موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٥

رِسَالة يسوع العَلنيَّة في الجَليل وعَمل الرُّوحِّ القُدُس

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الثَّالث مِن السَّنة: رِسَالة يسوع العَلنيَّة في الجَليل وعَمل الرُّوحِّ القُدُس (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

الأحَد الثَّالث مِن السَّنة: رِسَالة يسوع العَلنيَّة في الجَليل وعَمل الرُّوحِّ القُدُس (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

 

النص الإنجيلي (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

 

1: 1 لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا، 2 كما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها، 3 رَأَيتُ أَنا أَيضاً، وقَد تقَصَّيتُها جَميعاً مِن أُصولِها، أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا تاوفيلُس المُكرَّم، 4 لِتَتَيَقَّنَ صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليم.

 

4: 14 وعادَ يسوعُ إلى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوح، فانتَشَرَ خَبَرُه في النَّاحِيَةِ كُلِّها. 15 وكانَ يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم فيُمَجِّدونَه جَميعاً. 16 وأَتى النَّاصِرَةَ حَيثُ نَشَأَ، ودخَلَ الـمَجْمَعَ يَومَ السَّبتِ على عادَتِه، وقامَ لِيَقرأ. 17 فدُفِعَ إِلَيه سِفْرُ النَّبِيِّ أَشَعْيا، فَفَتَحَ السِّفْرَ فوَجدَ الـمَكانَ المكتوبَ فيه: 18 ((رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين 19 وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ)). 20 ثُمَ طَوَى السِّفرَ فَأَعادَه إلى الخادِمِ وجَلَسَ. وكانَت عُيونُ أَهلِ الـمَجمَعِ كُلِّهِم شاخِصَةً إِلَيه. 21 فَأَخَذَ يَقولُ لَهم: ((اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم)).

 

 

المُقَدِّمَةُ


فِي هذا الأحَد المُخصَّص للكَلِمة الله يَصِفُ لُوقَا فِي مُقَدِّمَةِ إِنْجِيلِهِ الِاهْتِمَامَ الَّذِي الْتَزَمَ بِهِ لِلْحُصُولِ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ الْكَامِلَةِ وَالدَّقِيقَةِ، لِإِظْهَارِ الْأَسَاسِ التَّارِيخِيِّ لِلْإِيمَانِ الْمَسِيحِيِّ فِي الْإِنْجِيلِ الطَّاهِرِ، الَّذِي يَدُورُ حَوْلَ بَدْءِ رِسَالةِ الْمَسِيحِ الْمُخَلِّصِ وَعَمَلِهِ فِي سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا سِيَّمَا الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَالنِّسَاءِ، وَالْخَاطِئِينَ، وَالْوَثَنِيِّينَ. بدونِ الرُّوحِ القُدُسِ، يظلُّ كتابُ الإنجيلِ كتابًا كغيرِه من الكتبِ الأخرى؛ كما قالَ أحدُ آباءِ الكنيسةِ في القرونِ الأولى: "بدونِ الرُّوحِ نَشعُرُ ببُعدِ اللهِ، ويَبقى المسيحُ في الماضي، ويَصيرُ الإنجيلُ حُروفًا مَيِّتة، وتُصبحُ الكنيسةُ مُجرَّدَ مُنظَّمةٍ بسيطةٍ، والسُّلطةُ سِيادَةً، والرِّسالةُ دِعايةً، والعِبادةُ مُجرَّدَ استحضارٍ بسيطٍ، مما يجعلُ العَملَ المسيحيَّ أخلاقَ عبيدٍ". فبفضلِ الرُّوحِ القُدُسِ وحدَهُ، يُصبحُ الإنجيلُ قُوَّةَ حياةٍ.  وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ الْبَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الْإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.

 

 

أولاً: تحليل وقائع النص الإنجيلي (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

 

1: 1 لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا،

 

تشيرُ عبارةُ "أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةَ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندَنا" إلى مقدمةِ إنجيلِ لوقا، على طريقةِ الكُتَّابِ اليونانيينَ المُعاصِرينَ له، التي تكشِفُ عن وُجودِ سِجِلّاتٍ مكتوبةٍ قبلَ الشُّروعِ في تدوينِ الأناجيلِ الثلاثةِ: لوقا، متى، ومرقس. أمَّا عبارةُ "لَمَّا أَن" في الأصلِ اليونانيِّ Ἐπειδήπερ (ومعناها: بقدرِ ما هو كائن)، فتُشيرُ إلى مصطلحٍ يؤكِّدُ حقيقةً معروفةً جيِّدًا. وهذا المصطلحُ وردَ مرةً واحدةً فقط في العهدِ الجديدِ، حيث يُنبئُ لوقا أنَّهُ نوى أن يستخدمَ ما قامَ به الكثيرونَ مِنْ قبلُ ليُعزِّزَ ما سيقولهُ هو، مؤكِّدًا أنَّ دقَّتَهُ مع هذه الكثرةِ مِنَ النَّاسِ ستأتي بالجديدِ الكاملِ.  أمَّا عبارةُ "أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ" في الأصلِ اليونانيِّ ἐπεχείρησαν (ومعناها: أخذوا في اليد)، فتُشيرُ إلى مصطلحٍ كان يُستخدمُ في اللغةِ الطبِّيةِ بكثرةٍ، ويحملُ معنى المُهمَّةِ الصَّعبةِ التي تَكلَّلت بالنَّجاحِ الكاملِ (أعمالُ الرُّسلِ 13: 19)، حيثُ أنَّ الكثيرينَ هُنا لم يكونوا شهودَ عِيانٍ بل نقلوا عن غيرِهم، بعكسِ متَّى ويوحنَّا اللَّذينَ كانا شاهدي عِيانٍ. فالأرجحُ أنَّ أولئكَ الكثيرينَ هم مُعلِّمو الإنجيلِ والمُبشِّرونَ به، الذينَ كتبوا أخبارًا مُختصرةً ممَّا سمعوهُ مِنَ الرُّسلِ وغيرهم مِنْ وقتٍ إلى آخر. ولعلَّ بعضَ المؤمنينَ منهم، كانوا يكتبونَ ما هو مخزونٌ في ذاكرتِهم مِنْ مواعظِ الرُّسلِ. أمَّا عبارةُ "يُدَوِّنونَ" في الأصلِ اليونانيِّ ἀνατάξασθαι  (ومعناها: يُرتِّبُ أو يُصنِّفُ)، فتُشيرُ إلى تجميعٍ وترتيبٍ للمقولاتِ والرِّواياتِ الشَّفاهيِّةِ والمكتوبةِ، وهذا يُؤكِّدُ دقَّةَ التَّسليمِ الشَّفويِّ والمكتوبِ الذي تمَّ تسليمُهُ مِنْ رُسُلِ المسيحِ، خاصَّةً مرقسَ الإنجيليِّ ومتَّى الإنجيليِّ للمؤمنينَ الأوائلِ في الكنيسةِ الأولى. ولم يُستخدم هذا المصطلحُ في العهدِ الجديدِ سوى هُنا فقط، حيثُ استهلَّ لوقا هذه المقدِّمةَ بذِكرِ ما سبقهُ في تدوينِ رِوايةِ البُشرى السَّارةِ، لكنَّ المُؤلَّفاتِ اندثرتْ جميعُها. يُعلِّقُ العلَّامةُ أوريجانوس قائلاً: "معنى كلمةِ 'أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ' أنَّهم حاولوا، وفي هذا اتِّهامٌ موجَّهٌ ضدَّهم ضِمنيًّا، إذْ حاولوا كتابةَ الأناجيلِ دون إرشادِ الرُّوحِ القُدسِ، أمَّا الإنجيليُّونَ متَّى ومرقس ولوقا ويوحنَّا فلم يُحاولوا التَّأليفَ، إنَّما امتلأوا بالرُّوحِ القُدسِ، فكتبوا الأناجيلَ القانونيَّةَ، ومنها وحدها نَستقي إيمانَنا بربِّنا ومُخلِّصِنا". أمَّا عبارة " رِوايةِ "   في الأصل اليوناني ήγησιν (معناها: رواية)، فتُشيرُ إلى روايةِ التَّقليدِ الرَّسوليِّ المُسلَّمِ للكنيسةِ مِنْ رُسُلِ المسيحِ. ولم تُستخدمْ هذه العبارةُ في العهدِ الجديدِ سوى هُنا فقط. أمَّا عبارةُ "الأُمورِ الَّتي تَمَّت" في الأصلِ اليونانيِّ επληροφορημένων (ومعناها: الأمورُ المُتيقَّنةُ)، فتُشيرُ إلى الأمورِ الواضحةِ الأكيدةِ التي حدثتْ والتي يعرِفونها جيِّدًا ولا شكَّ فيها، وهي الأمورُ الخاصَّةُ بحياةِ السيِّدِ المسيحِ وأعمالِهِ ورسالَتِهِ الخلاصيَّةِ، كما تمَّت بيدِ اللهِ، وهي مِنَ الأمورِ التي اتَّفقَ المسيحيُّونَ جميعًا على صِحَّتِها. وقد رُتِّبتْ بأسلوبٍ يسهلُ فيه إدراكُها وذكرُها والتَّعبيرُ عنها. وهذا هو المصدرُ الأوَّلُ لما كتبَهُ في إنجيلِهِ. يُعلِّقُ العلَّامةُ أوريجانوس: "لقد عرفَ لوقا الأمورَ بكلِّ يقينِ الإيمانِ والعقلِ فلم يتردَّدْ في تصديقِها، وهذا حالُ المؤمنِ المُحنَّكِ القويِّ الذي يسلُكُ ويُفكِّرُ بالرُّوحِ مميِّزًا الحقَّ مِنَ الباطلِ". أمَّا عبارةُ "عِندَنا" في الأصلِ اليونانيِّ ἐν ἡμῖν (ومعناها: عندنا)، فتُشيرُ إلى المؤمنينَ أعضاءِ الكنيسةِ، فقد تمَّت هذه الأمورُ بينَنا وعِشناها وحفِظناها.

 

1: 2 كما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها،

 

