موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 17: 5-10)
5-قالَ الرُّسُلُ لِلرَّبّ: "زِدْنا إِيماناً". 6 فقالَ الرَّبّ: "إِذا كانَ لَكم إِيمانٌ بِمقْدارِ حَبَّةِ خَردَل، قُلتُم لِهذِه التُّوتَة: اِنقَلِعي وَانغَرِسي في البَحر، فَأَطاعَتْكم. 7 "مَن مِنْكُم له خادِمٌ يحرُثُ أَو يَرعى، إِذا رجَعَ مِنَ الحَقْل، يَقولُ له: تَعالَ فَاجلِسْ لِلطَّعام! 8 أَلا يَقولُ له: أَعدِدْ لِيَ العَشاء، واشْدُدْ وَسَطَكَ واخدُمْني حتَّى آكُلَ وأَشرَب، ثُمَّ تَأكُلُ أَنتَ بَعدَ ذلِكَ وتَشرَب. 9 أَتُراه يَشكُرُ لِلخادِمِ أَنَّه فعَلَ ما أُمِرَ به؟ 10 وهكذا أَنتُم، إِذا فَعَلتُم جميعَ ما أُمِرتُم بِه فقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه".
مُقَدِّمَة
يَتَناوَلُ إنجيلُ الأَحَدِ (لوقا ١٧: ٥-١٠) توجيهات السَّيِّدِ المَسيحِ لِلرُّسُلِ حَولَ قُوَّةِ الإيمانِ والتَّواضُعِ في الخِدمَة؛ فالإيمانُ والتَّواضُعُ هُما عُنصُرانِ أَساسيّانِ لِعَيشِ الحَياةِ المَسيحيَّة. الإيمانُ يُعطي الإِنسانَ حياةً حَقَّةً لَهُ ولِكُلِّ مَن حَولَه، لأَنَّ الإيمانَ بِمَعناهُ المَسيحيِّ لَيسَ في الأَساسِ: بِماذا تُؤمِن؟ بَل بِمَن تُؤمِن؟ فالإيمانُ في أَصلِهِ لَيسَ تَصديقًا لِمَعلُوماتٍ عَنِ الله، بَلِ انتماءً إلى الله ووَضعُ ثِقةِ المُؤمِنِ فيه تَعالى أَكثَرَ مِن ثِقَتِه في ذاتِه وفي الآخَرينَ وفي الأَشياء. ويَتَّصِفُ المُؤمِنُ في المَسيحِ أَيضًا بِالتَّواضُع، ومِن أَهمِّيَّةِ هذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ السَّيِّدَ المَسيحَ قالَ لِتَلاميذِه: «تَتَلمَذوا لي فَإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلب» (متى 11: 29). ومِن هُنا تَكمُنُ أَهمِّيَّةُ البَحثِ في وَقائِعِ النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ وتَطبيقاتِه الحَيَويَّة.
أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 17: 5-10)
5وقالَ الرُّسُلُ لِلرَّبّ: زِدْنا إِيماناً
تُشيرُ عِبَارَةُ "الرُّسُلُ" إلى الاثنَي عَشَرَ الّذينَ اختارَهُم يسوعُ مِن بَينِ التَّلاميذ (لوقا 6: 13-14)، ولُقِّبوا بالرسل (متى 10: 2). وقد استَعمَلَ لوقا لَقَبَ "الرُّسُل" سِتَّ مَرّاتٍ في إنجيله، أَمّا متّى ويوحنّا فذَكراهُ مَرّةً واحدة، ومرقس مَرّتَين. أَمّا بولسُ الرَّسولُ فحافَظَ على هذا اللَّقبِ، الّذي يَدُلُّ على التَّلاميذِ الّذين أَرسَلَهُم يسوعُ لِحَملِ بَشارةِ الخَلاص. إنَّهم نَواةُ الكنيسةِ الّتي ستُواصِلُ عَمَلَ يسوع.
عِبَارَةُ "زِدْنا" تُشيرُ إلى طَلَبِ التَّلاميذِ مِنَ المسيحِ أَن يُقوِّيَ إيمانَهم ويُنمِّيه. وقد انبَثَقَ هذا الطَّلَبُ مِن وَعيِهِم بِعَجزِهِم عن تَحقيقِ مَتطَلَّباتِ يسوع، خُصوصًا في مَوضوعِ الغُفران: "إِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ له" (لوقا 17: 4). فما يَطلُبُهُ الرَّبُّ يَتَجاوَزُ قُدراتِ الطَّبيعةِ البَشَريَّة، والإيمانُ هو عَطيَّةُ النِّعمَةِ الإلهيَّة الّتي بِها: "كُلُّ شَيءٍ مُمكِنٌ لِلَّذي يُؤمِن" (مرقس 9: 23). يقول بولسُ الرَّسولُ: "علَينا أَن نَشكُرَ اللهَ دائِمًا في أَمْرِكم، أَيُّها الإِخوَة. وهذا حَقٌّ لأَنَّ إِيمانَكم يَنْمو نُمُوًّا شديدًا" (2 تسالونيقي 1: 3). ويُعلِّقُ القدِّيسُ كيرِلُّس الكبير: "لا تَتعجَّب إن كان التَّلاميذُ يَطلُبونَ زِيادَةَ إيمانِهم مِنَ المسيح، إذ أوصاهُم أَلاّ يُغادِروا أُورَشَليم بل يَنتَظِروا ما وَعَدَ بِه الآب، حتى يَلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى (أعمال 1: 4). وعِندما حَلَّت بهم القُوَّةُ صاروا شُجعانًا، يَحتقِرونَ الموت، ويصنَعونَ المُعجِزات".
مَعنى "إِيمَان" في الكلمة اليونانيَّة πίστις تعني الثِّقة الّتي تَتَّجِه نَحوَ شَخصٍ "أَمين"، وتُلزِمُ الإنسانَ بِكُلِّيَّتِه. وهي مِن جِهةٍ أُخرى جُهدُ العَقلِ الّذي تُساعِدُهُ الكَلِمَةُ أو الآياتُ على بُلوغِ حَقائِقَ لا تُعايَن: "الإِيمانُ بُرهانُ الحَقائِقِ الّتي لا تُرى" (عبرانيين 11: 1). إذًا، الإيمانُ لَيسَ أَمرًا جامِدًا نَقبَلُه ونَتوقَّف، بَل هُوَ خِبرةُ حَياةٍ مَع الله تَنمُو بِاستِمرار. وبدونِهِ لا نَقدِرُ أَن نُحِبَّ ونَغفِرَ كما أَوصانا يسوع. ومِن هُنا نُدرِكُ لماذا طَلَبَ الرُّسُلُ مِن يسوعَ أَن يُزيدَ إيمانَهم. يُعلِّقُ البَابا فرنسيس قائلاً: "نَعَم، يا رَب، إيمانُنا صَغير، ضَعيف ووَاهِن، لكنَّنا نُقَدِّمُه لَكَ هكذا كما هُو، كَي تُنمِّيه". وهنا يَبقى السُّؤال مفتوحًا أمامَنا: ما نَوعيَّةُ إيمانِنا اليَوم؟ هل نَطلُب زِيادَتَه وتَجذيرَه في الرَّبّ، لا في كَثرتِه بَل في نوعيَّتِه؟ فالإيمانُ المتجذِّرُ في المسيحِ يَجعَلُنا خُدّامًا ورُسُلاً في بُيوتِنا ومُجتَمَعاتِنا. هذِهِ الصَّرْخَةُ تُعَبِّرُ عَنْ قَلْبِ كُلِّ مُؤمِنٍ حِينَ يُوَاجِهُ صُعُوبَةَ الغُفْرَانِ أَوْ ثِقَلَ الحَيَاةِ. يقول القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "لَيْسَ الإِيمَانُ الكَبِيرُ هُوَ الَّذِي يُخَلِّصُ، بَلِ الإِيمَانُ الصَّادِقُ، حَتَّى لَوْ بَدَا صَغِيرًا. لِأَنَّ قُوَّةَ الإِيمَانِ لَا تَأْتِي مِنَ الإِنسَانِ، بَلْ مِنَ اللهِ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَصْنَعَ العَجَائِبَ بِهِ". وَيُجِيبُ يَسُوعُ بِمَثَلِ حَبَّةِ الخَرْدَلِ، ثُمَّ بِمَثَلِ العَبْدِ، لِيُعَلِّمَنَا أَنَّ قُوَّةَ الإِيمَانِ لَيْسَتْ فِي كَثْرَتِهِ، بَلْ فِي صِدْقِهِ، وَأَنَّ الخِدْمَةَ الحَقِيقِيَّةَ هِيَ تَوَاضُع بِلَا ادِّعَاءٍ.
عِبَارَةُ "إِذا كانَ لَكُم" في الأَصْلِ اليونانِيّ: Εἰ ἔχετε (لَوْ لَكُم) تَحْمِلُ مَعْنَى الاِمْتِناعِ لاِمْتِناعٍ، أَي أَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُم إِيمانٌ بِمِقْدارِ حَبَّةِ الخَردَل. وَهذِهِ مَأساةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ الرُّسُلُ الَّذينَ سَيُصْبِحونَ أَساسَ الكَنيسَةِ أَقَلَّ مِنْ هذَا المِقْدار؟ إِذًا، المُشْكِلَةُ لَيْسَتْ فِي الكَمِّيَّةِ بَلْ فِي النَّوْعِيَّةِ. الإِيمانُ لا يُقاسُ بِالحَجْمِ، بَلْ بِجَوْدَتِهِ وَقُوَّةِ جُذورِهِ. الإِيمانُ لا يَحْتاجُ أَنْ يَكونَ ضَخْمًا، بَلْ أَنْ يَكونَ صادِقًا وَحَقيقيًّا. يَعلِّقُ البَابا فِرنسيس قائِلًا: "يَكْفِي أَنْ يَكونَ إِيمانُنا بِحَجْمِ حَبَّةِ خَردَل، صَغيرًا وَلَكِنْ حَقيقيًّا وَصادِقًا، فيُمَكِّنُنا مِنْ فِعْلِ ما هُوَ مُسْتَحيلٌ بَشَرِيًّا". لمَنْطِقُ الدُّنْيويُّ يَبْحَثُ عَنِ القُوَّةِ وَالعَظَمَةِ، أَمّا مَنْطِقُ الإِنجيلِ فَيَعْمَلُ مِنْ خِلالِ القَليلِ وَغَيْرِ المَرْئِيّ.
رَمْزِيَّةُ "حَبَّةِ الخَردَل": تُعْتَبَرُ حَبَّةُ الخَردَل أَصْغَرَ البُذورِ (مَرْقس 4: 31)، وَمَعَ ذلِكَ تَنمُو لِتُصْبِحَ شَجَرَةً بِطُولِ ثَلاثَةِ أَمْتارٍ وَنِصْفٍ تَقْريبًا. يُشِيرُ يَسوعُ بِهذَا إِلى أَنَّ الإِيمانَ – وَإِنْ بَدا صَغيرًا – يَحْمِلُ فِي ذاتِهِ قُدْرَةً عَجيبَةً عَلَى النُّمُوِّ وَإِحْداثِ فِعْلٍ يَفوقُ التَّوَقُّعاتِ. مَثَلُ حَبَّةِ الخَرْدَلِ يُذَكِّرُنَا أَنَّ القَلِيلَ مِنَ الإِيمَانِ يَكْفِي إِذَا كَانَ حَيًّا وَمُثَبَّتًا بِاللهِ. وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّ قَضِيَّةَ الإِيمَانِ لا تَكْمُنُ فِي الْكَمِّ، بَلْ فِي الْكَيْفِ. فَإِيمَانُنَا هُوَ مِيزَانُ صِدْقِ عَلاَقَتِنَا بِاللهِ وَعُمقِ اتِّكَالِنَا عَلَيْهِ.
