَ مُستَعِدِّين، ففي السَّاعَةِ الَّتي لا تتَوقَّعونَها يَأتي ابنُ الإنسان.

 

 

مُقَدِّمَة


يَعرِضُ لُوقا الإِنجِيلِيّ تَعلِيمَ السَّيِّدِ المَسِيح (لوقا 12: 32-40)، حَيثُ يَحُثُّ التَّلامِيذَ عَلَى السَّهَرِ فِي انْتِظَارِ عَودَتِهِ المَجِيدَةِ لِلحُصُولِ عَلَى المَلَكُوتِ. ويُبَيِّنُ فِيهِ أَبْرَزَ سِمَاتِ هٰذَا "القَطِيعِ الصَّغِيرِ" الَّذِي دُعِيَ لِيَكُونَ مُنسَجِمًا وَمُستَعِدًّا لاسْتِقبَالِ رَاعِيهِ السَّمَاوِيّ، الَّذِي هُوَ عَرِيسُهُ وَمُخَلِّصُهُ، وَالآتي فِي سَاعَةٍ لا يَتَوَقَّعُهَا أَحَد. وإِنَّ هٰذَا التَّعلِيمَ الَّذِي وَجَّهَهُ الرَّبُّ إِلَى تَلامِيذِهِ أَمْس، إِنَّمَا يُوَجَّهُ أَيْضًا إِلَيْنَا نَحْنُ الْمُؤمِنِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، لِنَحْيَا فِي يَقَظَةٍ دَائِمَةٍ وَرَجَاءٍ مُثَابِرٍ. ومِنْ هُنَا تَكمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ هٰذَا النَّصِّ الإِنجِيلِيّ وَتَطْبِيقَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ فِي حَيَاتِنَا اليَومِيَّة.

 

 

أوَلاً: وَقَاِئع النَّص الإنْجيلي (لوقا 12: 32-40)

 

 32لا تَخَفْ أَيُّها القَطيعُ الصَّغير، فقد حَسُنَ لدى أَبيكم أَن يُنعِمَ عَليكُم بِالمَلَكوت

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "لا تَخَفْ" إِلَى رِسَالَةِ تَعْزِيَةٍ وَتَشْجِيعٍ لَنَا بِعَدَمِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْغَدِ، أَوْ مِنْ قِلَّةِ ٱلْغِذَاءِ وَٱلْكِسَاءِ، أَوْ مِنَ ٱلْخَطَرِ أَوِ ٱلتَّهْدِيدِ، أَوْ مِنْ إِنسَانٍ عَدُوٍّ، أَوْ مِنْ شَيْطَانٍ؛ لِأَنَّ ٱللهَ مَعَنَا وَيَرْعَانَا.  وَقَد أَورَدَ يَسُوعُ فِي الإِنجِيلِ عَلَى مَسَامِعِنَا هٰذِهِ الكَلِمَاتِ المُعَزِّيَةَ وَالمُشَجِّعَةَ الَّتِي تَبْعَثُ فِينَا الثِّقَةَ وَالرَّجَاءَ:

• "لا تَخَفْ، يا زَكَرِيَّا" (لوقا 1: 13)

• "لا تَخَافِي، يا مَريَم" (لوقا 1: 30)

• "يا يُوسُفَ ابنَ داوُد، لا تَخَفْ" (متى 1: 20)

• "لا تَخَافُوا، يا رُعَاة" (لوقا 2: 10)

• "ثِقُوا، أَنا هُوَ، لا تَخَافُوا!" (متى 14: 27)

• "وَلَكِن ثِقُوا، إِنِّي قَد غَلَبتُ العالَم" (يوحنا 16: 33)

• "لا تَخَافُوا، أَنتُم أَثمَنُ مِنَ العَصافِيرِ جَمِيعًا" (متى 10: 31)

• "هاءَنَذَا مَعَكُم طِوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهَايَةِ العالَم" (متى 28: 20).

وَأَخِيرًا، فِي نَصِّنَا هٰذَا، تَتَوَجَّهُ كَلِمَةُ يَسُوعَ «لا تَخَفْ» إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا. نَرَى فِي هٰذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ تَعبِيرَ "لا تَخَفْ» مُرْتَبِطٌ بِسِيَاقِ الدَّعْوَةِ. وَهٰذِهِ الدَّعْوَةُ تُؤَكِّدُ أَنَّ العَلاقَةَ الَّتِي يَكُونُ اللهُ طَرَفًا فِيهَا لَا تُخْفِقُ أَبَدًا. لِذَلِكَ يَنبَغِي عَلَى التَّلَامِيذِ أَلَّا يُجَازِفُوا بِالبَحثِ عَن أَمَانٍ آخَرَ خَارِجَ العَلاقَةِ بِالآبِ الَّتِي لَا تَفْشَلُ أَبَدًا، مِن خِلَالِ يَسُوعَ. فَلَا دَاعِيَ لِلخَوفِ مَا دَامَ الرَّاعِي الأَمِينُ لِوَعدِهِ مُرَافِقًا لَهُم. وَالإِيمَانُ بِكَلَامِ يَسُوعَ هُوَ الوَسِيلَةُ الوَحِيدَةُ لِلتَّغَلُّبِ عَلَى الخَوفِ. كَم هِيَ جَمِيلَةٌ وَمُطَمْئِنَةٌ وَمُعَزِّيَةٌ هٰذِهِ الكَلِمَاتُ! إِنَّهَا تُبعَثُ الدِّفءَ وَالسَّلَامَ فِي قُلُوبِنَا وَتَجعَلُنَا نَنتَظِرُ الرَّبَّ بِثِقَةٍ بَعِيدًا عَن كُلِّ قَلَقٍ أَو خَوفٍ أَوِ اضطِرَابٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَيُّهَا القَطِيعُ الصَّغِير" فَتُشِيرُ إِلَى استِعَارَةِ الخِرَافِ الَّتِي كَانَت مَأْلُوفَةً فِي العَهدِ القَدِيمِ لِتَمثِيلِ شَعبِ اللهِ (تَكوين 48: 15؛ هُوشَع 4: 16). وَهِيَ تُعَبِّرُ عَنِ الحُبِّ وَالمَوَدَّةِ، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى اللهِ الَّذِي هُوَ الرَّاعِي وَيَهتَمُّ بِشَعبِهِ: "كَرَاعٍ يَرعَى قَطِيعَهُ، بِذِرَاعِهِ يَجمَعُهُ، وَفِي حِضنِهِ يَحمِلُهُ" (أشعيا 40: 11). وَهُوَ الرَّبُّ الَّذِي يُحِبُّ وَيَحمِي شَعبَهُ المُختَارَ (إِرمِيَا 31: 10؛ حِزقِيَال 34)، كَمَا جَاءَ فِي المَزَامِير: "الرَّبُّ راعِيَّ فَلَا يَعنِينِي شَيء، فِي مَرَاعٍ نَضِيرَةٍ يُرِيحُنِي. مِيَاهَ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي، يُنعِشُ نَفسِي" (مزمور 23: 1-2). وَلَكِنَّ اللهَ لَا يَنسَى ذَلِكَ القَطِيعَ وَإِن كَانَ صَغِيرًا.  وَبِهٰذِهِ العِبَارَةِ يُؤَكِّدُ يَسُوعُ أَنَّ تَلاَمِيذَهُ لَن يَكُونُوا أَفرَادًا مُتَفَرِّقِينَ فِي العَالَمِ، بَل سَيَكُونُونَ حَقِيقَةً مُوَحَّدَةً مِثلَ القَطِيعِ. كَمَا أَنَّ الخِرَافَ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الجَماعَةُ تَتَوَحَّدُ فِي الرَّاعِي، كَذَلِكَ تَلاَمِيذُ يَسُوعَ يُشَكِّلُونَ قَطِيعًا وَاحِدًا مِن خِلَالِ يَسُوعَ الرَّاعِي الصَّالِح، مَبدَأ وَحدَتِهِم. وَفِي نُصُوصٍ أُخرَى فِي العَهدِ الجَدِيدِ تُشِيرُ عِبَارَةُ "القَطِيعُ الصَّغِير" إِلَى الكَنِيسَةِ بِكَونِهَا مَسؤُولِيَّةً رَعَوِيَّةً عَلَى البِيعةِ (أَعمالُ الرُّسُل 20: 28). تُشِيرُ عِبَارَةُ "القَطيعُ" إِلَى استِعَارَةٍ مَأْلُوفَةٍ فِي العَهدِ القَدِيمِ لِتَمثِيلِ شَعبِ اللهِ (تَكوين 48: 15). وَقَد طَبَّقَهَا يَسُوعُ عَلَى:

• إِسرائيل (متى 9: 36)

• وعلى اليَهُودِ الخَاطِئِين (متى 10: 6)

• وعلى فَرِيقِ التَّلَامِيذ (لوقا 12: 32).

شَبَّهَ المَسِيحُ تَلَامِيذَهُ بِالخِرَافِ، لأَنَّهُ هُوَ الرَّاعِي الصَّالِح (يوحنا 10: 11).

ٱسْتَخْدَمَ يَسُوعُ تَعبيرَ "ٱلْقَطِيعُ ٱلصَّغِير" لِيُظْهِرَ أَنَّ ٱللهَ ٱخْتَارَ شَعْبَهُ وَأَحَبَّهُ وَحَمَاهُ، لَا لِأَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنْ سَائِرِ ٱلشُّعُوبِ، بَلْ لِأَنَّهُمُ ٱلأَصْغَرُ وَٱلأَقَلُّ شَأْنًا، كَمَا جَاءَ فِي ٱلْكِتَابِ: "لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ ٱلشُّعُوبِ، ٱلْتَصَقَ ٱلرَّبُّ بِكُمْ وَٱخْتَارَكُمْ، لِأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ ٱلشُّعُوبِ" (تَثْنِيَة 7: 7-8). وَهٰكَذَا يَتَصَرَّفُ ٱللهُ: يُحِبُّ ٱلإِنسَانَ وَيَخْتَارُهُ، لَا لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ، وَلَا لِأَنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِصِفَاتٍ خَاصَّةٍ، بَلْ لِأَنَّهُ سُرَّ بِذٰلِكَ. فَٱللهُ يُحِبُّ بِمَحَبَّةٍ مَجَّانِيَّةٍ، وَهٰذِهِ ٱلْمَحَبَّةُ هِيَ سَنَدُ رَجَائِنَا وَضَمَانُ حَيَاتِنَا، حَتَّى وَإِنْ بَدَوْنَا صِغَارًا فِي أَعْيُنِ ٱلْعَالَمِ. وَمَنْ يَتَذَوَّقْ هٰذِهِ ٱلْمَحَبَّةَ، يَنْطَلِقْ لِيَخْدِمَ إِخْوَتَهُ بِأَمَانَةٍ، شَاهِدًا أَنَّهُ مِنْ قَطِيعِ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِح". وَيُعْتَبَرُ القَطِيعُ صَغِيرًا لأَنَّهُ مُختَار، كَمَا قَالَ السَّيِّدُ المَسِيح: "إِنَّ جَمَاعَةَ النَّاسِ مَدْعُوُّون، وَلَكِنَّ القَلِيلِينَ هُمُ المُختَارُون" (متى 22: 14).  وَالمُختَارُونَ هُم أُمَنَاءُ الرَّبّ، وَأُمَنَاءُ الرَّبِّ لَيسُوا العَدَدَ الأَوفَرَ بَينَ البَشَر، بَل هُم مَا يُسَمِّيهِ الكِتَابُ المُقَدَّس: "البَقِيَّةُ الأَمِينَة" أَو "البَقِيَّةُ البَاقِيَة" (رومة 9: 27). هُمُ الَّذِينَ أَخضَعُوا مَشِيئَتَهُم لِمَشِيئَةِ اللهِ وَقَبِلُوا دَعوَتَهُ، وَلَيسَ لَدَيهِم دَولَةٌ وَلَا سُلطَةٌ فِي وَسطِ عَالَمٍ كَبِيرٍ، بَل لَدَيهِم أَعدَاءٌ أَشدَّاءُ كَثِيرُون. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِير قَائِلًا: " إِنَّهُ القَطِيعُ الصَّغِيرُ فِي عُيُونِ العَالَم، لَكِنَّهُ عَلَى صَدرِ اللهِ يَتَمَتَّعُ بِنِعمَتِهِ الإِلَهِيَّة". تُشِيرُ عِبَارَةُ " َأبيكُم" ِإلَى يَسُوعَ المَسِيحِ الَّذِي يُعَلِّمُنَا أَن نَدعُوَ اللهَ «أَبَانَا». وَفِي هٰذَا طُمَأنِينَةٌ عَظِيمَةٌ: فَالأَبُ يَعنَى بِأَبنَائِهِ وَيَتَكَفَّلُ بِهِم، وَيُدَبِّرُ لِحِسَابِهِم كُلَّ مَا يَحتاجُونَ. وَهَكَذَا يُعلِنُ اللهُ ذَاتَهُ لِمُختَارِيهِ، لَا مُجرَّدَ مَلِكٍ أَو دَيَّانٍ، بَل أَبًا يُزِيلُ هُمُومَهُم وَمَخَاوِفَهُم فِي مَا يَتَعَلَّقُ بِحَاجَاتِهِم الجَسَدِيَّة. تُفِيدُ عِبَارَةُ " يُنعِمَ عَلَيكُم" أَنَّ المَلَكُوتَ مَوهِبَةٌ مَجَّانِيَّةٌ. فَالتَّلَامِيذُ يَعبُرُونَ التَّارِيخَ بِيَقَظَةٍ وَمَسؤُولِيَّةٍ، وَيَحصَلُونَ فِي نِهَايَةِ المَسِيرَةِ عَلَى نِعمَةٍ مَجَّانِيَّةٍ وَهِيَ المَلَكُوت. وَمِن ثَمَّ، فَالمَلَكُوتُ لَا يُكتَسَبُ بِالجَهدِ وَالتَّعَبِ فَقَط، بَل بِالأَسَاسِ يَعتَمِدُ عَلَى لُطفِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ الَّتِي تُشَارِكُ الإِنسَانَ فِي حَيَاتِهِ الإِلَهِيَّة. تُشِيرُ عبارة " المَلَكوت" هُنَا إِلَى العَلَاقَةِ الحَيَّةِ مَعَ اللهِ الآب. وَقَد وَصَفَ بُولُسُ الرَّسُولُ هٰذِهِ العَلَاقَةَ قَائِلًا: "مَا لَم تَرَهُ عَينٌ وَلَا سَمِعَت بِهِ أُذُنٌ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَر، ذَلِكَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ" (1 قورنتس 2: 9). وَبِذَلِكَ يُعلِنُ يَسُوعُ أَنَّ الغِنَى الحَقِيقِيَّ لَيسَ فِي خَيرَاتِ الأَرضِ، بَل فِي المَلَكُوتِ الَّذِي يَهَبُهُ الآبُ لِأَبنَائِهِ كَكَنزٍ أَبدِيٍّ فِي السَّمَاءِ. بهذه العبارات الأربع، يَرسُمُ يسوع ملامحَ الكنيسة: قطيع صغير في نظر العالم، لكنه ابن للآب، يَحصَلُ على المَلَكوتِ كهِبَةٍ مجّانيةٍ من محبّة الله، ويعيشُ منذ الآن في انتظار اكتماله الأبدي. تَدْعُونَا إِلَى عَدَمِ ٱلْخَوْفِ وَعَدَمِ ٱلِٱسْتِسْلَامِ أَمَامَ أَيِّ أَحْدَاثٍ، لِأَنَّ ٱللهَ ٱلَّذِي أَقْسَمَ فِي ٱلْمَاضِي أَمِينٌ فِي حَاضِرِنَا، لِيُؤَمِّنَ لَنَا ٱلجَوْهَرِيَّ كَأَبْنَائِهِ.