تشيرُ عبارةُ "كما" في الأصلِ اليوناني καθὼς إلى مصطلحٍ بمعنى "بمقتضى" أو "من واقع". أَمَّا عبارةُ "نَقَلَها" في الأصلِ اليوناني παρέδοσαν (معناها سَلَّمَها باليدِ) فتُشيرُ إلى التَّقليدِ الرَّسوليِّ بتسليمِ البِشارةِ الإنجيليَّةِ شِفَاهِيًّا؛ لأنَّ أكثرَ التَّعاليمِ في عُصورِ الكنيسةِ الأولى كانت شَفَويَّةً لا كِتابيَّةً. وهذا ما وصفهُ بولسُ الرَّسولُ بقولهِ: "إِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم" (1 قورنتس 23: 11). يتكلَّمُ لوقا عن التَّقليدِ الذي وَصَلَ إليهِ من العناصرِ المُشتَرَكةِ لدى مرقسَ ومتى، ومِن مُختَلَفِ الكنائسِ من خلالِ المُبَشِّرينَ بيسوعَ وتعليمهِ، وفي طليعتهم الرُّسلُ، بالإضافةِ إلى نشاطِ لوقا الرَّسوليِّ مع بولسَ الرَّسولِ. فهو تقليدٌ مُقدَّسٌ، تقليدُ شُهودِ كلمةِ اللهِ وخُدَّامِها. وبالتَّالي فإنَّ إنجيلَ لوقا هو دليلٌ لتقليدِ الكنيسةِ وإنجيلِ الرُّسلِ. والتَّقليدُ هو الوَديعةُ المُعاشَةُ في حياةِ الكنيسةِ بالرُّوحِ القُدُسِ، تَتَسَلَّمُها الأجيالُ خلالَ التَّسليمِ الشَّفَويِّ والكِتابيِّ وخِلالَ العِبادةِ والسُّلوكِ. أمَّا عبارةُ "كانوا مُنذُ البَدءِ" فتُشيرُ إلى أوَّلِ خِدمةِ المسيحِ، وتُذكِّرُنا هذه العبارةُ بقولِ بطرسَ الرَّسولِ عند اختيارِ بديلٍ ليهوذا الإِسخريوطيِّ: "مُذ أَن عَمَّدَ يُوحنَّا إلى يَومَ رُفِعَ عنَّا. فيَجِبُ إِذًا أَن يَكونَ واحِدٌ مِنهُم شاهِدًا مَعَنا عَلى قِيامَتِه" (أعمال الرُّسل 1: 22). أمَّا عبارةُ "شُهودَ عِيانٍ" في الأصلِ اليوناني αὐτόπται (معناها المُشاهَدةُ بالعينِ مُباشَرَةً) فتُشيرُ إلى شَهادَةِ أُناسٍ شاركوا يسوعَ في حياتِهِ مُنذُ بَدءِ خِدمتِهِ الرَّسوليَّةِ وشَهِدوا لهُ. هم لا يَتَكَلَّمونَ إلَّا بِما رَأَوا بأنفسِهِم، أي عن مَعرِفَةٍ شَخصيَّةٍ وخِبرةٍ عَمَليَّةٍ ومُعايَشَةٍ كامِلَةٍ لِما يَتَكَلَّمونَ عنهُ، كما وَرَدَ في تَعليمِ يُوحنَّا الحَبيبِ: "ذاكَ الَّذي كانَ مُنذُ البَدْءِ ذاكَ الَّذي سَمِعْناهُ ذاكَ الَّذي رَأَيْناهُ بِعَينَيْنا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلْناهُ ولَمَسَتْهُ يَدانَا مِن كَلِمَةِ الحَياةِ، أَنَّ الحَياةَ ظَهَرَت فَرَأَيْنا ونَشهَد ونُبَشِّرُكُم بِتِلكَ الحَياةِ الأَبدِيَّةِ الَّتي كانَت لَدَى الآبِ فَتَجَلَّت لَنا" (1 يُوحنَّا 1: 1-2). وهذه العبارةُ لم تُستَخدَمْ في العَهدِ الجديدِ سوى هُنا فقط. هؤلاءُ شُهودُ عِيانٍ هُم -كما جاءَ في سيرةِ الجَماعَةِ المَسيحيَّةِ الأُولى -"رِجالٌ صَحِبونا طَوالَ المُدَّةِ الَّتي أَقامَ فيها الرَّبُّ يَسوعُ مَعَنا" (أعمال الرُّسل 1: 21) . وتُعَدُّ شَهادةُ هؤلاءِ المَصدَرَ الثاني الذي أَخذَ لوقا إِنْجيلَهُ مِنهُ، وهُم الرُّسلُ وغيرُهم مِمَّن شاهَدوا يسوعَ وأَعمالَهُ وسَمِعوا أَقوالَهُ وبَشَّروا بِكَلِمَتِهِ وبَذَلوا الجُهدَ في خِدمتِهِ. يُعلِّقُ العلَّامةُ أُوريجانوس على عِبارَةِ "شُهودَ عِيانٍ" بأنَّها لا تَعني مُجرَّدَ الرُّؤيا الجَسَديَّةِ، إذْ كثيرونَ رأَوا السَّيِّدَ المسيحَ حَسَبَ الجَسَدِ ولم يُدرِكوا شَخصَهُ ولا تَجاوَبوا معَ عَملِهِ الخَلاصِيِّ. فَكَلِمَةُ "شُهودَ عِيانٍ" تَعني المَعرِفَةَ النَّظَرِيَّةَ، بينما تُشيرُ كَلِمَةُ "خُدَّام" إلى المَعرِفَةِ التَّطبيقيَّةِ. ويُعلِّقُ القِدِّيسُ أَمبرُوسيوس: "نالَ الرُّسلُ هذهِ النِّعْمَةَ... لقد عايَنوا، ويُفهَمُ مِن هذا جِهادُهُم للتَّعرُّفِ على الرَّبِّ، وخَدَموا، ويُفهَمُ مِنهُ ظُهورُ ثِمارِ جِهادِهِم". فالشَّهادَةُ أو المُعايَنَةُ الرُّوحيَّةُ أو الإدراكُ الرُّوحيُّ تَرتَبِطُ بالعَملِ، فالأقوالُ والأخبارُ التي انفَرَدَ بِرِوايَتِها لوقا الإنجيليُّ فقد أَخَذَها عن شُهودِ عِيانٍ. الشَّهادَةُ للمَسيحِ هي قَبلَ كُلِّ شيءٍ شَهادَةٌ لِقيامَتِهِ (أعمال الرُّسل 1: 22)، والشُّهودُ هُم الاثنا عَشَرَ أوَّلًا "الَّذينَ رأَوا وسَمِعوا" (أعمال الرُّسل 1: 22)، لكن هناك آخَرونَ يُدْعَونَ أَيضًا شُهودًا مِثلَ بولسَ الرَّسولِ الذي لم يَرَ ولم يَسمَع وإسْطِفانُس (أعمال الرُّسل 22: 20). أَمَّا عِبارَةُ "لِلكَلِمَةِ" في الأصلِ اليونانيِّ λόγος فتُشيرُ إلى شَخصِ المسيحِ، وتَعني أيضًا الرِّسالةَ الإنجيليَّةَ بِكامِلِها دونَ أيِّ تَغييرٍ حيثُ يُقصَدُ بها تسجيلُ كلامِ المسيحِ وأعمالِهِ وشخصِهِ، كما أكَّدَ هو لوقا نفسه: "ألَّفتُ كتابيَ الأوَّل، يا تاوفيلُس، في جميعِ ما عمِلَ يسوعُ وعلَّمَ، مُنذُ بدءِ رِسالَتِهِ إلى اليومِ الَّذي رُفِعَ فيه إلى السَّماءِ" (أعمالُ الرُّسُلِ 1: 1-2). أمَّا عبارةُ "ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها الكلمةَ" في الأصلِ اليونانيِّ ὑπηρέται γενόμενοι τοῦ λόγου، (فمعناها الذين أصبحوا خُدَّامًا للكلمةِ) فتُشيرُ إلى المعرفةِ التَّطبيقيَّةِ للإنجيلِ، أي البِشارةِ الَّتي أعلَنَها الرُّسُلُ (أعمالُ الرُّسُلِ 4: 31)، والمُعاونونَ السَّبعةُ الَّذينَ أسَّسَهم الرُّسُلُ (أعمالُ الرُّسُلِ 6: 2-5)، وبولسُ الرَّسولُ وغيرُهم. باختصارٍ، سلَّمَ لنا رُسُلُ المسيحِ وتلاميذُهُ أحداثَ الرَّبِّ يسوعَ، الَّذينَ كانوا شُهُودَ عِيانٍ لها، وقد شاهدوها، وعاينوها، وعاشوها بأنفسِهم، وكانوا خُدَّامًا له.

 

1: 3 رَأَيتُ أَنا أَيضاً، وقَد تقَصَّيتُها جَميعاً مِن أُصولِها، أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا تاوفيلُس المُكرَّم،

 

تشيرُ عبارةُ "رَأَيتُ" في الأصلِ اليونانيِّ "ἔδοξε" (لا تعني مُجرَّدَ الرؤيةِ فقط، بل تعني الاستحسان)، فتُشيرُ إلى استحسانِ لوقا الإنجيليِّ عملَ أولئكَ الذينَ دَوَّنوا قبله، لذا استحسنَ أن ينضمَّ إليهم، بل ويستفيدَ من عملهم. أمَّا عبارةُ "أَنا أَيضاً"، فتُشيرُ إلى لوقا الذي يحسِبُ نفسَهُ واحدًا من الكَثيرينَ الَّذينَ أَخذوا في التَّأليف، وهذا دليلٌ على أنَّه لم يستخفَّ بما كَتبوه، بل أظهرَ قصدَهُ أن يكتبَ أكثرَ ممَّا كَتبوه، لتكونَ البِشَارَةُ كاملةً. أمَّا عبارةُ "تَقَصَّيتُها"، في الأصلِ اليونانيِّ "παρηκολουθηκότι" (ومعناها: تَفحَّصتُ بدِقَّةٍ أو تَتبَّعتُ عن قُربٍ)، فتُشيرُ إلى منهجِ التَّتبُّعِ والمُلاحظةِ والتَّحليلِ ودِقَّةِ التَّحقيقِ ورصانةِ البحثِ عن الحقائقِ الَّتي تميَّزَ بها لوقا في كتابةِ إنجيلهِ، إذ تعرَّفَ على صِحَّةِ التَّعليمِ مِن أُصولِها كَونُهُ طبيبًا، وبالتَّالي مُفكِّرًا ومُحقِّقًا وباحِثًا ومُدقِّقًا. فهل نَتساءلُ حولَ ما يُنادي به الكتابُ المُقدَّسُ كما كانَ يتساءلُ التَّلاميذُ الأوائلُ، مثلَ نَتَنائيل: "أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شيءٌ صالِح؟" (يوحنَّا 1: 46). أمَّا عبارةُ "أُصولِها"، في الأصل اليوناني  ἄνωθεν(معناها الأصول ، من البداية) فتُشيرُ إلى بدايتها ومصدرِها، ويُؤكِّدُ لوقا هنا على تَتبُّعهِ لكُلِّ شيءٍ مِن بدايتهِ، أي رَجَعَ إلى كُلِّ شيءٍ ودرَسَهُ وتَفحَّصَهُ مِن مَصدرِهِ، فقد كانَ معهُ التَّقليدُ الرَّسوليُّ الَّذي تَسلَّمَهُ عن شُهودِ عِيانٍ وخُدَّامِ الكلمةِ، يسوعَ المسيح، وكانَ بإمكانِه الرُّجوعُ إلى أكبرِ عددٍ منهم ليتحقَّقَ من صِحَّةِ كُلِّ ما تسلَّمهُ، مثلما رَجَعَ إلى العَذراءِ القِدِّيسةِ مَريَمَ التي رَوَتْ لهُ أحداثَ البِشارةِ والميلادِ، سواءٌ بشأنِ يوحنَّا المعمدانِ أو بشأنِ يسوعَ المسيح، وهذا واضِحٌ مِن تأكيدِه: "كانَتْ أُمُّهُ تَحفَظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها" (لوقا 2: 51). أمَّا عبارةُ "أَن أَكتُبَها لَكَ"، في الأصلِ اليونانيِّ "γράψαι κράτιστε" (ومعناها: أكتُبَها على التَّوالي)، فتُشيرُ إلى شُروعِ لوقا، بوَحيٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، في تَسجيلِ الأحداثِ بصورةٍ تاريخيَّةٍ شاملةٍ وكاملةٍ، بنِظامٍ وَبحَسَبِ تَرتيبِها الصَّحيح، مُستخدِمًا كُلَّ المَصادِرِ المُتاحةِ له. أمَّا عبارةُ "مُرَتَّبَةً"، فتُشيرُ إلى تَرتيبٍ أَدَبيٍّ وتَعليمِيٍّ أكثرَ مِن كَونِه تَرتيبًا زَمنيًّا، بحيثُ يَكونُ إنجيلُهُ عَرضًا مَدروسًا للحدثِ الخاصِّ بيسوعَ وتعليمِهِ. أمَّا عبارةُ "تاوفيلُس"، في الأصلِ اليونانيِّ "Θεόφιλε" (ومعناها: مُحبُّ الله)، فتُشيرُ إلى اسمٍ يونانيٍّ غيرِ يَهوديٍّ، فهو رَجُلٌ وَجِيهٌ آمَنَ بالمسيحِ وكانَ مَعروفًا في الجَماعةِ التي تَتَلمذَ فيها لوقا، وربَّما لَعِبَ دَورًا رَسميًّا في الكنيسةِ (أعمالُ الرُّسُلِ 23: 26). وقد وَجَّهَ إليه لوقا الإنجيلَ جَريًا على عادةِ المُؤلَّفاتِ الهِلِّينيستيَّةِ، ومن خلالِهِ إلى المسيحيِّينَ ذَوي الثَّقافةِ اليونانيَّةِ أولًا، ومِن خلالِهم إلينا في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ. وقد يَكونُ تاوفيلُس أحدَ المسيحيِّينَ الذينَ لُقِّنوا تَعليمَ الكنيسةِ، ومِنهم مَن يرى فيهِ رَجُلًا وَثنيًّا أَهدى لهُ لوقا الإنجيلَ دِفاعًا عن الإيمانِ المسيحيِّ. وتاوفيلُسُ هو رَمزٌ للمؤمنِ المُحِبِّ لله، الذي يَتوجَّهُ إلى الإنجيلِ لا لِيقرأَهُ فقط ويحفظَهُ غَيبًا، بل لِيَتَأمَّلَ في نُصُوصِهِ وَيَعملَ بِها. ويُعلِّقُ أُوريجانوس قائلًا: "رُبَّما يَظُنُّ البعضُ أنَّ الإنجيلَ قد كُتِبَ لشخصٍ يُدعى تاوفيلُس، لكن إن كُنتُم أيُّها السَّامِعونَ جَميعُكم مُحِبِّي الرَّبِّ، فَأَنتُم تاوفيلُس". أمَّا عبارةُ "المُكرَّم"، في الأصلِ اليونانيِّ "κράτιστε" (ومعناها: العَزيز)، فتُشيرُ إلى لَقبٍ يُطلَقُ على أصحابِ المَراكزِ الكُبرى في الدَّولةِ الرُّومانيَّةِ. وقد وَرَدَ هذا اللَّقبُ ثلاثَ مرَّاتٍ في سِفرِ أعمالِ الرُّسُلِ، حيثُ لُقِّبَ به الحاكمُ فِيلِكسُ (أعمالُ الرُّسُلِ 23: 26؛ 24: 13)، وأيضًا الحاكمُ فَسطُسُ (أعمالُ الرُّسُلِ 6: 25).

 

1: 4 صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليم.