رَمْزِيَّةُ "شَجَرَةِ التُّوتِ " الأَصْلُ اليونانِيّ: συκάμινος (جُمَّيْزَةٌ)، وَيُطْلَقُ عادَةً عَلَى أَشْجارِ التُّوتِ الضَّخْمَةِ ذاتِ الجُذورِ العَميقَةِ. فِي زَمَنِ يَسُوعَ، كَانَتْ مِنَ الأَشْجَارِ الشَّائِعَةِ فِي فِلَسْطِين، وَتَتَمَيَّزُ بِجُذُورِهَا العَمِيقَةِ المُمتَدَّةِ فِي الأَرْضِ، مِمَّا يَجْعَلُ اقْتِلَاعَهَا أَمْرًا صَعْبًا جِدًّا. هذِهِ الشَّجَرَةُ تَرْمُزُ إِلى الشَّكِّ أَوِ الخَطِيئَةِ المُتَأَصِّلَةِ فِي القَلْبِ، وَالَّتي تَبْدو مُسْتَحيلَةَ الاقْتِلاعِ. يقول كيرِلُّسُ الكَبيرُ: " شَجَرَةُ الجُمَّيْزِ رَمْزٌ لِلمُسْتَحيلِ، وَبِالإِيمانِ يُمكِنُ اقْتِلاعُها وَغَرْسُها فِي البَحْرِ، أَي أَنَّ الإِيمانَ يَقْتَلِعُ الخَطايا العَميقَةَ. ويُوحَنّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "يَرى أَنَّ "شَجَرَةَ التُّوتِ" رَمْزٌ لِلشَّيْطانِ المَزْروعِ فِي حَياتِنا. وَبِالإِيمانِ نَقْتَلِعُ سُلطانَهُ مِنَ القَلْبِ وَنُلْقِيهِ فِي البَحْرِ، كَما حَدَثَ مَعَ الشَّياطينِ الَّتي دَخَلَت فِي الخَنازيرِ فَاندَفَعَت إِلى البُحَيْرَةِ وَغَرِقَت (لوقا 8: 33).
"قُلتُم لِهذِه التُّوتَة: اِنقَلِعي وَانغَرِسي فِي البَحرِ، فَأَطاعَتْكم " تشير إلى قُوَّةِ الإِيمانِ الفاعِلِ. الإِيمانُ الحَيّ يَجْعَلُ المُسْتَحيلَ مُمْكِنًا. لَيْسَ الأَمْرُ سِحْرًا أَوْ خَيالًا، بَلْ عَمَلُ النِّعْمَةِ فِي قَلْبِ المُؤمِنِ الَّذي يَضَعُ ثِقَتَهُ الكامِلَةَ فِي المَسيحِ.
كَلِمَةُ "فَأَطاعَتْكم" تَكشِفُ عَنْ سُلطَةِ الإِيمانِ، الَّذي يُمَنِحُ المُؤمِنَ القُوَّةَ لِلقيامِ بِواجِباتِهِ رَغْمَ ضَعفِهِ الذّاتِيِّ، لأَنَّ اللهَ هُوَ العامِلُ فِيهِ. الإِيمانُ المَطلوبُ لَيْسَ ضَخْمًا، بَلْ حَقيقيًّا وَصادِقًا. يَكْفِي أَنْ يَكونَ بِحَجْمِ حَبَّةِ خَردَل لِيَصْنَعَ المُسْتَحيلَ، إذ يَقْتَلِعَ جُذورَ الخَطِيئَةِ، وَيَهْزِمَ الشَّكَّ وَالشَّيْطانَ. فالإِيمانُ لا يَعْتَمِدُ عَلَى قُوَّتِنا بَلْ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ العامِلَةِ فِينا. تُبَيِّنُ لَنا هذِهِ الآيَةُ إِيمانَ الرَّبِّ بِالْإِنسَانِ كَثَمَرَةٍ لِمَحَبَّتِهِ لَهُ. فَاللَّهُ لا يَنْظُرُ إِلَى مِقْدَارِ إِيمَانِنَا الْبَشَرِيِّ، أَكانَ كَثِيرًا أَمْ قَلِيلًا، بَلْ يَلْتَفِتُ إِلَى نَوْعِيَّتِهِ وَجَوْدَتِهِ، وَإِلَى صِدْقِ الْعَلاقَةِ الَّتِي تَرْبِطُنَا بِهِ. فَلْنَسْعَ إِذًا إِلَى أَنْ يَكُونَ إِيمَانُنَا صَادِقًا وَحَيًّا، يَتَغَذَّى كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَلِمَةِ اللهِ وَيَظْهَرُ فِي أَعْمَالِنَا. نَعْلَمُ أَنَّ التَّحَدِّيَاتِ الْبَشَرِيَّةَ لَنْ تَنْتَهِيَ، وَلَكِنَّ الْحُضُورَ الإِلَهِيَّ أَعْظَمُ وَهُوَ ثَابِتٌ. فَإِنَّنَا لا نَرْتَكِزُ عَلَى قُوَانَا بِقَدْرِ مَا نَرْتَكِزُ عَلَى إِيمَانِ اللهِ بِنَا وَإِيمَانِنَا بِهِ. يَا رَبَّ، ثَبِّتْ إِيمَانَنَا بِكَ، وَعَلِّمْنَا أَنْ نَحْيَا كُلَّ يَوْمٍ عَلَى يَقِينِ حُضُورِكَ الأَمِينِ.
7 مَن مِنْكُم له خادِمٌ يحرُثُ أَو يَرعى، إِذا رجَعَ مِنَ الحَقْل، يَقولُ له: تَعالَ فَاجلِسْ لِلطَّعام!
تُشيرُ عِبَارَةُ "مَن مِنْكُم لَهُ خادِمٌ" إلى العاداتِ الاجتماعية السّائِدَةِ في الحَياةِ اليوميَّةِ، حَيثُ كانَ أَغْلَبُ الخَدَمِ عَبيدًا، وَكانَ النِّظامُ الاجتِماعِيُّ وَالاقتِصادِيُّ كُلُّهُ في العالَمِ أَيّامَ يسوعَ قائِمًا على الرِّقِّ وَالرَّقِيق. أَمّا مِنَ النّاحِيَةِ الرّوحِيَّةِ، فَنَحنُ عَبيدٌ لِلمَسيحِ، لأَنَّهُ هُوَ الَّذي افتَدانَا بِدَمِهِ الثَّمينِ على الصَّليبِ (أفسس 1: 7). غير أَنَّ طَبيعَةَ الإِنسانِ تَشتَهي المَجدَ الباطِل؛ فَعَلى سَبيلِ المِثالِ، اشْتَهى يَعقوبُ وَيوحنّا أَن يَكونَ أَحَدُهُما عَن يَمينِهِ وَالآخَرُ عَن يَسارِهِ في مَلَكوتِهِ (متى 20: 21).
تُشيرُ عِبَارَةُ "مَن مِنْكُم" إلى أَنَّ يسوعَ يُخاطِبُ رُسُلَهُ كأَنَّهُم مِثلُ سائِرِ النّاسِ في مُعامَلَةِ بَعضِهِم لِبَعضٍ. وَالغايَةُ مِن قَولِهِ هُنا أَنَّ الأَعمالَ الصّالِحَةَ لا تَستَحِقُّ الأُجرَةَ في ذاتِها، إِذ أَنَّ الرُّسُلَ لَيسوا سِوى خَدَمٍ، وَإِنَّ كُلَّ قُوى أَجسادِهِم وَعُقُولِهِم هِيَ لِسَيِّدِهِم الله. فَشَبَّهَ خِدمَتَهُم لِلهِ بِخِدمَةِ العَبيدِ لِساداتِهِم.
كَلِمَة "خادِمٌ" في الأَصْلِ اليونانِيِّ δοῦλος (دُولوس)، مَعناها: "عَبدٌ" مَشْتَرى بِالمَالِ، لا حَقَّ لَهُ أَن يَنتَظِرَ أُجرَةً غَيرَ طَعامِهِ وَكَسوَتِهِ. يَنطَبِقُ "الخادِم" هُنا على الشَّخصِ الَّذي يَخدُمُ بِطَريقِ الاِلتِزامِ، وَلا يَفشَلُ في خِدمَتِهِ لأَنَّهُ يَنتَمِي إِلى سَيِّدِهِ. إِنَّهُ يَخدُمُهُ لا بِاختِيارِهِ، بَل بِالضَّرورَةِ. بَينَما كَلِمَةُδιάκονος (دِياكُونوس) أي "شَمّاس" تُشيرُ إِلى شَخصٍ حُرّ يَختارُ أَن يَخدُمَ، وَإِن كانَ يَعتمِدُ على مَن يَخدُمُه، لَكِنَّهُ غَيرُ مُجبَرٍ على الخِدمَةِ.
عِبَارَةُ "يَحرُثُ تُشِيرُ إِلى الفِلاحَةِ، وَكُلِّ ما يَتَعاطاهُ صاحِبُ الأَراضِي وَالحُقُولِ لِكَسْبِ مَعيشَتِهِ، كَحَرْثِ الأَرضِ وَزَرْعِها وَحَصادِها وَمُعامَلَةِ غَلاّتِها. وَكانَتِ الأَرضُ عادَةً تُفْلَحُ بِالمِحراثِ الَّذي تَجُرُّهُ الثِّيرانُ أَوِ البَقَرُ. وَكانَ المِنجَلُ يُستَخْدَمُ لِلحَصادِ (1 ملوك 19: 19). وَقَد بَقِيَتِ الفِلاحَةُ الحِرفَةَ الأَساسِيَّةَ المُعَوَّلَ عَلَيْها في فِلسطين طِوالَ مُدَّةِ العَهدَينِ القَديمِ وَالجَديدِ.
عِبَارَة "يَرعى" فَتُشيرُ إلى رِعايَةِ المَواشِي، وَخُصوصًا الغَنَم. الرّاعي يَذهَبُ إِلى الحَظيرَةِ في الصَّباحِ (يوحنا 10: 2-5)، وَيَقتادُ الغَنَمَ إِلى المَرعى، وَيَقضِي مَعَها النَّهارَ كُلَّهُ، وَفي بَعضِ الأَحيانِ اللَّيلَ أَيضًا (لوقا 2: 8). الحراثة والرَّعي عملان رّئيسيَّانِ اللَّذينِ كانَ السّادَةُ يُكلِّفونَ بِهِما العَبيدَ.
عِبَارَة "رَجَعَ مِنَ الحَقْل" تُشيرُ إِلى الرُّجوعِ مِنَ العَمَلِ، كَما يَرجِعُ التِّلميذُ مِن تَبشيرِهِ. يُبَيِّنُ يسوعُ أَنَّ الرُّسُلَ – وَمِن خَلفِهِم كُلَّ المُؤمِنين – لَيسوا سِوى خَدَمٍ لِلهِ. وَمَهْما عَمِلوا مِن أَعمالٍ صالِحَةٍ، فَهِيَ لا تَستَحِقُّ أُجرَةً، بَل هِيَ وَاجِبٌ أَصِيلٌ، لأَنَّنا مَدينونَ لِسَيِّدِنا الَّذي افتَدانَا. وَهُوَ الدّاعِي لِلتَّواضُعِ في الخِدمَةِ، دُونَ ادِّعاءٍ أَوِ افتِخار.
8 أَلا يَقولُ له: أَعدِدْ لِيَ العَشاء، واشْدُدْ وَسَطَكَ واخدُمْني حتَّى آكُلَ وأَشرَب، ثُمَّ تَأكُلُ أَنتَ بَعدَ ذلِكَ وتَشرَب
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَعدِدْ لِيَ العَشاء" إِلى العَبدِ الَّذي يَجِبُ عَلَيهِ أَنْ يَعمَلَ أَعمالَ البَيْتِ بَعدَ الفَراغِ مِن أَعمالِ الحَقْلِ. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنتَظِرَ بَعدَ ذلِكَ سِوَى الأَكْلِ وَالاِستِراحَةِ.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "اشْدُدْ وَسَطَكَ" إِلى وَضْعِ الزُّنّارِ في وَسَطِ الثِّيابِ الطَّويلَةِ الواسِعَةِ عِندَ الشُّروعِ في العَمَلِ، وَهُوَ رَمزٌ إِلى الجِهادِ وَالاِستِعدادِ لِلعَمَلِ: "لِتَكُنْ أَوساطُكُم مَشدودَةً، وَلْتَكُنْ سُرُجُكُم مُوقَدَةً، وَكونوا مِثلَ رِجالٍ يَنتَظِرونَ رُجوعَ سَيِّدِهِم" (لوقا 12: 35-36).