 

33  بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها واجعَلوا لَكُم أَكْياساً لا تَبْلى، وكَنزاً في السَّمواتِ لا يَنفَد، حَيثُ لا سارِقٌ يَدنو ولا سوسٌ يُفسِد.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "بِيعوا أَموالَكم" إِلَى مبدأ رَبَّانِيٍّ مُفَادُهُ أَنَّ أَتبَاعَ يَسُوعَ يَجِبُ أَلَّا يُعِيرُوا المُقتَنَيَاتِ الأَرضِيَّةَ اهتِمَامًا مُفرِطًا. لَيسَ المَقصُودُ هُنَا بَيعَ كُلِّ شَيءٍ وَالفَقرَ التَّام، بَل تَحرِيرُ الإِنسَانِ مِنَ التَّبَعِيَّةِ العَميَاء لِلمَادَّةِ وَالاِستِهلَاكِ وَالخَدَمَاتِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا. فَالمَادَّةُ لَا تُؤمِّنُ لِلإِنسَانِ حِمَايَتَهُ وَسَعَادَتَهُ، بَل هُوَ مَعرُوضٌ دَائِمًا لِلفَقْدَانِ. كَمَا قَالَ السَّيِّدُ المَسِيح: "لَا تَكنِزوا لِأَنفُسِكُم كُنُوزًا فِي الأَرض، حَيثُ يُفسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأ، وَيَنقُبُ السَّارِقُونَ فَيَسرِقُون" (متى 6: 19). وَبِذَلِكَ يُدعَى التِّلميذُ لِيُقَاسِمَ مَا عِندَهُ مَعَ غَيرِهِ. كَمَا جَاءَ فِي سِفرِ الحِكمَة: "أَن يَشتَرِكَ القِدِّيسُونَ فِي الخَيرَاتِ وَالمَخَاطِرِ عَلَى السَّوَاءِ" (الحِكمَة 18: 9). إِلَّا أَنَّ غِيابَ هٰذَا المَبدَإِ يُؤَدِّي إِلَى كَارِثَةٍ اِقتِصَادِيَّةٍ وَرُوحِيَّةٍ لَا مَثِيلَ لَهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "أَموالَكُم" في الأصل اليوناني τὰ ὑπάρχοντα ὑμῶν (بِالعِبرِيَّة: מָּמוֹן) فَتُشِيرُ إِلَى كُلِّ مَا يَضَعُ فِيهِ الإِنسَانُ ثِقَتَهُ. أَمَّا التِّلميذُ فَثِقَتُهُ فِي المَلَكُوتِ، وَيَنَالُ ثَروَةَ المَلَكُوتِ عِندَمَا يُشَارِكُ الآخَرِينَ فِيمَا عِندَهُ. أمَّا عبارة "تَصَدَّقوا" فِي الأَصلِ اليُونَانِيِّ: ἐλεημοσύνην (مَعناهَا الصَّدَقَة)، أَيِ النُّزُولُ وَالنَّظَرُ نَحوَ الأَدنَى. وَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ العَطَاءَ هُوَ الطَّرِيقُ لِلتَّغَلُّبِ عَلَى خَطَرِ الغِنَى. وَهُنَا يُقَدِّمُ لَنَا السَّيِّدُ المَسِيحُ مَفهُومًا جَدِيدًا لِلعَطَاءِ: أَن نَتَخَلَّى عَن كُنُوزِ العَالَمِ وَنُقَدِّمَهَا لِلفُقَرَاءِ، فَيَحفَظُوهَا كَكُنُوزٍ لَنَا فِي السَّمَاءِ. إِنَّ الثَّروَةَ الحَقِيقِيَّةَ يَنَالُهَا الإِنسَانُ عِندَمَا يُقَاسِمُهَا مَعَ الآخَرِينَ. أمَّا عِبارة " ٱجعَلوا لَكُم أَكْياسًا لَا تَبْلَى، وَكَنزًا فِي السَّمَاوَاتِ لَا يَنفَد " فتُشِيرُ إِلَى التِزَامِ التِّلميذِ فِي خِدمَةِ الرَّبِّ بِقَرَارٍ حَاسِمٍ: عَلَيهِ أَن يَختَارَ بَينَ كَنزٍ وَكَنزٍ، بَينَ نَظرَةٍ وَنَظرَةٍ، بَينَ خِدمَةٍ وَخِدمَةٍ. فَهُنَاكَ كُنُوزٌ أَرضِيَّةٌ فَانِيَةٌ، وَكُنُوزٌ سَمَاوِيَّةٌ بَاقِيَةٌ، وَالأَخِيرَةُ هِيَ الَّتِي تُؤمِّنُ لِلإِنسَانِ العَلَاقَةَ الحَيَّةَ مَعَ اللهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَكْياسًا لَا تَبْلَى" فَتُشِيرُ إِلَى أَوعِيَةٍ رُوحِيَّةٍ صَالِحَةٍ لِاحتِوَاءِ الحَيَاةِ الأَبدِيَّةِ؛ إِذ لَا يُمكِنُ وَضعُ الحَيَاةِ الأَبدِيَّةِ فِي شَيءٍ مَقدَّرٍ لَهُ أَن يَفنَى. وتشير عِبارة "حَيثُ لَا سارِقٌ يَدنُو وَلَا سُوسٌ يُفسِد" إِلَى كُلِّ مَا يُهَدِّدُ مُقتَنَيَاتِنَا الأَرضِيَّةَ وَيُدَمِّرُهَا، وَلَكِنَّهُ لَا يَستَطِيعُ أَن يُفسِدَ كَنزَنَا الرُّوحِيَّ. وَهٰذَا الكَنزُ هُوَ مَا يَمنَحُنَا اللهُ الآب: بُنُوَّتُنَا لَهُ وَعَلَاقَتُنَا بِهِ. وَهِيَ عِلَاقَةٌ مَضمُونَةٌ، قَد اجتَازَتِ المَوتَ بِالفِعلِ، وَلَم تَعُد رَهِينَةً لَهُ. بِهَذِهِ التَّعَالِيمِ يَدعُونَا يَسُوعُ لِلحُرِّيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ: أَلَّا نَستَعبِدَ لِلمَادَّةِ، بَل نَجعَلَ كَنزَنَا الحَقِيقِيَّ فِي السَّمَاءِ، حَيثُ اللهُ الآبُ الَّذِي يُنعِمُ عَلَينَا بِالمَلَكُوتِ. وَتَدْعُونَا هٰذِهِ ٱلْآيَةُ إِلَى ٱلتَّخَلِّي عَمَّا هُوَ أَرْضِيٌّ وَٱلاتِّحَادِ بِمَا هُوَ لِلهِ أَبِينَا ٱلسَّمَاوِيِّ، بِمَلَكُوتِهِ ٱلَّذِي لَا فَنَاءَ لَهُ

34  حَيثُ يَكونُ كَنزُكُم يَكونَ قَلبُكم

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "حَيثُ يَكونُ كَنزُكُم يَكونَ قَلبُكُم" في المعنى الكتابي العام إِلَى أَنَّ طَرِيقَةَ اِستِخدَامِ المَوَارِدِ وَالخَيرَاتِ تُعَبِّرُ عَن قِيَمِنَا وَمَبَادِئِنَا الحَقِيقِيَّةِ. فَلَا يُمكِنُ فَصلُ مَا نُؤمِنُ بِهِ عَمَّا نَعمَلُهُ. فَالكَنزُ الَّذِي نَحتَفِظُ بِهِ يَكشِفُ عَن أَولَوِيَّاتِنَا وَاهتِمَامَاتِنَا الفِعلِيَّةِ. وَلِذَلِكَ جَاءَت دَعوَةُ يَسُوعَ: "إِذا أَرَدتَ أَن تَكُونَ كَامِلاً، فَاذهَبْ وَبِعْ أَموَالَكَ وَأَعطِهَا لِلفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ فَاتَّبِعنِي" (متى 19: 21). أَمَّا عِبَارَةُ "قَلبُكُم" فَتُشِيرُ في الكتاب المقدّس إِلَى مَا هُوَ دَاخِلِيٌّ وَمَركَزِيٌّ وَعَمِيقٌ وَخَفِيٌّ (خُرُوج 15: 8). وَالقَلبُ كعُضوٍ فِي الجِسمِ كَانَ أَكثَرَ أَهمِّيَّةً مِنَ الدِّمَاغِ أَوِ الرَّأسِ فِي الفِكرِ البَشرِيِّ القَدِيمِ. فَهُوَ يُعتَبَرُ مَركَزَ العَوَاطِفِ، سَوَاءٌ كَانَت جَسَدِيَّةً أَم رُوحِيَّةً (مَزمُور 62: 8؛ يُوحَنَّا 14: 1)، وَمَركَزًا لِلعَقلِ (خُرُوج 35: 35)، وَالرَّغبَةِ (نِحمِيَا 4: 6)، وَالنِّيَّةِ (مَزمُور 12: 2). وَبِحَسَبِ حَالَةِ القَلبِ تَكُونُ طَبِيعَةُ الإِنسَانِ الرُّوحِيَّةُ مُعَوَّجَةً أَو مُستَقِيمَةً (مَزمُور 101: 4؛ 119: 7). وَرُبَّمَا نُسِبَت هٰذِهِ الأُمُورُ كُلُّهَا إِلَى القَلبِ لِاعْتِقَادِ القُدمَاءِ أَنَّ الحَيَاةَ فِي الدَّم، أَو أَنَّ الدَّمَ هُوَ الحَيَاةُ نَفسُهَا (الأَحبَار 17: 11 و14). يُوصَفُ القَلبُ البَشَرِيُّ فِي الكِتَابِ المُقدَّسِ بين الضعف والخطيئة أَنَّهُ مَليءٌ بِالشَّرِّ وَالحَمَاقَةِ (جَامِعَة 9: 3)، وَأَنَّهُ أَخبَثُ مِن كُلِّ شَيءٍ وَنَجِسٌ (إِرمِيَا 17: 9)، وَأَنَّهُ مَنبَعُ الخَطِيئَةِ (متى 15: 8 و19). لِذَلِكَ فَالرَّبُّ يَنظُرُ إِلَى القَلبِ (1 صَمُوئِيل 16: 7) وَمِنهُ مَخَارِجُ الحَيَاةِ (أَمثَال 4: 23). وَمِن هُنَا تَأتِي الوَصِيَّةُ: "مَزِّقُوا قُلُوبَكُم وَلَا ثِيَابَكُم" (يُوئِيل 2: 13). القَلبُ هُوَ أَيضًا مَقَرُّ الإِيمَانِ:"بِالقَلبِ يُؤمَنُ لِلبِرِّ" (رُومَة 10: 10). وَالتَّكَلُّمُ بِالقَلبِ يَعني التَّفَكُّرَ وَالتَّأمُّلَ (1 صَمُوئِيل 1: 12). وَإِذَا أُرِيدَ التَّأكِيدُ عَلَى قُوَّةِ العَاطِفَةِ، نُسِبَت إِلَى "كُلِّ القَلبِ"، كَمَا فِي الوَصِيَّةِ العُظمَى: "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ" (متى 22: 37). َوَحدةُ القَلبِ تَظهَرُ فِي المُحَبَّةِ وَالاِتِّحَادِ (أَعمَال الرُّسُل 4: 32). أَمَّا اِلتِهَابُ القَلبِ فَيُقصَدُ بِهِ الاِبتِهَاجُ وَالاِنفِتَاحُ عِندَ سَمَاعِ كَلِمَةِ اللهِ، كَمَا فِي قَولِ تِلميذَي عِمَّاوُس: " أَمَا كَانَ قَلبُنَا مُتَّقِدًا فِي صَدرِنَا حِينَ كَانَ يُحَدِّثُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيَشرَحُ لَنَا الكُتُب؟" (لُوقَا 24: 32). إِذن، مَوضِعُ الكَنزِ يَكشِفُ مَوضِعَ القَلبِ. فَإِذَا كَانَ كَنزُنَا فِي السَّمَاءِ، يَكُونُ قَلبُنَا مَعَ اللهِ؛ وَإِذَا كَانَ كَنزُنَا فِي الأَرضِ، يَظَلُّ قَلبُنَا مُقَيَّدًا بِالفَانِي وَالمُؤَقَّت. وَبِهٰذَا تَتَحَدَّدُ هُوِيَّتُنَا المَسِيحِيَّةُ وَحَقِيقَةُ مَسِيرَتِنَا مَعَ المَسِيحِ.