 

تشيرُ عبارةُ "صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليمٍ" إلى أحداثٍ مُثْبَتَةٍ ومُفَسَّرَةٍ، شأنَ مُؤرِّخي عصرِ لوقا (يوحنَّا 20: 30)، وذلك لِيَكونَ تاوفيلُسُ على ثِقةٍ مِمَّا كَتَبَهُ لوقا إليه. ويَنفَرِدُ لوقا بينَ الأناجيلِ الأربعةِ ببدءِ إنجيلِهِ بِمُقدِّمَةٍ، يَشرَحُ فيها هَدَفَ الإنجيلِ والطَّريقَةَ الَّتي انتهَجَها. أمَّا عبارةُ "تَلَقَّيتَ مِن تَعليمٍ"، فتُشيرُ إلى تَعَلُّمِ تاوفيلُسَ قَبلَ ذلكَ بعضَ ما عَلِمَهُ النَّاسُ في شَأنِ المسيحِ. فأرادَ لوقا الإنجيليُّ أن يَحصُلَ صاحِبُهُ هذا على الخَبرِ الشَّامِلِ مِمَّا جَمَعَهُ هو مِن مَصادِرَ مُختَلِفَةٍ، مِمَّا وَعَظَ بِهِ الرُّسُلُ شِفاهَةً، وما أَخبَرَ بِهِ غَيرُهم مِن شُهودِ عِيانٍ، وما كَتَبَهُ الإنجيليُّونَ نَقلًا عن المُشاهِدينَ. وكُلُّ ذلكَ لا يَنفِي كَونَ ما كُتِبَ مُوحًى بِهِ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، لأنَّ الرُّوحَ أَلهَمَ الرُّسُلَ بِما تَكَلَّموا، وحَفِظَ الإنجيليِّينَ مِن الغَلَطِ في كِتابَةِ ما سَمِعوهُ وشاهَدوهُ. وهكذا يَظهَرُ لوقا بِمَظهَرِ المُؤرِّخِ في ذلكَ الزَّمانِ، مُستَنِدًا إلى مَن سَبَقَهُ، ومُبحِثًا عن المَعلوماتِ، ومُهتَمًّا بالتَّرتيبِ في عَرضِ الأُمورِ. ويَهدِفُ لوقا إلى نَقلِ التَّقليدِ الرَّسوليِّ إلى قُرَّائِهِ، وتَعريفِهِم بِالحدثِ الخاصِّ بيسوعَ مِن خِلالِ نُبُوءَاتِ العَهدِ القَديمِ، وحَياةِ يسوعَ على الأرضِ، وقِيامَتِهِ. ومِمَّا سَبَقَ نَستَنتِجُ أنَّهُ لم يُكتَبْ أيُّ كِتابٍ سُمِّيَ "إنجيلًا" أو "سِفرَ أعمالٍ" أو "رُؤيا" أو "رِسالَة" مُرتَبِطَةٍ بِالعَهدِ الجَديدِ قَبلَ تَدوينِ إنجيلِ لوقا، سِوى إنجيلِ مرقسَ وإنجيلِ متى. كما لم يُكتَبْ أيُّ كِتابٍ في القَرنِ الأوَّلِ سُمِّيَ إنجيلًا أو سِفرَ أعمالٍ أو رُؤيا أو رِسالَةً بِاسمِ أَحَدِ الرُّسُلِ، سِوى أَسفارِ العَهدِ الجَديدِ السَّبعةِ والعِشرينَ. ولم يُنسَبْ أيُّ كِتابٍ إلى أحدِ الرُّسُلِ قَبلَ سَنَةِ 150م، لأنَّ جَميعَ الكُتُبِ الأَبوكريفيَّةِ غَيرِ القانونيَّةِ كُتِبَتْ فيما بَينَ سَنَةِ 150 و450م، ولم يُكتَبْ أيُّ كِتابٍ مِنها قَبلَ سَنَةِ 150 م. والجَديرُ بِالذِّكرِ أنَّ الآياتِ الأَربعَ الأُولى الوارِدَةَ أَعلاهُ تُعَدُّ مُقَدِّمَةً لِبِشارةِ إنجيلِ لوقا كُلِّها، وفيها بَيانُ الهَدَفِ مِن كِتابَتِهِ.

 

4: 14 وعادَ يسوعُ إلى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوح، فانتَشَرَ خَبَرُه في النَّاحِيَةِ كُلِّها.

 

تشيرُ عبارةُ "عادَ" إلى لُجوءِ يسوعَ إلى الجَليلِ على أَثَرِ تَجرِبَتِهِ (لوقا 4: 1-12)، في حينِ أنَّ متَّى ومرقُسَ ذَكَرا عَودَةَ يسوعَ إلى الجَليلِ على أَثَرِ سِجنِ يُوحَنَّا المَعمَدانِ (متَّى 4: 12، مرقُسَ 1: 14)، دَلالَةً على انصِرافِهِ أَمامَ الخَطَرِ الَّذي يُهَدِّدُ حَياتَهُ. وما ذَكَرَهُ يُوحَنَّا في إنجيلِهِ يُبيِّنُ عِلَّةَ الاختِلافِ الظَّاهِرِ، وهو أنَّ يسوعَ ذَهَبَ إلى الجَليلِ مَرَّتَينِ: الأُولى على أَثَرِ مَعمُودِيَّتِهِ وتَجرِبَتِهِ (يُوحَنَّا 1: 44)، والثَّانيةَ بعدَ ذلكَ بوقتٍ آخرَ (يُوحَنَّا 4: 1). فذَكَرَ إنجيلُ لوقا عَودَةَ يسوعَ الأُولى، في حينِ أنَّ متَّى ومرقُسَ ذَكَرا عَودَتَهُ الثَّانِيَةَ. أمَّا عبارةُ "الجَليلِ"، فهي اسمٌ عِبريٌّ "הַגָּלִיל" (ومعناهُ: دائِرَةٌ أو مُقاطَعَةٌ)، وتُشيرُ في الأصلِ إلى المَوقِعِ الجَبَلِيِّ لِسِبطِ نَفتالي (2 ملوك 15: 29). وكانَ في هذا القِسمِ يَسكُنُ كثيرونَ مِن الكَنعانيِّينَ (قُضاة 1: 3-33)، وتَدُلُّ عِبارَةُ "جَليلُ الأُمَمِ" على أنَّ هذا القِسمَ كانَ يَقطُنُهُ غالِبِيَّةٌ مِن الأُمَمِ (متَّى 4: 15)، وامتدَّ اسمُ الجَليلِ حتَّى شَمِلَ كُلَّ مِنطَقَةِ يَزرَعيلَ. وفي أَيَّامِ هيرودُسَ الكبيرِ، أَصبَحَتِ الجَليلُ جُزْءًا مِن مَملكَتِهِ، وتَحَوَّلَتْ كُلُّها إلى يَهودِيَّةٍ. وبعدَ مَوتِهِ، صارتْ تَحتَ حُكمِ هيرودُسَ، رَئيسِ الرُّبعِ. وكانتِ الجَليلُ تُشكِّلُ القِسمَ الشَّماليَّ مِن بَينِ الثَّلاثَةِ أَقسامٍ الَّتي قُسِّمَتْ إليها فِلسطينُ في زَمنِ المسيحِ خِلالَ الحُكمِ الرُّومانِيِّ. وكانتْ مِنطَقَةً خَصِبَةً جدًّا، وكَثيرَةَ السُّكَّانِ، وكانَ بِها خَليطٌ مِن الأَجناسِ، مِمَّا أَدَّى إلى نَبراتٍ خاصَّةٍ في لُغَتِهم، كما هو واضِحٌ في الأناجيلِ (مرقُسَ 14: 70، لوقا 22: 59). سَكَنَ الجَليلَ قَديمًا أَربَعَةُ أَسباطٍ، وهُم: يَساكَرُ، زَبولونُ، نَفتالي، وأَشيرُ. وكانَ الاعتِقادُ السَّائدُ أنَّهُ لا يُمكِنُ أن يَخرُجَ مِن الجَليلِ نَبِيٌّ (يُوحَنَّا 7: 41-52)، غَيرَ أنَّ مُعظَمَ رُسُلِ المسيحِ كانوا مِن الجَليلِ. وكانَ يسوعُ يُعرَفُ بأنَّهُ الجَليلِيُّ (متَّى 26: 69)، وفيها نَشَأَ وتَرَعْرَعَ، وخَدَمَ في حُدودِها الشَّرقيَّةِ عِندَ بَحرِ الجَليلِ، وداخِلَ مُدُنِها، مِثلَ كورَزينَ، وبَيتِ صَيدا، وكَفرناحُومَ، ونايينَ، وقانا، والنَّاصِرَةِ. وقيلَ عن بُطرُسَ إنَّهُ جَليلِيٌّ أَيضًا، ولهجَتُهُ تُظهِرُهُ (متَّى 26: 69). أمَّا عبارةُ "بِقُوَّةِ الرُّوحِ" في الأصلِ اليونانيِّ ἐν τῇ δυνάμει τοῦ πνεύματος (ومعناها: في قُوَّةِ الرُّوحِ)، فتُشيرُ إلى دافِعٍ مِنَ الرُّوحِ الَّذي نالَهُ يسوعُ في المَعمُودِيَّةِ. ويُشدِّدُ لوقا على مُبادَرَةِ يسوعَ الَّذي يَنالُ الرُّوحَ القُدُسَ لِلقيامِ بِرِسالَتِهِ (لوقا 4: 14)، وقد قالَ عنهُ إشعيا النَّبِيُّ إنَّهُ "روحُ الحِكمَةِ والمَعرِفَةِ، وروحُ المَشُورَةِ والقُوَّةِ، وروحُ المَعرِفَةِ ومَخافَةِ الرَّبِّ" (إشعيا 11: 29). فمِن ضِمنِ أَعمالِ الرُّوحِ أنَّهُ يَهبُ القُوَّةَ (قُضاة 3: 10)، مِمَّا يُظهِرُ أنَّ يسوعَ لم يَعمَلْ شيئًا لِيُرضِيَ نَفسَهُ كَإِنسانٍ، بل عَمِلَ كُلَّ ما عَمِلَهُ إطاعةً للرُّوحِ القُدُسِ، روحِ اللهِ. أمَّا عبارةُ "الرُّوحِ" في الأصل اليوناني πνεῦμα فتُشيرُ إلى روحِ اللهِ، الأَقنومِ الثَّالِثِ في الثَّالُوثِ القُدُّوسِ، وقد سُمِّيَ "روحًا" لأنَّهُ مُبدِعُ الحَياةِ، ويُدعَى روحَ اللهِ وروحَ المسيحِ. ونُسِبَتْ إليهِ الصِّفاتُ الإِلَهيَّةُ، مثل: العِلمِ بِكُلِّ شَيءٍ (1 قورنتس 2: 10)، والوجودِ في كُلِّ مَكانٍ (مَزمور 139: 7)، والقُدرَةِ على كُلِّ شَيءٍ (لوقا 1: 35)، والأَزَلِيَّةِ (العِبرانيِّينَ 9: 14). ومِن ضِمنِ أَعمالِهِ أيضًا أنَّهُ يَهبُ القُوَّةَ (قُضاة 3: 10)، والحِكمَةَ والفَهمَ والمَعرِفَةَ (خُروج 31: 3)، ويَمنَحُ قَلبًا جَديدًا ورُوحًا جَديدًا (حِزقيال 36: 26). وهو يُبَكِّتُ العالَمَ على الخَطيئَةِ والبِرِّ والدَّينونَةِ (يُوحَنَّا 16: 8)، ويُعلِّمُ كُلَّ شَيءٍ ويُذَكِّرُ بِكُلِّ ما قِيلَ (يُوحَنَّا 14: 26)، ويُعَزِّي (يُوحَنَّا 14: 16)، ويَمنَحُ روحَ التَّبَنِّي (رُومِيَة 8: 15). وهو يُحيِي المائِتينَ بِالخَطايا وَالآثامِ، ويُقَدِّسُهُم ويُطَهِّرُهُم، وهكذا يُؤهِّلُهُم لِتَمجيدِ اللهِ والتمتُّعِ بِهِ إلى الأَبَدِ (رُومِيَة 8: 2-13). أمَّا عبارةُ "فَانتَشَرَ خَبَرُهُ في النَّاحِيَةِ كُلِّها" فتُشيرُ إلى شُهرَتِهِ وَانتِشارِ صِيتِهِ، إذ إنَّ الجَليلِيِّينَ الَّذينَ حَضَرُوا تَبشيرَ يُوحَنَّا المَعمَدانِ سَمِعوا عن يَسوعَ في البَرِّيَّةِ، وشاهَدَ بَعضُهُم ما حَدَثَ عِندَ اعتِمادِهِ، وسَمِعوا شَهادةَ يُوحَنَّا، فَنَشَرُوا الخَبَرَ بَعدَ رُجُوعِهِم إلى الجَليلِ. وعِلاوَةً على ذلك، كانَ يَسوعُ يَجذِبُ جُمهورَ الشَّعبِ إليهِ بِتَعاليمِهِ في المَجامِعِ ومُعجِزاتِهِ، إذ صَنَعَ بَعضَ مُعجِزاتِهِ في الجَليلِ (يُوحَنَّا 2: 1-11). أمَّا عبارةُ "النَّاحِيَةِ" في الأصلِ اليونانيِّ περιχώρου (ومعناها: كُورَةٌ)، فتُشيرُ إلى كُلِّ بُقعَةٍ تَجتَمِعُ فيها المَساكِنُ والقُرَى في مِنطَقَةِ الجَليلِ كُلِّها. وقد وَرَدَتْ هذهِ اللَّفظَةُ نَحوَ 34 مَرَّةً في العَهدِ الجَديدِ.

 

4: 15  وكانَ يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم فيُمَجِّدونَه جَميعاً.