تُشِيرُ عِبَارَةُ "اخدُمْني" إِلى الأَجيرِ الَّذي إِذا قَامَ بِمِثلِ هذا العَمَلِ لا يَقومُ إِلّا بِواجِبِهِ (لوقا 12: 35). وَقَد أَدرَكَ بُولُسُ الرَّسولُ هذِهِ الحَقيقَةَ فَصَرَّحَ قائِلًا:"فَإِذا بَشَّرتُ، فَلَيسَ في ذلِكَ لي مَفخَرَة، لأَنَّها فَريضَةٌ لا بُدَّ لي مِنها، وَالوَيلُ لي إِن لم أُبَشِّر!" (1 قورنتس 9: 16). ويُعَلِّقُ القُدِّيسُ كيرِلُّسُ الكَبيرُ قائلًا: "المَثَلُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَما أَنَّ قُدرَةَ السُّلطانِ المَلوكيِّ تَتَطَلَّبُ مِنَ العَبيدِ أَنْ يَخضَعوا لَهُ كَدَينٍ يَلتَزِمونَ بِهِ، هكَذا يَقولُ إِنَّ الرَّبَّ لا يُقَدِّمُ شُكرًا لِلعَبدِ حَتّى وَإِن فَعَلَ ما وَجَبَ عَلَيهِ عَمَلُهُ، لأَنَّهُ عَبدٌ".
تُشِيرُ عِبَارَةُ "ثُمَّ تَأكُلُ أَنتَ بَعدَ ذلِكَ وَتَشرَب" إِلى الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ وَالشَّبَعِ في المَلَكوتِ. وَيُعَلِّقُ عَلَيها القُدِّيسُ أُوغسطينوس بِتَفسيرٍ رُوحِيٍّ قائلًا: "كَأَنَّ السَّيِّدَ يَقولُ: بَعدَما أَتَمَتَّعُ بِعَمَلِ كَرازَتِكُم، وَأَتَغَذَّى أَنا نَفسي بِطَعامِ تُوبَتِكُم، عِندَئِذٍ تَأتونَ أَنتُم وَتَتَمَتَّعونَ بِالوَليمَةِ أَبَدِيًّا، وَلِيمَةِ الحِكمَةِ الخالِدَةِ". المسيحُ يُوضِحُ أنَّ التَّلميذَ لا يَصنَعُ إلّا ما هو واجِبٌ عَلَيهِ، وَلا يَطلُبُ مَديحًا أو مَجْدًا، بَل يَنتَظِرُ المُكافَأَةَ الحَقيقيَّةَ في الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ، حَيثُ يُشارِكُ السَّيِّدَ وليمَةَ المَلَكوتِ.
9 أَتُراه يَشكُرُ لِلخادِمِ أَنَّه فعَلَ ما أُمِرَ به؟
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَتُراهُ يَشكُرُ" إِلى أَنَّ ما عَمِلَهُ الخادِمُ هُوَ أَمرٌ عاديٌّ. فَالسّادَةُ لَم يَعتادوا أَنْ يَشكُروا عَبيدَهُم على الأَعمالِ اليوميَّةِ المَطلوبَةِ مِنْهُم، وَلَم يَكُن لِلْعَبيدِ أَنْ يَتَوَقَّعوا الشُّكرَ على ذلِكَ. وكَذلِكَ، فَلَيسَ لِعَبيدِ اللهِ أَنْ يَنتَظِروا مَديحَهُ أَو شُكرَهُم على إِتمامِ ما يَجِبُ عَلَيهِم، لأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذي أَعْطانا أَنْ نَفعَلَ. فَلِماذا نَنسبُ لِأَنفُسِنا ما صَنَعَتْهُ نِعْمَةُ اللهِ؟ كَما جاءَ في تَعليمِ يَعقوبَ الرَّسول: "كُلُّ عَطِيَّةٍ صالِحَةٍ وَكُلُّ هِبَةٍ كامِلَةٍ تَنزِلُ مِن عُلُوٍّ، مِن عِندِ أَبي الأَنوار" (يعقوب 1: 16). مِن هَذا المُنطَلَقِ، يَطلُبُ يسوعُ مِن تَلاميذِهِ الاِتِّضاع. فَإِن ثَبَتوا في الإِيمانِ، وَغَفَروا، وَفَعَلوا كُلَّ شَيءٍ صالِحٍ، يَجِبُ عَلَيهِم أَنْ يَشعُروا أَنَّهُم إِنَّما فَعَلوا ما هو واجِبٌ عَلَيهِم، وَأَنَّهُم لَم يُقَدِّموا ما يُوفِّي مَحبَّةَ اللهِ لَهُم. فَلا يَجُوزُ أَنْ يَقولوا: "قُمنا بِالواجِبِ، وَبَقِيَ أَنْ نَنالَ المُكَافَأَة". بَل عَلَيهِم أَنْ يَطلُبوا التَّواضُعَ وَالقَناعَةَ، دُونَ تَطَلُّعٍ إِلى المُكَافَأَةِ عَلى أَعمالِهِم. الخادِمُ الأَمينُ لا يَطلُبُ شُكرًا، بَل يَعتَبِرُ كُلَّ ما يَفعَلُهُ دَينًا يَلتَزِمُ بِهِ تُجاهَ اللهِ الَّذي غَمَرَهُ بِالنِّعَمِ. يَقُولُ القِدِّيسُ أَوغُسْطِينُوس: " حِينَ نُتَمِّمْ وَصَايَا اللهِ، نَحْنُ لَا نُضِيفُ شَيْئًا إِلَى اللهِ، بَلْ نَعُودُ لِأَنْفُسِنَا بِالخَيْرِ. اللهُ لَا يُدِينُ لَنَا، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ نُدِينُ لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ". إِنَّ الخِدْمَةَ الحَقِيقِيَّةَ تَنْبُعُ مِنَ الإِيمَانِ المُتَوَاضِعِ. فَالتِّلْمِيذُ الحَقِيقِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا عِنْدَهُ هُوَ عَطِيَّةٌ مِنَ اللهِ. وَمِنْ هُنَا، فَخِدْمَتُهُ لَيْسَتْ مَجَالًا لِلتَّفَاخُرِ أَوِ البَحْثِ عَنْ مَكَاسِبَ، بَلْ هِيَ اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةٍ حُرَّةٍ تَفُوقُ جَدَارَتَهُ. الإِيمَانُ المُتَوَاضِعُ يَجْعَلُ الخَادِمَ يَتَذَكَّرُ دَائِمًا أَنَّهُ أَدَاةٌ فِي يَدِ الرَّبِّ، وَأَنَّ الثِّمَارَ الَّتِي تُعْطِيها خِدْمَتُهُ لا تَنْبُعُ مِنْ حِكْمَتِهِ أَوْ مَهَارَتِهِ، بَلْ مِنْ فِعْلِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي يَعْمَلُ بِحُرِّيَّةٍ فِي القُلُوبِ. يَدْعُو يَسُوعُ التِّلْمِيذَ أَلَّا يَعْتَبِرَ نَفْسَهُ صَاحِبَ فَضْلٍ، بَلْ خَادِمًا مُتَوَاضِعًا يُؤَدِّي وَاجِبَهُ بِمَحَبَّةٍ. دَعْوَةُ يَسُوعَ هِيَ الاِنْتِقَالُ مِنْ تَدَيُّنٍ قَائِمٍ عَلَى الْجَدَارَةِ بِالذَّاتِ، إِلَى عَلاقَةٍ مَعَ اللهِ تَزْدَهِرُ بِالتَّوَاضُعِ. فَالطَّرِيقُ إِلَى اللهِ لا يُمَهِّدُهُ كَمَالُنَا، بَلْ يَفْتَحُهُ قَلْبٌ مُتَوَاضِعٌ يَسْتَقْبِلُ نِعْمَتَهُ. وَهَذا هو دَرسُ يسوعَ لِتَلاميذِهِ: أنَّ التَّواضُعَ هو التَّاجُ الَّذي يُزَيِّنُ كُلَّ خِدمَةٍ حَقَّةٍ.
10 وهكذا أَنتُم، إِذا فَعَلتُم جميعَ ما أُمِرتُم بِه فقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه
لا تُشِيرُ عِبَارَةُ "نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم" إِلى عَدَمِ قِيمَةِ الخَدَمِ أَو إِلى إنكارِ تَعبِهِم وجهدِهِم كما لَو لَم يَكُن شَيئًا، ولا إِلى تَواضُعٍ زائِفٍ، بَلِ المَقصودُ هُوَ اعتِبارُ كُلِّ جُهدٍ وَتَعبٍ على أَنَّهُ اِستِجابَةٌ لِمَحبَّةِ الله وَجَوابٌ على نِعَمِهِ، وَامتِنانٌ لِلهِ عَنِ الحَياةِ الَّتي يَمنَحُها لَنا، وَهيَ حَياتُهُ نَفسُها. هذِهِ الآيَةُ تَنطَبِقُ تَطابُقًا تامًّا على التَّلاميذ، فَهُم رُسُلٌ مُرسَلونَ لِلقيامِ بِمَهمَّتِهِم وَإِعطاءِ شَهادَةٍ عَن إِيمانِهِم، وَمَعَ ذلِكَ يَعتَبِرونَ أَنَّهُم خَدَمٌ لَيسَ لَدَيهِم ما يُطالِبونَ بِهِ آخِرَ النَّهارِ أَمامَ سَيِّدِهِم، بَل عَلَيهِم بِبَساطَةٍ أَنْ يَفرَحوا لِأَنَّهُم فَعَلوا ما يَجِبُ القيامُ بِهِ. فَلَيسَ مِن إِنسانٍ لا غِنى عَنهُ في خِدمَةِ الرَّبّ. هذَا ما جَعَلَ بُولُسَ الرَّسولَ يَعتَبِرُ نَفسَهُ مَديونًا لِلكُلّ: “فَعَلَيَّ حَقٌّ لِليونانِيِّينَ وَالبَرابِرَة، لِلعُلَماءِ وَالجُهَّال" (رومة 1: 14). إِذًا، يَدعُونا المَسيحُ إِلى اعتِبارِ أَنفُسِنا، بَعدَ طاعَةِ كَلِمَتِهِ، "خَدَمًا لا خَيرَ فيهِم".َ هِيَ نِعمَةٌ أَنْ نَكونَ مُجرَّدَ خَدَمٍ، واجِبُهُم الوَحيدُ طاعَةُ مَشيئَةِ اللهِ وَاعتِبارُ كُلِّ شَيءٍ هِبَةً. يَضَعُ يَسوعُ أَمامَ التَّلاميذِ القانونَ الذَّهَبِيَّ لِلتَّلمَذَةِ: أَنْ يَكونوا خُدّامًا أَوفِياءَ مُتواضِعينَ، يَفرَحونَ بِاِمتِيازِ الخِدمَةِ دُونَ أَنْ يَطلُبوا مَجدًا أَو جَزاءً. إِنَّ اتِّبَاعَ يَسُوعَ لا يَعْنِي الِاحْتِفَاظَ بِامْتِيَازَاتٍ أَوْ تَمَتُّعًا بِحُقُوقٍ أَرْضِيَّةٍ، بَلْ هُوَ دَعْوَةٌ إِلَى التَّجَرُّدِ وَالْخِدْمَةِ. فَالِامْتِيَازُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَحْمِلُهُ التِّلْمِيذُ هُوَ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا عَلَى مِثَالِ مُعَلِّمِهِ، الَّذِي "لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَيَبْذُلَ نَفْسَهُ فِدَاءً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى 20: 28). وَعِنْدَمَا يَدْخُلُ التِّلْمِيذُ فِي هَذَا السِّرِّ، يَتَمَتَّعُ بِسُلْطَانٍ حَقِيقِيٍّ، لَيْسَ سُلْطَانًا عَلَى الآخَرِينَ، بَلْ سُلْطَانَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي تَغْلِبُ الْبُغْضَةَ، وَقُوَّةَ الْعَطَاءِ الَّذِي يَكْسِرُ أَصْنَامَ الْأَنَانِيَّةِ. فَالْقُوَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا التِّلْمِيذُ هِيَ بَذْلُ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ إِخْوَتِهِ، كَمَا قَالَ الرَّبُّ: "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ فِدَاءً عَنْ أَحِبَّائِهِ" (يوحنا 15: 13). هَكَذَا تَصِيرُ التَّلْمَذَةُ نِعْمَةً وَقُوَّةً، وَتَتَجَسَّدُ فِي حَيَاةِ التَّلَامِيذِ كَخِدْمَةٍ مُحِبَّةٍ وَشَهَادَةٍ أَمِينَةٍ حَتَّى النِّهَايَةِ. فِي جَمَاعَةِ يَسُوعَ، كُلُّ مَنْ يَقُومُ مِنَّا بِخِدْمَةٍ لَيْسَ لَهُ مَا يُطَالِبُ بِهِ، لا أَمَامَ اللهِ وَلا أَمَامَ إِخْوَتِهِ، لِأَنَّ رِسَالَةَ الْخِدْمَةِ لا تَنْبُعُ مِنْهُ، بَلْ مِنْ دَعْوَةٍ حُرَّةٍ لا تَسْتَنِدُ إِلَى أَيِّ جَدَارَةٍ؛ وَخِدْمَتُهُ تُثْمِرُ بِفَضْلِ كَلِمَةٍ حُرَّةٍ دُعِيَ إِلَى حَمْلِهَا وَقَبِلَهَا، وَهُوَ لَيْسَ سَيِّدَهَا بَلْ خَادِمُهَا فَقَطْ. وَالْخَادِمُ هُوَ مَنْ لا يُضْمِنُ نَجَاحَ خِدْمَتِهِ بِاسْتِرَاتِيجِيَّاتِهِ الرَّعَوِيَّةِ، بَلْ بِالْعَمَلِ الْحُرِّ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي يَعْمَلُ بِحُرِّيَّةٍ فِي قُلبه مُؤْمِنِ بِالرَّبِّ.