 

35 لِتَكُنْ أَوساطُكُم مَشدودة، ولْتَكُنْ سُرُجُكُم مُوقَدَة

 

 تشير عبارة "أَوساطُكُم مَشدودة" إلى تُصَوِّرُ رَفعَ أَطرَافِ الثَّوبِ وَشَدَّهَا بِحِزَامِ الوَسَطِ كَوضِعِ التَّأهُّبِ لِلعَمَلِ، وَذَلِكَ هُوَ وَضعُ الخِدمَةِ (لوقا 17: 8). وتُشِيرُ أَيضًا إِلَى وَضعِ التَّأهُّبِ لِلسَّفَرِ كَمَا فَعَلَ العِبرَانِيُّونَ وَهُم يَحتَفِلُونَ بِالفِصحِ (خُرُوج 12: 11)، مِمَّا يُظهِرُ اِستِمرَارِيَّةَ مَسِيرَةِ الخُرُوجِ كَمَسِيرَةِ تَحرِير. إِذًا، يَتَعَيَّنُ عَلَى تَلَامِيذِ يَسُوعَ أَن يَتَشَبَّثُوا بِقَرَارِ الاِستِمرَارِ فِي مَسِيرَتِهِم التَّارِيخِيَّةِ نَحوَ المَلكُوتِ. وَيُذَكِّرُنَا ذَلِكَ بِقَولِ أَلِيشَاعَ لِجِيحَزِي خَادِمِهِ: "أَشْدُدْ حَقْوَيْكَ، وَخُذْ عَصَايَ فِي يَدِكَ وَامْضِ" (2 ملوك 4: 29). أمَّا عبارة "سُرُجُكُم مُوقَدَة" فتُشِيرُ أَوَّلًا إِلَى أَمَانَةِ الشَّعبِ نَحوَ اللهِ وَالمُوَاظَبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ (خُرُوج 27: 20-22).

• وَتُشِيرُ ثَانِيًا إِلَى الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ، إِذ يَكُونُ السِّرَاجُ مُتَوَهِّجًا بِأَعمَالِ البِرِّ.

• وَثَالِثًا إِلَى وَضعِ التَّأهُّبِ حَتَّى فِي اللَّيلِ، فَالسِّرَاجُ المُوقَدُ يَقُودُ الإِنسَانَ فِي الظَّلَامِ.

• وَبِهٰذَا يَكُونُ تِلميذُ الرَّبِّ مُرتَدِيًا دَومًا ثَوبَ الخِدمَةِ، وَهُوَ فِي أَتَمِّ الاِستِعدَادِ.

• السُّرُجُ المُوقَدَةُ هِيَ إِذن رَمزٌ لِليَقَظَةِ وَالاِنتِبَاهِ لِمَجِيءِ المَسِيحِ، كَمَا فِي مَثَلِ العَشرِ العَذَارَى (متى 25: 1-13).

يَقُولُ القِدِّيسُ أُوغُسطِينُوس: "مَاذَا يَعني: أَوسَاطُكُم مَشدُودَة؟ اِترُكِ الشَّرَّ وَالتَزِمِ العِفَّةَ (مزمور 34: 14). وَمَاذَا يَعني: سُرُجُكُم مُوقَدَة؟ اِصنَعِ الخَيرَ أَي الأَعمَالَ الصَّالِحَةَ". وَيَعلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِير: «لِتَكُنْ أَوسَاطُكُم مَشدُودَة وَسُرُجُكُم مُوقَدَة" يَدُلَّانِ عَلَى شَرِكَةِ الجَسَدِ وَالنَّفسِ فِي الحَيَاةِ المُقدَّسَةِ، فَالقَلبُ وَالجَسَدُ يُرَبَّيَانِ بِالرُّوحِ القُدُسِ لِيَحَيَا الإِنسَانُ مُقَدَّسًا لِلرَّبِّ". أَمَّا البَابا فِرنسيِس فَيَقُولُ: "نُرِيدُ نَحنُ المَسيحِيِّينَ أَن نَكُونَ مِثلَ أُولئِكَ الخُدَّامِ الَّذِينَ قَضَوا اللَّيلَ وَأَوسَاطُهُم مَشدُودَة، وَسُرُجُهُم مُوقَدَة. يَجِبُ أَن نَكُونَ مُستَعِدِّينَ لِلخَلَاصِ الآتِي" (المُقَابَلَة العَامَّة، 11 تِشرِين الأَوَّل 2017).  أمَّا عِبارة "السِّرَاجُ" في الكتاب المقدس فهُوَ وِعَاءٌ مِن فَخَّارٍ أَو نُحَاسٍ يُوضَعُ فِيهِ زَيتٌ أَو نَفطٌ أَو قَطرَان، مَعَ فَتِيلَةٍ تُشعَلُ لِتُضِيءَ فِي الظَّلَامِ.

فِي العَهدِ القَدِيمِ، كَانَ السِّرَاجُ رَمزًا إِلَى:

• الهِدَايَة "سِرَاجٌ لِقَدَمِي كَلاَمُكَ" (مزمور 119: 105).

• نَفسِ الإِنسَانِ (أمثال 20: 27).

• الابنِ الوَارِثِ (1 ملوك 15: 4).

• كَانَ فِي الهَيكَلِ سَبعَةُ سُرُجٍ فِي المَنَارَةِ الذَّهَبِيَّةِ (خُرُوج 37: 23).

• وإِطفَاءُ السِّرَاجِ كَانَ عَلامَةَ فَقرٍ شَدِيدٍ أَو هَجرٍ (أيُّوب 18: 6؛ إِرمِيَا 25: 10).

في العَهدِ الجَدِيدِ فَالنُّورُ يُشِيرُ إِلَى شَهَادَةِ المَسيحِيِّ الَّذِي يُضِيءُ لِلغَيرِ (متى 5: 15).

إِذن، الوَصِيَّةُ «لِتَكُنْ أَوسَاطُكُم مَشدُودَة وَسُرُجُكُم مُوقَدَة» تُجَسِّدُ وَضعَ التَّأهُّبِ الدَّائِمِ، حَيثُ يَعمَلُ الإِنسَانُ وَيُصلِّي وَيَعيِشُ فِي نُورِ المَسيحِ، مُستَعِدًّا لِمَجِيءِ الرَّبِّ فِي أَيَّةِ لَحظَةٍ. يحثنا يسوع إِلَى اليَقَظَةِ فِي تَميِيزِ عَلامَاتِ الأَزمِنَةِ وَالبَحثِ عَن مَخطَّطِ اللهِ فِي حَيَاتِنَا وَمُلكُوتِهِ. وَاليَقَظَةُ تَتَطَلَّبُ الصَّبرَ وَالثِّقَةَ بِاللهِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى القُدرَةِ عَلَى الاِكتِشَافِ الآنَ وَهُنَا.

 

36 وكونوا مِثلَ رِجالٍ يَنتَظِرونَ رُجوعَ سَيِّدِهم مِنَ العُرس، حتَّى إِذا جاءَ وقَرَعَ البابَ يَفتَحونَ لَه مِن وَقتِهِم

 

تُشِيرُ عبارة "رُجوعَ سَيِّدِهم مِنَ العُرس" إِلَى صُورَةِ رُجُوعِ العَرِيسِ مِنَ العُرسِ، وَهِيَ اِستِعَارَةٌ تُمَثِّلُ سَاعَةً مُتَأَخِّرَةً وَغَيرَ مُحَدَّدَةٍ. فَلَيسَ المَقصُودُ هُنَا الرَّمزُ إِلَى العُرسِ بِنَفسِهِ، بَل الإِشَارَةُ إِلَى المَجِيءِ الثَّانِي لِلمَسيحِ، الَّذِي سَيَأتِي فَجأَةً وَبِغَيرِ تَوَقُّعٍ. وَالخُطُورَةُ الكُبرَى تَكْمن فِي عَدَمِ الاِنتِظَارِ وَالاستِعدَادِ.  فِي العَهدِ القَدِيمِ شَبَّهَ الكِتَابُ المُقَدَّسُ عَلاقَةَ اللهِ مَعَ شَعبِهِ بِعَلاقَةِ العَرِيسِ بِالعَروسِ: "لأَنَّ بَعلَكِ هُوَ صَانِعُكِ"(أشعيا 54: 5). وَفِي العَهدِ الجَدِيدِ شَبَّهَ يَسُوعُ ذَاتَهُ بِالعَرِيسِ: "هَل يَقدِرُ بَنُو العُرسِ أَن يَنُوحُوا مَا دَامَ العَرِيسُ مَعَهُم؟" (متى 9: 15).  إِذًا، مَجيءُ السَّيِّدِ هُنَا يُوحِي إِلَى مَجِيءِ المَسيحِ في آخر الأزمنة، وَحَالَةِ الانتِظَارِ اليَقِظِ الَّتِي يَجِبُ أَن يَعيشهَا التَّلامِيذُ. وفي مقارنة مع مَثَلِ العَذَارَى العَشرِ (متى 25: 1-13)، كُنَّ العَذَارَى مُنتَظِرَاتٍ لِمَجِيءِ العَرِيسِ لِيُرَافِقنَهُ مَعَ العَروسِ إِلَى بَيتِهِ. أَمَّا فِي هٰذَا المَثَلِ (لوقا 12: 36)، فَالرِّجَالُ يَنتَظِرُونَ رُجُوعَ سَيِّدِهِم إِلَيهِم مِنَ العُرسِ، وَهُم فِي بَيتِهِ، لِيَفتَحُوا لَه حَالًا عِندَ قُدُومِهِ. الاِختِلافُ الجَوهَرِ يُّكمن في أنَّ العَذَارَى يَخرُجنَ لِلقَاء العَرِيسِ، أَمَّا العَبِيدُ هُنَا فَهُم مُنتَظِرُونَ قُدُومَهُ إِلَيهِم. تُشِيرُ عِبَارَةُ "يَفتَحونَ لَه مِن وَقتِهِم" إِلَى كَونِهِم مُنتَبِهِينَ وَمُستَعِدِّينَ دَائِمًا.  فَهُم لا يَحتَاجُونَ إِلَى تَجَهُّزٍ بَعدَ سَماعِ قُدُومِهِ، بَل هُم فِي حَالَةِ سُرعَةٍ وَيَقَظَةٍ دَائِمَةٍ. يُشِيرُ هٰذَا إِلَى الحَاجَةِ إِلَى الاِستِعدَادِ المُستَمِرِّ لِمَجِيءِ الرَّبِّ، وَإِلَى فِعلِ الإِيمَانِ الَّذِي يَجمَعُ بَينَ الثِّقَةِ وَالعَمَلِ وَالتَّوقُّعِ. يَقُولُ البَابا فِرنسيِس: "إِنَّ الأَشخَاصَ الَّذِينَ يَعرِفُونَ الاِنتِظَارَ يَحصُدُونَ رَجَاءً ثَابِتًا. هَؤُلاءِ هُمُ المَسيحيُّونَ، شَعبٌ مُتَّحِدٌ بِيَسُوعَ".  إِذن، صُورَةُ "رِجَالٍ يَنتَظِرُونَ رُجُوعَ سَيِّدِهِم" تُجَسِّدُ المُؤمِنَ اليَقِظَ الَّذِي يَفتَحُ دَائِمًا بَابَ قَلبِهِ لِلسَّيِّدِ، مُستَعِدًّا لِلمَجِيءِ الثَّانِي فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ. وَٱلْيَوْمَ، نَحْنُ مَدْعُوُّونَ لِلْعَيْشِ فِي ٱنْتِظَارِ ٱلرَّبِّ ٱلَّذِي سَيَأْتِي بِرَمْزِيَّةِ ٱلْعَرِيسِ ٱلْعَائِدِ مِنَ ٱلْعُرْسِ، وَٱلَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُشَارِكَنَا فَرَحَهُ وَآمَالَهُ فِي ٱلْمُسْتَقْبَلِ.

