موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٢٧ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٢
لِيَعُمَّ السلام المُرتجى الذي طالما تاقت إليه الشعوب والأمم
تصوير: أسامة طوباسي / أبونا

تصوير: أسامة طوباسي / أبونا

حنا ميخائيل سلامة :

 

ها هو ذا القصد الخلاصي، السّر الذي كان مكتوماً في الأزمنة الغابرة قد تحقق بإعلان ساعة الزمن «مجيء مِلء الزمن، الكلمة المتجسد».

 

كان ذلك عندما أصدر أغسطس قيصر إمبراطور روما منشوراً بإجراء الإحصاء الأول لشعوب إمبراطوريته الممتدة في أصقاعِ العالم.

 

وكأنه صار بالأمر هذا من حيث لا يَحْسَب أداة في يَد العليِّ لإتمام مَقصدهِ في توجيه الممتلئةِ نعمةً مريم العذراء ويوسف البار ليذهبا من الناصرة إلى بيت لحم ليُسَجِّلا في سجلات الإحصاء.

 

في جوٍّ مُشبعٍ بالصمتِ والصلاة في مغارةٍ وأمام مِذودٍ متواضعٍ بسيطٍ أضفى المولود العجائبي الناطق في مهده على المكان من نوره نوراً.

 

أما خارج الموقع فقد انتظمت جوقات الملائكة تبشر الناس أجمعين بفجر جديد مرنِّمة «المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام».

 

والرُّعاة الذين كانوا يقومون على حراسات الليل على ماشيتهم ومع صوتٍ يُقَرِّع آذانهم «يبشرهم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب» فقد هرعوا إلى الموقع، الذي استنار ببهاءِ نُورٍ ليجدوا «طفلاً مقمَّطاً مضجعاً في مذود» هو يسوع عَينُه مَنْ حَنَّتْ إلى طلعته العصور «السرُّ المكتوم منذ الدهور والذي لم يعلن لِبَني البشر في الأجيال السابقة كما أُعـْلـِنَ الآن».

 

أما أمّه العذراء مريم مَن نالت حظوة عند الله، فظللتها قدرته لمَّا أذعنت لمشيئته حين قالت للملاك في الناصرة: «إني أمَة ُ الرب، فليكن لي بحسب قولِك» فقد ابتهجت وهي تحدق إلى بهاءِ وجه وليدها.

 

لكن السلام الآتي لم يَرُق لهيرودس ممثل إمبراطور روما آنذاك، حيث قدَّر أن هناك سراً وراء ولادة يسوع المسيح، وأنَّه قادم لحكم زمني، وقد تعاظمت مخاوفه مع وصول وفدٍ من الحُكماء أرسلهم سُلطان من المشرق، الذي كان لاح له نجمٌ اهتزّ له كيانه، فأمرهم أن يتبعوه، يسيروا إن سار ويقِفوا إن وقف.

 

وكانوا محملين بهدايا مِن المُرّ رمزاً لآلامه، والبَخور رمزاً لإكرامه ومكانته، والتبر رمزاً لملكوته.

 

وتدافعت الأحداث وأوامر الروح لترغم مريمَ ويوسف والطفل للتوجه إلى مصرَ. وما أن تحقق هيرودس أن المجوس قد عادوا لبلادهم من طريق آخر دون أن يعودوا إليه ليخبروه عن شأن الوليد ومكانه وقد عرفوا الشر الذي أضمرَه له، حتى أصيب بِسَـَوْرة غضبٍ فأمر بقتل أطفال بيت لحم «من ابن السنتين فما دون» ليُبدِّدَ مخاوفه.

 

وما أن مات هيرودس حتى عادوا من مصر إلى وطنهم، حيث ترعرع يسوع، ونما بالقامة، والحكمة، والمعرفة.

 

أيُّها الكلمةُ المُتَجَسِّدُ، نستذكر في عيد ميلادك المجيد الأحداث التي جرت في بيت لحم قبل ألفي عام ونيف، عندما تمَّ سَفك دمِ أطفالٍ أبرياء لا حول لهم ولا قوة، ونستذكر» الصوت الصارخ في البرية» يوحنا المعمدان، مَن كان يُعمِّد بمياه نهر الأردن داعياً إلى التوبة والرحمة وجَعْلِ «سُبُل الرب مستقيمة» وغير بعيد عن الموقع وفي قلعة مكاور يحدثنا التاريخ الديني بِحَرفيةٍ مَهيبة عن احتفالٍ أحياهُ «هيرودس» ليكون بالتالي رأس البريء الشهيد يوحنا المعمدان الثمن، إذ وضع على طبـق إرضاءً «لهيروديا» لا لذنب اقترفه سوى دعوته للعفة والطهر والتوبة.

 

إنها مأساة «قايـيـن وهابيـل» تتجدد وقـد أطلت من وراء العصور، فيـُقـتـَل البريء بيد الجَّائرِ.

 

نعم، تتجدد المأساة وتتوسع في عالمنا الذي تغوص مناطق عزيزة علينا فيه في حَمْأة الألم، فتتعالى زفرات المتألمين وتشق أنَّاتهم عنان السماء، من ميادين الحروب والنزاعات، ومِن ساحات الفقر والعَوَزِ، ومن أنين المحرومين والمشردين، ومن هَلع الأطفال الأبرياء والأمهات الثَّكالى.

 

ومع هذا، فإننا في عيد ميلاد السيد المسيح حامِل شريعة العهد الجديد، شريعة المحبة والرحمة وخلاص النفوس نرى ألاَّ نجعل لليأس مكاناً، وعلينا أن نُحيِي الرجاء في النفوس، ونُقوِّي أواصِرَ التعاون والتكافل والتعاضد ومدّ العون للناس الذين هُم بحاجة لمن يُبلسم أوجاعهم ويُغطي حاجاتهم الزَّمنية فتعود إلى ثغورهم تلكَ البَسْمات التي افتقدوها، وتعود المحبة فتسكن في القلوب كلِّها ويعم السلام المُرتجى الذي طالما تاقت إليه الشعوب والأمم.

 

وبهذه المناسبة المجيدة نرفع الأكُفَّ أنْ يتغمد الله بواسع رحمته كوكبة شهدائنا الأبرار الميامين، الذين رفعوا راية الأردن بكبرياءٍ وَشَممٍ، وجاهدوا ببسالةٍ ودافعوا بجرأةٍ من أجل رفعة هذا الحِمى العربي الأمين. فكانوا للعهد حافظين، وللوعد مُنجِزين في الذودِ عن سيادته، وحماية استقراره، وصَون مُنجزاته، والسَّهر من أجل أمنِ إنسانِه. كما ندعوه تعالى أن يمنح الشفاء لأصحاب الشَّمَم المَوروث الذين تَبَدَّت على أجسامِهم الشريفة صُور التضحية والبطولة مِن جرَّاء تأدية شرف الخدمة والقيام بالواجبات الموكلة إليهم بأمانة يُشهدُ لها.

 

وحمى الله أردننا الحبيب وأبقاه شامخاً منيعاً مزدهراً في أظلال الراية الهاشمية الظافرة.

 

وكلُّ عامٍ وأنتم بخير.