عبارة "وَما كانَ يَجِبُ علَينا أَنْ نَفعَلَهُ فَعَلْناه" تُشِيرُ إِلى المَثَلِ المَألوف: " لا شُكرَ على واجِب. أَي لا يَلزَمُ الشُّكرُ، فَما فَعَلناهُ هُوَ واجِبُنا. المَقصودُ أَنَّهُ مَهما عَمِلنا، فَإِنَّنا لَن نُوفِّي حَقَّ اللهِ عَلَينا، وَلَن نُوفِّيهِ مَهما اجتَهَدنا. فَنَحنُ مَدينونَ لَهُ: بِحَياتِنا أَوَّلًا، وَبِكُلِّ ما بَينَ أَيدينا، ثُمَّ بِفِدائِهِ، وَبِنِعْمَةِ البُنُوَّةِ الَّتي وَهَبَنا إِيّاها.
يقول القُدِّيسُ مَرقُسُ النّاسِك: "نَحنُ الَّذينَ وُهِبَ لَنا الحَياةُ الأَبَدِيَّةُ، نَصنَعُ الأَعمالَ الصّالِحَةَ لا لأَجلِ الجَزاءِ، بَل لِحِفظِ النَّقاوَةِ الَّتي وُهِبَت لَنا". والقُدِّيسُ أمبروسيوس: " قول: "لا تَفتَخِر إِن كُنتَ عَبدًا صالِحًا، فَهذا واجِبٌ مُلتَزِمٌ أَنتَ بِهِ". يَصِفُ يَسوعُ في مَوضِعٍ آخَرَ كَيفَ يَنظُرُ اللهُ إِلى خادِمِهِ: "طوبى لِأُولئِكَ الخَدَمِ الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهُم وَجَدَهُم ساهِرين. الحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّهُ يَشُدُّ وَسَطَهُ وَيُجلِسُهُم لِلطَّعام، وَيَدورُ عَلَيهِم يَخدُمُهُم" (لوقا 12: 37). الرَّبُّ يَخدُمُنا لا لأَنَّنا نَستَحِقُّ ذلِكَ، بَل لأَنَّهُ سَيِّدٌ مُحِبّ. وَلْنَتَذَكَّر أَنَّ: "اِبنُ الإِنسانِ لَم يَأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ" (متى 20: 28).
تُعَدُّ هذه الآية خِتامًا لِسِلسِلَةِ المَواعِظِ وَالتَّعاليمِ الَّتي بَدَأها يَسوعُ في الفَصلِ الخامِسَ عَشَرَ مِن إِنجيلِ لوقا، حَيثُ جَمَعَ الإِنجيليُّ تَحتَ هذَا الإطارِ عَدَدًا مِن أَمثالِ الرَّبِّ وَتَعاليمِهِ الَّتي تَتَمحْوَرُ حَولَ:
• المَحبَّةِ الإِلهيَّةِ وَالرَّحمَةِ: أَمثالِ الخَروفِ الضّالِّ وَالدِّرهَمِ المَفقودِ وَالاِبنِ الضّالِّ (لوقا 15).
• التَّصرُّفِ الحَكيمِ بِالأَموالِ: مَثَلِ وَكيلِ الظُّلمِ (لوقا 16: 1–13).
• التَّحذيرِ مِنَ الغِنى وَاللَّامُبالاةِ: مَثَلِ الغَنِيِّ وَلَعازَرَ (لوقا 16: 19–31).
• الدَّعوَةِ إِلى الإِيمانِ الصَّادِقِ وَالتَّواضُعِ في الخِدمَةِ (لوقا 17: 1–10).
وَبِهذَا يَكونُ تَعليمُ المَسيحِ قَد سارَ في مَسارٍ مُترابِطٍ: مِن إِعلانِ مَحبَّةِ اللهِ اللامَحدودَةِ، مُرورًا بِالدَّعوَةِ إِلى التَّصرُّفِ الحَكيمِ وَعَدَمِ الاِنشِغالِ بِالغِنى، وُصولًا إِلى التَّشديدِ على الغُفرانِ وَالإِيمانِ، ثُمَّ التَّواضُعِ في الخِدمَةِ دُونَ انتِظارِ مُكَافَأَةٍ أَو شُكرٍ. فَالمَلكوتُ هُوَ هِبَةٌ لا أَجرٌ، وَنَوالُهُ نِعمَةٌ لا مُكافَأَة.
ثانِيًا: تَطْبِيقُ النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ (لوقا 17: 5-10)
اِنطِلاقًا مِنَ المُلاحَظاتِ حَولَ وَقائِعِ النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ وَتَحلِيلِهِ، نَستَنتِجُ أَنَّ النَّصَّ يَتمَحْوَرُ حَولَ نُقطَتَينِ أَساسِيَّتَينِ، وَهُما: قُوَّةُ الإِيمانِ وَالتَّواضُعُ في الخِدمَةِ.
1) قُوَّةُ الإِيمانِ (لوقا 17: 5-6)
كانَ التَّلاميذُ واعينَ لِعَظَمَةِ وَخُطورَةِ مَطالِبِ يَسوع. لِذلِكَ هُم يوجِّهونَ إِلَيهِ هذِهِ الصَّلاةَ: " زِدْنا إِيمانًا" (لوقا 17: 5). وَبِما أَنَّ الإِيمانَ مَوهِبَةٌ مِنَ اللهِ، فَقَد طَلَبوهُ بِالصَّلاةِ. وَلِماذا طَلَبوهُ؟ لأَنَّهُم أَرادوا الإِيمانَ اللازِمَ لِعَمَلِ ما يَطلُبُهُ مِنهُم السَّيِّدُ المَسيح، إِذ أَدرَكوا أَنَّ ما يَطلُبُهُ هُوَ فَوقَ حُدودِ الطَّبيعَةِ الإِنسانِيَّةِ، فَطَلَبوا قُوَّةَ الإِيمانِ.
وَنَستَطيعُ أَن نُدرِكَ قُوَّةَ الإِيمانِ مِن خِلالِ مَفهُومِ الإِيمانِ وَضَرورَتِهِ: فالإِيمانُ لَيسَ مُجرَّدَ قَبولِ عَقائِد، بَل هُوَ ثِقَةٌ عَميقَةٌ بِاللهِ وَاعْتِمادٌ كامِلٌ عَلَيهِ، وَوَضعُ الحَياةِ بِأَسرِها تَحتَ مَشيئَتِهِ. فَبِقُوَّةِ الإِيمانِ يَصيرُ المَستَحيلُ مُمْكِنًا، وَتُقْتَلَعُ جُذورُ الخَطِيئَةِ وَاليَأسِ، وَتَتَفَتَّحُ أَبوابُ الرَّجاءِ وَالحَياةِ الجَديدَةِ.
أ) مَفهُومُ الإِيمَانِ
كَلِمَةُ "الإِيمَان" تَحمِلُ مَعنيَينِ مُختَلِفَينِ:
1. الإِيمَانُ العَقَائدِيّ: هُوَ نَوعٌ مِنَ الإِيمَانِ يَتَّصِلُ بِالعَقائِدِ، وَيَعني اطِّلاعَ النَّفسِ وَمُوافَقَتَها على أَمرٍ مُعَيَّنٍ وَمُفيدٍ لِلنَّفسِ. كَما يَقولُ الرَّبُّ: "مَن سَمِعَ كَلامي وَآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فَلَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّةُ وَلا يَمثُلُ لَدَى القَضاءِ" (يوحنا 5: 24). وَأَيضًا: "مَن آمَنَ بِالاِبنِ لا يُدان، وَلَكِنَّهُ يَنتَقِلُ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياةِ" (يوحنا 3: 18). رَجُلُ الإِيمَانِ يَرى الأَشياءَ الَّتي لا يَراها الآخَرونَ وَلا يَستَطيعونَ رُؤيَتَها. يُعطِيكَ الإِيمَانُ رُؤيَةً فائِقَةَ الطَّبيعَةِ لِلحَياةِ، كَما جاءَ في تَعليمِ صاحِبِ الرِّسالَةِ إِلى العِبرانيِّينَ: "فالإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الَّتي تُرجى وَبُرهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (عبرانيين 11: 1). فَالحَياةُ، بِدونِ مِصباحِ الإِيمَانِ، هِيَ مَسيرَةٌ في الظَّلامِ.
2. الإِيمَانُ كَهِبَةٍ إِلَهِيَّةٍ: يَمنَحُ السَّيِّدُ المَسيحُ نَوعًا آخَرَ مِنَ الإِيمَانِ عَلى طَريقَةِ الهِبَةِ المَجّانِيَّةِ، عَطِيَّةِ اللهِ، نَنعَمُ بِها إِن سَأَلناهُ هذِهِ العَطِيَّةَ. "يَتَلَقَّى واحِدٌ مِنَ الرُّوحِ كَلامَ الحِكمَةِ، وَآخَرُ يَتَلَقَّى وَفقًا لِلرُّوحِ نَفسِهِ كَلامَ المَعرِفَةِ، وَسِواهُ الإِيمانَ في الرُّوحِ نَفسِهِ، وَآخَرُ هِبَةَ الشِّفاءِ" (1 قورنتس 12: 8-9).
