موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لا تزال غزة ترزح تحت القصف الإسرائيلي، حتى خلال الساعات القليلة الماضية. وفي ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة الماسّة للانتقال إلى المرحلة الثانية من الخطة التي طرحتها الولايات المتحدة، والهادفة إلى إطلاق مسار سياسي يقود إلى حلّ الدولتين.
وبعد تبنّي مجلس الأمن القرار الأخير، تعهّدت الأمم المتحدة بالمضيّ قدمًا في "تحويل الزخم الدبلوماسي إلى إجراءات ملموسة وعاجلة على الأرض". ويُفترض أن تتجسّد هذه الإجراءات بخطوات يأمل كثيرون أن تشكّل نقطة تحوّل للفلسطينيين المنهكين من الحرب والدمار.
وفي حديثه لوسائل إعلام الفاتيكان، دعا الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، المجتمع الدولي إلى اتخاذ الخطوات الضرورية لتنفيذ الحلول الكفيلة بتخفيف معاناة شعب يواجه آثار عامين من القصف، ويقاسي اليوم ظروف الشتاء القاسية.
صاحب الغبطة، صوّت مجلس الأمن -مع امتناع روسيا والصين- لصالح خطة السلام في غزة التي اقترحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وافقت دولة فلسطين على الخطة، فيما أعلنت حركة حماس أنها لن تتخلى عن سلاحها في ظل هذه الظروف. ما هو تعليقكم على قرار الأمم المتحدة؟ وكيف ترون الوضع الحالي؟ هل ما يزال هناك أمل؟
إنّ قرار الأمم المتحدة لا يغيّر شيئًا على أرض الواقع، لكنه يشكّل مع ذلك اعترافًا دوليًا مهمًا. وكما هو الحال مع أي خطة، لا يمكن لها أن تكون مثالية، لكنها ما نملكه الآن. وهي الخطة الوحيدة التي نجحت حتى اللحظة في وقف توسّع رقعة الحرب، ويمكن أن تمنح بصيص أمل للسكان الفلسطينيين - وليس لهم وحدهم.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ تصويت الأمم المتحدة يمثّل نوعًا من التأييد العام من قبل المجتمع الدولي، وهو تأييد لا يغيّر شيئًا ماديًا، لكنه يحمل أهمية سياسية ومعنوية. أمّا على مستوى الحياة اليومية في المنطقة، وعلى صعيد تنفيذ الخطة عمليًا، فقد كان واضحًا منذ البداية أنّ بنود خطة ترامب كانت، وستبقى، شديدة الصعوبة في التطبيق.
نعلم أنّ حركة حماس لا تنوي التخلي عن سلاحها، وأعتقد أن إسرائيل أيضًا لا ترغب بانسحاب كامل من القطاع. الطرفان مطالبان بقبول الخطة، لكنهما يواجهان عقبات حقيقية. المطلوب الآن هو الإصرار والمتابعة. فالولايات المتحدة، بالتعاون مع الدول العربية وتركيا، هي الجهات الوحيدة القادرة على دفع العملية إلى الأمام، لأن حسن النية وحده لا يكفي في هذه المرحلة. هناك حاجة أيضًا إلى شجاعة سياسية لإيجاد حلول يمكن أن تفتح الطريق تدريجيًا نحو آفاق أوضح. لكن الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا، وسيكون مرهقًا.