 

 37طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين. الحَقَّ. أَقولُ لكم إِنَّه يَشُدُّ وَسَطَه ويُجلِسُهُم لِلطَّعام، ويَدورُ علَيهم يَخدُمُهم

 

 تُشيرُ عِبَارَةُ طوبى لأُولئِكَ الخَدَمِ الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهُم وَجَدَهُم ساهِرين "إِلَى المَسيحِ الَّذي يُهَنِّئُ تَلامِيذَهُ الأُمَنَاءَ، المُتَوَقِّعِينَ رُجُوعَهُ، وَالمُستَعِدِّينَ دَائِمًا لاِستِقبَالِهِ. فَهُم أُولَئِكَ العَبِيدُ السَّاهِرُونَ، الَّذِينَ يُكرِّسُونَ حَيَاتَهُم فِي الخِدمَةِ وَالأَمَانَةِ، فَيَنَالُونَ جَزَاءَ السَّيِّدِ. أما كَلِمَةُ "طُوبَى" فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ تَحمِلُ فِي طَيَّاتِهَا أَمنِيَةَ السَّعَادَةِ وَالخَلاصِ. فَالمَعنَى يَشمَلُ: الحَيَاة، وَالسَّلام، وَالفَرَح، وَالرَّاحَة، وَالبَرَكَة، وَالخَلاص. وَعِندَمَا يُعلِنُ يَسُوعُ "طُوبَى"، فَهُوَ لا يُعطِي بَرَكَةً سَطحيَّةً، بَل يُظْهِرُ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الحَقِيقَةِ وَالسَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ. مِثلُ مَا قَالَ فِي التَّطُويبات: "طُوبَى لِلمَساكِينِ بِالرُّوحِ… طُوبَى لِأنقِيَاءِ القَلبِ" (متى 5: 1-12). تُشِيرُ عبارة “ساهرين" إِلَى العُدُولِ عَنِ النَّومِ وَالجِهَادِ فِي البَقَاءِ فِي حَالَةِ تَأهُّبٍ واليَقَظَةِ الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَمنَعُ الغَفلَةَ وَالتَّرَاخِي، وَتُعِدُّ الإِنسانَ لِكُلِّ طَارِئٍ وَلِكُلِّ مَجِيءٍ مُفَاجِئٍ لِلسَّيِّدِ. يَقُولُ الرَّبّ: " اِسهَروا وَصَلّوا لِكَي لا تَدخُلوا فِي التَّجرِبَةِ "متى 26: 41).  وعبارة "إِنَّهُ يَشُدُّ وَسَطَه" تُشير عَادَةُ وَضعُ الإِنسانِ فِي حَالَةِ الخِدمَةِ وَالتَّأهُّبِ. هُنَا تَنعَكِسُ الأَدوَارُ: فَالسَّيِّدُ نَفسُهُ يَصِيرُ خَادِمًا لِعَبِيدِهِ. وَهٰذَا لَمحٌ صَرِيحٌ إِلَى المَسيحِ، الَّذِي شَدَّ وَسَطَهُ وَغَسَلَ أَرجُلَ تَلامِيذِهِ فِي العَشَاءِ الأَخِيرِ (يوحنا 13: 4-5)، مظهِرًا تَوَاضُعَهُ وَخِدمَتَهُ. وَهَكَذَا، مَن شَدُّوا أَوسَاطَهُم فِي هٰذِهِ الحَيَاةِ بِالخِدمَةِ وَالأَمَانَةِ، سَيَشُدُّ هُوَ وَسَطَهُ فِي المَلكُوتِ لِيُكرِمَهُم. يُكرِّم السيد عبيده. "لأَنَّ الَّذِينَ يُكرِمونَنِي أُكرِمهُم" (1 صموئيل 2: 30). "الغَالِبُ سَأَهَبُ لَهُ أَن يَجلِسَ مَعِي عَلَى عَرشِي، كَمَا غَلَبتُ أَنَا أَيضًا فَجَلَستُ مَعَ أَبِي عَلَى عَرشِهِ" (رؤيا 3: 21). هٰذَا هُوَ وَصفٌ لِلاِمتِنَانِ وَالمَجْدِ الَّذِي سَيُظْهِرُهُ المَسيحُ فِي المَلكُوتِ الآتِي، حَيثُ يَتَحَوَّلُ السَّيِّدُ إِلَى مُكَرِّمٍ وَمُجَازٍ لِعَبِيدِهِ الأُمَنَاء. تشير عبارة "ويُجلِسُهُم لِلطَّعَام وَيَدُورُ عَلَيهِم يَخدُمُهُم" فِي العَادَةِ، رَبُّ البَيتِ يُقَدِّمُ الخِدمَةَ لِضُيُوفِهِ كَمَا فَعَلَ إِبرَاهِيمُ مَعَ المَلائِكَةِ (التكوين 18: 7-8)، لَم تَكُنِ العَادَةُ أَن يَخدُمَ السَّيِّدُ عَبِيدَهُ، فَهُوَ تَصَرُّفٌ غَرِيبٌ يَحمِلُ دَلالَةً عَمِيقَةً: الاِعتِبَار وَالمَحَبَّة وَالإِكرَام. هٰذَا مَا فَعَلَهُ يَسُوعُ بِغَسلِ أَقدَامِ تَلامِيذِهِ (يوحنا 13: 12-16)، مُعطِيًا مِثالًا فِي التَّواضُعِ وَالخِدمَةِ المُتَبَادَلَةِ. إِذًا، هٰذِهِ الطُّوبَى هِيَ وَعْدٌ لِكُلِّ مَن يَسِيرُ فِي طَرِيقِ الخِدمَةِ وَالأَمَانَةِ وَاليَقَظَةِ، أَنَّهُ سَيَتَمَتَّعُ فِي المَلكُوتِ بِخِدمَةِ السَّيِّدِ نَفسِهِ، وَبِجَلاَلِ مَجدِهِ الأَبَدِي.

 

38  وإِذا جاءَ في الهَزيعِ الثَّاني أَوِ الثَّالِث، ووَجدَهم على هذِه الحال فَطوبى لَهم

 

 تشير عبارة "الهَزيعِ الثّاني أَوِ الثّالِث" إلى التقسيم الزمني للهزيع.  كَلِمَةُ "الهَزِيع" تُطلَقُ عَلَى جُزءٍ مِن أَجزَاءِ اللَّيل.  عِندَ الرُّومَان: كَانَ اللَّيلُ مُنقَسِمًا إِلَى أَربَعَةِ أَقسَامٍ:

1. المساء.

2. منتصف اللَّيل.

3. عند صياح الدِّيك.

4. الصباح (مرقس 13: 35).

أَمَّا عِندَ اليَهُود: فَقَد كَانَ اللَّيلُ مُقَسَّمًا إِلَى ثَلاثَةِ أَقسَامٍ، كُلُّ قِسمٍ أَربَعُ سَاعَات (قُضاة 7: 19؛ متى 14: 25).

وَالمَعنَى هُنَا أَنَّ كُلَّ وَقتٍ مِن أَوقَاتِ اللَّيلِ يُمكِنُ أَن يَكُونَ سَاعَةَ مَجِيءِ السَّيِّدِ، وَعَلَى العَبدِ أَن يَكُونَ دَائِمًا مُستَعِدًّا وَسَاهِرًا.  اللَّيلُ فِي هٰذَا السِّياقِ يُشِيرُ إِلَى حَيَاتِنَا فِي هٰذَا العَالَم، وَهُوَ زَمَانُ الاِنتِظَارِ وَالاِختِبَارِ. وَالمَطْلُوبُ مِنَ التِّلمِيذِ هُوَ: السَّهَرُ الدَّائِم، وعَدَمُ إِضَاعَةِ الوَقتِ فِي تَتَبُّعِ عَلاَمَاتٍ زَائِفَةٍ أَو كَلِمَاتِ أَنبِيَاءٍ كَذَبَةٍ وَمَسَحَاءَ مُضِلِّينَ (متى 24: 24). فَالمَسيحُ يُرِيدُ أَتبَاعَهُ مُستَيقِظِينَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِم، لا يَعلَقُ قَلبُهُم بِالبَاطِل، بَل يَنتَظِرُونَ مَجِيئَهُ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِير عَلَى «الهَزِيع» بِقَولِهِ: "إِنَّ السَّيِّدَ المَسيحَ قَد يَأتِي فِي الهَزِيعِ الأَوَّل، أَي فِي طُفُولَةِ الإِنسَان، وَرُبَّمَا يَنتَظِرُهُ حَتَّى الهَزِيعِ الثَّانِي، أَي عِندَ بُلُوغِهِ النُّضُوجَ (الرُّجُولَة)، أَو فِي الهَزِيعِ الثَّالِثِ، أَي فِي الشَّيخُوخَة".  وَالمَغزَى أَنَّ مَوتَ الإِنسَانِ وَلقَاءَهُ الرَّبَّ قَد يَأتِي فِي أَيِّ مَرَاحِلِ الحَيَاةِ، فَعَلَيهِ أَن يَكُونَ مُستَعِدًّا فِي كُلِّ الأَزمِنَة. وعبارة "وَوَجَدَهُم عَلَى هٰذِهِ الحَال" تُشِيرُ إِلَى العَبِيدِ السَّاهِرِينَ، الَّذِينَ يَنتَظِرُونَ سَيِّدَهُم فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَهُم فِي حَالَةِ يَقَظَةٍ وَاِستِعدَاد. لَا يَتَكاسَلُونَ وَلَا يَتَغَافَلُونَ، بَل هُم مُثَابِرُونَ عَلَى الأَمَانَةِ وَالخِدمَةِ. و"فَطُوبَى لَهُم" جَاءَ تَكرَارُ العِبَارَةِ «طُوبَى» لِلتَّأكِيدِ وَلِإِظْهَارِ أَهمِّيَّةِ السَّهَرِ وَاليَقَظَةِ. فَهِيَ تَدلُّ عَلَى المَكَافَأَةِ الكُبرَى الَّتِي يَنَالُهَا التَّلامِيذُ الأُمَنَاءُ: الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ، وَمَجْدُ المَلكُوتِ.  إِذًا، يُؤكِّدُ الرَّبُّ أَنَّ سَاعَةَ مَجِيئِهِ غَيرُ مَعرُوفَة، وَأَنَّ مُهِمَّةَ المُؤمِنِ هِيَ البَقَاءُ فِي سَهَرٍ وَاِستِعدَادٍ مُستَمرٍّ، لِكَي يَستَحِقَّ هَذِهِ "الطُّوبَى" وَيَجلِسَ مَعَ سَيِّدِهِ فِي مَلكُوتِهِ.

 

 39  وأَنتُم تعلَمونَ أَنَّه لْو عَرَفَ رَبُّ البَيتِ في أَيَّةِ ساعَةٍ يأتي السَّارِق لَم يَدَعْ بَيتَه يُنقَب

 

 تشير عبارة: "لَم يَدَعْ بَيتَه يُنقَب" إلى خلفيّة تاريخيّة ومعماريّة حيث أن كَلِمَةُ "يُنقب" تُشِيرُ إِلَى نَقبِ الجُدرَان.  فِي القُرى الفِلسطِينِيَّة القَدِيمَة، كَانَت البُيُوتُ تُبنَى بِـ «اللَّبِن» (الطِّين المَخبُوز). هٰذِهِ الجُدرَانُ كَانَت رَقِيقَةً، فَيُمكِنُ لِلسَّارِقِ أَن يَثقُبَهَا أَو يَحفِرَ فِيهَا لِيَتَسَلَّلَ إِلَى الدَّاخِل (أَيُّوب 24: 16؛ متى 24: 43).  إِذًا "لَم يَدَعْ بَيتَه يُنقَب" تَعني أَنَّ رَبَّ البَيتِ المُتيَقِّظَ كَانَ سَيَحمِي بَيتَهُ وَلَن يُعطِي فُرصَةً لِلسَّارِقِ. وكلمة "السَّارِق" فِي هٰذَا المَثَلِ يُمَثِّلُ المَوت، الَّذِي يَأتِي فَجأَةً كَلِصٍّ دُونَ إِعْلَامٍ مُسبَق. وَهُوَ أَيْضًا صُورَةٌ لِـ المَجِيءِ الثَّانِي لِلمَسيح، الَّذِي سَيَحدُثُ بَغتَةً وَمِن غَيرِ مَوعِدٍ مَعرُوف (1تَسّالونيكِي 5: 2؛ 2بطرس 3: 10؛ رُؤيَا 16: 15). كَمَا أَنَّ السَّارِقَ لَا يُرسِلُ إِشعَارًا قَبلَ مُجِيئِهِ، كَذَلِكَ يَأتِي المَوتُ أَو يَأتِي الرَّبُّ فِي سَاعَةٍ لَا يَتَوقَّعُهَا أَحَد. ومن هنا يأتي التطبيق الروحي:

• عَلَى الإِنسَانِ أَن يَكُونَ دَائِمًا فِي حَالَةِ سَهرٍ وَتَوبَةٍ مُستَمِرَّةٍ، لِكَي يَكُونَ مُستَعِدًّا لِهٰذَا اللِّقَاء.