هذَا الإِيمَانُ الَّذي يُعطى كَهِبَةٍ مَجّانِيَّةٍ لَيسَ إِيمَانَ عَقِيدَةٍ فَقط، بَل إِيمَانُ فَضيلَةٍ إِلَهِيَّةٍ، يُمَنَحُ الإِنسانَ قُدرَةً تَفوقُ قُواهُ البَشَرِيَّةَ. فَمَن كانَ لَهُ مِثلُ هذَا الإِيمَانِ يَقولُ لِهذَا الجَبَلِ:" اِنتَقِلْ مِن هُنا إِلى هُناكَ فَيَنتَقِلُ "(متى 17: 20). وَإِن قالَ أَحَدٌ ذلِكَ وَهُوَ يُؤمِنُ أَنَّ ما يَقولُهُ سَوفَ يَحدُثُ وَلم يَشُكَّ في قَلبِهِ، نالَ تِلكَ النِّعمَةَ، كَما يُؤَكِّدُهُ إِنجيلُ مرقس:"الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن قالَ لِهذَا الجَبَلِ: قُم فَاهبِطْ في البَحرِ، وَهُوَ لا يَشُكُّ في قَلبِهِ، بَل يُؤمِنُ بِأَنَّ ما يَقولُهُ سَيَحدُثُ، كانَ لَهُ هذا" (مرقس 11: 23).
الإِيمانُ الحَقِيقِيّ: الإِيمانُ الحَقِيقِيُّ هُوَ الإِيمانُ بِأَنَّ نِعمَةَ الرَّبِّ تَفعَلُ فينا وَلَو مَلَكنا إِيمانًا بِمِقدارِ حَبَّةِ خَردَل. فالإِيمانُ لَيسَ مُجرَّدَ مُعتَقَدٍ، بَل هُوَ الإِيمانُ بِشَخصِ يَسوعَ المَسيحِ. إِنَّهُ إِيمانُ القُدِّيسِ بُولُس الَّذي قالَ: "أَستَطيعُ كُلَّ شَيءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني" (فيلبّي 4: 13). يُذَكِّرُنا التَّعليمُ المَسيحِيُّ أَنَّ الإِيمَانَ لَيسَ هُوَ أَنْ نُؤمِنَ بِشَيءٍ ما، بَل أَنْ نُؤمِنَ بِشَخصِ يَسوعَ المَسيحِ. إِنَّهُ إِيمانُ القُدِّيسِ بُولُس الَّذي قالَ:"أَستَطيعُ كُلَّ شَيءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني" (فيلبّي 4: 13). فالإِيمَانُ بِيَسوعَ المَسيحِ هُوَ الاِلتِقاءُ بِمَحبَّةِ الرَّبِّ وَالثِّقَةُ بِهِ. الإِيمَانُ بِكَلِمَتِهِ وَبِشَخصِهِ. نَحنُ نَثِقُ بِشَخصٍ قَد أَثبَتَ لَنا مَحبَّتَهُ، وَقَد مَلأَنا بِكَلِمَتِهِ. وَيُعَلِّقُ القُدِّيسُ أُوسكار روميرو: "المَسيحِيَّةُ لَيسَت مَجمُوعَةً مِنَ الحَقائِقِ الَّتي يَجِبُ الإِيمانُ بِها، أَو قَواعِدَ يَجِبُ اِتِّباعُها، أَو مَحظوراتٍ. بَل المَسيحِيَّةُ هِيَ الشَّخصُ الَّذي أَحَبَّني كَثيرًا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ يُطالِبُ بِحُبّي. المَسيحِيَّةُ هِيَ المَسيحُ"(البابا فرنسيس، الإِرشادُ الرَّسُوليّ المَسيحُ يَحيا، 89). فَمَعرِفَةُ الرَّبِّ تُسَبِقُ وَتُرافِقُ الإِيمَانَ.
الإِيمَانُ الحَقِيقِيّ الَّذي يَقصِدُهُ يَسوعُ لَيسَ قُوَّةً سِحرِيَّةً يَكتَسِبُها الإِنسانُ بِالتَّفكِيرِ أَوِ الاِجتِهادِ، إِنَّما هُوَ الإِيمَانُ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَالاِتِّكالُ على قُدرَتِهِ تَعالى، وَالعَمَلُ بِمَشيئَتِهِ القُدُّوسَةِ. إِيمَانٌ يَتَطَلَّبُ طاعَةً كامِلَةً وَمُتَواضِعَةً لِإِرادَةِ اللهِ، وَاستِعدادًا مُطلَقًا لِتَنفيذِ كُلِّ ما يَدعُونا إِلَيهِ، وَالتَّصديقَ بِاللهِ الكُلِّيِّ القُدرَةِ. إِيمَانٌ يَعرِفُ كَيفَ يَنتَظِرُ وَيَقبَلُ الصَّبرَ دُونَ يَأْسٍ، كَما يَقولُ النَّبِيُّ حَبقوق: "إِن أَبطَأَتِ المِيقَاتُ فَاَنتَظِرْها، فَإِنَّها سَتَأتي إِتيانًا وَلا تَتَأَخَّر. النَّفسُ غَيرُ المُستَقيمَةِ غَيرُ أَمينَةٍ، أَمَّا البارُّ فَبِأَمانَتِهِ يَحْيا" (حبقوق 2: 3-4).
فَمَن لا يَعمَلُ بِمَشيئَةِ اللهِ، لا يَعمَلُ بِقُوَّةِ الإِيمَانِ. وَإِذا كانَ المُؤمِنُ مَعَ المَسيحِ، وَالمَسيحُ مَعَ المُؤمِنِ، عِندَئِذٍ يَعمَلُ المَسيحُ فيهِ. وَمِنهُ يَستَمِدُّ المُؤمِنُ القُوَّةَ الَّتي تَفعَلُ أَكثَرَ مِمّا تَقدِرُ أَن تَفعَلَهُ قُواهُ البَشَرِيَّةُ. وَفي هذَا الصَّدَدِ يَقولُ بُولُسُ الرَّسولُ: "إِنِّي عِندَما أَكونُ ضَعيفًا أَكونُ قَوِيًّا" (2 قورنتس 12: 10). فَإِيمانُ البارِّ لا يَعتَمِدُ على قُوَّتِهِ الذّاتِيَّةِ، وَلَكِن يَسمَحُ لِعَمَلِ الرَّبِّ في حَياتِهِ، لأَنَّهُ يَثِقُ بِهِ وَيَتَخَلّى عَن نَفسِهِ لأَجلِهِ تَعالى. وَلِذلِكَ فَإِنَّ "الإِيمَان" هُوَ سِرُّ قُوَّةِ المُؤمِنِ، وَدونَهُ لَن يَنعَمَ المُؤمِنُ بِنِعمَةِ المَسيحِ، وَدونَ هذِهِ النِّعمَةِ لا يَقدِرُ أَن يَغفِرَ لِلغَيرِ.
الإيمان الأصيل: القُوَّةُ الَّتي تَحِلُّ فينا بِالإِيمانِ لا تَعتَمِدُ على حَجْمِ الإِيمانِ بَل على أَصالَتِهِ. إِنَّ حَبَّةَ الخَردَلِ صَغيرَةٌ جِدًّا، لَكِن يَسوعَ يَقولُ لَنا إِنَّهُ يَكفِي أَنْ يَكونَ إِيمانُنا بِحَجمِها صَغيرًا، وَلَكِن حَقيقيًّا وَصادِقًا، لِنَتمَكَّنَ مِن فِعلِ ما هُوَ مُستَحيلٌ بَشَرِيًّا، وَما لا يُمكِنُ تَخَيُّلُه. فَلِلإِيمانِ قُوَّةٌ مَهما كانَ قَليلًا. لأَنَّ الأَمرَ لا يَكمُنُ في إِيمانٍ إِضافِيٍّ، بَل في إِيمانٍ أَصيلٍ. وَلَسنا بِحاجَةٍ إِلى مَزيدٍ مِنَ الإِيمانِ، فَقَدرٌ ضَئيلٌ مِنهُ، كَحَبَّةِ الخَردَلِ، يُعتَبَرُ كافيًا شَريطَةَ أَنْ يَكونَ الإِيمانُ حَيًّا وَنامِيًا وَفاعِلًا.
وَالقَليلُ مِنَ الإِيمانِ يُمَنِّحُ صاحِبَهُ سُلطانًا عَلى صُنعِ المُعجِزاتِ وَاستِئصالِ شَجَرَةِ التُّوتِ (الجُمَّيْزِ) الَّتي تَبدو مُستَحيلَةً. وَقَدِ اعتَرَفَ يَسوعُ بِبَعضِ أَشخاصٍ مِن ذَوي الإِيمانِ "العَظيم": مِثلَ قائِدِ المِئَةِ في كَفرِناحومَ الَّذي طَلَبَ مِن يَسوعَ بِدافِعِ احتِياجِهِ أَنْ يَشفِيَ خادِمَهُ العَزيزَ عَلَيهِ (لوقا 7: 1-10)، وَالمَرأَةِ الخاطِئَةِ الَّتيِ التَقَت بِيسوعَ في بَيتِ سِمعانَ الفَرِّيسِيِّ وَهِيَ مُمتَلِئَةٌ مِن حُبِّها الكَبيرِ، فَبَرَّرَها يَسوعُ بِقَولِهِ لَها: "إِيمانُكِ خَلَّصَكِ، فَاذهَبي بِسَلام" (لوقا 7: 50). وَالمَرأَةِ المَنزوفَةِ الَّتيِ التجَأَت إِلى الرَّبِّ بِحُزنِها الكَبيرِ، فَقالَ لَها يَسوعُ نَفسَ العِبارَةِ: "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ، فَاذهَبي بِسَلام" (لوقا 8: 48).
الإِيمانُ العَظيمُ: هُوَ مَوقِفُ أُولئِكَ الَّذينَ لَم يَعتَمِدوا عَلى قُوَّتِهِم في حَلِّ مَشاكِلِهِم المُستَعصِيَةِ، بَلِ التجَأوا إِلى الرَّبِّ بِروحِ التَّطويباتِ وَالصَّلاةِ المُستَمِرَّةِ. تَاريخُ الكَنيسَةِ حافِلٌ بِالشَّواهِدِ عَلى هذِهِ الحَقيقَةِ، فَالقُدِّيسونَ كُلُّهُم قَدِ اختَبَروا قُوَّةَ الإِيمانِ وَكُلُّهُم صَنَعوا المُعجِزاتِ. "إِنَّ إِبراهيمَ آمَنَ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ ذلِكَ بِرًّا" (رومة 4: 3). وَهكَذا بَزَغَ تاريخُ الخَلاصِ بِقُوَّةِ إِيمانِ إِبراهيمَ، "أَبي المُؤمِنينَ" الَّذي تَقَبَّلَ البَرَكَةَ (التَّعليمُ المَسيحِيّ الكاثوليكِيّ، 1080). إِذًا، فالإِيمانُ هُوَ الَّذي يُخَلِّصُ، وَالإِيمانُ هُوَ الَّذي يُبَرِّرُ، وَالإِيمانُ هُوَ الَّذي يَشفِي الإِنسانَ في نَفسِهِ وَفي جَسَدِهِ (لوقا 17: 26-37). وَيَتَساءَلُ البَابا فِرنسيس: "كَم شَخصٍ، في وَسطِنا، يَتَمَتَّعُ بِهذَا الإِيمانِ القَويِّ وَالمُتَواضِعِ، إِيمانٍ يَصنَعُ الكَثيرَ مِنَ الخَيرِ!"