 

تشيرُ عبارةُ "كانَ يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم" إلى دليلٍ على أنَّ الإنجيلَ يَستَنِدُ إلى وُعودِ العَهدِ القَديمِ. والبرَهانُ على ذلك أنَّ يَسوعَ جاءَ إلى المَجمَعِ ليُعلِنَ عن تَحقِيقِ وُعودِ العَهدِ القَديمِ الَّتي وَصَفَها النَّبِيُّ إشعيا: "أَلَيسَ هَذا صَومًا أَختارُهُ: أَن تُحُلَّ قُيودُ الشَّرِّ؟ أَن تُفَكَّ أُسْبُلُ النِّيرِ؟ أَن يُطلَقَ المَسحُوقُونَ أَحْرَارًا؟ وَأَن تَقطَعَ كُلَّ نِيرٍ؟" (إشعيا 58: 6).  يُعلِّقُ العَلامَةُ أُوريجانوس قائلًا: "الرَّبُّ لم يَتَكلَّمْ قديمًا فَحَسبْ في جَماعَةِ اليَهودِ، وإنَّما إلى اليومِ يَتَكلَّمُ في جَماعَتِنا، لَيسَ فَقطْ عِندَنا، وإنَّما في الاجتِماعاتِ الأُخرَى في العالَمِ أَجمَعَ".  أمَّا عبارةُ "مَجامِعِهم" فتُشيرُ إلى مَركَزِ العِبادَةِ في أَيَّامِ السَّبتِ، وكَذلِكَ مَدرَسَةٍ لِتَعليمِ الكِتابِ المُقدَّسِ خِلالَ باقي أَيَّامِ الأُسبوعِ. وكانَ يُقامُ المَجمَعُ في أَيِّ مَدينَةٍ تَضُمُّ عَشرَ عائِلاتٍ يَهودِيَّةٍ على الأَقلِّ. وكانَ يُديرُ المَجمَعَ قائِدٌ دِينِيٌّ يُساعِدُهُ آخَرُ، وغالِبًا ما كانَ رئيسُ المَجمَعِ يَدعُو أَيَّ مُعَلِّمٍ زائِرٍ لِقِراءَةِ الأَسفارِ المُقدَّسَةِ وتَعليمِ الشَّعبِ. ومِن هَذا المُنطَلَقِ، عَلَّمَ يَسوعُ في المَجامِعِ (مرقُسَ 1: 21)، وسارَ التَّلاميذُ على خُطاهُ فَعَلَّموا في المَجامِعِ أيضًا (أَعمالُ الرُّسُلِ 9: 20)، وكَذلِكَ بَولُسُ الرَّسولُ فيما بَعدُ (أَعمالُ الرُّسُلِ 13: 14-41). أمَّا عبارةُ "فيُمَجِّدونَهُ جَميعًا" فتُشيرُ إلى قَبولِ الشَّعبِ تَعليمَ يَسوعَ ومُعجِزاتِهِ. وقد ظَهَرَ يَسوعُ في مَجامِعِ اليَهودِ كواعِظٍ مَشهورٍ بِجَودةِ تَعليمِهِ، وأُسلوبِهِ السَّلِسِ، والسُّلطانِ الَّذي كَانَ يَتَمَتَّعُ بِهِ في التَّعليمِ.

 

4: 16 وأَتى النَّاصِرَةَ حَيثُ نَشَأَ، ودخَلَ الـمَجْمَعَ يَومَ السَّبتِ على عادَتِه، وقامَ لِيَقرأ.

 

تشيرُ عبارةُ "أَتى النَّاصِرَةَ" إلى مَجيءِ يسوعَ إلى النَّاصِرَةِ وَحدَهُ دُونَ أن يَصنَعَ مُعجِزَةً، حيثُ جارَ عليهِ اليَهودُ وَأرادوا قَتلَهُ. وهذا المَجيءُ يَختَلِفُ عَن ذِكرِ إنجيلَي متَّى ومرقُسَ، إذ جاءَ يَسوعُ فيهِما مَعَ تَلاميذِهِ وَصَنَعَ بَعضَ المُعجِزاتِ (متَّى 13: 45-58، مرقُس 6: 1-6)، ولم يَقُمِ اليَهودُ هُنا على يَسوعَ لِقَتلِهِ. أمَّا عبارةُ "النَّاصِرَةَ"، فَهيَ اسمٌ عِبريٌّ נְצֶרֶת (ومَعناهُ: قَضِيب شجرة)، وتُشيرُ إلى مَدينَةٍ في الجَليلِ (مرقُس 1: 9)، تَقَعُ على جَبَلٍ مُرتَفِعٍ (لوقا 4: 29)، وتَبعُدُ مَسافَةَ ٢٣ كيلومترًا إلى الغَربِ مِن بُحَيرَةِ طَبَرِيَّا، و138 كيلومترًا إلى الشَّمالِ مِن القُدسِ. ولم تَكُنِ النَّاصِرَةُ ذاتَ أَهمِّيَّةٍ في الأزمنَةِ القَديمَةِ، ولذلكَ لم يُذكَرْ لَها أيُّ ذِكرٍ في العَهدِ القَديمِ، وهي أَوَّلُ ما ذُكِرَتْ في الإنجيلِ. وكانَت حتَّى ذلِكَ الحينِ مُحتَقَرَةً (يُوحَنَّا 1: 46). وقد ذُكِرَتْ في العَهدِ الجَديدِ 29 مَرَّةً، إذ كانَت مَسقَطَ رَأسِ يُوسُفَ وَمَريَمَ (لوقا 2: 39)، وَفيها ظَهَرَ المَلاكُ لِمَريَمَ ليُبَشِّرَها بأنَّها سَتكونُ أُمَّ المَسيحِ (لوقا 1: 26). وإلى النَّاصِرَةِ عادَت مَريَمُ مَعَ خَطيبِها يُوسُفَ مِن مِصرَ (متَّى 2: 23)، وَفيها نَشَأَ يَسوعُ وَتَرَعْرَعَ (لوقا 4: 16). وكانَ يَسوعُ يَنمو فيها بِالحِكمَةِ وَالقامَةِ وَالنِّعمَةِ عِندَ اللهِ وَالنَّاسِ (لوقا 2: 52)، وعُرِفَ بِأَنَّهُ "ابنُ النَّجَّارِ" (متَّى 13: 55). وكانتِ النَّاصِرَةُ تُعتَبَرُ وَطَنَهُ (متَّى 13: 54)، أي المَدينَةَ الَّتي أَقامَت فيها عائِلَتُهُ وَقَضَى فيها الثَّلاثِينَ السَّنَةَ الأُولى مِن حَياتِهِ (لوقا 3: 23). ولِذلِكَ لُقِّبَ "يَسوعُ النَّاصِرِيُّ" نِسبَةً إليها (متَّى 21: 11)، ولُقِّبَ تَلاميذُهُ أيضًا بِالنَّاصِرِيِّينَ. وكانَت النَّاصِرَةُ بالنِّسبَةِ إلى لوقا الإنجيليِّ المَحطَّةَ الأُولى لِيَسوعَ وَمَوضِعَ بَرامِجِهِ، ولكِنَّهُ ما إن بَدَأَ رِسالَتَهُ فيها حتَّى رَفَضَهُ أَهلُها مَرَّتَينِ (لوقا 4: 28-31)، لأنَّهُم تَوقَّفوا عِندَ الوَجهِ البَشَرِيِّ لِيَسوعَ وَلم يَستَطيعوا أَن يَرَوا فيهِ حامِلَ كَلِمَةِ المَلكوتِ وَالمَسيحَ المُنتَظَرَ. وكانَ رَفضُهُم إعلانًا مُسَبَّقًا لِما سَيَفعَلُهُ الشَّعبُ اليَهوديُّ لاحِقًا. أمَّا عبارةُ " ودخَلَ الـمَجْمَعَ يَومَ السَّبتِ " فتُشيرُ إلى ذَهابِ يسوعَ إلى المَجمعِ، كما كانَ يَفعَلُ كُلَّ سَبتٍ، كأيِّ يَهوديٍّ، ليُؤدِّي الطُّقوسَ الدِّينيَّةَ لِقِراءةِ الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ العِبريَّةِ في لِيتورجيا السَّبتِ. أمَّا عبارةُ "الـمَجْمَعَ" فتُشيرُ إلى مَكانِ اجتِماعِ اليَهودِ الدِّينيِّ في مُدُنِ فِلسطينَ وَالجالِيَاتِ اليَهودِيَّةِ آنَذاك. وفي المَجمَعِ كانُوا يَحتَفِلُونَ بِالسَّبْتِ بِقِراءَةِ الشَّريعَةِ وَالأَنبِياءِ، تَتبَعُها عِظَةٌ، وَكانَ يَجُوزُ لِكُلِّ يَهودِيٍّ أن يُلقِيَ الكَلامَ. وكانَ رَئيسُ المَجمَعِ يُعَهدُ بِهَذهِ المُهِمَّةِ إلى المُتَضلِّعينَ في الكُتُبِ المُقدَّسَةِ، كَما حَدَثَ مَعَ بُولُسَ الرَّسُولِ وَبَرنابا (أَعمالُ الرُّسُلِ 13: 15). أمَّا عبارةُ "السَّبتِ"، فَهي كَلِمَةٌ عِبرِيَّةٌ הַשַּׁבָּת (ومَعناها: راحَة)، وتُشيرُ إلى اليَومِ الَّذي يَترُكُ فيهِ الإِنسانُ أَشغالَهُ المادِّيَّةَ لِيَستَريحَ، تَذكارًا لِليَومِ السَّابِعِ مِن الخَليقَةِ (التَّكوين 2: 3). وهو اليَوْمُ المُكرَّسُ للرَّبِّ (خروج 20)، والذي تُشيرُ إليهِ الكُتُبُ المُقَدَّسَةُ باعتبارِهِ يَومَ القِيامَةِ، ويَومَ إِكمَالِ الخَلقِ، ويَومَ التَّحريرِ مِنَ العُبُودِيَّةِ.  ولم يُجَرِّدِ المَسيحُ يومَ السَّبتِ مِن قِيمَتِهِ كَيومٍ لِلعِبادَةِ، إذ كانَ يَذهَبُ دَومًا إلى المَجامِعِ لِلصَّلاةِ في هذا اليَومِ، لكنَّهُ كَانَ يَعمَلُ المُعجِزاتِ فِيهِ، لأنَّهُ رَبُّ السَّبتِ (مرقُس 2: 28)، وكانَ يُريدُ أن يَكونَ يومَ خِدمَةٍ وَعَمَلِ رَحمَةٍ. تَدريجيًّا، حَلَّ اليَومُ الأَوَّلُ مِن الأُسبوعِ (الأَحَدُ) مَحَلَّ السَّبتِ، حيثُ كانَ المَسيحيُّونَ الأَوَّلُونَ يَجتَمِعُونَ فيهِ لِلصَّلاةِ، إذ جَعَلَت قِيامَةُ الرَّبِّ قِيمَةً خاصَّةً لِيَومِ الأَحَدِ. أمَّا عبارةُ "على عادَتِه" فتُشيرُ إلى إلقاءِ الضَّوءِ على حياةِ يَسوعَ الخاصَّةِ السَّابِقَةِ، إذ كانَ يَسوعُ مُعتادًا مُنذُ صِغَرِهِ أن يَحضُرَ المَجمَعَ لِلعِبادَةِ والتَّعليمِ، فَكانَ مُواظِبًا على واجِباتِهِ الدِّينيَّةِ، مِن تِلاوَةٍ عَلانِيَةٍ لِلنُّصوصِ المُقدَّسَةِ مِن الشَّريعَةِ أو الأَنبِياءِ، تَتبعُها العِظَةُ والتَّرنيمُ بِالمَزاميرِ. ويُعتَبرُ يَسوعُ قُدوَةً لنا في حُضورِ الاحتِفالاتِ الدِّينيَّةِ كُلَّ أُسبوعٍ. فَهَل قُدَّاسُ الأَحَدِ هو جُزءٌ مِن حَياتِنا؟  أمَّا عبارةُ "قامَ لِيَقرأ" فتُشيرُ إلى العادَةِ المُتَّبَعَةِ آنَذاكَ، حَيثُ يَقِفُ المُعَلِّمُ أَثناءَ قِراءَةِ الأَسفارِ مِن الكِتابِ المُقدَّسِ، احترامًا لِلكِتابِ الَّذي هو كَلِمَةُ الرَّبِّ. وَتُكرِّمُ الكَنيسَةُ الكُتُبَ المُقدَّسَةَ دَائِمًا، كَما كانَت تُكرِّمُ جَسَدَ الرَّبِّ (التَّعليمُ المَسيحيُّ لِلكَنيسَةِ الكاثوليكيَّةِ، 103). وَلِهذا السَّبَبِ، نَحنُ نَقرَأ مِن الكُتُبِ المُقدَّسَةِ كُلَّما اجتَمَعنا في الكَنيسَةِ لِلاحِتفالِ بِالذَّبيحَةِ الإِلَهيَّةِ. وعِندَما نَستَمِعُ إلى قِراءَةِ وَشَرحِ هذهِ القِراءاتِ، هَل نَسألُ نُفوسَنا: "ماذا يَقولُ الرَّبُّ لنا؟" وهَل نَقرَأُ كُلَّ يَومٍ الكِتابَ المُقدَّسَ لِنُغَذِّيَ فِكرَنا وَنَرتَقِيَ بِها أَكثَرَ مِن أَيِّ شَيءٍ آخَر؟ يُعلِّقُ القِدِّيسُ غريغوريوس قائِلًا: "إنَّ الكِتابَ المُقدَّسَ هو رِسالَةُ الحُبِّ الَّتي يُرسِلُها الرَّبُّ إلى شَعبِهِ، وَيُمكِنُنا مِن خِلالِها فَهمُ قَلبِ الرَّبِّ". وَلِذلِكَ يَقولُ العَلَّامَةُ ايرونيموس: "أمَّا الجَهلُ بِالكِتابِ المُقدَّسِ فَهوَ جَهلٌ بِالمَسيحِ".