• فَالإِهمَالُ فِي السَّهَرِ يُؤدِّي إِلَى أَن يَتَفَاجَأَ الإِنسَانُ بِالمَوتِ أَو بِالمَجِيءِ الثَّانِي دُونَ أَن يَكُونَ مُستَعِدًّا.

وَقَد عَلَّمَ المَسيحُ تَلامِيذَهُ هٰذَا المَعنَى نَفسَهُ بِمَثَلٍ آخَر، هُوَ مَثَلُ الإِنسَانِ الَّذِي سُرِقَ بَيتُه لِعَدَمِ سَهرِهِ (متى 24: 43-44).  تُعلِّمُنَا هٰذِهِ الآيَةُ أَنَّ السَّهرَ الرُّوحِيَّ هُوَ ضَمَانُ نَجاتِنَا، فَـ المَوتُ كَل السارق ٍ، وَمَجِيءُ المَسيحِ كَالنَّهَارِ الَّذِي يُبدِّدُ الظَّلام. لِذَلِكَ يَجِبُ أَن نَكُونَ فِي كُلِّ وَقتٍ مُستَعِدِّينَ بِالإِيمَانِ وَالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ وَالتَّوبَةِ المُتَجدِّدَة.

 

40 فكونوا أَنتُم أَيضاَ مُستَعِدِّين، ففي السَّاعَةِ الَّتي لا تتَوقَّعونَها يَأتي ابنُ الإنسان

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ " فكونوا أَنتُم أَيضاَ مُستَعِدِّين " إِلَى دَعوَةِ يَسُوعَ لِتَلامِيذِهِ أَن يَكُونُوا فِي حَالَةِ تَأهُّبٍ دَائِمٍ، وَاسْتِعدَادٍ لِسَاعَةِ المَوتِ وَالمَجِيءِ الثَّانِي. وَهُوَ نَفسُ الاسْتِعْدَادِ الَّذِي عَاشَهُ المَسيحُ نَفسُهُ عِندَمَا وَاجَهَ مَوتَهُ عَلى الصَّلِيب. وَقَد عَلَّقَتِ القِدِّيسَةُ تِرِيزَا الأَفِيلِيَّة بِقَولِهَا: "يُمكِنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَن يُفَكِّرَ بِأَنَّ يَومَ مَوتِهِ هُوَ يَومُ المُوَاجَهَةِ "وَجهًا لِوَجهٍ" مَع الحَبِيب". تَدُلُّ عِبَارَةُ "يَأتي ابنُ الإنسان" عَلَى أَنَّ مَجِيءَ الرَّبِّ يَسُوعَ المَسيح حَقِيقَةٌ أَكِيدَةٌ وَثَابتَةٌ بِقُدرَتِهِ العَظِيمَة. غَيرَ أَنَّ سَاعَةَ هٰذَا المَجِيءِ فِي التَّارِيخ غَيرُ مَعرُوفَةٍ، وَلَن يُعلَنَ عَنهَا مُسْبَقًا (متى 24: 36). وَلَيسَ قَصدُ اللهِ أَن يُفَاجِئَ الإِنسانَ كَالمِصْيَدَة، بَل أَن يُتِيحَ فُرصَةً أَفضَل لِـمَزِيدٍ مِنَ النَّاسِ لِلتَّوبَةِ وَالخَلاص، كَمَا يَذكُرُ بُطرُسُ الرَّسُول: "إِنَّ الرَّبَّ لا يُبطِئُ في إِنجازِ وَعْدِه، كما اتَّهَمَه بَعضُ النَّاس، ولكِنَّه يَصبرُ علَيكم، لأَنَّه لا يَشاءُ أَن يَهلِكَ أَحَد، بَل أَن يَبلُغَ جَميعُ النَّاسِ إِلى التَّوبَة" (2بطرس 3: 9).  فَالوَقتُ الَّذِي يَفصِلُنَا عَن مَجِيءِ الرَّبِّ هُوَ فُرصَةُ نِعمَةٍ لِنَحيا إِيمَانَنَا وَنَشهَدَ لِمَحَبَّتِهِ فِي العَالم.  أما عبارة " ابنُ الإنسان " فِي اليُونَانِيَّة: υἱὸς τοῦ ἀνθρώπου وفِي العِبرِيَّة: בֶּן־הָאָדָם أي "ابن آدم" فتُستَخدَمُ في العهد القديم العِبَارَةُ لِلدَّلالَةِ عَلَى الشَّخصِ الَّذِي أُعطِيَ سُلطانًا أَبَدِيًّا وَمَلكُوتًا لا يَنقَرِض (دَانِيآل 7: 13)، ولِلدَّلالَةِ عَلَى المَسيحِ الآتِي فِي يَومِ القَضَاءِ وَالانتصَار (أَخنُوخ 46: 2-3). وفي الأناجيل استَخدَمَ يَسُوعُ هٰذَا اللَّقَبَ عَن نَفسِهِ نَحوَ 78  مَرَّةً.

• فِي مَرقُس(2: 28)  يَظهَرُ "ابن الإِنسان" كَرَأسٍ لِلبَشَرِيَّةِ وَمُمَثِّلٍ لَهَا.

• فِي نُصُوصٍ أُخرَى، يُعلِنُ يَسُوعُ أَنَّهُ "ابن الإِنسان" الآتِي فِي مَجدِهِ لِلدَّينُونَة وَالقَضَاء (متى 26: 64؛ مرقس 14: 62).

• كَمَا يُستَخدَمُ العِبَارَةُ لِلدَّلالَةِ عَلَى تواضُعِ المَسيح وَحَيَاتِهِ الإِنسَانِيَّة الكَامِلَة.

وبعد القيامة لَم يَرد هٰذَا التَّعبِيرُ عَنِ المَسيح بَعدَ القِيَامَةِ سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ (أَعمال 7: 56). وَقَد جَاءَ فِي سِفر الرُّؤيَا لِلدَّلالَةِ عَلَى المَسيحِ القَائِم وَالمُمَجَّد (رؤيا 1: 13؛ 14: 14). يَقُولُ الكَاردِينال شَارل جُورنِيه: "كَلِمَةُ "ابن الإِنسان" تَعني أَمرَين فِي الوَقتِ نَفسِه: سُمُوَّ اللهِ، المُرسَل المُتَسَامِي مِنَ اللهِ لِتَجلِّي الخَلاص، وَفِي الوَقتِ نَفسِه تُظهِرُ هَشَاشَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ (ابن الإِنسان) الَّذِي اتَّخَذَ طَبِيعَتَنَا البَشَرِيَّة".

تَجمَعُ هذه الآية بَينَ المَجدِ الإِلَهِيّ وَالتَّواضُعِ البَشَرِيّ فِي شَخصِ يَسُوعَ المَسيح. وَالدَّعوَةُ المَوْجَّهَةُ إِلَينَا هِي أَن نَعيَشَ السَّهَرَ وَالتَّوبَةَ الدَّائِمَةَ، مُستَعِدِّينَ لِلقَاءِ المَسيح «ابن الإِنسان» فِي المَوت أَو فِي مَجِيئِهِ الثَّانِي. وَتَدْعُونَا هٰذِهِ ٱلْآيَةُ، كَتَلَامِيذَ أَحِبَّاء، إِلَى تَحَمُّلِ ٱلْمَسْؤُولِيَّةِ كَقَطِيعِ ٱلرَّبِّ ٱلصَّغِيرِ عَبْرَ ٱلتَّارِيخِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضْعِفَ تَأَخُّرُ مَجِيءِ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ ٱلْتِزَامَنَا بِٱلِٱنْتِظَارِ بِصَبْرٍ وَإِيمَانٍ بِهِ.

 

 

ثانِيًا: تَطْبِيقُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لُوقا 12: 32-40)

 

اِنْطِلَاقًا مِنَ المُلاحَظَاتِ الوَجِيزَةِ حَوْلَ وِقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لُوقَا 12: 32-40)، يُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَنْتِجَ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ عَودَةِ المَسِيحِ وَالسَّهَرِ فِي انْتِظَارِهِ. وَمِنْ هُنَا نَتَسَاءَلُ: عَنْ عَودَةِ المَسِيحِ، وَثُمَّ كَيْفَ السَّهَرِ لِانْتِظَارِهِ؟

 

1. ما مَعْنَى عَوْدَةِ المَسِيحِ؟

 

أوّلًا: عَودَةُ المَسيح فِي العَهدِ الجَدِيد

 

تَأكَّدَ المُؤمِنون أنَّ "يَسوعَ هذا الَّذي رُفِعَ عَنكُم إِلى السَّماءِ، سَيأتي كما رَأَيتُموه ذاهبًا إِلى السَّماءِ" (أعمال 1: 11). ولذلِكَ وَصَفَ العَهدُ الجَدِيدُ عَودَةَ المَسيحِ بِمُصطَلَحاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِن أَبرَزِها:

"يَومُ الافتِقاد" (1 بطرس 2: 12).

"يَومُ الغَضَب" (رومة 2: 5).

"الدَّينُونَة" (2 بطرس 2: 9).

"ذلِكَ اليَوم" (متى 7: 22).

"يَومُ الرَّب" (1 تسالونيقي 5: 2).

"يَومُ الرَّبِّ يَسوع" (1 قورنتس 1: 8).

"يَومُ المَسيح" (فيلبي 1: 6-10).

"يَومُ ابنِ البَشر" (لوقا 17: 24-26).

 

ونَجِدُ أَيضًا تَعابِيرَ أُخرَى لِعودَةِ الرَّب، مِثل:

• الكلمة اليونانيَّة ἀποκάλυψις   أي "الرؤيَا" (2 تسالونيقي 1: 7).

• الكلمة اليونانيَّة παρουσία أي "المَجيء الثَّاني المَجيد" (متى 24: 3).

وهذا اللَّفظ الأخير يَعني عادةً "الحُضور" (2 قورنتس 10: 10) أو "المَجيء" (2 قورنتس 7: 6-7). وكان يُستَخدَم في العالَم اليونانِي-الرومانِي للإشارَةِ إِلى زِياراتِ الأباطِرَةِ الرَّسميَّة. وربّما استَمدَّ الكِتابُ المُقَدَّسُ استِعمالَهُ أَيضًا مِن تَقاليدِ العَهدِ القَدِيمِ الرؤيويَّة حَولَ "مَجيءِ الرَّب" (زكريا 9: 9).

يَتَحَدَّثُ يَسُوعُ بِوُضُوحٍ عَنْ وَعْدِ عَودَتِهِ الثَّانِيَةِ فِي المَجْدِ، وَهُوَ وَعْدٌ يَشُدُّ كِيَانَ المُؤْمِنِ وَيَفْتَحُ أُفُقَهُ عَلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. وَقَدْ أَكَّدَ الرَّبُّ أَنَّ مَجِيئَهُ سَيَكُونُ فِي سَاعَةٍ غَيْرِ مَتَوَقَّعَةٍ: "اِسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيَّ سَاعَةٍ يَأْتِي رَبُّكُمْ" (مَتَّى 24: 42).

عَودَةُ المَسِيحِ لَيْسَتْ حَدَثًا مُرْعِبًا بَلْ مَوعِدُ رَجَاءٍ، إِذْ سَيَأْتِي لِيُحَقِّقَ المَلكُوتَ بِمِلْئِهِ، وَلِيَشْرَكَ المُؤْمِنِينَ فِي الوَلِيمَةِ الأَبَدِيَّةِ. وَهُوَ يَطْرُقُ كُلَّ يَومٍ أَبْوَابَ قُلُوبِنَا، كَمَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَا: "هَاءَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى البَابِ أَقْرَعُهُ، فَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ البَابَ، دَخَلْتُ إِلَيْهِ وَتَعَشَّيْتُ مَعَهُ وَتَعَشَّى مَعِي" (رُؤْيَا 3: 20).

 

ثَانِيًا: غَموضُ السَّاعَة وَدَعْوَةُ السَّهَر

 

بِما أنَّ المؤمنينَ يَجهَلونَ السَّاعَة الَّتي فيها يَعودُ المَسيح (متى 24: 42)، اكتَفى يَسوعُ بِالوَعدِ قائِلًا: "إِنِّي آتٍ عَلى عَجَل" (رؤيا 22: 20). لذلك حَثَّ علَى سَهرٍ مُستَمرٍّ: "فاسهَروا إِذًا، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ أَيَّ يَومٍ يَأتي رَبُّكُم" (متى 24: 42).

 

وفي فَجرِ الكَنِيسَة، أَكَّدَ بولس الرَّسُول وَجهَةَ السَّهَر: "لأَنَّكُم تَعرِفونَ حَقَّ المَعرِفَةِ أنَّ يَومَ الرَّبِّ يَأتي كَالسَّارِقِ في اللَّيل... فَعلَينا أَن نَسهَرَ وَنَحنُ صاحُون" (1 تسالونيقي 5: 2، 6).

