موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٩ مارس / آذار ٢٠٢٤
رسالة البطريرك اغناطيوس يوسف الثالث يونان إلى الأساقفة والكهنة بمناسبة خميس الأسرار

بطريركية السريان الكاثوليك :

 

إخوتي الأجلاء أصحاب السيادة رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام 

وأبنائي الأحبّاء الخوارنة والكهنة الأفاضل 

 

بعد إهدائكم البركة الرسولية والمحبّة والسلام بالرب يسوع مخلّصنا ومثالنا في الخدمة الكهنوتية: 

 

"من تُراه الوكيل الأمين الحكيم" (لو12: 42) 

 

أكتب إليكم أيّها الإخوة والأبناء الروحيون الأعزّاء، لأشارككم الفرح وأبادلكم التهنئة بمناسبة عيد تأسيس سرّ الكهنوت الذي يجمعنا ويوحّدنا في خدمتنا للرب يسوع وللكنيسة.

 

نعم، عندما "بلغت محبّة الرب يسوع إلى المنتهى" (يو13: 1)، اتّكأ مع تلاميذه في ذلك العشاء المملوء أسراراً ورموزاً، وسلّمهم سرّ الإفخارستيا، سرّ جسده ودمه الأقدسين، تحت شكلَي الخبز والخمر، استمراراً فعلياً وأسرارياً لذبيحته الدموية على الصليب. كما استودعهم سرّ الكهنوت الخِدَمي، كي يبذلوا ذواتهم في سبيل خدمة إخوتهم. 

 

لقد ترك لنا الرب يسوع، وهو الكاهن الأعظم ورئيس أحبار إيماننا، عهداً جديداً بسرّ محبّته ورسالة الخدمة ونشر الخلاص، معلّماً إيّانا بمثاله الصالح، إذ "كان يسير في جميع المدن والقرى يعلّم في مجامعهم ويعلن بشارة الملكوت ويشفي الناس من كلّ مرض وعلّة" (مت9: 35). وبإسمه ومعه وعلى غراره، اختارنا داعياً إيّانا وموكلاً إلينا الخدمة الكهنوتية الأمينة: "من تُراه الوكيل الأمين الحكيم" (لو12: 42).

 

نمارس الأمانة تجاه المُوكِّل وجماعة المؤمنين والذات: تجاه الموكّل، أي الرب الإله، بمحبّتنا وتقديم ذاتنا له كلّيّاً، محافظين على الطاعة لرئيسنا الكنسي، بروح البذل والعطاء؛ تجاه جماعة المؤمنين، بزرع الانتماء الأصيل لكنيستنا السريانية في قلوبهم ونفوسهم، وبالقدوة الصالحة؛ تجاه الذات، أي قبولنا ما يريد الرب أن نحقّقه بروح التواضع والإستسلام لمشيئته، عالمين أنّه وحده هدف حياتنا وخدمتنا.

 

أمّا الحكمة، فهي إحدى مواهب الروح القدس السبع، وهي تقتضي العمل بمشيئة الرب الذي أودع الكاهنَ رسالة الخدمة المثلّثة الأبعاد: خدمة تعليم كلمة الله، من خلال الكرازة والوعظ والتبشير والإرشاد وشهادة الحياة؛ خدمة تقديس نفوس المؤمنين بواسطة الأسرار، وعيش الصلاة باستمرار؛ خدمة الاعتناء بالمؤمنين عناية الأب والراعي الصالح، من خلال زرع روح المحبّة والوحدة والشركة الدائمة، والحنوّ على المريض والضعيف والفقير والمحتاج، وتعليم الأولاد، ورعاية الشبيبة، ومرافقة العائلات.

 

يدعونا الرب إلى عيش رسالتنا الكهنوتية في أبرشياتنا ورعايانا وإرسالياتنا بروح الامتنان له وللكنيسة التي نشّأَتْنا وأطلقَتْنا للخدمة. ولا ننسى أنّ شعبنا يحتاج إلينا، فعلينا أن نشهد لإنجيل يسوع، ونجعله حاضراً في كلّ عمل نقوم به، من خدمة الأسرار، وفي ذروتها القداس الإلهي، والتبشير ونشر الكلمة، حاملين يسوع إلى منازل المؤمنين وإلى كلّ المساحات التي ائتُمِنّا عليها، فنشعّ بنوره ونعكس صورته حيثما حللنا.