نُمُوُّ الإِيمانِ: يَبدو أَنَّ نُمُوَّ الإِيمانِ مَتى زُرِعَ في القَلبِ يَنمُو بِالطَّبيعَةِ كَكَائِنٍ حَيّ. فَكَمَا أَنَّ حَبَّةَ الخَردَلِ صَغيرَةٌ جِدًّا لَكِنَّها حَيَّةٌ وَتَنمُو، كَذلِكَ يُمكِنُ لِقَدرٍ بَسيطٍ مِنَ الإِيمانِ الصَّحيحِ بِاللهِ أَنْ يَترَعْرَعَ وَيَنمُو. وَهُوَ يَبدَأُ في الخَفاءِ أَوَّلَ الأَمرِ، ثُمَّ بَعدَ ذلِكَ يَأخُذُ في الاِنتِشارِ تَحتَ الأَرضِ ثُمَّ فَوقَها لِيَكونَ مَرئِيًّا لِلجَميعِ. وَمَعَ أَنَّ كُلَّ تَغَيُّرٍ يَحدُثُ يَتِمُّ بِصُورَةٍ تَدريجِيَّةٍ وَغَيرِ مَدرُوكَةٍ، إِلَّا أَنَّ هذَا الإِيمانَ يَنمُو وَسُرعانَ ما يُعطِي نَتائِجَ عَظيمَةً.
طَلَبَةُ الإِيمانِ في الصَّلاةِ: نَحنُ نُجَدِّدُ صَلاتَنا في طَلَبَةِ الإِيمانِ في "صَلاةِ المُؤمِنينَ" في كُلِّ قُدّاسٍ. وَإِنَّ كَلِمَةَ اللهِ في القِراءاتِ وَالإِنجيلِ تَتَطَلَّبُ مِنّا الكَثيرَ وَتَضَعُنا تَحتَ المِحَكِّ. فَنَشعُرُ كَالتَّلاميذِ بِأَنَّنا ضُعفاءُ وَغَيرُ قادِرينَ عَلى تَحقيقِها. لِذلِكَ نَتَوَجَّهُ إِلى اللهِ طالِبينَ نِعمَةَ الإِيمانِ لأَجلِنا وَلأَجلِ جَميعِ إِخوتِنا. فَإِذا دَعَونا الرَّبَّ، كَما يَفعَلُ الرُّسُلُ في إِنجيلِ اليَومِ، فَإِنَّهُ سَيَزيدُ مِن إِيمانِنا، الَّذي وَهَبَهُ لَنا مُنذُ مَعمُودِيَّتِنا.
حِفظُ الإِيمانِ وَتَغذِيَتُهُ: يَتَطَلَّبُ الإِيمانُ أَوَّلًا الحِفاظَ على أَثمَنِ الأَشياءِ الَّتي مَنَحَنا إِيّاها اللهُ بِالعِمادِ المُقَدَّسِ وَتَغذِيَتَهُ. وَهَذا يَتَطَلَّبُ الاِنفِتاحَ عَلى تَنقِيَةِ ما هُوَ غَيرُ صالِحٍ وَعَلى نَيلِ هِباتٍ جَديدَةٍ مِنَ اللهِ. وَيُعَلِّقُ البَابا فِرنسيس: "إِنَّهُ تَعالى يُقَدِّمُ المَزيدَ مِنَ الصَّداقةِ مَعَهُ، المَزيدَ مِنَ الاِتِّقادِ في الصَّلاةِ، المَزيدَ مِنَ التَّعَطُّشِ لِكَلِمَتِهِ، المَزيدَ مِنَ الرَّغبَةِ بِقُبولِ المَسيحِ في القُربانِ المُقَدَّسِ، المَزيدَ مِنَ الرَّغبَةِ في عَيشِ إِنجيلِهِ، المَزيدَ مِنَ القُوَّةِ الدّاخِلِيَّةِ، المَزيدَ مِنَ السَّلامِ وَالفَرحِ الرُّوحِيِّ" (الإِرشادُ الرَّسُولِيّ المَسيحُ يَحيا، 161).
شُهُودُ الإِيمانِ: كانَتِ الأُمُّ تِريزا مِن شُهُودِ الإِيمانِ في عَصرِنا الحاضِر. صَغيرَةً في حَجمِها أَمامَ هَولِ المُشكلاتِ الَّتي واجَهَتْها، وَلَكِنَّها وَبِسَبَبِ إِيمانِها وَأَمانَتِها لِلهِ، نَقَلَت جِبالًا مِنَ الأَحزانِ وَالأَسى وَالمَرَضِ التَّعيسِ إِلى حالَةٍ مِنَ الحُبِّ وَالرِّعايَةِ وَالاِحتِرامِ. لِماذا؟ لأَنَّها آمَنَت، وَصَلَّت، وَلَم تَتَراجَع مَهما كانَتِ الصُّعوباتُ. وَفي هذَا الصَّدَدِ كَتَبَ المَهاتما غاندي: "زِد إِيماني يا رَبّ؛ اِجعَلهُ قَوِيًّا كَالصَّخرِ. يَنبَغي أَنْ تَكونَ هذِهِ صَلاتُنا اليَوميَّةَ. لأَنَّ الإِيمانَ هُوَ كُلُّ شَيءٍ لِلمُؤمِنِ. لأَنَّ الإِنسانَ، بَينَ يَدَيِّ الرَّبِّ، يَستَطيعُ أَنْ يَصِلَ إِلى أَيِّ خَطِّ نِهايَةٍ. اِمنَحني الإِيمانَ يا رَبّ. هذِهِ هِيَ صَلاتي لَيلَ نَهار".
يُعَرِّفُ بُولُسُ الرَّسولُ الإِيمانَ كَأَعظَمِ بَركاتِنا جَميعًا، إِذ يَقولُ: "بِغَيرِ الإِيمانِ يَستَحيلُ نَيلُ رِضا اللهِ، لأَنَّهُ يَجِبُ عَلى الَّذي يَتَقَرَّبُ إِلى اللهِ أَن يُؤمِنَ بِأَنَّهُ مَوجُودٌ وَأَنَّهُ يُجازي الَّذينَ يَبتَغونَهُ" (عبرانيين 11: 6-7). وَيَحيا البارُّ بِإِيمانِهِ، كَما جاءَ في نُبُوءَةِ حَبقوق: “أَمَّا البارُّ فَبِأَمانَتِهِ يَحْيا" (حبقوق 2: 4). وَيُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسولُ هذَا الخَطَّ النُّبُوِيَّ: "إِنَّ البارَّ بِالإِيمانِ يَحْيا" (رومة 1: 17).
ب) ضَرورَةُ الإِيمَانِ
يُعْتَبَرُ الإِيمَانُ ضَرورِيًّا لِنَيلِ رِضَى اللهِ، كَما جاءَ في الرِّسالَةِ إِلى العِبرانيِّينَ: «"بِغَيرِ الإِيمانِ يَستَحيلُ نَيلُ رِضا الله" (عبرانيين 11: 6). وَمِن هَذا المُنطَلَقِ، فالإِيمانُ لَيسَ أَمرًا جامِدًا قَبِلناهُ وَتَوَقَّف، وَلا فَلسَفَةً نَعتَنِقُها، بَل هُوَ حَياةٌ وَخِبرَةُ عَمَلٍ بِاللهِ الَّذي يَعمَلُ فينا بِلا اِنقِطاع. لَكِن لَيسَ الإِيمانُ ضَرورِيًّا لاِرتِباطِهِ بِأَعمالِ الشَّريعَةِ، كَما يَقولُ القُدِّيسُ بُولُسُ الرَّسولُ: "وَنَحنُ نَرى أَنَّ الإِنسانَ يُبَرَّرُ بِالإِيمانِ بِمَعزِلٍ عَن أَعمالِ الشَّريعَة" (رومة 3: 28). وَيُضيفُ في مَوضِعٍ آخَرَ: "أَمَّا أَنَّ الشَّريعَةَ لا تُبَرِّرُ أَحَدًا عِندَ اللهِ فذاكَ أَمرٌ واضِح، لأَنَّ البارَّ بِالإِيمانِ يَحيا" (غلاطية 3: 11). اللهُ بارٌّ (رومة 1: 17)، وَاللهُ يُبَرِّرُ الإِنسانَ الخاطِئَ (رومة 3: 22)، وَلا يَقتَضِي مِنَ الإِنسانِ لِلحُصولِ على التَّبريرِ إِلّا طاعَةَ الإِيمانِ، أَي قَبولَ البِرِّ بِتَواضُع (رومة 1: 5). وَالإِنسانُ المُبَرَّرُ يَجعَلُ نَفسَهُ في حَياةٍ مَقبولَةٍ عِندَ اللهِ (رومة 6: 13-20). لِذلِكَ يَجِبُ أَن نَعيشَ بِالإِيمانِ بِالمَسيحِ الَّذي أَحبَّنا وَأَعطى نَفسَهُ عَلى الصَّليبِ مِن أَجلِنا، كَما عاشَ بُولُسُ الرَّسولُ قائِلًا: "فَما أَنا أَحيا بَعدَ ذلِك، بَلِ المَسيحُ يَحيا فيَّ. وَإِذا كُنتُ أَحيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّةً، فَإِنِّي أَحياها في الإِيمانِ بِاِبنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وَجادَ بِنَفسِهِ مِن أَجلي" (غلاطية 2: 20).
الإِيمانُ ضَرورِيٌّ أَيضًا لِأَعمالِ الرَّحمَةِ الإِنجِيلِيَّةِ وَالمَحبَّةِ المَسيحِيَّةِ. لِذلِكَ يُشَدِّدُ بُولُسُ الرَّسولُ على أَهمِّيَّةِ الأَعمالِ، وَذلِكَ عَبرَ طاعَةِ المُؤمِنِ لِشَريعَةِ المَحبَّةِ، كَما يُشَدِّدُ على أَهمِّيَّةِ الأَعمالِ فيما يَتَعَلَّقُ بِالدَّينُونَةِ الَّتي يُدانُ بِها كُلُّ واحِدٍ بِحَسَبِ أَعمالِهِ (رومة 2: 5). وَيَبني بُولُسُ الرَّسولُ ثِقَتَهُ فيما يَتَعَلَّقُ بِالدَّينُونَةِ لا على أَعمالِهِ، بَل على اللهِ الَّذي يُبَرِّرُ، وَعلى المَسيحِ الَّذي ماتَ وَيَشفَعُ لِجَميعِ النّاسِ (رومة 8: 39).
الإيمان والأعمال: الأَعمالُ هِيَ الَّتي تُحيِي الإِيمانَ وَتَجعَلُهُ قَوِيًّا لِصُنعِ المُعجِزاتِ، بَل أَعظَمَ مِنَ المُعجِزاتِ، مِن خِلالِ تَحوِيلِ الشَّرِّ إِلى خَيرٍ، وَنَزعِ الحَياةِ مِنَ المَوتِ، وَالقِيامِ بِأَعمالِ الرَّحمَةِ الإِنجِيلِيَّةِ وَالمَحبَّةِ المَسيحِيَّةِ الَّتي نادَى بِها المَسيحُ اِكتِمالًا لِشَريعَةِ موسى. لِذلِكَ يُطالِبُ بُولُسُ الرَّسولُ بِمُمارَسَةِ الإِيمانِ في المَحبَّةِ، فَيَنصَحُ تِلميذَهُ طيموتاوس: "اِمتَثِلِ الأَقوالَ السَّليمَةَ الَّتي سَمِعتَها مِنِّي، اِمتَثِلهَا في الإِيمانِ وَالمَحبَّةِ الَّتي في المَسيحِ يَسوع" (2 طيموتاوس 1: 13).
وَيُؤَكِّدُ يَعقوبُ الرَّسولُ أَنَّ الإِيمانَ لا يُخَلِّصُ بِمَعزِلٍ عَنِ الأَعمالِ، وَأَنَّهُ مَيِّتٌ دُونَها، إِذ يَقولُ: "فَالإِيمانُ، فَإِن لَم يَقتَرِن بِالأَعمالِ كانَ مَيِّتًا في حَدِّ ذاتِه" (يعقوب 2: 17). "فَكَما أَنَّ الجَسَدَ بِلا رُوحٍ مَيِّت، فَكَذلِكَ الإِيمانُ بِلا أَعمالٍ مَيِّت" (يعقوب 2: 26). "ماذا يَنفَعُ، يا إِخوَتي، أَن يَقولَ أَحَدٌ إِنَّهُ يُؤمِن، إِن لَم يَعمَل؟ أَبِوُسعِ الإِيمانِ أَن يُخَلِّصَه؟" (يعقوب 2: 14).