غابت غزة مؤخرًا عن صدارة التغطية الإعلامية، لكن التقارير المقلقة ما تزال تتوالى من القطاع حول معاناة السكان، التي تفاقمت بسبب الطقس السيّئ والأمطار والوحول، وهو أمر تحدّث عنه حتى كاهن الرعية هناك، الأب جبرائيل رومانيللي. ما هو واقع الحال اليوم؟ هل يمكن إدخال المساعدات؟ وما الذي يمكن فعله عمليًا لمساعدة الفلسطينيين؟
الحياة اليومية لم تتغيّر كثيرًا. الفارق الوحيد -بفضل الله وبفضل من عملوا لتحقيق ذلك- هو توقف القصف الشامل. المساعدات تدخل الآن بصورة أكثر انتظامًا مما كانت عليه، وبشكل أكثر موثوقية، لكنها لا تزال بعيدة عن تلبية الاحتياجات الهائلة، سواء على مستوى الأدوية أو المستشفيات أو الخيام أو الأغطية، خصوصًا مع قدوم الشتاء. هناك حاجة إلى الماء -بطبيعة الحال- لكن كلمة "ماء" في غزة تعني في كثير من الأحيان "وحلاً" يزيد الوضع المأساوي سوءًا.
وبالتالي، لم يتغيّر شيء فعليًا في تفاصيل الحياة اليومية. لا توجد مدارس، والمستشفيات لا تعمل إلا جزئيًا، وكل شيء يحتاج إلى إعادة بناء. ما زلنا في المرحلة الأولى: إزالة الركام، وانتشال ودفن الضحايا الذين ما زالوا تحته، والتحضير لخطة إعادة إعمار -ولو في حدها الأدنى- وهي تتطلب أيضًا وجود سلطة حاكمة غير متوفرة حتى الآن، ولا نعرف شكلها المستقبلي.
كل شيء ما يزال في بدايته. وبينما يناقش المجتمع الدولي مستقبل القطاع، يواصل الناس هناك العيش في الظروف المأساوية ذاتها كما من قبل.
تستمر الأخبار المقلقة من الضفة الغربية أيضًا، ولا سيما مع تواصل اعتداءات المستوطنين - من إحراق مساجد، والاعتداء على قرى، ومنع الفلسطينيين من قطف الزيتون. ورغم أن هناك وعيًا متزايدًا داخل إسرائيل بخطورة هذه الأفعال، إلا أنّ التحرك الدولي الحاسم ما يزال غائبًا. ومن دونه، يصبح قيام دولة فلسطينية مستقبلية ذات تواصل جغرافي فعلي أمرًا شبه مستحيل. ما الذي يمكن أن تخبرنا عنه بخصوص الوضع هناك؟ وما الذي ينبغي -أو يمكن- أن يقوم به المجتمع الدولي؟ وما الذي يمكننا نحن فعله؟
يزداد الوضع في الضفة الغربية سواء يومًا بعد يوم. لقد وصلني صور لهجوم جديد على قرية الطيبة المسيحية: منازل وسيارات مُخرّبة، نوافذ محطّمة، وإطارات ممزّقة. ما جرى الليلة الماضية في الطيبة -على خطورته- يحدث بشكل يومي في العديد من القرى الفلسطينية. قبل أيام قليلة، تلقيت طلب مساعدة من قرية عبود –المعزولة تمامًا- ليس فقط من الرعية، بل من كل المجتمع المحلي، بمن فيهم رئيس البلدية، لأنهم ببساطة لا يعرفون إلى من يلجؤون.
هذا الشعور بالعجز يزيد ثقل المعاناة؛ إذ يبدو وكأنه لا يوجد أحد يمكن مخاطبته، ولا جهة يمكن طلب العدالة منها. صحيح أنّ مواجهات محدودة حدثت مؤخرًا بين بعض المستوطنين والجيش الذي حاول إعادة النظام، لكنها تبقى حالات نادرة. ففي أغلب الأحيان، نشهد غيابًا كاملًا لاحترام القانون -أي قانون- وغيابًا لاحترام حقوق الإنسان. والخشية لدينا أن يستمر الوضع في هذا المسار وأن يتفاقم أكثر.