 

كم تحتاج كنيستنا في بلاد الشرق كما في عالم الانتشار إلى خدّام أمناء يعيشون روحانية كهنوتية تنعش نفوسهم والنفوس الموكَلة إلى عنايتهم، لا سيّما في الظروف العصيبة الراهنة وفي خضمّ التحدّيات الجمّة في كلّ مكان وعلى كلّ صعيد، فتسمو خدمتنا وتثمر "ثلاثين وستّين ومئة" (را. مت13: 8). ولنحذر من أن تتحوّل خدمتنا إلى عادة وروتين، أو أن ترتبط بمادّيات نبتغيها بالمقابل. فتصبح خدمتنا، لا سمح الله، سبب شكّ أو عثرة للمؤمنين. وفيما نعي جيّداً أنّ "خَدَمَ الهيكل يأكلون ممّا هو للهيكل، والذين يخدمون المذبح يقاسمون المذبح" (1كور9: 13)، فلا ننسيَنَّ أبداً قول الرب لنا: "مجّاناً أخدتم، فمجّاناً أعطوا" (مت10: 8). 

 

يذكّرنا القديس البابا يوحنّا بولس الثاني أنّه "غالباً ما يضحّي الكاهن في خدمته باستقلاليته الذاتية وحتّى المشروعة... فعلى الكهنة أن يكونوا رجال تبشير مختارين لإتمام مخطَّط الخلاص. هذا يتطلّب إجابة صادقة من قِبَلِهم، تتجلّى بعزمهم على بلوغ قمم القداسة وذروة الحماسة في حمل رسالة المسيح إلى الأمم، في زمن يحرّف معنى التقليد الكنسي ويعرّض الأجيال الشابّة لمخاطر الضياع والابتعاد عن جذورهم" (من رسالته إلى الكهنة بمناسبة خميس الأسرار لعام 2005). 

 

أيّها الأحبّاء، إنّنا مدعوون كي نعيش خدمتنا بالوداعة والتجرّد، فالإغراء كبير، ولا يحقّ لنا أن نستغلّ وظيفة الخدمة لنجعلها زعامةً أو رئاسةً أو تسلّطاً. إنّها خدمة مضنية لا نستطيع أن نؤدّيها إلا متى قرّرنا بقناعة تامّة أن نسير مع الرب في درب آلامه لنتمجّد معه. فالصليب ثقيل، باحتمالنا أنواع القهر والافتراء ونكران الجميل، ولا بدّ من كتف يحمل! 

 

فلنحمل معاً أعباء خدمتنا واثقين بوعد الرب لنا: "لا أترككم أيتاماً، بل سأعود إليكم" (يو14: 18). وهذه الأيّام المقدسة، التي فيها نستذكر عشاء الرب الفصحي الأخير وآلامه وموته ثمّ قيامته المجيدة في اليوم الثالث، لا تُحيي فينا ذكرى غيابه عنّا فقط، بل تذكي لدينا أيضاً وبعمقٍ الإيمانَ بعودته وبحضوره الدائم فينا وبيننا، إتماماً لقوله: "ها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر" (مت28: 20). ولنجعل سرّ القربان، قمّة خدمتنا الكهنوتية، يحوّل حياتنا برمّتها إلى اختبار حميم واتّحاد دائم بالرب يسوع الذي يحفظنا بنعمته ويحمينا بيده القديرة التي وضعها علينا يوم رسامتنا الكهنوتية بشخص الأسقف، كي نحيا ثابتين وراسخين فيه، بالأمانة والحكمة، فننال "النصيب الصالح الذي لن يُنزع منّا" (را. لو10: 42) حين يدعونا كي نؤدّي "حساب وكالتنا" (را. لو16: 2).

 

ويطيب لي أن أعبّر عن الفرح العظيم بسرّ الأسرار الذي وهبنا إيّاه الرب يسوع، فأتّحد معكم لننشد مع آبائنا السريان: "قال يسوع: سرّي هذا لي، ولأهل بيتي، فقد أتمّه الرسل في العلّية. واليوم في الكنائس، يُعطى سرُّ الفصح، مباركٌ الذي جاء وأتمّه بذاته".

 

أختم تجديد التهنئة لكم جميعاً، وأمنحكم البركة، داعياً لكم بأسبوع آلام خلاصي يقودنا إلى الفرح والسلام في عيد القيامة المجيدة. المسيح قام، حقّاً قام. والنعمة معكم. 

 

ودمتم للمحبّ.