 

ثَالِثًا: التَّأخِيرُ الظَّاهِر وَمَعْنَاهُ

 

إِذا ما تَأخَّرَ المَجيءُ الثَّانِي، فَينبَغِي أن نَحذَرَ مِنَ التَّعَالِيمِ الكاذِبَة. فَالمَجيءُ سَيَتِمُّ في أَوانِهِ حَتْمًا (2 بطرس 3: 10). وإِن لم يَتَغَيَّرْ شَيءٌ في الظَّاهِر (2 بطرس 3: 4)، فَذلِكَ لِأَنَّنا نَنتَظِرُ قَضاءَ العالَم بِالنَّار (2 بطرس 3: 7).

 

وهُوَ تَأخِيرٌ مَظهَريٌّ، لِأَنَّ اللهَ لا يَقيسُ الأَزمِنَةَ كَما يَقيسُها البَشَر: "إِنَّ يَومًا واحِدًا عِندَ الرَّبِّ كَأَلفِ سَنَة، وأَلفَ سَنَةٍ كَيَومٍ واحِد" (2 بطرس 3: 8). والسَّبَبُ الأَعمَقُ هُوَ صَبرُ اللهِ وَرَغبتُهُ في خَلاصِ الجَميع: "إِنَّ الرَّبَّ لا يُبطِئُ في إِنجازِ وَعدِهِ، كما يَظُنُّ بَعضُ النَّاس، بَل يَصبِرُ علَيكم، لأَنَّه لا يَشاءُ أَن يَهلِكَ أَحَد، بَل أَن يَبلُغَ الجَميعُ إِلى التَّوبَة" (2 بطرس 3: 9).

 

بهذا يُظهِر لنا العَهدُ الجَدِيد أنَّ عَودَةَ المَسيحِ، وإنْ بَدَت مُتَأخِّرَةً في مِقياسِنا البَشَرِيّ، إِنَّما هِيَ مَضمُونَةٌ في مَوعِدِها الإِلهِيّ، وَهِي دَعوَةٌ مُستَمِرَّةٌ لِلسَّهَرِ وَالتَّوبَةِ وَالاستِعداد.

 

 

2. كَيْفَ نَسْهَرُ فِي انْتِظَارِهِ؟

 

أ‌) مَفهومُ السَّهَر

 

يَحُثُّ يسوعُ تلاميذَه علَى السَّهَرِ في انتِظارِ عَودَةِ الرَّبِّ: "طوبى لأُولئكَ الخَدَمِ الَّذينَ إذا جاءَ سَيِّدُهُم وَجَدَهُم ساهِرين" (لوقا 12: 37). وأصلُ لفظة "سَهَر" في اللغة اليونانية هو γρηγοροῦντας، وتُفيد في معناها الحصري اليَقَظَة وعدم النوم، خاصّةً في ساعات الليل. وقد وردت في الكتاب المقدّس بمعنيَيْن أساسيَّيْن:

1. المعنى الحَرفي:

المواظبة على العمل والاجتهاد حتى في الليل (حكمة 6: 15).

التحفّظ من العدوّ المفاجئ والسهر على حماية المدينة (مزمور 127: 1-2).

 

2. المعنى المَجازي:

السهر يعني اليقظة الروحيّة ومجاهدة الخمول والإهمال، أي الكفاح الحثيث لبلوغ الغاية المرجوّة (أمثال 8: 34).

أمّا في المنظور المسيحي، فإنّ السَّهَر هو حالة استعدادٍ دائمٍ للِّقاء الرَّبّ، إذ يُدعَى المؤمن إلى أن يعيش يقظًا في الإيمان والمحبّة والرجاء، حاضرًا ومُستعدًّا لمجيء المسيح متى أتى: "طوبى لأُولئكَ الخَدَمِ الَّذينَ إذا جاءَ سَيِّدُهُم وَجَدَهُم ساهِرين" (لوقا 12: 37).

 

ب‌) ضَرورَةُ السَّهَر فِي ضَوءِ الإِنجِيلِ

 

إِنَّ السَّهَرَ شَرْطٌ أَسَاسِيٌّ لِاسْتِقْبَالِ ابْنِ الإِنْسَانِ عِندَ عَودَتِهِ، كَمَا أَوصَى يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ قَائِلًا: "فَاسْهَرُوا إِذًا، لِأَنَّكُم لَا تَعْلَمُونَ أَيَّ يَومٍ يَأْتِي سَيِّدُكُم" (مَتَّى 24: 42؛ قَارِن لُوقَا 12: 37). وَيَتَجَلَّى مَعْنَى السَّهَرِ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ وَفِي التَّقْلِيدِ المَسِيحِيِّ مِنْ خِلَالِ أَربَعَةِ أَبْعَادٍ رَئِيسِيَّةٍ:

 

1. السَّهَرُ كَحَالَةِ يَقَظَةٍ رُوحِيَّةٍ

السَّهَرُ هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ الِاسْتِعْدَادُ الدَّائِمُ لِلِّقَاءِ الرَّبِّ، أَيْ العَيْشُ فِي حَالَةِ يَقَظَةٍ وَحَذَرٍ رُوحِيٍّ. وَيُقَدِّمُ نُوحٌ مِثَالًا بَارِزًا عَلَى هٰذِهِ اليَقَظَةِ، إِذْ عَاشَ فِي انْتِظَارِ دَيْنُونَةِ اللهِ، بِخِلَافِ مُعَاصِرِيهِ الغَارِقِينَ فِي غَفْلَةِ العَالَمِ: "فَكَمَا كَانَ النَّاسُ، فِي الأَيَّامِ الَّتِي تَقَدَّمَتِ الطُّوفَانَ، يَأْكُلُونَ وَيَشرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ... إِلَى يَومَ دَخَلَ نُوحٌ السَّفِينَةَ... حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ فَجَرَفَهُم أَجمَعِينَ. فَكَذٰلِكَ يَكُونُ مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ" (مَتَّى 24: 37-39).

 

2. السَّهَرُ أَمَامَ فُجَائِيَّةِ المَجِيءِ

مَجِيءُ الرَّبِّ سَيَكُونُ فُجَائِيًّا، كَمَا يُشَبِّهُهُ الكِتَابُ المُقَدَّسُ بِـ:

مَجِيءِ العَرِيسِ (لُوقَا 12: 37).

مَجِيءِ السَّارِقِ فِي اللَّيْلِ (لوقَا 12: 39).

عَودَةِ السَّيِّدِ فِي سَاعَةٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعَةٍ (مَرقُس 13: 35-36).

وَلِهٰذَا لَا بُدَّ لِلمُؤمِنِ مِنْ عَيْشِ السَّهَرِ الدَّائِمِ. وَيُعَلِّقُ الطُّوبَاوِيُّ يُوحَنَّا هِنْرِي نِيُومَن قَائِلًا: "يُرِيدُ الرَّبُّ أَنْ نَظَلَّ مُسْتَعِدِّينَ بِكُلِّ كِيَانِنَا بِانْتِظَارِ مَجِيئِهِ الوَشِيكِ؛ وَذٰلِكَ يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نَعِيشَ وَكَأَنَّ ذٰلِكَ الأَمْرَ الَّذِي قَدْ يَحْدُثُ فِي أَيِّ وَقْتٍ سَوْفَ يَحْدُثُ فِي أَيَّامِنَا" (عِظَاتُ أَبرَشِيَّةٍ بَسِيطَةٍ، الجُزْءُ السَّادِسُ، العِظَةُ 17: انْتِظَارُ المَسِيحِ).

 

3. السَّهَرُ كَنِدَاءٍ كَنَسِيٍّ

يُحَذِّرُ يُوحَنَّا الرَّسُولُ جَمَاعَةَ سَرْدِيسَ قَائِلًا: "تَنَبَّهْ وَثَبِّتِ البَقِيَّةَ الَّتِي أَشرَفَتْ عَلَى المَوتِ... فَإِنْ لَمْ تَتَنَبَّهْ أَتَيْتُكَ كَالسَّارِقِ، لَا تَدْرِي فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ أُبَاغِتُكَ" (رُؤيَا 3: 1-3). وَعَلَى نَقِيضِ هٰذَا التَّحْذِيرِ، يَعِدُ يَسُوعُ قَائِلًا: "طُوبَى لِأُولٰئِكَ الخَدَمِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُم وَجَدَهُم سَاهِرِينَ" (لُوقَا 12: 37؛ رُؤيَا 16: 15).

 

4. السَّهَرُ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ

يَقَظَةُ أَبْنَاءِ النُّورِ: "لَسْنَا نَحْنُ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ الظُّلُمَاتِ، فَلَا نَنَامَنَّ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ النَّاسِ، بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نَسْهَرَ وَنَحْنُ صَاحُونَ" (1 تَسَالُونِيقِي 5: 5-6).

السَّهَرُ كَتُوبَةٍ وَتَجْدِيدٍ: "قَدْ حَانَتْ سَاعَةُ تَنَبُّهِكُمْ مِنَ النَّومِ، فَإِنَّ الخَلَاصَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا الآنَ... قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَاقْتَرَبَ اليَومُ. فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظَّلَامِ، وَلْنَلْبَسْ سِلَاحَ النُّورِ... بَلِ البَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ المَسِيحَ" (رُومَة 13: 11-14).

السَّهَرُ كَقُوَّةٍ رُوحِيَّةٍ: "تَنَبَّهُوا وَاثْبُتُوا فِي الإِيمَانِ، كُونُوا رِجَالًا، كُونُوا أَشِدَّاءَ" (1 قُورِنْتُس 16: 13).

إِذًا، فَالسَّهَرُ لَيْسَ مُجَرَّدَ فَضِيلَةٍ جَانِبِيَّةٍ، بَلْ هُوَ ضَرُورَةٌ جَوهَرِيَّةٌ فِي الحَيَاةِ المَسِيحِيَّةِ، إِذْ يُبْقِي المُؤمِنَ يَقِظًا فِي النُّورِ، ثَابِتًا ضِدَّ ظُلُمَاتِ الشَّرِّ، وَمُسْتَعِدًّا دَائِمًا لِلِّقَاءِ بِالمَسِيحِ العَائِدِ فِي سَاعَةٍ لَا يُتَوَقَّعُهَا.

 

 

ج) مُتطلَّباتُ السَّهَر

 

يَقومُ السَّهَرُ المسيحيّ، الَّذي يُعِدُّنا لِلِّقاء الرَّبِّ عِندَ عَودَتِهِ الثّانِيَة، علَى جُملةٍ مِنَ المُتطلَّبات الرُّوحِيَّة.

 

المتطلّب الأوّل: عَدمُ الخَوف

 

قال يسوع: "لا تَخَفْ أَيُّها القَطيعُ الصَّغير، لأَنَّ أَباكُم قَد شاءَ أَن يُنعِمَ عَلَيكُم بِالمَلكوت" (لوقا 12: 32).

 

إنَّ السَّهر يَفترض أوّلًا التَّخلِّي عن الخوف:

لا خَوف مِنَ المجهول،

ولا مِنَ المُستَقبَل،

ولا مِنَ الفَشَل،

ولا مِن فُقدان ما هو غالٍ علَى قُلوبِنا،

ولا مِن الظُّروفِ السّياسيّة أو تهديداتِ الحروب،

ولا مِن كوارث الطَّبيعَة أو الأوبِئة أو عُنفِ الأقوياء.

 

لقد طَمأنَنا يسوع قائِلًا: "لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسَد ثُمَّ لا يَستَطيعونَ أَن يَفعَلوا شَيئًا بَعدَ ذلِك" (لوقا 12: 4). ومن هُنا ارتَفَعَت صَرخَة بولس الرَّسُول: "مَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ، أَم ضِيقٌ، أَمِ اضْطِهادٌ، أَم جُوعٌ، أَم عُرْيٌ، أَم خَطَرٌ، أَم سَيْف؟ ولكِنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبينًا، بِالَّذي أَحَبَّنا" (رومة 8: 35.37).

 

المسيحُ مصدرُ الطمأنينة

"تَعالَوا إِليَّ جَميعًا أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم" (متى 11: 28).

"ثِقوا، إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم" (يوحنا 16: 33).

"لا تَخافوا، أَنتُم أَثمَنُ مِنَ العَصافيرِ جَميعًا" (متى 10: 30).

"هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيّامِ إِلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 20).

إذًا، لا داعي للخوف، لأنّ المسيح هو عمانوئيل، أي الله معنا.  إنّه يسير أمامنا ويقودنا نحو بيت الآب، حيث المحبّة الكاملة. أنه أساسُ اليقين

• لقد وَعَدنا: "أَن يُنعِمَ عَلَينا بِالمَلَكوت" (لوقا 12: 32).

• نحن أعضاء في جسده، وحياتنا هي امتداد لحياته: "فما أَنا أَحيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحيا فِيَّ" (غلاطية 2: 20).

• الكتاب المقدّس يكرّر عبارة "لا تَخافوا" 365 مرّة، أي مرّة واحدة لكلّ يوم في السَّنة، وكأنّ الله يُجدّد لنا يوميًّا وعد حضوره ورعايته.

بهذا يكون أوّل مُتطلّب للسهر هو التحرّر من الخوف، لأنّ المسيح نفسه هو الضامن والرفيق، وهو الذي يغمرنا بمحبّته ونعمته حتى نبلغ بسلام إلى بيت الآب.