أما عن دور المجتمع الدولي، فيجب أن يرفع صوته! لقد نالت غزة نصيبًا واسعًا من النقاش، وبحق، وإن كان الاهتمام قد تراجع مؤخرًا للأسف؛ لكن الضفة الغربية تحتاج إلى الاهتمام أيضًا. صحيح أن العديد من الدول اعترفت مؤخرًا بدولة فلسطين -اعترافًا رمزيًا لأنها لا تزال غير قائمة فعليًا- لكن المطلوب الآن أن تنتقل هذه الدول إلى الخطوة التالية: وضع المعايير والخطوات اللازمة. فلا يمكن الحديث عن عملية سياسية فيما الاعتداءات والانتهاكات مستمرة على الأرض. أقول هذا بقلبٍ مُثقل، لأنني لا أحب أن ينحصر دوري في توجيه إدانات مستمرة. لكن هذه هي الحقيقة، ولا يُمكنني الصمت عنها.
صاحب الغبطة، لقد ناشدتم مؤخرًا استئناف رحلات الحج إلى الأرض المقدسة، التي ما تزال متوقفة، ما يسبّب عواقب خطيرة على الاقتصاد الفلسطيني، وخصوصًا على المسيحيين. هل يمكنكم الحديث عن ذلك؟ وهل تجددون دعوتكم للحجاج للعودة إلى الأماكن التي عاش فيها يسوع ومات وقام من بين الأموات؟
بالتأكيد! نحن نتحدث كثيرًا عن غزة والضفة الغربية، لكن هذه المناطق ليست جزءًا من المسارات المعتادة للحجاج. أما منطقة بيت لحم -التي تُعدّ محطّة أساسية للحج- فهي بحاجة ماسّة إلى حضور الحجاج، كما أن الحج اليوم آمن. فبعد وقف إطلاق النار، لم تتوقف الغارات على غزة فحسب، بل توقّفت أيضًا الصواريخ القادمة من اليمن. لم تعد هناك صفارات إنذار. ويمكن القول إن الحج آمن الآن بالكامل.
القليلون الذين زاروا المنطقة في الآونة الأخيرة لمسوا هذا الأمر بأنفسهم. وأكرّر: الكنيسة الجامعة كانت قريبة جدًا منا خلال السنوات الماضية، بالصلاة وبأشكال ملموسة من التضامن. لكننا اليوم بحاجة إلى مرحلة جديدة: مساعدة عملية تُظهر حضورًا جسديًا أيضًا. فالحج لا يعود بالنفع الروحي على الحاج وحده، بل يرسم الابتسامة على وجوه العديد من العائلات التي تحتاج ليس فقط إلى الدعم المادي، بل إلى رؤية إخوتها وأخواتها المسيحيين حاضرين في الأرض المقدسة.
نحن نعيش سنة اليوبيل التي شارفت على نهايتها. وكان الكثيرون يأملون أن تستقطب هذه السنة الأنظار إلى روما والقدس معًا. فهاتان المدينتان مرتبطتان إحداهما بالأخرى. ولا يمكننا الانتظار حتى اليوبيل القادم؛ بل يجب أن نستأنف رحلة الحج المقدسة الآن، ونعود إلى جذور إيماننا - بوصف ذلك شكلًا من أشكال التضامن والأخوّة المسيحية.
لا تزال أمام أعيننا الصور المروّعة لرهائن حماس داخل الأنفاق، وفي الوقت نفسه تتوالى التقارير -من دون صور- لتشير إلى وفاة 98 معتقلًا فلسطينيًا في السجون الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر، أي بمعدل وفاة واحدة كل أربعة أيام، وسط اتهامات بانتهاكات لحقوق الإنسان. كيف تقيّمون هذه الأرقام؟
الأرقام مقلقة للغاية. فقد نشرت عدة صحف -بما في ذلك في إسرائيل والأرض المقدسة- تقارير عن ذلك، وإن كان عددها قليلًا، بصراحة. بشكل عام، يسود مناخ من العنف كل شيء، حتى طريقة تفكير الناس. لقد قلت مرارًا إننا أصبحنا غارقين في الكراهية؛ والكراهية ليست مجرد شعور، بل تتحوّل إلى أفعال وتصبح أسلوبًا في التعامل مع الآخرين.
