موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٤ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥

العرب المسيحيون: شركاء في العروبة والعيش الواحد

رولا نصراوين

رولا نصراوين

رولا نصراوين :

 

في هذا المفصل التاريخي الذي تتكاثر فيه الأسئلة حول الهُوية والمصير، وتتصاعد فيه الهُويات الفرعية والتقسيمات الطائفية، يعود الحديث عن العرب المسيحيين ليس كاستدعاءٍ لمكون، بل كإضاءة على حقيقة متجذرة في نسيجنا العربي، تحتاج اليوم إلى تجديد الاعتراف والوعي، لا إلى إثبات أو تبرير.

 

ليس صدفة أن يُعقد في عمّان قريبًا مؤتمر العرب المسيحيين الأول: الجذور والأدوار والمسار النهضوي، الذي تنظمه جمعية الثقافة والتعليم الأرثوذكسية، وهي واحدة من أعرق المؤسسات الثقافية والتعليمية في الأردن، بمشاركة نخبة من المفكرين والباحثين والأكاديميين من الأردن والعالم العربي وأوروبا وروسيا.

 

المؤتمر، الذي يُعقد يومي الجمعة والسبت 24 و25 تشرين الأول 2025، يأتي في لحظة دقيقة تمر بها أوطاننا العربية، وقد اختار أن يفتح النقاش من زاوية جوهرية: العرب المسيحيون، لا المسيحيون العرب، لأن ترتيب الكلمات هنا يعكس ترتيب الانتماء والهُوية والجذور.

 

ويتضمن المؤتمر سلسلة من الجلسات التي تتناول الدور التاريخي والفكري للعرب المسيحيين، منذ ما قبل الإسلام، مرورًا بإسهاماتهم في النهضة العربية، وصولًا إلى تحديات اللحظة الراهنة والتحديات المستقبلية، وكل ذلك في سياق يسعى لإحياء مفهوم العروبة كمشروع ثقافي ونهضوي جامع، لا كشعار عاطفي أو هُويّة موروثة.

 

هذا التحديد ليس خطاب هُوية ضيقة، بل فعل استعادة للمنطلق الحضاري الذي يجمع كل من يتحدث العربية، ويشترك في ثقافتها، ويعيش همومها وآمالها؛ فالعروبة، التي نتمسك بها من خلال طرح المؤتمر، ليست هُوية مغلقة أو قومية عنصرية، بل فضاء ثقافي وفكري رحب، يحتمل في داخله تعدد الأصول والخلفيات، طالما أن ما يجمعنا هو اللغة، والتاريخ والانتماء، والرؤية المشتركة لمستقبل هذه الأمة. وعليه، فإن العرب المسيحيين ليسوا أقلية، ولا حالة خاصة، ولا استثناءً طارئًا، بل هم أبناء هذه الأرض، في عمقها وتاريخها ومصيرها.

 

لم ينضم العرب المسيحيون إلى العروبة، بل كانوا جزء ممن صاغها وأسّس لها، ورفدوا لغتها وفكرها ونهضتها عبر قرون من الحضور الفاعل والمؤثر. قبل الإسلام، كان للمسيحيين العرب دور في الترجمة، واللغة، والفلسفة، وبناء الوعي الحضاري العربي. وبعد الإسلام، لم يغادروا المشهد، بل شاركوا في تطوير الثقافة العربية، وأسهموا في صناعة نهضتها الحديثة، وكانوا في طليعة المُصلحين والمفكرين والكتّاب والصحفيين والأكاديميين الذين حلموا بمستقبل عربي حرّ، عادل، حيّ، ومستنير.

 

ولهذا، لا يمكن التعامل مع العرب المسيحيين بوصفهم جزءًا مضافًا إلى مشروع العروبة، أو باعتبارهم مكوّنًا يُنتظر منه أن يندمج أو يتعايش مع الأغلبية. بل الحقيقة أن هذا المشروع نفسه – أي العروبة – ما كان ليقوم دون حضورهم الفكري والنهضوي منذ الأزل.

 

وحين نُعيد اليوم فتح هذا النقاش، فإننا لا نطالب بمكان للعرب المسيحيين داخل العروبة، بل نرفض كل ما أزاحهم عنها لغويًا أو رمزيًا أو سياسيًا، ونؤكد أن العروبة الحقيقية، تلك التي تأسست على اللغة والفكر والمصير المشترك، لا يمكن أن تُقصي أحدًا يتحدثها وينتمي إلى تاريخها. إنها العروبة التي ترى في المسيحي كما في المسلم، وفي العربي كما في الأمازيغي، وفي المشرقي كما في المغاربي، وجوهًا متعددة لذات واحدة، وهُوية لا تنكفئ على نفسها، بل تتسع بمن فيها، وتنمو بما تحمله من روافد.

 

ولأننا في لحظة حاسمة ودقيقة من تاريخ أمتنا العربية، لحظة تتراجع فيها المفاهيم الجامعة، وتصعد فيها الخطابات الإقصائية والهويات الجزئية، فإن هذا المؤتمر المُنتظر، لا يُراد له أن يكون مناسبة رمزية، بل خطوة في مسار أعمق، يهدف إلى استعادة العروبة كإطار حضاري جامع، وإحياء العيش الواحد، لا باعتباره حلًا ظرفيًا، بل كحقيقة تاريخية عشنا بها، ونعيش بها، وسنبني بها مستقبلًا يستحق أن يُسمى عربيًا.

 

الحديث عن العرب المسيحيين هو حديث عن جوهر العروبة، لا عن هوامشها، هو حديث عن العمق الثقافي الذي لا يُقاس بالأعداد، بل بالأثر والمساهمة والرؤية التي شاركت في بناء الوعي العربي عبر قرون. ومن هنا، فإن ما سيُطرح في عمّان ليس مجرد نقاش أكاديمي أو ثقافي، بل حدث فكري يحمل من العمق والجرأة ما جعله يجمع هذا العدد من المفكرين والباحثين والأكاديميين من الأردن والعالم، ممن وجدوا في هذا المؤتمر قيمة تستحق الحضور والمشاركة. فلو لم يكن الموضوع جوهريًا، عابرًا للحدود والسياقات، لما شهد هذا الإجماع على أهميته، ولا هذا الالتفاف حول فكرته. إنّه أكثر من مؤتمر؛ إنه إعادة فتح لباب كان يجب أن يبقى مفتوحًا دائمًا: باب الانتماء الواسع، والتفكير المشترك، والهُوية التي لا تستثني أحدًا من أبنائها الحقيقيين.