 

4: 17 فدُفِعَ إِلَيه سِفْرُ النَّبِيِّ أَشَعْيا، فَفَتَحَ السِّفْرَ فوَجدَ الـمَكانَ المكتوبَ فيه:

 

تشيرُ عبارةُ "فدُفِعَ إِلَيه" إلى العادَةِ الجارِيَةِ أن يُعهَدَ رَئيسُ المَجمَعِ بِمُهِمَّةِ الشَّرحِ وَالتَّفسيرِ إلى الَّذينَ اَنكبُّوا على دِراسَةِ الكِتابِ المُقدَّسِ وَتَضَلَّعوا مِنهُ (أَعمالُ الرُّسُلِ 13: 15). أمَّا عبارةُ "سِفْرُ" في الأصلِ اليونانيِّ βιβλίον، فَهي مُشتَقَّةٌ مِن العِبرِيَّةِ סֵפֶר (وَمَعناها: دَرْجٌ أو كِتابٌ، جُزءٌ مِن كِتابِ التَّوراةِ)، وتُشيرُ إلى الكِتابِ الَّذي كانَ يُستَخدَمُ يَومَئذٍ وَالمَصنوعِ مِنَ الرِّقِّ (أي الجِلدِ الرَّقيقِ). كانَ في كُلٍّ مِن طَرفَي الرِّقِّ قَضيبٌ مِن الخَشَبِ يُلَفُّ الدَّرْجُ عَلَيهِ، كَما تُلَفُّ الخَرائِطُ في أَيَّامِنا. وأَثناءَ القِراءَةِ، كانَ القارِئُ يُلَفُّ مِنَ الطَّرفِ الواحِدِ إلى أن يَصِلَ إلى النَّصِّ المُرادِ قِراءَتُهُ مِنَ الكِتابِ المُقدَّسِ. ويُشيرُ النَّبِيُّ إشعيا إلى ذلكَ في قَولِهِ: "وتُطْوى السَّمَواتُ كَسِفْرٍ" (إشعيا 34: 4). وكانَ اليَهودُ يَضعونَ اللَّفَّةَ أو اللَّفَّتينِ في غِلافٍ مِن جِلدٍ أو خَشَبٍ، ويَقرَأونَ في المَجمَعِ على التَّوالي أَيامَ السَّنَةِ كُلَّ أَسفارِ موسى وَبَعضَ الأَنبِياءِ (أَعمالُ الرُّسُلِ 13: 15). أمَّا عبارةُ "أَشَعْيا"، فَهي مِن العِبرِيَّةِ יְשַׁעֲיָה (ومَعناها: الرَّبُّ يُخلِّصُ)، وتُشيرُ إلى النَّبِيِّ العَظيمِ الَّذي تَنَبَّأَ في يَهوذا أَيَّامَ المُلُوكِ عزيا، يُوثام، آحاز، وَحَزَقِيَّا ملوكِ يَهوذا. كانَ إشعيا يَسكُنُ في أُورُشَليمَ، وَكانَ يَعرِفُ الهَيكَلَ وَالطُّقُوسَ الَّتي كانَت تُجرَى فيهِ تَمامَ المَعرِفَةِ. وَقد اعتُبِرَ "النَّبِيَّ الإِنجيليَّ" بِسَبَبِ تَنَبُّؤاتِهِ عَنِ المَسيحِ، وَعَن وِلادَتِهِ مِن عَذراءَ، وَلاهُوتِهِ، وَآلامِهِ، وَمَوتِهِ، وَدَفنِهِ، وَقِيامَتِهِ. وتُقتَبَسُ نَبُوآتُهُ في العَهدِ الجَديدِ أَكثَرَ مِن أَيِّ سِفْرٍ آخَرَ في العَهدِ القَديمِ. أمَّا عبارةُ "فَفَتَحَ السِّفْرَ فوَجدَ الـمَكانَ المكتوبَ فيه" فتُشيرُ إلى قِراءَةِ نَصِّ إشعيا (إشعيا ٦١: ١-٢) كَما وَرَدَ في تَرجَمَةِ السَّبعينِ، مَعَ جُملَةٍ مِن إشعيا (58: 6). وكانَت قِراءَةُ السَّبتِ في ذلِكَ الوَقتِ، فَلم يَختَرْها يَسوعُ، بَل وَجَدَها، وَيَبدو أنَّها مِن تَدبيرِ العِنايَةِ الإِلهِيَّةِ. وَمِن هُنا، يَنطَلِقُ يَسوعُ في النَّاصِرَةِ مِن هَذا النَّصِّ لِيَشرَحَ رِسالَتَهُ الخَاصَّةَ.

 

4: 18 ((رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين

 

تشيرُ عبارةُ "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ" إلى تَكريسِ أَحَدِ الأَنبِياءِ (1 ملوك 19: 16)، ويَستَنِدُ يَسوعُ هُنا إلى "الرُّوحِ" الَّذي نالَهُ عِندَ اعتِمادِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ (متَّى 3: 16)، وَجَعلَ يَسوعُ مِن هذا النَّصِّ مَصدَرَ رِسالَتِهِ وَعَمَلِهِ الخَلاصِيِّ. كانَ رُوحُ اللهِ على المَسيحِ دائمًا، وَهُنا أَشارَ خُصُوصًا إلى حُلُولِ الرُّوحِ القُدُسِ عليهِ عَلانِيَةً عِندَ اعتِمادِهِ، إِعلانًا لِتَكريسِهِ (لوقا 3: 22)، وَتَأهِيلًا لَهُ لِإِنجازِ المَواعِيدِ الَّتي ذُكِرَت في نُبُوءَةِ إشَعيا. أمَّا عبارةُ "مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراءَ وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهِم ولِلعُميانِ عَودَةَ البَصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين" فتُشيرُ إلى بِشارَةِ اللهِ وَقُوَّتِهِ للخَلاصِ (مرقُسَ 1: 14)، وَهيَ مُقتَبَسَةٌ مِن إشَعيا النَّبِيِّ: "أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُهُ هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّيرِ وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحرارًا وتَحطِيمُ كُلِّ نِير؟" (إشَعيا 58: 6). قد أَغدَقَ يَسوعُ خَيراتِهِ على جَميعِ البُؤَساءِ، وَحَرَّرَ جَميعَ المُتألِّمينَ، وَأَعدَّ مُخطَّطَ اللهِ وِفقًا لِعَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذي نَزَلَ عليهِ. هذِهِ النُّبوءَةُ تُفَسِّرُ حَياةَ يَسوعَ وَرِسالَتَهُ.  أمَّا عبارةُ "مَسَحَني" فتُشيرُ إلى مُسحِ يَسوعَ كَالمُلُوكِ وَالأَنبِياءِ وَالكَهَنَةِ، وَلَكِن لا بِالزَّيتِ، بَل بِرُوحِ اللهِ، وَلِذلِكَ سُمِّيَ يَسوعُ بِالمَسيحِ، أي "المَمْسُوحِ".  أمَّا عبارةُ "لِأُبَشِّرَ الفُقَراءَ" فتُشيرُ إلى تَبليغِ البُشرى السَّارَّةِ بِالخَلاصِ لِلَّذينَ هُم في أَمسِّ الحاجَةِ إِلَيهِ، وَهُم "فُقَراءُ الرُّوحِ" (متَّى 5: 3). وَذَكَرَ يَسوعُ بَركاتِ هَذِهِ البُشرى في عِظَةِ التَّطوِيبَاتِ (متَّى 5: 1-12). يسوع يُبشِّر فُقَراء اليوم، وليس فُقَراء المَاضي فقط.  أمَّا عبارةُ "الفُقَراءَ" فتُشيرُ إلى الفُقَراءِ ليسوا فقط مَن يَفْتَقِرونَ إلى المالِ أو المواردِ المادِّيَّةِ، بَلْ يَمْتَدُّ المَفهومُ ليَشْمَلَ الفَقْرَ الرُّوحِيَّ، والتَّواضُعَ، والانْفِتاحَ على نِعْمَةِ اللهِ." أمَّا عبارةُ "لِأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهِم" فتُشيرُ فِي البِدايَةِ إِلى نُبُوءَةِ إشَعيا بِرُجُوعِ اليَهودِ الأَسرَى مِن بابلَ إِلى وَطنِهِم في اليَهودِيَّةِ، وَهُنا تُشيرُ العِبارَةُ إلى جُمهورِ البُؤَساءِ التُّعَساءِ الَّذينَ أَوقَعَهُم الشَّيطانُ في حَبائِلِهِ، فَأَطلَقَهُم يَسوعُ مِن عُبُودِيَّةِ الشَّيطانِ وَالخَطيئَةِ (يُوحَنَّا 8: 34-36). أمَّا عبارةُ "ولِلعُميانِ عَودَةَ البَصَرِ إِلَيهِم" فتُشيرُ إلى شِفاءِ المَسيحِ البَصَرَ لِلعُميانِ (متَّى 11: 5، 9: 27-30)، وَمِن ناحِيَةٍ أُخرَى، تُشيرُ إلى شِفاءِ البَصيرَةِ الرُّوحيَّةِ كَما وَرَدَ في تَعليمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "الَّذينَ أَعْمى بَصائِرَهُم إِلهُ هذِه الدُّنيَا" (2 قورنتس 4: 4). أمَّا عبارةُ "وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين" في الأصلِ اليونانيِّ ἀποστεῖλαι τεθραυσμένους ἐν ἀφέσει (ومَعناها: أَرسَلَ المَنسَحقينَ فِي الحُرِّيَّةِ)، فتُشيرُ إلى إِنقاذِ الَّذينَ هُم تَحتَ ثِقَلِ العُبُودِيَّةِ وَشَرِّ الخَطيئَةِ، كَما جاءَ في تَعليمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "إِنَّ المَسيحَ قَد حَرَّرَنا تَحريرًا. فَاثبُتوا إِذًا وَلا تَدَعُوا أَحَدًا يَعودُ بِكُم إِلى نِيرِ العُبُودِيَّةِ" (غَلاطِيَّة 5: 1). وَمِن هَذا المُنطَلَقِ، يُعَدُّ إِنجيلُ لُوقا "إِنجيلَ الرَّحمَةِ"، فهوَ إِنجيلٌ اِجتِماعِيٌّ يُطالِبُ بِمُجتَمَعٍ أَكثَرَ عَدالَةً وَسَعادَةً، إِذ يُجَسِّدُ رَسالةَ المَسيحِ فِي جَلبِ الخَلاصِ وَالتَّحرِيرِ وإعْلان سَنة الرب والسَّلامِ، والحُريَّة، والحَياة. إنَّه إعْلان عن عَملِ الله في تَجْديد وبِناء هذا العَالَم الجَديد.

 

4: 19 وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ.

 

تشيرُ عبارةُ "أُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبِّ" إلى سَنَةِ اليوبيلِ المَنصُوصِ عليها في الشَّريعَةِ، والَّتي تَتَكرَّرُ كُلَّ خَمسينَ سَنَةً (الأَحبَار 20: 10-13)، حيثُ كانَ يُحرَّرُ فيها العَبيدُ، وتُرَدُّ الأرضُ إلى أصحابِها، وهذا رَمزٌ لِما سَيُقَدِّمُهُ المَسيحُ بِصَليبِهِ لِلبَشَرِيَّةِ. فالأَعمالُ الَّتي يَذكُرُها النَّبِيُّ إشَعيا في المَسيحِ كُلُّها آياتٌ تَدُلُّ على قُدومِ المَسيحِ وَصَلبِهِ نِيابَةً عنَّا، لأنَّهُ بِصَلبِهِ قَبِلَنا اللهُ الآبُ، إِذ كُنَّا بَعيدينَ عنهُ، كَما وَرَدَ: "وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرضِ جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين" (يُوحَنَّا 12: 32). وفي هذِهِ السَّنَةِ المَقبُولَةِ، أَظهَرَ المَسيحُ مَجدَهُ بِمُعجِزاتٍ باهِرَةٍ، وَقَبِلْنا بَفَرحٍ وَابتِهاجٍ نِعمَةَ الخَلاصِ وَالفِداءِ، كَما قالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فها هُوَذا الآنَ وَقتُ القَبولِ الحَسَنِ، وَها هُوَذا الآنَ يَومُ الخَلاصِ" (2 قورنتس 6: 2).  شَبَّهَ المَسيحُ بَركاتِ مَلكوتِهِ بِالبَركاتِ الَّتي تَمَتَّعَ بها اليَهودُ في سَنَةِ يُوبيلِ الخَمسينِ، الَّتي تُنادِي بِأَنَّ كُلَّ يَهودِيٍّ أُستُعبِدَ لِدَينٍ أَو غَيرِهِ يُحرَّرُ (الأَحبَار 25: 8-16). إِذ وَهَبَ يَسوعُ لِلنَّاسِ الحُرِّيَّةَ الرُّوحِيَّةَ لِيُنقِذَهُم مِن جُرمِ الخَطيئَةِ وَعِقابِها، وَيُعيدَ إِلَيهِم مِيراثَ البِرِّ الَّذي فُقِدَ بِسَبَبِ الخَطيئَةِ. وهكذا يُعلِنُ المَسيحُ مِن خِلالِ هذِهِ البِشارَةِ أنَّهُ المُخَلِّصُ الَّذي جاءَ لِيَحرِّرَ الإنسانَ مِن كُلِّ قُيُودِ الخَطيئَةِ، وَيُدخِلَهُ في زَمَنِ النِّعمَةِ وَالغُفرانِ. وَقَدِ اتَّخَذَ المَسيحُ هذِهِ السَّنَةَ حُجَّةً فِي إِثبَاتِ رِسَالَتِهِ، لِيُؤمِنُوا بِهِ على أَنَّهُ المَسِيحُ المُنتَظَرُ، الَّذي جاءَ لِيُتِمَّ مَوعِدَ الخَلاصِ، وَيُطلِقَ الأَسْرَى الحَقِيقِيِّينَ مِن عُبُودِيَّةِ الخَطيئَةِ، وَيَمنَحَ العالَمَ الحُرِّيَّةَ وَالسَّلامَ الرُّوحِيَّ الحَقِيقِيَّ.