الكراهية والانتقام والضغينة تظهر أيضًا بهذه الأشكال. لا أملك وثائق دقيقة حول كل حالة، لكنني أستند إلى ما نُشر. نعم، كثيرون ماتوا في السجون - ونحن نعلم جيدًا أنها ليست سجونًا سويدية.
صاحب الغبطة، أشرتم في مؤتمر عقد مؤخرًا إلى أنه خلال العامين الماضيين من الحرب، أصدر القادة الدينيون رسائل مشابهة أو مطابقة تقريبًا لتصريحات القادة السياسيين، مما قوّض الحوار بين الأديان. ما هو -أو ما ينبغي أن يكون- دور الأديان في هذا السياق؟
نعم، قلت ذلك أكثر من مرة، ويؤسفني أن أكرره. ينبغي للحوار بين الأديان أن يُستأنف، لأنه جزء أساسي من هويتنا الدينية؛ فلا دين يُمكنه أن يعيش بمعزل عن الآخرين. علينا أن نستعيد هذا الدور ونقدّم شهادة حيّة كقادة دينيين وكجماعات مؤمنة - خصوصًا في الشرق الأوسط، حيث تلعب الديانة دورًا محوريًا في تشكيل الهوية المدنية والاجتماعية، بل والسياسية أيضًا.
والواقع أنّ معظم القادة الدينيين المحليين -مع استثناءات قليلة- لم يقولوا شيئًا، أو إذا قالوا، فقد تحدّثوا فقط إلى شعبهم ومن منظورهم الخاص، من دون أي التفات إلى الآخر. وعندما كان هناك التفات، جاء غالبًا بنبرة اتهام أو دفاع. وهذا أمر مقلق للغاية. يجب أن نكسر هذه الدائرة المغلقة.
ولا أتحدث عن اليهود والمسلمين فقط؛ فنحن المسيحيين جزء من هذا أيضًا. ولا يمكننا التظاهر بخلاف ذلك. بعد السابع من أكتوبر، نحن بحاجة إلى استئناف الحوار - ليس فقط باستحضار ما قيل في الماضي، بل أيضًا ما لم يُقل خلال هذين العامين، ولماذا. علينا أن نبدأ من جديد، بالاستماع.
لطالما عبّرت عن أمر مُلحّ: لا ينبغي أن نبدأ بالتحليل، بل بالإنصات إلى آلام بعضنا البعض. الجميع مثقل بمعاناته الخاصة، لكن هناك أيضًا عجز -أو رفض- مقلق لرؤية آلام الآخرين. عقلية الضحية تُعدّ إحدى مشكلاتنا: كلّ طرف يرى نفسه الضحية الوحيدة، ويرى الآخر معتديًا.
يجب أن نخرج من هذا المنطق. الأمور لا تتغيّر تلقائيًا، بل عندما يبادر أحدهم إلى فتح الطريق. علينا أن نفتح، أو نعيد فتح، هذا الطريق. سيكون الأمر شاقًا، لكنه دور القادة الدينيين. لا يمكن للإنسان أن يرفع نظره إلى الله ثم ينكر أخاه الإنسان - ومع ذلك، هذا بالضبط ما قمنا به.
كان الأسقف الإيطالي تونينو بيلّو يقول إنّ الحرب تندلع عندما يتلاشى وجه الآخر. ولعلّنا نستطيع القول إنّ السلام يبدأ عندما نصغي إلى آلام الآخرين…
بالتأكيد. فإذا اعترفتَ بالآخر، تكون في الحقيقة قد اعترفتَ بنفسك. أمّا إذا أنكرت الآخر، فأنت في النهاية تنكر ذاتك. وحين يغيب وجه الآخر، يختفي وجهك أنت أيضًا. علينا أن نوجّه أنظارنا نحو الله، وأن نكتشف ذواتنا من جديد في وجوه بعضنا البعض.