الأَعمالُ الَّتي يَذكُرُها يَعقوبُ الرَّسولُ لَيسَت أَعمالَ الشَّريعَةِ الَّتي يَتَكَلَّمُ عَنها بُولُسُ الرَّسولُ في رِسالَتَيهِ إِلى أَهلِ غَلاطِيَّةَ وَأَهلِ رُومَةَ، إِنَّما هِيَ الأَعمالُ الَّتي يَبلُغُ الإِيمانُ كَمالَهُ فيها، وَلا سِيَّما في مَحبَّةِ القَريبِ وَالصَّلاةِ. فيُصَرِّحُ: "تَرَونَ أَنَّ الإِنسانَ يُبَرَّرُ بِالأَعمالِ، لا بِالإِيمانِ وَحدَه" (يعقوب 2: 24). فَمَن جَعَلَ ثِقَتَهُ في كَلِمَةِ الحَقِّ، القادِرَةِ وَحدَها على تَخليصِ الخاطِئِ، خَضَعَ أَيضًا لِمَشيئَةِ اللهِ في كُلِّ ما يَمتُّ بِصِلَةٍ إِلى حَياتِهِ. فَالأَعمالُ تُكَمِّلُ الإِيمانَ: "تَرى أَنَّ الإِيمانَ ساهَمَ في أَعمالِهِ، وَأَنَّهُ بِالأَعمالِ اكتَمَلَ الإِيمانُ" (يعقوب 2: 22). رِسالَةُ يَعقوبَ تُوَفِّقُ بَينَ الإِيمانِ وَأَعمالِ الإِيمانِ. أَمَّا بُولُسُ الرَّسولُ فَيُطالِبُ بِأَولَوِيَّةِ الإِيمانِ، مُميِّزًا إِيّاهُ عَن أَعمالِهِ.
نَستَنتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الإِيمانَ هُوَ سِرُّ قُوَّةِ المُؤمِنِ، لا لِمُمارَسَةِ أَعمالٍ خارِقَةٍ بِلا هَدَفٍ، وَإِنَّما أَوَّلًا لِنَيلِ حَياةِ المَسيحِ يَسوع، حَيثُ إِنَّنا نَعيشُ بِروحِ المَحبَّةِ الغافِرَةِ لِأَخطَاءِ الآخَرينَ. وَبِهِ نَطرُدُ الرُّوحَ الشِّرِّيرَ وَكُلَّ أَعمالِهِ، فَنَقلَعُهُ مِن حَياتِنا كَما نَقلَعُ شَجَرَةَ التُّوتِ، لِنُلقِيَ بِها في هاوِيَةِ البَحرِ وَأَعمَاقِ المُحيطاتِ.
اِختِصارًا، الإِيمانُ نِعمَةٌ مِنَ اللهِ، وَما النِّعمَةُ إِلَّا حَياةُ اللهِ فينا. لَيسَت شَيئًا نَمتَلِكُهُ، بَل هِيَ تَغَيُّرٌ حَقيقِيّ، مَعَ كُلِّ ما يَحمِلُهُ التَّغَيُّرُ مِن فُقدانٍ وَمِن مَكسَبٍ. أَنْ نَحيا حَياةَ اللهِ يَعني أَنْ نَستَقبِلَ روحَ القُوَّةِ في جَسَدٍ مَطبوعٍ بِالضَّعفِ، وَأَنْ نَستَقبِلَ روحَ المَحبَّةِ في قَلبٍ مُعتادٍ عَلى الأَنانيَّةِ، وَأَنْ نَستَقبِلَ روحَ الفِطنَةِ في عَقلٍ يَهوى هَناءَ الغَبَاء.
ونستنتج مِمَّا سبق أن صرخة الرسل "زِدْنَا إِيمَانًا» – هِيَ صَرْخَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَمَامَ ثِقَلِ الحَيَاةِ وَصُعُوبَةِ الغُفْرَانِ. يُذَكِّرُنَا يَسُوعُ بقُوَّةُ الإِيمَانِ الصَّغِيرِ. أَنَّ الإِيمَانَ، وَلَوْ بِحَجْمِ حَبَّةِ خَردَل، قَادِرٌ أَنْ يَصْنَعَ المُسْتَحِيلَ، لِأَنَّهُ يَرْتَكِزُ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ لَا عَلَى قُوَّتِنَا. يقول القديس الذَّهَبِيُّ الفَم: "لَيْسَ حَجْمُ الإِيمَانِ بَلْ صِدْقُهُ هُوَ الَّذِي يُخَلِّصُ".
3) التَّواضُعُ في الخِدمَةِ (لوقا 17: 7-10)
بَعدَما كَلَّمَ يَسوعُ تَلاميذَهُ عَن قُوَّةِ الإِيمانِ، أَخَذَ يُكَلِّمُهُم عَنِ التَّواضُعِ في الخِدمَةِ. فالإِيمانُ الحَيُّ يَعرِفُ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذي يُتَمِّمُ كُلَّ شَيءٍ، وَأَنَّنا "دُونَهُ لا نَستَطيعُ أَن نَعمَلَ شَيئًا" (يوحنا 15: 5). فَضَرَبَ لَهُم مَثَلًا: "مَن مِنكُم لَهُ خادِمٌ يَحرُثُ أَو يَرعى، إِذا رَجَعَ مِنَ الحَقلِ، يَقولُ لَهُ: تَعالَ فَاجلِسْ لِلطَّعامِ! أَلا يَقولُ لَهُ: أَعدِدْ لِيَ العَشاءَ، واشدُدْ وَسَطَكَ وَاخدُمني حَتّى آكُلَ وَأَشرَبَ، ثُمَّ تَأكُلُ أَنتَ بَعدَ ذلِكَ وَتَشرَب؟"» (لوقا 17: 7-8).
أَوَّلًا: يُقَدِّمُ لَنا المَثَلُ صُورَةَ إِلهٍ "سَيِّدٍ"، وَالتَّلميذُ هُوَ خادِمٌ مُستَعِدٌّ لِتَنفيذِ ما يُرضِي سَيِّدَهُ بِكُلِّ أَمانَةٍ. وَمِن هَذا المُنطَلَقِ يَقولُ السَّيِّدُ المَسيحُ: "أَتُراهُ يَشكُرُ لِخادِمٍ أَنَّهُ فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ؟" (لوقا 17: 9). فَلا يُريدُ يَسوعُ أَن يُلَقِّنَنا دَرسًا في العَلاقاتِ الاِجتِماعِيَّةِ، بَل يُريدُ أَن يُعَلِّمَنا كَيفِيَّةَ التَّصَرُّفِ في عَلاقَتِنا مَعَ اللهِ. فَنَعمَلُ كُلَّ ما يَأمُرُنا بِهِ اللهُ، كَما وَرَدَ في سِفرِ عَزرا: "كُلُّ ما يَأمُرُ بِهِ إِلهُ السَّماواتِ، فَليُقضَ بِدِقَّةٍ لِبَيتِ إِلهِ السَّماوات" (عزرا 7: 23). وَخَيرُ مِثالٍ عَلى ذلِكَ مَريَمُ العَذراءُ الَّتي جَعَلَت نَفسَها أَمَةً لِلرَّبِّ، كَما نَستَنتِجُ مِن كَلامِها لِلمَلاكِ جِبرائيلَ قائِلَةً بِخُضوعٍ وَإِيمانٍ: "أَنا أَمَةُ الرَّبِّ، فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَولِكَ" (لوقا 1: 38). إِنَّ اتِّباعَ يَسوعَ لا يَجعَلُ التَّلاميذَ أَشخاصًا مُهِمِّينَ ذَوي حُقوقٍ وَامتِيازاتٍ، لأَنَّ الاِمتِيازَ الوَحيدَ لِلعَظمَةِ هُوَ أَن نَكونَ خُدّامًا وَنَأخُذَ المَقاعدَ الأَخيرَةَ.
ثانِيًا: يُبَرِّرُ يَسوعُ هَذا المَوقِفَ، وَيُريدُ أَن يُعَلِّمَ تَلاميذَهُ بِهذَا المَثَلِ أَنَّ التَّبشيرَ بِتَواضُعٍ وَروحِ الخِدمَةِ أَمرٌ أَساسِيٌّ: "مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فيكُم، فَليَكُنْ لَكُم خادِمًا" (متى 20: 26). وَقَد قَضى الرَّبُّ يَسوعُ المَسيحُ السَّنواتِ الثَّلاثَ مِن حَياتِهِ العَلَنِيَّةِ في عَمَلِ الخَيرِ (أَعمال 10: 38)، فَهُوَ يَعتَني بِالمَرضى، وَالبُرصِ، وَالفُقَراءِ، وَالأَولادِ وَغَيرِهِم.
ثالِثًا: يُعَلِّمُنا يَسوعُ أَنَّ الطّاعَةَ وَالأَعمالَ الصّالِحَةَ لا تَنطَوِي عَلى استِحقاقٍ مِن جانِبِنا، وَلا تُعطِينَا حَقَّ مُطالَبَةِ اللهِ بِشَيءٍ ما. فَإِن أَطَعنَا اللهَ، فَلَم نَكُن قَد عَمِلنا إِلّا ما يَتَوَجَّبُ عَلَينا. وَمَهما كانَت أَعمالُنا الصّالِحَةُ، فَلَيسَ هَذا دَينًا عَلى اللهِ. وَكُلَّما بَذَلَ الإِنسانُ ذاتَهُ لِأَجلِ الآخَرينَ، يُدرِكُ أَنَّ كَلِماتِ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ تَخصُّهُ: "نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم" (لوقا 17: 10). فَيَعتَرِفُ أَنَّهُ لا يَتَصَرَّفُ وَفقَ كَفاءَةٍ شَخصِيَّةٍ، بَل لأَنَّ الرَّبَّ أَعطاهُ النِّعمَةَ لِيَعمَلَ ذلِكَ، خُصوصًا عِندَما تَكونُ الحاجَةُ بالِغَةً وَقُدراتُهُ مَحدودَةً. وَعِندَما يَشعُرُ الإِنسانُ أَنَّهُ أَداةٌ في يَدِ الرَّبِّ، عِندَها سَيَعمَلُ ما بِوُسعِهِ بِكُلِّ تَواضُعٍ، وَسَيُسَلِّمُ الباقي لِلرَّبِّ بِكُلِّ تَواضُعٍ أَيضًا.
بِكَلِمَةٍ أُخرى: أَن يَكونَ الإِنسانُ قادِرًا عَلى مُساعَدَةِ الآخَرينَ لا يُعتَبَرُ استِحقاقًا لَهُ أَو إِنجازًا يَفتَخِرُ بِهِ. بَل هُوَ واجِبٌ وَنِعمَةٌ. كَما نَستَشفُّ مِن كَلِماتِ الأَب فِديريكُو لُومباردي في نِهايَةِ خِدمَتِهِ كَمُديرٍ لِدارِ الصَّحافَةِ في الفاتيكانِ: "إِنِّي أَسعَى لِأُصغِيَ لِكَلِماتِ يَسوعَ لِتَلاميذِهِ، وَالَّتي نَعرِفُها جَميعًا: إِذا فَعَلتُم جَميعَ ما أُمِرتُم بِهِ فَقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وَما كانَ يَجِبُ عَلَينا أَن نَفعَلَهُ فَعَلناهُ. وَهَذا المَوقِفُ يُساعِدُنا عَلى مُقاوَمَةِ المَجدِ الباطِل". وَيُعَلِّقُ أُسقُفُ سُوريَا يَلُوكْسين المَنبِجيّ(523): "إِذا هاجَمَتكَ إِحدى أَفكارِ المَجدِ الباطِلِ بِسَبَبِ رِفعَةِ مُستَوى خِدماتِكَ، تَذَكَّر كَلِماتِ الرَّبِّ الَّذي قالَ: وَهكَذا أَنتُم، إِذا فَعَلتُم جَميعَ ما أُمِرتُم بِهِ فَقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وَما كانَ يَجِبُ عَلَينا أَن نَفعَلَهُ فَعَلناهُ" (لوقا 17: 10). نستنتج مما سبق أنَّ يسوع يُذَكِّرُنَا بالخِدْمَةُ المُتَوَاضِعَةُ: التِّلْمِيذُ الحَقِيقِيُّ يَخْدِمُ دُونَ أَنْ يَفْتَخِرَ أَوْ يَنْتَظِرَ الشُّكْرَ، لِأَنَّهُ يَقُومُ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. يقول القديس أوغسطينوس: "نَحْنُ لَا نُضِيفُ شَيْئًا إِلَى اللهِ بِخِدْمَتِنَا، بَلْ نَسْتَفِيدُ نَحْنُ مِنْهَا".