 

4: 20 ثُمَ طَوَى السِّفرَ فَأَعادَه إلى الخادِمِ وجَلَسَ. وكانَت عُيونُ أَهلِ الـمَجمَعِ كُلِّهِم شاخِصَةً إِلَيه.

 

تشيرُ عبارةُ "طَوَى السِّفرَ" إلى تَوَقُّفِ لوقا الإنجيليِّ عندَ القِراءَةِ مِن نُبُوءَةِ إشَعيا عِندَ هذا الحَدِّ، وَلَم يُكمِلْ عِبارَةَ "يَومَ انتِقامٍ لِإِلهِنا" (إشَعيا ٦١: ٢)، وَذلكَ لأَنَّ إِنجيلَ لوقا هوَ "إِنجيلُ الرَّحمَةِ"، إذ أَنَّ زَمانَ بَرَكاتِ اللهِ قد تَمَّ بِمَجيءِ يَسوعَ فِي الجَسَدِ، أَمَّا زَمانُ غَضَبِ اللهِ فَسَيَكونُ فِي المَجيءِ الثَّانِي لِلمَسِيحِ فِي نِهايَةِ الأَزمِنَةِ. أمَّا عبارةُ "الخادِمِ" فتُشيرُ إلى الرَّجُلِ الَّذي كانَ يُعطِي القارِئَ الكِتابَ المُقدَّسَ ثُمَّ يَأخُذُهُ مِنهُ بَعدَ القِراءَةِ لِيُحافِظَ عَلَيهِ بِعِنايَةٍ وَاحترامٍ. أمَّا عبارةُ "جَلَسَ" فتُشيرُ إلى العادَةِ المُتبَعَةِ آنَذاكَ، حَيثُ كانَ يُفَضَّلُ أَن يَجلِسَ المُعَلِّمُ أَثناءَ التَّعليمِ وَالعِظَةِ، وَيَقومُ أَثناءَ قِراءَةِ الكِتابِ المُقدَّسِ. وَهَكَذا جَلَسَ يَسوعُ كَما يَجلِسُ المُعَلِّمُ، وَبَدَأَتِ الجَماعَةُ تَسمَعُ العِظَةَ كَتَلامِيذَ لَهُ (متَّى 5: 1). يَصِفُ لوقا الإنجيليُّ بِالتَّفصيلِ تَسَلسُلَ الشَّعائِرِ الدِّينيَّةِ، الَّتي تُبرِزُ مَدى قَداسَةِ الكِتابِ المُقدَّسِ وَأَهمِّيَّتِهِ فِي الحَياةِ الدِّينيَّةِ. أمَّا عبارةُ "كانَت عُيونُ أَهلِ الـمَجمَعِ كُلِّهِم شاخِصَةً إِلَيه" فتُشيرُ إلى انتِظارِ الحاضِرينَ لِما سَيَقولُهُ يَسوعُ بَعدَ كُلِّ ما سَمِعُوهُ عَن أَخبارِهِ وَمُعجِزاتِهِ. فَكانُوا يَنتَظِرُونَ أَن يَكُونَ هُوَ المَسِيحَ المُنتَظَرَ، وَلَكِنَّهُم أَغلَقُوا قُلُوبَهُم وَلم يَقبَلُوهُ، رُبَّما لأَنَّهُ "ابنُ النَّجَّارِ". يُعَلِّقُ العَلامَةُ أُورِيغانُوس قائلًا:"فِي اِجتِماعاتِنا يُمكِنُ أَن تَشخَصَ عُيونُنا إِلى المُخَلِّصِ، وَتَتَوَجَّهَ نَظَرَاتٌ أَكثَرَ عُمقًا، فَتَتَأمَّلُ فِي ابنِ اللهِ الوَحِيدِ، الحِكمَةِ وَالحَقِّ... فَإِنَّ النَّظَرَ إِلَيهِ يُجَعِلُ نُورَهُ يَنعَكِسُ فَتُصبِحُ وُجُوهُنا أَكثَرَ ضِياءً."

 

4: 21 فَأَخَذَ يَقولُ لَهم: ((اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم)).

 

تشيرُ عبارةُ "اليوم" إلى "آنِيَّةِ" الخَلاصِ، الَّتي مَرارًا ما لَفَتَ لوقا الإنجيليُّ الانتِباهَ إِلَيها (لوقا 2: 11، 3: 12، 5: 26، 13: 32، 19: 9، 23: 43). اليَوْمَ هو لَفظٌ أَساسيٌّ في إنجيلِ لوقا، حيثُ يَجِدُ يَسوعُ أَمامَهُ مُخَطَّطَ الآبِ لَهُ. وهو يَومُ الخَلاصِ الحاضِرِ بِحُضورِ يَسوعَ، كَما أَعلَنَهُ النَّبِيُّ إشَعيا (لوقا 2: 11). أمَّا عبارةُ "تَمَّت هذِه الآيَةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم" فتُشيرُ إلى آيَةِ إشَعيا الَّتي تَحَقَّقَت في يَسوعَ أَمامَ النَّاسِ، وَرِسالَتِهِ الَّتي أَعلَنَها لَهُم، وَشَخصِيَّتِهِ الَّتي كَشَفَ عَنها لَهُم في مَجْمعِ النَّاصِرة. إِنَّها أَوَّلُ تَبشيرٍ لِيَسوعَ في مَجمَعِ النَّاصِرَةِ، حَيثُ يُعلِنُ بِوُضُوحٍ أَنَّهُ هُوَ "المَقصُودُ" في تِلكَ الآياتِ! فَهو يُتِمُّ أَعمالَ اللهِ المذكُورَةَ في نُبُوءَةِ إشَعيا، وَيُؤَكِّدُ أَنَّ كُلَّ النُّبُوءَاتِ عَنِ المَسيحِ تَكمُلُ بِهِ وَحدَهُ. يَصِفُ يَسوعُ مَجيئَهُ بِأَنَّهُ يَومُ عَهدِ النِّعمَةِ الَّذي أَنبَأَ بِهِ إشَعيا النَّبِيُّ، قد تمَّ، ويُمكن رُؤيته ولِمْسه في شَخصه. وَهوَ آيَةٌ لِلرَّحمَةِ وَالحَياةِ، وَآيَةٌ لِلحُرِّيَّةِ وَالخَلاصِ، لأنَّ زمنَ الانْتِظار ما كُتب في ذلك السِّفر قد تمّ. لَقَد مَضَى عَلى نَصِّ إشَعيا مِئاتُ السِّنينِ، وَ"اليَومَ" يُناشِدُنا الرَّبُّ وَيَستَجوِبُنا لِيَختَبِرَ مَدى استِجابَتِنا لِهذِهِ الآياتِ. فَإنَّ قِراءَةَ الكِتابِ المُقدَّسِ وَسيلَةٌ أَكِيدَةٌ تُوَحِّدُنا بِفِكرِ يَسوعَ وَتُعطِي فِهمًا أَعمَقَ لِرِسالَتِهِ. فَهَل نَحنُ نُطَبِّقُ كَلِمَةَ اللهِ فِي وَقتِنا الحاضِرِ عَلى حَياتِنا؟

 

 

ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)

 

بعد دراسة وقائعِ النَّصِّ الإنجيليِّ (لوقا 1: 1-4؛ 4: 14-21)، نستنتجُ أنَّه يتمحورُ حولَ قُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ في بَدْءِ حياةِ يسوعَ العلنيَّةِ في مَجْمَعِ النَّاصِرَةِ، وهو في الثَّلاثينَ من عُمرِهِ، إذْ أخَذَ يُبَشِّرُ في المَجْمَعِ (لوقا 4: 15). وهنا نبحثُ في عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ في حياةِ يسوعَ ورِسالَتِهِ، ومَوقِفِنا مِنْ رِسالَةِ يسوعَ.

 

أولاً: عملُ الروحِ القدسِ في حياةِ يسوع

 

1. تنصيبُ الروحِ القدسِ يسوعَ مسيحًا في عماده

 

"عادَ يسوعُ إلى الجليلِ بقوّةِ الروحِ، فانتشرَ خبَرُهٕ في الناحِيَةِ كُلّها." (لوقا 4: 14). عادَ يسوعُ من نهرِ الأردنِ بعدَ أن اعتمدَ من يوحنّا. وفي الواقعِ، كانَ يوحنّا المعمُدانِ ينتظرُ المسيح، وينتظرُ معهُ الروحَ في كمالِ قدرتِهِ، كما نستنتجُ من كلامِهِ: "أَنا أُعَمِّدُكُم في الماءِ مِن أَجْلِ التوْبَةِ، وأَمَّا الآتِي بَعْدِي فَهُو أَقوَى مِني، مَن لَسْتُ أَهْلاً لِأَخْلَعَ نَعْلَيْهِ. إِنَّهُ سَيُعَمِّدُكُم فِي الرُّوحِ القُدُسِ والنَّارِ" (متى 3: 11). ولا ينقضّ يسوعُ هذا الإعلان، بلْ يُنجِزُهُ في صورةٍ تُذهِلُ يوحنّا. فهو يَقْبَلُ العمادَ مِنْهُ، ويَنْزِلُ عَلَيْهِ الرُوحُ القُدُسُ.

 

يصبحُ العِمادُ في الماءِ بفعلِ يسوعَ العِمادِ بالرُّوحِ. ففي هذا الإنسانِ يسوعَ، الذي يَختلِطُ بصفوفِ الخُطاةِ، يُعلِنُ الرُّوحُ المَسيحَ الموعودَ به: "نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ عَلَيهِ في صُورَةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَةٌ، وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقولُ: أَنتَ ابنِيَ الحَبِيبُ، عَنكَ رَضِيتُ" (لوقا 3: 22). ويُعلِنُهُ يُوحَنَّا المَعْمَدانُ أيضًا أنَّهُ الحَمَلُ المُقَدَّمُ كَذَبِيحَةٍ مِنْ أَجْلِ خَطِيئَةِ العَالَمِ: "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرفَعُ خَطِيئَةَ العَالَمِ" (يُوحَنَّا 1: 29). وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يَقولُ: "أَنتَ ابنِيَ الحَبِيبُ، عَنكَ رَضِيتُ" (مَرقُسَ 1: 11).

 

يَكشِفُ الرُّوحُ عن يسوعَ بطريقتِهِ الخاصَّةِ السِّرِّيَّةِ، دونَ أنْ يَظهَرَ عَملُهُ، فَالابنُ يَعملُ وَيَقبَلُ العِمادَ، وَالآبُ يُخاطِبُ الابنَ، ولكنَّ الرُّوحَ لا يَتَكَلَّمُ وَلا يَعمَلُ ظاهِرًا. وَمَعَ ذلكَ، فَلا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ لِكَي يَتِمَّ الحِوارُ بَينَ الآبِ وَالابنِ. فَالرُّوحُ يَعمَلُ على تَحقِيقِ اللِّقاءِ، فَهُوَ يُبَلِّغُ يَسُوعَ كَلِمَةَ الرِّضَا وَالحُبِّ، التِي تَأتِيهِ مِنَ الآبِ، وَيُقِيمُهُ في مَوقِفِهِ كَابنٍ. وَيُصعِدُ الرُّوحُ نَحوَ الآبِ تَكرِيسَ المَسيحِ، بَاكُورَةَ ذَبِيحَةِ الابنِ الحَبِيبِ.

 

إنَّ حُضُورَ الرُّوحِ في يَسُوعَ، الَّذِي ظَهَرَ فَقَطْ سَاعَةَ العِمادِ، يُرْوِي حَفْلَ تَنْصِيبِهِ مَسِيحًا، وَفِيهِ يُقَدِّمُ اللهُ الآبُ ابنَهُ، "العَبدَ" الَّذِي كَانَ مُحْتَفَظًا بِهِ مُنْذُ الأَزَلِ، كَمَا كَانَتْ تُنَبِّئُ بِذَلِكَ العِبَارَاتُ النَّبَوِيَّةُ المُسْتَهَلَّةُ بِلَفْظِ: "هُوَذا عَبدِيَ" (أَشَعْيَا 42: 1، 52: 13). وَيَمْنَحُ الآبُ رُوحَهُ القُدُوسَ لِيَسُوعَ لِيُعْلِنَ بِحَيَاتِهِ وَكَلِمَتِهِ وَأَفْعَالِهِ أَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ، وَأَنَّهُ أَبُو البَشَرِ، نَبْعُ كُلِّ أُبُوَّةٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ.