 

المُتَطَلَّبُ الثَّانِي: عَدَمُ الِاتِّكَالِ عَلَى الخَيْرَاتِ الأَرْضِيَّةِ

 

إِلَى جَانِبِ التَّحَرُّرِ مِنَ الخَوفِ، يُوصِي يَسُوعُ أَتْبَاعَهُ أَيْضًا بِعَدَمِ الِارْتِبَاطِ المُفْرِطِ بِالخَيْرَاتِ الأَرْضِيَّةِ: "بِيعُوا أَمْوَالَكُم وَتَصَدَّقُوا بِهَا، وَاجْعَلُوا لَكُم أَكْيَاسًا لَا تَبْلَى، وَكَنْزًا فِي السَّمَاءِ لَا يَنْفَدُ"(لُوقَا 12: 33). هٰذِهِ الوَصِيَّةُ لَا تَعْنِي بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَبِيعَ المُؤْمِنُ كُلَّ مَا يَمْلِكُ، بَلْ أَنْ يَتَحَرَّرَ مِنَ التَّعَلُّقِ المُرَضِيِّ بِالمَادَّةِ، وَأَلَّا يَجْعَلَهَا رَكِيزَةَ أَمْنِهِ أَوْ مَصْدَرَ سَعَادَتِهِ.

 

1. الصَّدَقَةُ كَدَوَاءٍ لِلْغِنَى: تُعْتَبَرُ الصَّدَقَةُ سَبِيلًا لِلتَّغَلُّبِ عَلَى خَطَرِ الغِنَى، إِذْ يَتَخَلَّى المُؤْمِنُ عَنْ كُنُوزِ العَالَمِ، وَيُقَدِّمُهَا لِلْفُقَرَاءِ. هٰكَذَا يَصِيرُونَ هُم أُمَنَاءَهُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ لَهُ كَنْزًا فِي السَّمَاءِ. وَقَدْ حَثَّ يَسُوعُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالوَكِيلِ الدَّاهِيَةِ الَّذِي اسْتَخْدَمَ المَالَ بِسَخَاءٍ لِيَصْنَعَ لِنَفْسِهِ أَصْدِقَاءَ وَيَضْمَنَ مُسْتَقْبَلًا أَبَدِيًّا: "اِتَّخِذُوا لَكُم أَصْدِقَاءَ بِالمَالِ الحَرَامِ، حَتَّى إِذَا فُقِدَ قَبِلُوكُم فِي المَسَاكِنِ الأَبَدِيَّةِ" (لُوقَا 16: 9).

 

2. العَطَاءُ السَّخِيُّ كَوَجْهٍ لِلرَّحْمَةِ: العَطَاءُ السَّخِيُّ مُرْتَبِطٌ بِالتَّصَدُّقِ، أَيْ بِتَقْدِيمِ المُسَاعَدَةِ المَادِّيَّةِ لِلْمُحْتَاجِينَ. فَهُم يُصْبِحُونَ "أَصْدِقَاءَكُم" لِأَنَّكُم كُنتُم رُحَمَاءَ مَعَهُم فِي وَقْتِ عَوْزِهِم، كَمَا أَنَّ الرَّبَّ كَانَ رَحِيمًا مَعَكُم فِي وَقْتِ حَاجَتِكُم إِلَى مَغْفِرَتِهِ وَمَعُونَتِهِ.

 

3. بُعْدٌ آبَائِيٌّ: يُعَلِّقُ القُدِّيسُ أَوْغُسْطِينُوس وَاضِعًا الكَلِمَاتِ عَلَى لِسَانِ المَسِيحِ: "أَعْطِنِي خَيْرَاتِ هٰذَا العَالَمِ، وَأُعْطِكَ كُنُوزَ السَّمَاءِ. أَعْطِنِي الثَّرَوَاتِ المَادِّيَّةَ، وَأُقِيمُكَ عَلَى المُمتَلَكَاتِ الأَبَدِيَّةِ" (العِظَةُ 123).

 

هٰكَذَا، فَإِنَّ عَدَمَ الِاتِّكَالِ عَلَى الخَيْرَاتِ الأَرْضِيَّةِ لَا يَعْنِي رَفْضَهَا، بَلْ عَيْشَهَا كَأَدَوَاتٍ عَابِرَةٍ فِي طَرِيقِ المَلَكُوتِ، وَاسْتِعْمَالَهَا كَوَسِيلَةٍ لِلْمَحَبَّةِ وَالخِدْمَةِ، لَا كَغَايَةٍ بِحَدِّ ذَاتِهَا.

 

المُتَطَلَّبُ الثَّالِثُ: الِانسِلَاخُ عَنِ المَلَذَّاتِ

 

يُحَذِّرُ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ قَائِلًا: "فَاحْذَرُوا أَنْ يُثْقِلَ قُلُوبَكُمُ السُّكْرُ وَالقُصُوفُ وَهُمُومُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَيُبَاغِتَكُم ذٰلِكَ اليَومُ" (لُوقَا 21: 34).

 

1. خَطَرُ الِانْغِمَاسِ فِي المَلَذَّاتِ: إِنَّ السُّكْرَ يُعْتَبَرُ عَلامَةً عَلَى رُوحِ الخُمُولِ وَالتَّفَكُّكِ (أَشَعْيَا 19: 14)، أَيْ فُقْدَانَ القُدْرَةِ عَلَى التَّمْيِيزِ وَفُقْدَانَ اليَقَظَةِ الرُّوحِيَّةِ. والِانْغِمَاسُ فِي المَلَذَّاتِ وَالهُمُومِ الزَّمَنِيَّةِ يُطْفِئُ فِي القَلْبِ حَرَارَةَ الرَّجَاءِ وَيُبْعِدُهُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِمَجِيءِ الرَّبِّ. لِذٰلِكَ يُشِيرُ يَسُوعُ إِلَى أَنَّ الِانْشِغَالَ بِالمَلَذَّاتِ يَقُودُ إِلَى التَّخَلِّي عَنِ السَّهَرِ، الَّذِي هُوَ الضَّمَانَةُ الحَقِيقِيَّةُ لِلثَّبَاتِ فِي طَرِيقِ الخَلَاصِ (قَارِن مَتَّى 24: 45-51).

 

2. دَعْوَةٌ إِلَى اليَقَظَةِ الوَاعِيَةِ: يَدْعُو بُطْرُسُ الرَّسُولُ المُؤْمِنِينَ إِلَى السَّهَرِ وَالتَّعَقُّلِ: "كُونُوا قَنُوعِينَ سَاهِرِينَ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُم كَالأَسَدِ الزَّائِرِ يَرُودُ فِي طَلَبِ فَرِيسَةٍ لَهُ" (1 بُطْرُس 5: 8). فَالشَّيْطَانُ يَسْتَغِلُّ ضَعْفَ الإِنْسَانِ وَتَرَاخِيهِ أَمَامَ المَلَذَّاتِ لِيُوقِعَهُ فِي الفُتُورِ وَاللَّامُبَالَاةِ، وَمِنْ ثَمَّ يُفْقِدُهُ يَقَظَتَهُ الرُّوحِيَّةَ.

 

3. البُعْدُ الرَّعَوِيُّ: الِانسِلَاخُ عَنِ المَلَذَّاتِ لَا يَعْنِي رَفْضَ الفَرَحِ أَوْ إِنْكَارَ الخَيْرِ الَّذِي فِي الخَلِيقَةِ، بَلْ هُوَ تَحَرُّرٌ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ لِلشَّهْوَةِ، بِحَيْثُ يَعِيشُ المُؤْمِنُ الحُرِّيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ فِي المَسِيحِ. السَّهَرُ إِذًا يَتَطَلَّبُ قَلْبًا غَيْرَ مُثْقَلٍ، أَيْ قَلْبًا نَقِيًّا يُوَازِنُ بَيْنَ احْتِيَاجَاتِ الحَيَاةِ الأَرْضِيَّةِ وَبَيْنَ هَدَفِهِ الأَبَدِيِّ.  والمُؤْمِنُ السَّاهِرُ هُوَ ذَاكَ الَّذِي يَسْتَخْدِمُ مَا فِي هٰذَا العَالَمِ دُونَ أَنْ يُسْتَعْبَدَ لَهُ، بَلْ يَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ وَسِيلَةً تُقَرِّبُهُ مِنَ اللهِ. بِهٰذَا يَتَّضِحُ أَنَّ السَّهَرَ المَسِيحِيَّ يَقْتَضِي تَحَرُّرَ.

 

المُتَطَلَّبُ الرَّابِعُ: الصَّلَاةُ

 

إِنَّ السَّهَرَ فِي انْتِظَارِ عَودَةِ الرَّبِّ لَا يَكْتَمِلُ إِلَّا بِالصَّلَاةِ، فَهِيَ النَّفَسُ الَّذِي يُبْقِي القَلْبَ مُتَّقِدًا، كَمَا فَعَلَ الخَادِمُ الأَمِينُ (لُوقَا 12: 35)، وَالعَذَارَى العَاقِلَاتُ اللَّوَاتِي حَفِظْنَ مَصَابِيحَهُنَّ مُوقَدَةً (مَتَّى 25: 1-8).

 

1.  السِّرَاجُ المُوقَدُ عَلامَةُ الصَّلَاةِ: المُؤْمِنُ مَدْعُوٌّ أَنْ يَكُونَ سِرَاجًا مُضِيئًا وَسَطَ عَالَمٍ فَاسِدٍ: "لِتَكُونُوا بِلَا لَوْمٍ وَبِلَا عَيْبٍ... تَتَلَأْلَأُونَ كَالأَنْجُمِ فِي الكَونِ" (فِيلِبِّي 2: 15). كَمَا أَنَّ إِيلِيَّا النَّبِيَّ كَانَ كَلَامُهُ مُتَوَقِّدًا مِثْلَ المِشْعَلِ: "كَلَامُهُ تَوَقَّدَ كَالمِصْبَاحِ" (يَشُوعُ بْنُ سِيرَاخَ 48: 1). وَيُوحَنَّا المَعْمَدَانُ كَانَ: "السِّرَاجَ المُوقَدَ المُنِيرَ" (يُوحَنَّا 5: 35)، لِيَشْهَدَ لِنُورِ الحَقِّ (يُوحَنَّا 1: 7-8). هٰكَذَا تُصْبِحُ الصَّلَاةُ زَيْتًا يُبْقِي المِصْبَاحَ مُتَّقِدًا، فَلَا يَخْبُو نُورُ المُؤْمِنِ أَمَامَ تَحَدِّيَاتِ العَالَمِ.

 

2. الصَّلَاةُ كَسَهَرٍ رُوحِيٍّ: يُوصِي بُولُسُ الرَّسُولُ الجَمَاعَاتِ المَسِيحِيَّةَ الأُولَى بِالسَّهَرِ فِي الصَّلَاةِ قَائِلًا: "أَقِيمُوا كُلَّ حِينٍ أَنْوَاعَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فِي الرُّوحِ، وَلِذٰلِكَ تَنَبَّهُوا وَأَحْيُوا اللَّيْلَ مُوَاظِبِينَ عَلَى الدُّعَاءِ" (أَفَسُس 6: 18). فَالصَّلَاةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ، بَلْ هِيَ حُضُورٌ يَقِظٌ أَمَامَ اللهِ، وَانْتِظَارٌ حَيٌّ لِمَجِيئِهِ، وَاتِّحَادٌ مُسْتَمِرٌّ بِمَشِيئَتِهِ.

 

3. البُعْدُ الرَّعَوِيُّ: الصَّلَاةُ هِيَ حَارِسُ الإِيمَانِ وَسَطَ لَيْلِ هٰذَا العَالَمِ. هِيَ يَقَظَةُ القَلْبِ أَكْثَرَ مِنْ يَقَظَةِ العَيْنِ، أَيْ اسْتِعْدَادٌ دَاخِلِيٌّ دَائِمٌ لِاسْتِقْبَالِ المَسِيحِ. المُؤْمِنُ الَّذِي يُصَلِّي يَعِيشُ الرَّجَاءَ، فَلَا يُطْفِئُ هَمُّ الدُّنْيَا نُورَهُ، بَلْ يَبْقَى ثَابِتًا فِي اليَقَظَةِ حَتَّى النِّهَايَةِ. إِذًا، فَالصَّلَاةُ لَيْسَتْ وَاجِبًا شَكْلِيًّا، بَلْ هِيَ جَوهَرُ السَّهَرِ المَسِيحِيِّ، تَجْعَلُ القَلْبَ مِصْبَاحًا مُضِيئًا بِالرَّجَاءِ، مُسْتَعِدًّا لِيُعَايِنَ مَجِيءَ الرَّبِّ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ.

 

المُتَطَلَّبُ الخَامِسُ: الصَّلَاةُ الرَّبِّيَّةُ

 

إِلَى جَانِبِ الصَّلَاةِ الشَّخْصِيَّةِ، يُوَجِّهُ يَسُوعُ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ إِلَى السَّهَرِ مِنْ خِلَالِ الصَّلَاةِ الرَّبِّيَّةِ، وَبِشَكْلٍ خَاصٍّ عَبْرَ الطَّلَبَةِ: "لَا تَتْرُكْنَا نَتَعَرَّضُ لِلتَّجْرِبَةِ (لُوقَا 11: 4).