العِبْرَةُ
العِبْرَةُ الَّتي يُرِيدُ يَسوعُ أَنْ يُلْقِيَها عَلَيْنَا هِيَ التَّواضُعُ في الخِدْمَةِ: "إِذا فَعَلْتُم جَميعَ ما أُمِرْتُم بِهِ فَقُولوا: نَحْنُ خَدَمٌ لا خَيْرَ فِيهِم، وَما كانَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَهُ فَعَلْناهُ" (لوقا 17: 10).
فَلَيْسَ لِلْبَشَرِ حَقٌّ فِي التَّبَجُّحِ أَمامَ اللهِ، مِثْلِ الفَرِّيسِيِّينَ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ لَهُم حُقوقًا عِنْدَ اللهِ بِسَبَبِ صَلاحِهِم وَأَعْمالِ الخَيْرِ الَّتِي يَصْنَعونَها. أَمَّا نَحْنُ، فَمَهْما فَعَلْنا، فَلَنْ نُنْهِيَ خِدْمَتَنا، وَلَنْ نَقُومَ بِما فِيهِ الكِفايَةُ تُجاهَ إِلهٍ أَنْعَمَ عَلَيْنا بِكُلِّ شَيءٍ. وَقَدْ فَهِمَتِ القُدِّيسَةُ تِريزا الصَّغِيرَةُ هذَا المَغْزَى، فَقالَت إِنَّها تَقِفُ أَمامَ اللهِ "فارِغَةَ اليَدَيْنِ". فَعَلَيْنا أَلَّا نَتَفاخَرَ بِأَعْمالِنا أَمامَ اللهِ، بَل مَهْما قُمْنا بِما أَمَرَ بِهِ الرَّبُّ، لِنَقُلْ: "لا شُكْرَ عَلى واجِبٍ".
وَبِالرَّغْمِ مِن أَنَّنا "خَدَمٌ لا خَيْرَ فِيهِم"، نَحْنُ مَدْعُوُّونَ لِتَناوُلِ جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ المُقَدَّسِ فِي كُلِّ اِحْتِفالٍ أُفْخارِسْتِيٍّ نُقِيمُهُ. وَمَدْعُوُّونَ إِلى عَيْشِ الخِدْمَةِ دُونَ أَيِّ مُقابِلٍ، لِتَنْفَتِحَ أَمامَنا الطَّرِيقُ نَحْوَ فَرَحٍ أَعْظَم: أَنْ نَكُونَ مُشارِكِينَ فِي مَحبَّةِ اللهِ نَفْسِهِ، الَّذِي يَنْتَظِرُنا جَميعًا عَلى المائِدَةِ السَّماوِيَّةِ.
نَستَنتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ أَعمالَنا لَيسَت قُوَّتَنا، إِنَّما هِيَ نَتيجَةُ نِعمَةِ الإِيمانِ. لِذلِكَ لا يُمكِنُنا أَن نُطالِبَ بِحُقوقِنا أَمامَ اللهِ إِذا نَفَّذنا كُلَّ أَوامِرِهِ، بَل نَتَواضَعُ أَمامَ الرَّبِّ وَنَشكُرُهُ عَلى نِعمَةِ تَطبيقِ وَصاياهِ، كَما عَلَّمَنا يَسوعُ في مَثَلِ التَّواضُعِ في الخِدمَةِ (لوقا 17: 7-10).
الخُلاصَةُ
الإِيمانُ الَّذي يُريدُهُ يَسوعُ هُوَ الإِيمانُ المُؤَسَّسُ على عَمَلِ الرَّبِّ فينا، وَلَو بِمِقدارِ حَبَّةِ خَردَل. الإِيمانُ هُوَ أَنْ تَفعَلَ فينا نِعمَةُ الرَّبِّ. فَلَيسَ الإِيمانُ مُجرَّدَ مُعتَقَدٍ، بَل هُوَ الإِيمانُ بِشَخصِ يَسوعَ المَسيحِ، كَما اختَبَرَهُ بُولُسُ الرَّسولُ الَّذي قال: "أَستَطيعُ كُلَّ شَيءٍ بِذاكَ الَّذي يُقَوِّيني" (فيلبّي 4: 13).
الإِيمانُ الحَيُّ يَعرِفُ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذي يُتَمِّمُ كُلَّ شَيءٍ، وَأَنَّنا "بِمَعزِلٍ عَنهُ لا نَستَطيعُ أَن نَعمَلَ شَيئًا" (يوحنّا 15: 5). وَالإِيمانُ الحَقيقِيُّ يَعرِفُ أَنَّنا كَبَشَرٍ ضُعَفاءُ، وَلَكِن كَمُؤمِنينَ أَقصى القُوَّةِ. فالإِيمانُ، في نِهايَتِه، هُوَ الثِّقَةُ وَالاِتِّحادُ بِالرَّبِّ وَوَضعُ رَجائِنا عَلَيهِ.
أَرادَ يَسوعُ أَن يُؤَكِّدَ لَنا مَركِزَنا الحَقيقِيَّ خارِجَ نِعمَتِهِ، وَهو أَنَّنا عَبيدٌ بَطّالون، أَي عَبيدٌ لِلهِ لَم نُوفِ حَقَّهُ كَما يَنبَغي. فَإِن جَعَلناهُ الأَوَّلَ في حَياتِنا، وَقَدَّمنا كُلَّ شَيءٍ لِحِسابِهِ، نَبقى عَبيدًا مَدينينَ لَهُ بِحَياتِنا، وَنَشعُرُ في أَعماقِنا أَنَّنا بَطّالون. فَمِن خِلالِ نِعمَتِهِ صِرنا أَبناءً لَهُ، وَما نُمارِسُهُ هُوَ مِن نِعمَتِهِ المَجّانِيَّةِ، وَلَيسَ ثَمنًا لِجِهادِنا الذّاتِيِّ أَو فَضلًا مِنّا.
حَتّى لَو حَفِظنا جَميعَ ما يُوصينا اللهُ بِهِ، فَإِنَّنا في ذلِكَ لَم نَصنَع إِلّا ما هُوَ عَلَينا مِن واجِبٍ، وَإِنَّ جَميعَ أَعمالِنا الصّالِحَةِ لا تُكسِبُنا أَيَّ حَقٍّ عَلَيهِ تَعالى. فَكُلُّ ما يَنعمُ بِهِ عَلَينا لَيسَ إِلّا عَطيَّةً مَجّانِيَّةً مِن جُودِهِ. فَإِن أَحبَبنا الرَّبَّ وَتَفانَينا في خِدمَتِهِ وَتَجاوَبنا مَعَ نِعمَتِهِ، نَنالُ الخَلاصَ كَما صَرَّحَ السَّيِّدُ المَسيحُ: "مَن أَرادَ أَن يَحفَظَ حَياتَهُ يُفقِدُها، وَمَن فَقَدَ حَياتَهُ يُخَلِّصُها" (لوقا 17: 33).
الدُّعاء
يَا رَبَّ يَسُوعَ المَسِيح،
نَرفَعُ إِلَيْكَ اليَومَ صَرخَةَ التَّلامِيذ: "زِدْنَا إِيمَانًا".
هَبْ لَنَا إِيمَانًا صَادِقًا، وَلَوْ بِحَجْمِ حَبَّةِ خَردَل،
لِيَصِيرَ حَيَاتُنَا قَادِرَةً عَلَى مُوَاجَهَةِ المُستَحِيل.
عَلِّمْنَا أَنْ نَخْدُمَكَ بِتَوَاضُع،
مِنْ غَيرِ كِبرِيَاءٍ وَلَا انْتِظَارِ شُكر،
فَنَقُولَ مَعًا بِصِدق:
"إِنَّمَا نَحنُ عَبِيدٌ بُسَطَاء، مَا عَمِلنَاهُ هُوَ وَاجِبُنَا".
زِدْنَا يَا رَبُّ ثَبَاتًا فِي المَحَبَّة،
وَافْتَحْ قُلُوبَنَا لِلغُفرَانِ وَالرَّجَاءِ،
لِكَي يَكُونَ كُلُّ مَا نَعمَلُهُ لِمَجدِ اسْمِكَ وَخَيرِ إِخوَتِنَا. آمِينَ.
القِصَّة: زِدْنا إِيمانًا
في كِتاب The Book of Eli لِلمُؤلِّف غاري وِتّا (Gary Whitta)، جَرى حِوارٌ مُؤَثِّر بَينَ البَطَل وَفَتاةٍ رافَقَتهُ وَهو في طَريقِهِ نَحوَ الغَرب، مُصغِيًا لِإِلهاماتٍ داخِلِيَّةٍ، في مَهَمَّةٍ شِبهِ مُستَحيلَةٍ لِإِيصالِ النُّسخَةِ الوَحيدَةِ المُتبَقِّيَةِ مِن الكِتابِ المُقدَّسِ إِلى حَيثُ يُمكِنُ حِفظُها وَإِعادَةُ نَشرِها، وَإِنقاذُ البَشَرِيَّةِ مِنَ الدَّمارِ الَّذي لَحِقَ بِها جَراءَ انفِجارِ أَحَدِ النَّيازِكِ.
تَرجَمَةُ الحِوار:
هي تَقولُ: إِنَّكَ تَسيرُ مُنذُ ثَلاثينَ عامًا؟ هَل فَكَّرتَ يَومًا أَنَّكَ قَد تَكونُ تائِهًا؟
هو: كَلا.
هي: كَيفَ تَعلَمُ أَنَّكَ تَسيرُ في الاِتِّجاهِ الصَّحيحِ؟
هو: نَسيرُ حَسَبَ الإِيمانِ وَلَيسَ حَسَبَ النَّظَرِ.
هي: ماذا تَقصِدُ؟
هو: أَي أَنَّكِ تَعرِفينَ الأَمرَ حَتَّى إِن كُنتِ لا تَعرِفينَهُ.
هي: هَذا مُنافٍ لِلمَنطِقِ.
هو: لا داعِيَ لِكَي يَكونَ مَنطِقيًّا، إِنَّهُ الإِيمانُ، إِنَّهُ زَهرَةُ النُّورِ في حَقلِ الظَّلامِ، الَّذي يُعطيني القُوَّةَ لِأُتابِعَ طَريقِي وَأَصِلَ إِلى هَدَفِي.
كَم نَحنُ اليَومَ بِأَمسِّ الحاجَةِ إِلى الإِيمانِ كَي يُضِيءَ حُقولَنا الوَاسِعَةَ في هَذا العالَمِ المُظلِمِ.
كَم نَحنُ بِحاجَةٍ إِلى الإِيمانِ كَما يُعَرِّفُهُ صاحِبُ الرِّسالَةِ إِلى العِبرانيِّينَ: "الإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الَّتي تُرجى وَبُرهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (عبرانيين 11: 1).
وَكَم نَحنُ بِحاجَةٍ إِلى أَن نَحيا فِي الإِيمانِ بِالمَسيحِ الَّذي أَحبَّنا وَبَذَلَ نَفسَهُ عَلى الصَّليبِ مِن أَجلِنا، عَلى خُطى بُولُسَ الرَّسولِ: " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي " (غلاطية 2: 20).