 

حدَّدَ يَسُوعُ رِسالَتَهُ انطِلاقًا مِنْ نُبُوءَةِ أَشَعْيَا: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراءَ، وَأَرسَلَني لِأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهِم، وَلِلعُميانِ عَودَةَ البَصَرِ إِلَيهِم، وَأُفَرِّجَ عَنِ المَظْلُومينَ" (لُوقا 4: 18). جَعَلَ يَسُوعُ نَفسَهُ في عِدادِ الأَنبِياءِ، وَعَلى مِثالِهِم حَلَّ عَلَيهِ رُوحُ الرَّبِّ فَنَقَلَ رِسالَةَ الخَلاصِ. وَنَالَ الرُّوحَ عَلَى مِثالِ النَّبِيِّ، لِإِعلَانِ البُشرَى لِلفُقَراءِ (لُوقا 7: 22)، وَتَوفِيرِ الحُرِّيَةِ وَالنُّورِ لِلبُؤَسَاءِ. لَكِنَّهُ لَيسَ نَبِيًّا كَسَائِرِ الأَنبِيَاءِ، فَلَقَدْ نَالَ مَسْحَةَ الرُّوحِ القُدُسِ كَامِلَةً (لُوقا 3: 22 وَ4: 1، 14)، لِأَنَّهُ هُوَ مَوضُوعُ رِسالَتِهِ. وَبِهِ يُفتَتَحُ زَمَنُ النِّعمَةِ (لُوقا 4: 19 وَ22).  وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكِيرُوسِيُّ قَائِلًا: "نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ لِيَمسَحَ يَسُوعَ، لا لِسَبَبٍ إِلَّا لِأَنَّ المَسِيحَ وَطَّدَ نَفسَهُ عَلَى إِسْدَاءِ نِعمَةِ الخَلاصِ لَنَا وَتَقدِيمِ الرُّوحِ القُدُسِ لَنَا، فَإِنَّنَا كُنَّا خَالِينَ مِن نِعمَةِ الرُّوحِ القُدُسِ عَلَى حَدِّ قَولِ الوَحيِ: فَقَالَ الرَّبُّ: "لَا تَثبُتُ رُوحِي فِي الإِنسَانِ لِلأَبَدِ" (التَّكوين 3: 6)."

 

تَبدُو صُورَةُ يَسُوعَ فِي إِنجِيلِ لُوقا، مِن هَذَا المَنطَلَقِ، بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ صُورَةَ المُخَلِّصِ الرَّحِيمِ (لُوقا 3: 6، 9: 38، 42)، الَّذِي يُبَشِّرُ الفُقَرَاءَ (لُوقا 4: 18)، وَيَهتَمُّ بِالخُطَاةِ (لُوقا 4: 15)، وَبِالمَحرُومِينَ فِي الأَرضِ. وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَن شَخصِ المَسِيحِ كَقَلبِ البُشرَى السَّارَّةِ (لُوقا 4: 18)، وَإِتْمَامِ الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ (لُوقا 4: 21)، فِي حِينِ يَرَى مَرقُسُ قَلبَ الإِنجِيلِ هُوَ مَلَكُوتُ اللهِ (مَرقُس 1: 14-15).

 

اليَومَ، يَقُولُ يَسُوعُ: "تَمَّتْ هَذِهِ الآيَةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم" (لُوقا 4: 1ذ). إِنَّ النُّبُوءَةَ الَّتِي تَتِمُّ الآنَ هِيَ بَرنامَجُ الرَّبِّ يَسُوعَ. لَمْ يَختَرهُ هُوَ، بَل قَد أَعَدَّهُ الآبُ لَهُ. إِنَّهُ مُبعُوثُ الآبِ. فِيهِ يَفتَقِدُ الآبُ البَشَرَ. وَيَعمَلُ الرَّبُّ يَسُوعُ بِالكَلِمَةِ وَبِالأَعمَالِ، وَمِنَ التَّعلِيمِ وَالقُدرَةِ يَنبَثِقُ زَمَنُ النِّعمَةِ لِلفُقَرَاءِ وَالسُّجَنَاءِ وَالمَظلُومِينَ. إِنَّ العَطِيَّةَ الكُبرَى الَّتِي حَمَلَهَا الرَّبُّ يَسُوعُ هِيَ الحُرِّيَّةُ: الحُرِّيَّةُ مِنَ العَمى الجَسَدِيِّ وَالرُّوحِيِّ، وَالحُرِّيَّةُ مِنَ البُؤسِ وَمِنَ العُبُودِيَّةِ، وَالحُرِّيَّةُ مِنَ الخَطِيئَةِ. تَستَمِرُّ "سَنَةُ نِعمَةِ الرَّبِّ" مَا بَقِيَ يَسُوعُ عَلَى الأَرضِ. إِنَّ المَسِيحَ الرَّبَّ، فِي المَقَامِ الأَوَّلِ، هُوَ مَانِحُ الخَلاصِ، وَلَيسَ القَاضِيَ الَّذِي يُدِينُ. إِنَّهُ مَركَزُ التَّارِيخِ.

 

2. قيادة الروح القدس ليسوع في رسالته:

 

يُظهِرُ يَسُوعُ في كُلِّ مَسلَكِهِ عَملَ الرُّوحِ فِيهِ: "عادَ يَسُوعُ إِلَى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ" (لُوقا 4: 14). وَفِي الرُّوحِ يَتَّصِلُ يَسُوعُ بِالآبِ: "فِي تِلكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ فَقَالَ: أَحمَدُكَ يَا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، عَلَى أَنَّكَ أَخفَيتَ هذِهِ الأَشْيَاءَ عَنِ الحُكَمَاءِ وَالأَذكِيَاءِ، وَكَشَفتَها لِلصِّغَارِ. نَعَم، يَا أَبَتِ، هَذَا مَا كَانَ رِضَاكَ" (لُوقا 10: 21).

 

وَفِي الرُّوحِ يُواجِهُ يَسُوعُ إِبلِيسَ: "سَاقَ الرُّوحُ يَسُوعَ إِلَى البَرِّيَّةِ لِيُجَرِّبَهُ إِبلِيسُ" (مَتَّى 4: 1)، وَيُحرِّرُ ضَحَايَاهُ مِن قَبضَتِهِ، كَمَا أَكَّدَ يَسُوعُ: "أَمَّا إِذَا كُنتُ أَنا بِرُوحِ اللهِ أَطرُدُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ وَافَاكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ" (مَتَّى 12: 28). وَيُبَشِّرُ الفُقَرَاءَ مُعلِنًا لَهُم كَلِمَةَ اللهِ: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الفُقَرَاءَ" (لُوقا 4: 18).

 

وَفِي الرُّوحِ يَقِفُ يَسُوعُ بِجَانِبِ الخُطَاةِ وَالمَأسُورِينَ، وَالعُميَانِ وَالمَظلُومِينَ: "وَأَرسَلَنِي لِأُعلِنَ لِلمَأسُورِينَ تَخلِيَةَ سَبِيلِهِم، وَلِلعُميَانِ عَودَةَ البَصَرِ إِلَيهِم، وَأُفَرِّجَ عَنِ المَظلُومِينَ" (لُوقا 4: 18). وَيَنبُضُ قَلبُهُ حُبًّا وَشَفَقَةً عَلَى الإِنسانِ المَجروحِ مِن ظُروفِ الحَيَاةِ، وَمِن أَنَانِيَّةِ النَّاسِ، وَمِن خَطِيئَتِهِ الشَّخصِيَّةِ. لَا يُهِمُّهُ سَبَبُ الجُرحِ وَالتَّشْوِيهِ، فَالحُبُّ يَأتِي لِيُدَاوِيَ لَا لِيُدِينَ، وَالحُبُّ يُرِيدُ الشِّفَاءَ، فَيَفتَحُ مُستَقبَلًا لِمَن يَشْكُو وَاقِعَهُ وَيَتَحَسَّرُ عَلَى مَاضِيهِ. أَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ: "لَمْ يَأتِ يَسُوعُ لِلأَصحَّاءِ بَلْ لِلمَرْضَى وَالخَاطِئِينَ" (لُوقا 5: 31)؟ وَيَشْفِقُ قَلبُهُ عَلَى الجُمُوعِ البَائِسَةِ وَالمُشتَّتَةِ كَغَنَمٍ لَا رَاعِيَ لَهَا (مَتَّى 9: 36)، وَلَا يَهدَأُ لَهُ بَالٌ إِلَّا إِذَا وَجَدَ الخَرُوفَ الضَّالَّ فَيَحْمِلُهُ عَلَى كَتِفَيهِ فَرِحًا (لُوقا 15: 4)، كَمَا تَحمِلُ الأُمُّ رَضِيعَهَا وَتَحمِيهِ.

 

لِمَا كَانَ عَلَى يَسُوعَ أَنْ يُتَمِّمَ القَصدَ الإِلَهِيَّ، أَرَادَ أَنْ يُشَابِهَ إِخوَتَهُ فِي كُلِّ شَيءٍ، لِكَي يُجَرِّبَ شَقَاءَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَاءَ لِيُنقِذَهُم، لِذَا اتَّسَمَت كُلُّ تَصَرُّفَاتِهِ بِالرَّحمَةِ الإِلَهِيَّةِ. وَقَدِ اهْتَمَّ لُوقَا الإِنجِيلِيُّ اِهْتِمَامًا خَاصًّا بِتَوضِيحِ هَذَا الجَانِبِ، فَإِنَّ الفُقَرَاءَ هُم المُفَضَّلُونَ إِلَى قَلبِ يَسُوعَ (لُوقا 4: 18، 7: 22)، وَيَجِدُ الخُطَاةُ فِيهِ "صَدِيقًا" لَهُم (لُوقا 7: 34)، وَهُوَ، مِن نَاحِيَتِهِ، لَا يَخشَى مُعَاشَرَتَهُم (لُوقا 5: 27 وَ30، 15: 1-2، 19: 17).

 

هَذِهِ الرَّحمَةُ الَّتِي يُبْدِيهَا يَسُوعُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ نَحوَ الجُمُوعِ (مَتَّى 9: 36، 14: 14، 9: 32)، تَتَمَيَّزُ فِي إِنجِيلِهِ بِطَابِعِهَا الشَّخصِيِّ. فَنَرَاهُ تَارَةً يَصنَعُ رَحمَةً نَحوَ أَرْمَلَةِ نَائِينِ الثَّكْلَى فِي "ابنِهَا الوَحِيدِ" (لُوقا 7: 13)، وَتَارَةً نَحوَ هَذَا الأَبِ المَفجُوعِ فِي ابنِهِ (لُوقا 8: 42، 9: 38 وَ42). وَأَخِيرًا، يُعَامِلُ يَسُوعُ المَرأَةَ وَالغَرِيبَ مُعَامَلَةً تَتَمَيَّزُ بِالرَّحمَةِ، وَيَصِلُ الطَّابِعُ الشَّامِلُ لِلرَّحمَةِ إِلَى كَمَالِهِ: "وَكُلُّ بَشَرٍ يَرَى خَلاصَ اللهِ" (لُوقا 3: 6).

 

لَا يَقُودُ الرُّوحُ القُدُسُ يَسُوعَ المَسِيحَ فِي أَعمَالِهِ فَقَط، إِنَّمَا أَيْضًا فِي كَلَامِهِ: "يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ اللهِ" (يُوحَنَّا 3: 34). فَيَسُوعُ لَيسَ مُجَرَّدَ نَبِيٍّ، بَلْ بِصِفَتِهِ ابنَ الرَّبِّ، فَهُوَ كَلِمَةُ الرَّبِّ فِي شَخصِهِ، المَوجُودُ قَبلَ الخَلقِ، وَهُوَ الكَلِمَةُ الخَالِقَةُ، الَّتِي بِهَا قَدْ خُلِقَ كُلُّ شَيءٍ. وَهُوَ الكَلِمَةُ الَّتِي تُشرِقُ فِي ظُلُمَاتِ العَالَمِ لِتَحمِلَ لَنَا مَعرِفَةَ الرَّبِّ، وَهُوَ الكَلِمَةُ المُتَجَسِّدَةُ: "لَقَدْ رَأَينَا مَجدَهُ"، وَبِهِ وَحدَهُ قَدِ استَطَعنَا حَقِيقَةً أَنْ "نَرَى" الآبَ، وَفِيهِ قَدِ امتَلَأنَا بِالنِّعمَةِ وَالحَقِّ (يُوحَنَّا 1: 1-18). يَقُولُ يَسُوعُ مَا عَلَّمَهُ الآبُ (يُوحَنَّا 8: 28)؛ فَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ مِن نَفسِهِ، بَلْ كَمَا قَدْ تَكَلَّمَ الآبُ مِن قَبلِهِ (يُوحَنَّا 12: 49-50). وَكَلِمَتُهُ فَعَّالَةٌ، وَهِيَ قُوَّةٌ تَصنَعُ المُعجِزَاتِ، مِن شِفَاءِ الأَجسَادِ وَحَتَّى مَغفِرَةِ الخَطَايَا.