 

1. مَعْنَى الطَّلَبَةِ الأَخِيرَةِ: هٰذِهِ الطَّلَبَةُ هِيَ نِدَاءُ اسْتِغَاثَةٍ إِلَى الآبِ كَيْ يُنْقِذَنَا مِنَ الدُّخُولِ فِي أَفْكَارِ المُجَرِّبِ، وَمِنَ التَّوَاطُؤِ مَعَهُ، وَمِنَ السُّقُوطِ فِي تَجْرِبَةِ الخَطِيئَةِ. وَيُوَضِّحُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّ الطَّمَعَ وَالغِنَى يَقُودَانِ إِلَى الهَلَاكِ: "أَمَّا الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الغِنَى فَإِنَّهُم يَقَعُونَ فِي التَّجْرِبَةِ وَالفَخِّ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّهَوَاتِ العَمِيَّةِ المَشْؤُومَةِ الَّتِي تُغْرِقُ النَّاسَ فِي الدَّمَارِ وَالهَلَاكِ" (1 طِيمُوتَاوُس 6: 9). وَيُشَدِّدُ بُطْرُسُ الرَّسُولُ عَلَى اليَقَظَةِ الرُّوحِيَّةِ المُسْتَمِرَّةِ قَائِلًا: "كُونُوا قَنُوعِينَ سَاهِرِينَ. إِنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُم كَالأَسَدِ الزَّائِرِ يَرُودُ فِي طَلَبِ فَرِيسَةٍ لَهُ" (1 بُطْرُس 5: 8).

 

2. الِانْتِظَارُ كَزَمَنٍ مُثْمِرٍ: الزَّمَنُ الفَاصِلُ بَيْنَ الآنَ وَمَجِيءِ المَسِيحِ الثَّانِي لَيْسَ وَقْتًا ضَائِعًا، بَلْ هُوَ زَمَنٌ خَصْبٌ يَنْبَغِي اسْتِثْمَارُهُ فِي:

• الأَمَانَةِ فِي الوَزَنَاتِ: تَنْمِيَةِ المَوَاهِبِ وَالعَطَايَا الَّتِي أَوْدَعَهَا الرَّبُّ فِينَا (مَتَّى 25: 14-30).

• أَعْمَالِ الرَّحْمَةِ: إِغَاثَةِ الإِخْوَةِ المُحْتَاجِينَ (مَتَّى 25: 31-46).

• المَحَبَّةِ المُتَبَادَلَةِ: عَيْشِ الوَصِيَّةِ الجَدِيدَةِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا يَسُوعُ قَبْلَ آلامِهِ: "أُعْطِيكُم وَصِيَّةً جَدِيدَةً: أَحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُم أَحِبُّوا أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُم بَعْضًا" (يُوحَنَّا 13: 34-35).

• صَنْعِ الخَيْرِ: كَمَا يُوصِي بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَمَا دَامَتْ لَنَا الفُرْصَةُ، فَلْنَصْنَعِ الخَيْرَ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَلاَسِيَّمَا إِلَى إِخْوَتِنَا فِي الإِيمَانِ" (غَلَاطِيَّة 6: 10).

 

3. نِدَاءُ الرَّجَاءِ المَسِيحِيِّ: المُؤْمِنُ السَّاهِرُ يُرَدِّدُ مَعَ الكَنِيسَةِ الأُولَى صَلَاتَهَا بِالآرَامِيَّةِ: "مَارَانَا تَا" – "تَعَالَ، أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ" (رُؤيَا 22: 20). وَهٰذَا الدُّعَاءُ هُوَ قَلْبُ السَّهَرِ المَسِيحِيِّ، حَيْثُ يُطَمْئِنُنَا الرَّبُّ فِي صَلَاتِنَا: "هَاءَنَذَا آتِي عَلَى عَجَلٍ" (رُؤيَا 22: 7).  هٰكَذَا يُصْبِحُ السَّهَرُ بِالصَّلَاةِ الرَّبِّيَّةِ مُمارَسَةً يَومِيَّةً تُحَرِّرُ المُؤْمِنَ مِنَ التَّجْرِبَةِ، وَتُثَبِّتُهُ فِي المَحَبَّةِ، وَتَدْفَعُهُ إِلَى عَيْشِ الخَيْرِ، فِيمَا يَبْقَى قَلْبُهُ مُتَّقِدًا بِالرَّجَاءِ فِي انْتِظَارِ الرَّبِّ العَائِدِ.

 

 

الخُلاصَة

 

أَلْقَى يَسُوعُ تَعْلِيمَهُ عَنِ السَّهَرِ أَثْنَاءَ صُعُودِهِ إِلَى أُورَشَلِيمَ لِإِتْمَامِ سِرِّهِ الفِصْحِيِّ (لُوقَا 9). وَبِنَاءً عَلَى هٰذَا التَّعْلِيمِ، يُدْعَى المُؤْمِنُونَ إِلَى المَسِيرِ مَعًا لِلِقَائِهِ بِالسَّهَرِ، كَمَا أَوْصَى: "كُونُوا مِثْلَ رِجَالٍ يَنْتَظِرُونَ رُجُوعَ سَيِّدِهِمْ مِنَ العُرْسِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ البَابَ يَفْتَحُونَ لَهُ مِنْ وَقْتِهِمْ" (لُوقَا 12: 36).

 

إِنَّ لِقَاءَ المَسِيحِ يَقْتَضِي أَيْضًا الكِفَاحَ اليَوْمِيَّ ضِدَّ الشِّرِّيرِ، فِي يَقَظَةٍ رُوحِيَّةٍ دَائِمَةٍ: "لِتَكُنْ أَوْسَاطُكُمْ مَشْدُودَةً، وَلْتَكُنْ سُرُجُكُمْ مُوقَدَةً" (لُوقَا 12: 35).

 

كَمَا يَقْتَضِي اللِّقَاءُ بِالصَّلَاةِ المُتَوَاصِلَةِ، انْتِظَارًا لِيَومِ عَوْدَتِهِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ، حَيْثُ سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً، لَا كَدَيَّانٍ لِلْخَطِيئَةِ بَلْ كَمُخَلِّصٍ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ: "فَكَذٰلِكَ المَسِيحُ قُرِّبَ مَرَّةً وَاحِدَةً لِيُزِيلَ خَطَايَا جَمَاعَةِ النَّاسِ. وَسَيَظْهَرُ ثَانِيَةً، بِمَعْزِلٍ عَنِ الخَطِيئَةِ، لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ لِلْخَلَاصِ" (عِبْرَانِيِّينَ 9: 28).

 

سَيَأْتِي الرَّبُّ فِي سَاعَةٍ لَا نَتَوَقَّعُهَا، وَسَوْفَ يَطْرُقُ بَابَ قُلُوبِنَا. لِذٰلِكَ، كُلُّ وَاحِدٍ مَدْعُوٌّ شَخْصِيًّا إِلَى التَّرْحِيبِ بِزِيَارَتِهِ، كَمَا يَقُولُ: "هَاءَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى البَابِ أَقْرَعُهُ، فَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ البَابَ، دَخَلْتُ إِلَيْهِ وَتَعَشَّيْتُ مَعَهُ وَتَعَشَّى مَعِي" (رُؤْيَا 3: 20). إِنَّهُ يَدْعُونَا إِلَى وَلِيمَةِ العُرْسِ السَّمَاوِيَّةِ، تِلْكَ الَّتِي رَآهَا آبَاؤُنَا مِنْ بَعِيدٍ بِالإِيمَانِ، وَالَّتِي نَبْدَأُ نَتَذَوَّقُ عَرْبُونَهَا فِي كُلِّ إِفْخَارِسْتِيَّا، حَيْثُ الحَاضِرُ المَسِيحُ يُغَذِّينَا بِجَسَدِهِ وَدَمِهِ، وَيُهَيِّئُنَا لِليَومِ الَّذِي فِيهِ نُشَارِكُهُ الوَلِيمَةَ الأَبَدِيَّةَ فِي بَيْتِ الآبِ.

 

إنَّ إِيمانَنا يُعلِنُ أنَّ يَسُوعَ المَسيحَ سيَعودُ فِي المَجدِ لِيَدينَ الأَحياءَ وَالأَمواتَ (قانون الإيمان). وَعَودتُهُ لَيسَت مُجَرَّدَ حَدَثٍ مُستَقبَلِيٍّ غامِضٍ، بَل هيَ وَعدُ اللهِ الأَمينُ الَّذي يَضْمَنُ اكْتِمالَ تَدبِيرِ الخَلاصِ. إنَّها تُذكِّرُنا أَنَّ الحَياةَ الحاضِرَةَ لَيسَت النِّهايَة، بَل هِيَ مَسِيرَةٌ نَحوَ اللِّقاءِ النِّهائِيِّ مَعَ المَسيحِ، حيثُ يُكافَأُ الأَبرارُ وَيُدانُ الأَشرارُ. كَيْفَ نَسْهَرُ فِي انْتِظَارِهِ؟ السَّهَرُ المسيحِيُّ لَيسَ انتِظارًا خاوِيًا أو قَلقًا مُشوَّشًا، بَل هُوَ حَياةُ يَقَظَةٍ رُوحِيَّةٍ دَائِمَة، تَتَجَلَّى فِي:

 

• الثِّقَةِ بِالمَسيحِ: "لا تَخَفْ أَيُّها القَطيعُ الصَّغِير" (لوقا 12: 32)، أي الِاعتمادُ عَلَى وَعْدِ الآبِ بِإعطاءِ المَلكوتِ.

• الغِنَى بِاللهِ لا بِالعالَم: حَيثُ يُدعَى المُؤمِنُ أَنْ يَضَعَ كَنزَهُ فِي السَّمَاءِ لا فِي الأَرض.

• المُثابَرَةِ فِي العَمَلِ وَالخِدمَةِ: فَالسَّهَرُ يَعنِي أن نَعيشَ كَأنَّنا نَستَقبِلُ المَسيحَ الآن، فَنُعَبِّرُ عَن مَحبَّتِنا للهِ وَللقَريبِ.

• الانْفِتاحِ عَلَى الرُّوحِ القُدُس: الَّذي يُعِدُّنا لِلِّقاءِ المَسيحِ فِي كُلِّ حَدَثٍ وَظَرفٍ مِن حَياةِ اليَوْم.

 

إِذًا، يَدعُو النَّصُّ كُلَّ مُؤمِنٍ أَنْ يَعيشَ وَعيَ الحُضورِ الإِلهِيِّ فِي كُلِّ لَحظَة، فَيَكونَ ساهِرًا بِالقَلبِ وَالعَقلِ

 

 

دُعــاء

 

يا ربّ،

أعطِني قلبًا حَكيمًا، يَفهَمُكَ ويُحِبُّكَ بلا حُدود،

وقلبًا مُستعِدًّا لانتظارِكَ في السَّهر،

متحرِّرًا مِن ثِقَلِ الملذّاتِ والأهواء،

مُتشحًّا بِسِلاحِكَ الرّوحي،

مُجاهِدًا ضِدَّ التَّجارِبِ اليوميّة.

علِّمْني أن ألتجِئَ إلى الصَّلاةِ الرَّبِّيَّة كينبوعِ قوّة،

وإلى السَّهراتِ الإِنجِيلِيَّة كمدرسةِ إيمان،

لأكونَ مُستعِدًّا في كُلِّ حِين،

وأُضِيءَ مِصباحَ رُوحي في انتِظارِكَ،

حتّى تَأتي وتَجِدَني ساهِرًا في مَحبَّتِكَ.  آمــين.

 

 

قِصَّةٌ مِن وَحي كَلامِ الرَّب

 

في إحدى القُرى، كان رجلٌ طريحَ الفِراش، يَصارِعُ ساعَةَ المَوت. كان مُمدّدًا على وسادَتِه، مُحتَضِنًا إيّاها بِكُلِّ ما أُوتِي مِن قُوَّة. حاول أهلُه أن يُريحوه، فأرادوا أن يُزيحوا الوسادة لِيَضعوا له وسادَةً أَليَنَ وأَكثَرَ راحة، لكنّه أبَى وأصرّ، مُتمسِّكًا بها بِشِدَّة حتّى لفظ أنفاسَه الأخيرة.

 

وبَعد موتِه، فتَحوا الوِسادة، فإذ بها مَملوءةٌ بمالِه وثروتِه. كان يَخشى أن يُفارِقها، لأن قلبَه تعلَّق بها، فمات مُمسِكًا بكنزٍ أرضيٍّ لا يَستطيع أن يَعبُرَ به إلى الأبدية. عِندَها تَذكَّر الحاضرون كَلامَ يسوع: "فحَيثُ يَكونُ كَنزُكُم، يَكونُ قَلبُكُم" (لوقا 12: 34).

 

إن العِبرة من هذه القصة هي أنَّ الإنسان الذي يُعلِّق قلبَه بِثَرواتِ العالَم يَصعُبُ عليه أن يُغادِرَها، فيَرحل مُتَثاقِلًا، مأسورًا بما لا يَنفع. أمّا الذي يجعل كَنزَه في السَّماء، فإنّه يَرحلُ مُشتاقًا إلى لِقاءِ رَبِّه، مُرتاحَ القلب، لأن قلبَه كان مُسبَقًا حيث كَنزُه، أي في الله.