 

لَا نَرَى فِي يَسُوعَ أَيَّ أَثَرٍ لِضَغطٍ قَدْ نَرجِعُهُ إِلَى إِلهَامٍ خَارِجِيٍّ. وَمِنْ أَجْلِ إِتْمَامِ أَعمَالِ اللهِ، يَبدُو يَسُوعُ كَمَا لَوْ كَانَ لَا يَحتاجُ إِلَى الرُّوحِ. وَلَيسَ مَعنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَستَطِيعُ أَبَدًا الاِستِغنَاءَ عَنِ الرُّوحِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَستَطِيعُ أَيْضًا الاِستِغنَاءَ عَنِ الآبِ، وَلَكِنْ كَمَا أَنَّ الآبَ كَانَ "مَعَهُ فِي كُلِّ حِينٍ" (يُوحَنَّا 8: 29)، فَكَذَلِكَ الرُّوحُ لَا يُمكِنُ أَنْ يَغِيبَ عَنهُ. لَا تَظهَرُ عَلَى يَسُوعَ الظَّوَاهِرُ الَّتِي تَصحَبُ الرُّوحَ، وَهَذَا دَلِيلٌ أَكِيدٌ عَلَى أُلُوهِيَّتِهِ، فَهُوَ لَا يَختَبِرُ الرُّوحَ كَقُوَّةٍ تَأتِيهِ مِنَ الخَارِجِ لِتُغْمِرَهُ، وَإِنَّمَا طَبِيعِيًّا هُوَ فِي الرُّوحِ، وَالرُّوحُ فِيهِ" (يُوحَنَّا 16: 14-15).

 

نَستَنتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّهُ فِي مُعجِزَاتِ يَسُوعَ الَّتِي تَنقُضُ الشَّرَّ وَالمَوتَ، وَكَلِمَتِهِ القَوِيَّةِ الحَقِّ، وَعَلَاقَتِهِ الحَمِيمَةِ مَعَ الآبِ، نَرَى الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ رُوحَ اللهِ مُستَقِرٌّ عَلَيهِ (أَشَعْيَا 61: 1)، وَأَنَّهُ فِي الوَقتِ نَفسِهِ هُوَ المَسِيحُ المُخَلِّصُ، وَالنَّبِيُّ المُنتَظَرُ، وَ"العَبدُ" الحَبِيبُ. وَهَكَذَا، فَإِنَّ حُلُولَ الرُّوحِ عِندَ يَسُوعَ يَتَمَيَّزُ بِصِفَةِ الدَّوَامِ. فَإِنَّهُ لَا يَتَلَقَّى كَلِمَةَ اللهِ، وَإِنَّمَا يُفصِحُ عَنهَا فِي كُلِّ أَقوَالِهِ. وَلَا يَنتَظِرُ تَوقِيتًا مَا لِيَقُومَ بِمُعجِزَةٍ، بَلْ تَصدُرُ عَنهُ المُعجِزَةُ كَمَا تَتَأَتَّى مِنَّا أَبسَطُ الأَعمَالِ. وَهُوَ لَا يَتَلَقَّى أَسرَارَ اللهِ، وَإِنَّمَا يَعيشُ دَائِمًا فِي حَضرَتِهِ تَعَالَى بِشَفَافِيَّةٍ تَامَّةٍ. وَفِي الوَاقِعِ، لَمْ يَحُزْ أَحَدٌ قَطُّ الرُّوحَ القُدُسَ بِقَدرِ مَا يَمتَلِكُهُ يَسُوعُ، "بِغَيرِ حِسَابٍ" (يُوحَنَّا 3: 34). وَمَا مِنْ أَحَدٍ أَيْضًا قَدْ حَازَ الرُّوحَ قَطُّ بِالصُّورَةِ الَّتِي حَازَ يَسُوعُ بِهَا.

 

3. موقفنا من رسالة يسوع

 

يَحتاجُ الرُّوحُ اليَومَ إِلَى بَشَرٍ لِيَحِلَّ عَلَيهِم وَيَسكُنَ فِيهِم، كَي يُحَقِّقُوا مَعَ يَسُوعَ هَذِهِ الآيَةَ مِن أَشَعْيَا: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الفُقَرَاءَ، وَأَرسَلَنِي لِأُعلِنَ لِلمَأسُورِينَ تَخلِيَةَ سَبِيلِهِم، وَلِلعُميَانِ عَودَةَ البَصَرِ إِلَيهِم، وَأُفَرِّجَ عَنِ المَظلُومِينَ، وَأُعلِنَ سَنَةَ رِضًا عِندَ الرَّبِّ" (لُوقا 4: 18-19).

 

إِنَّ الكَمَالَ الَّذِي يَتَطَلَّبُهُ المَسِيحُ مِن تَلَامِيذِهِ، وَفْقًا لِإِنجِيلِ لُوقَا، هُوَ فِي إِبدَاءِ الرَّحمَةِ: "كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ رَحِيمٌ" (لُوقا 6: 36). وَهَذَا شَرطٌ أَسَاسِيٌّ لِدُخُولِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ (مَتَّى 5: 7)، يُرَدِّدُهُ يَسُوعُ مِن جَدِيدٍ بَعدَ هُوشَعَ النَّبِيِّ (مَتَّى 9: 13، 12: 7). هَذِهِ الرَّحمَةُ يَجِبُ أَنْ تَجعَلَنَا، أُسْوَةً بِالسَّامِرِيِّ الصَّالِحِ (لُوقا 10: 30-37)، قَرِيبِينَ مِنَ الشَّخصِ البَائِسِ الَّذِي تَجمَعُنَا بِهِ الصُّدَفُ، وَرُحَمَاءَ بِمَنْ قَدْ أَسَاءَ إِلَينَا (مَتَّى 18: 23-35)، لِأَنَّ اللهَ قَدْ مَنَحَنَا رَحمَتَهُ (مَتَّى 18: 32-33). وَهَكَذَا سَوْفَ نُدَانُ بِقَدرِ الرَّحمَةِ الَّتِي كُنَّا قَدْ أَظهَرنَاهَا لِشَخصِ يَسُوعَ ذَاتِهِ، وَلَوْ عَلَى غَيرِ عِلمٍ مِنَّا (مَتَّى 25: 31-46).

 

وَيُوصِي بُولُسُ الرَّسُولُ كُلَّ مَسِيحِيٍّ أَنْ يُبدِيَ المَحَبَّةَ وَ"العَطفَ" (فِيلِبِّي 2: 1)، وَأَنْ يَكُونَ قَلبُهُ عَامِرًا بِالشَّفَقَةِ وَالرَّحمَةِ (أَفَسُس 4: 32، 1 بُطرُس 3: 8). فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُغلِقَ أَحشَاءَهُ عَن أَخٍ يَقَعُ فِي عَوزٍ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ لَا تَستَقِرُّ إِلَّا فِي مَن يُمَارِسُونَ الرَّحمَةَ تُجَاهَ الغَيرِ (1 يُوحَنَّا 3: 17).

 

وَقَبلَ أَنْ يَصعَدَ يَسُوعُ إِلَى السَّمَاءِ، كَلَّفَ الكَنِيسَةَ بِنَشرِ تَعَالِيمِهِ لِلبَشَرِ. وَالكَنِيسَةُ، بِمُسَاعَدَةِ الرُّوحِ القُدُسِ، لَمْ تَفشَلْ أَبَدًا فِي رِسَالَتِهَا. وَنَحنُ، حِينَمَا نَجتَمِعُ لِلصَّلَاةِ وَالاِحتِفَالِ بِالإِفخَارِستِيَّا، مَاذَا نَفعَلُ سِوَى أَنْ نَنشُرَ كَلِمَةَ السَّيِّدِ المَسِيحِ لِتُنِيرَنَا، وَكَي تُعَزِّينَا وَتُخَلِّصَنَا. نحنُ مَدعُوونَ لِقَبولِ هذِهِ السَّنَةِ كسَنَةِ رِضًا وفَرَحٍ، حَيثُ يُرسِلُ اللهُ الآبُ ابنَهُ لِنَبدَأَ مَسيرَةَ تَوبَةٍ نَفرَحُ فيها بِلِقاءِ الآبِ، على خُطى وتَعليمِ يَسوعَ، الابنِ البِكرِ.

 

 

الخلاصة

 

يبدأُ إِنجِيلُ لُوقا بِمُقَدِّمَةٍ تَكشِفُ عَن غَايَةِ السِّفرِ كُلِّهِ، أَلَا وَهُوَ الإِعلَانُ عَن شَخصِ المَسِيحِ بَكَونِهِ صَدِيقَ البَشَرِيَّةِ الحَقِيقِيَّ. لَكِنَّ لُوقا يُخبِرُنَا أَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَتَتَبَّعَ كُلَّ الأَحْدَاثِ وَالقِصَصِ مِنَ البِدَايَةِ بِتَدْقِيقٍ، حَتَّى يَنقُلَ لَنَا التَّعلِيمَ السَّلِيمَ عَن رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ المَسِيحِ، خَالِيًا مِنْ أَيِّ انْحِرَافٍ.

 

إِنَّ المَصَادِرَ الَّتِي استَمَدَّ مِنْهَا لُوقا الإِنجِيلِيُّ هِيَ سِجِلَّاتٌ صَحِيحَةٌ لِأَجزَاءٍ مِنَ التَّقْلِيدِ التَّسْلِيمِيِّ، أَوِ التَّقْلِيدِ الرَّسُولِيِّ كَمَا سَلَّمَهُ رُسُلُ المَسِيحِ وَتَلَامِيذُهُ لِلكَنِيسَةِ الأُولَى، وَهِيَ لَا تَختَلِفُ مَعَ مَا كَتَبَهُ فِي إِنجِيلِهِ فِي شَيءٍ، وَإِنَّمَا هِيَ سِجِلَّاتٌ غَيرُ كَامِلَةٍ، كَانَتْ مُدَوَّنَةً لِبَعضِ أَعمَالِ المَسِيحِ وَتَعَالِيمِهِ. وَلَكِنَّ لُوقا تَتَبَّعَ هَذِهِ الأَحْدَاثَ وَالأَقلَامَ وَتَفَحَّصَهَا بِدِقَّةٍ، مُتَتَبِّعًا كُلَّ شَيءٍ مِنْ أُصُولِهِ، كَمَا رَجَعَ لِشُهُودِ العِيَانِ أَنفُسِهِم الَّذِينَ عَاشُوهَا وَكَانُوا فِي قَلبِهَا، شَاهَدُوهَا بِعُيُونِهِم وَسَمِعُوهَا بِآذَانِهِم وَلَمَسُوهَا بِأَيْدِيهِم، مِثلَ مَرْيَمَ العَذْرَاء وَبَقِيَّةِ الرُّسُلِ وَالتَّلَامِيذِ.

 

فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِرِسَالَةِ يَسُوعَ الأُولَى فِي الجَلِيلِ، فَنَرَى مِن خِلَالِ نُبُوءَةِ أَشَعْيَا أَنَّ الآبَ يَهَبُ الِابْنَ كُلَّ شَيءٍ، وَيَمْنَحُهُ رُوحَهُ وَحَيَاتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَالِابْنُ يُقَدِّمُ لِلآبِ كُلَّ ذَاتِهِ، فَيَبْذُلُ نَفسَهُ فِي سَبِيلِ إِخوَتِهِ المُحْتَاجِينَ وَالمُتَألِّمِينَ.

 

إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ هِيَ غَايَةُ اللهِ وَمَشِيئَتُهُ، وَحَيَاةَ اللهِ هِيَ نُورٌ يُشِعُّ فِي ظُلْمَةِ البَشَرِ، وَالظُّلْمَةُ لَا تُدرِكُهُ. وَهِيَ رُوحُ حَيَاةٍ تَخْتَرِقُ النُّفُوسَ المَائِتَةَ وَالأَجسَادَ الهَزِيلَةَ، فَيُنعِشُهَا وَيُجَدِّدُهَا. إِنَّ رُوحَ اللهِ الآنَ يَسكُنُ يَسُوعَ، وَفِيهِ وَبِهِ يُدَاوِي كُلَّ قَلبٍ جَرِيحٍ، وَيَشفِي كُلَّ إِنْسَانٍ يَتَطَلَّعُ لِلنُّورِ وَالفَرَحِ وَالسَّلَامِ.

 

 

دعاء

 

أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، يَا مَنْ فِي ابنِكَ قَدِ اختَرتَنَا وَأَحْبَبتَنَا قَبلَ خَلقِ العَالَمِ، أَنْرْنَا بِرُوحِكَ، كَي يَكُونَ رُوحُ الرَّبِّ عَلَينَا كَمَا كَانَ عَلَى يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ، فَنَتَمَكَّنَ مِن أَنْ تَبقى عُيونُنا شاخِصَةً إِلَيهِ، فَنَسمَعَ كَلِمَتَهُ الَّتي َتُعلِنُ لَنا سَنَةَ رِضَا الرَّبِّ، فَنَتَذَوَّقَ السَّعَادَةَ الَّتِي تَنتَظِرُنَا، بِصِفَتِنَا أَبنَاءً وَوَرَثَةً لِلمَلَكُوتِ، بِقَبُولِنَا سِرَّ مَحَبَّتِكَ. آمِينَ.