موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ١٦ مايو / أيار ٢٠٢٢
بعد جنازة شيرين... إعلان قداسة الصحفي الشهيد تيتوس براندسما الكرمليّ
الصحفي والشهيد تيتوس براندسما الكرمليّ (1881-1942)

الصحفي والشهيد تيتوس براندسما الكرمليّ (1881-1942)

إليز أغازريان :

 

تابعت خلال الأسبوع الماضي مراسم تشييع جثمان الصحفية شيرين أبو عاقلة، والتي جمعت الفلسطينيين في صلاة متحدة تصرّ على حق الفلسطينيين في الوجود ومناهضة الظلم والطغيان. كانت شيرين تغطي أحداث اجتياح قوات الاحتلال الاسرائيلي لمخيم جنين في 11 أيار 2022، حين أصابها رصاص قناص اسرائيلي، بعد أشهر من تصاعد الانتهاكات الاسرائيلية، وممارسة اليمين الاسرائيلي المتطرف سياسة التطهير العرقي بحق الفلسطينيين.

 

تزامنًا مع ذلك، هنا في هولندا، حيث أقيم حاليًا، مراسم تتعلق بشهيد هولندي، كان صحفيًا أيضًا ومناهضًا لاحتلال آخر في زمنه، وتم حفل إعلان قداسته الرسمّية من قبل البابا فرنسيس في الفاتيكان بتاريخ 15 أيار 2022. شعرت أن في هذه المراسم، التي جاءت في اليوم الرابع من استشهاد الصحفية شيرين ابو عاقلة، دلالات رمزية خاصة في هذا التوقيت.
 

كاتبة المقال إليز أغازريان

من هو القديس براندسما؟

 

ولد براندسما لعائلة كاثوليكية تعمل في الزراعة في مقاطعة فريزلاند، شمال هولندا، عام 1881، وتربى في إحدى مدارس الآباء الفرنسيسكان. قرّر الالتحاق بسلك الرهبنة والانضمام إلى الرهبنة الكرملية (التي تعود جذورها إلى القرن الثاني عشر في فلسطين، وتعود تسميتها "جبل الكرمل" في مدينة حيفا). يركز الرهبان الكرمليون على التنسّك والتأمل والحياة داخل الدير، ويوجد بينهم آباء يشاركون في الحياة الاجتماعية، وكان براندسما من النوع الثاني.

 

سيم براندسما كاهنًا عام 1905 وغيّر اسمه الأول "انو شيورد" إلى "تيتوس" على اسم والده المتوفى. كان براندسما محبًا للفلسفة والتأمل الروحي. نال درجة الدكتوراه في الفلسفة في روما عام 1909، وترجم بعض الصلوات والكتب الروحيّة للجمهور الهولندي. كان يدافع عن اللغة الفريزية، لغة مسقط رأسه في شمال هولندا، التي كانت تعاني من التهميش مقابل اللغة الهولندية الرسميّة. عمل أستاذًا في إحدى الرهبنيات الكرملية في هولندا، وقرّر أن يدافع عن المجموعات التي تتعرض للتهميش في المجتمع الهولندي. قرّر براندسما أن يخوض سلك الصحافة لنشر أفكاره، وأخذ مع الوقت يدعم الصحفيين في مسيرتهم في تغطية ما يدور في هولندا بشكل صادق، وتحدي التضليل الاعلامي.

 

في ذلك الوقت كان هناك بعض الاستقطاب بين الكاثوليك والبروتستانت في هولندا، وكان هناك تمييز ضد الطلبة الكاثوليك في المعاهد العلمية. استجابة لذلك، شارك تيتوس مع بعض الأساقفة في تأسيس أول جامعة كاثوليكية في هولندا، وهي "جامعة نايميخن الكاثوليكية" في شرق هولندا عام 1923، والتي اصبح اسمها "جامعة رادباود" فيما بعد، مع تغير المجتمع الهولندي وتزايد الحوار والتعايش والاحترام بين مختلف الطوائف والمجموعات. عمل تيتوس براندسما أستاذًا للفلسفة وتاريخ الروحانية الهولندية في نفس الجامعة، وأصبح فيما بعد رئيسًا للجامعة. ووردت شهادات عن أهالي مدينة نايميخن أنه كان هادئًا ولطيفًا ومتواضعًا، يحترم الناس بمختلف اطيافهم.

كان براندسما يدرّب الصحفيين والكهنة على تحدي التضليل الاعلامي

في معسكر الاعتقال

 

مع تصاعد موجات التيارات القوميّة الاجتماعية المتطرفة (النازية) في بداية الثلاثينيات، عبّر براندسما عن انتقاداته للأيديولوجية اليمينية المتطرفة، وحاول الحد من تغلغل هذه الأفكار إلى المدارس الكاثوليكية والإعلام. في عام 1940 تم احتلال هولندا من قبل النازيين الألمان، والذين سرعان ما دمّروا بعض المدن والمنشآت الهولندية، وفرضوا نظامًا عنصريًا ومارسوا الطغيان.

 

وظّف براندسما علاقاته ومهاراته الاعلامية، وكان يدرّب الصحفيين والكهنة على تحدي التضليل الاعلامي. على سبيل المثال، طلب من محرري الصحف الهولندية الكاثوليكية رفض طباعة منشورات نازية عنصرية وعدم الامتثال لأوامر السلطات النازية والالتزام بالمصداقية الإعلامية.

 

شعر النازيون أن براندسما يشكّل حجر عثرة أمامهم، وحاولوا تهديده، ولكنه رفض الانصياع لأوامرهم واصرّ على مواقفه وولائه لبلاده. فجاء النازيون يومًا إلى الدير الذي كان يقيم فيه، واقتادوه الى مراكز التحقيق وسجنوه في بداية عام 1942. رفض براندسما التخلي عن مبادئه مهما كان الثمن، فأرسله النازيون إلى معسكر الاعتقال "داخاو" في جنوب المانيا، حيث تعرّض لمختلف انواع التعذيب. قُتِل أكثر من 32 ألف شخص في ذلك المعتقل في الأعوام 1933-1945.

 

أُعدِم قرابة 900 راهبًا في هولندا في تلك الفترة. وفي معسكرات الاعتقال كان ممنوعًا على الرهبان غير الألمان من ممارسة الشعائر الدينية بلغاتهم. مع ذلك كان براندسما يواصل الصلاة بلغات بلاده المحتلة. ويذكر عنه ثباته وصموده خلال مخيمات الاعتقال حيث كتب قائلاً: "أشعر في هذه الزنزانة الضيقة بأنني في بيتي. لا أشعر بالملل هنا. على العكس تمامًا. أنا في الواقع وحيد ولكن حتى الآن لم يكن الله قريباً لي إلى هذا الحد (...) الآن الله هو ملجئي الوحيد، ولذلك أنا سعيد على الرغم من كل شيء".

 

من المعروف عن النازيين في تلك الفترة انهم كانوا يستخدمون المعتلقين كفئران تجارب، ويقومون بأبحاث علميّة عليهم. اشتهر مثلاً النازي "مينغل" في تلك الفترة، والذي كان يعذب الأطفال اليهود بطريقة بشعة، ويجرب أدوية عليهم. تعرّض براندسما لمثل هذه الانتهاكات، وقرّر النازيون تصفيته بهذه الطريقة، ما أدى إلى تدهور حالته الصحية واستشهاده في 26 تموز 1942 عن عمر يناهز 61 عامًا. تم تطويبه في 3 تشرين الثاني عام 1985 من قبل البابا يوحنا بولس الثاني، وفي 15 أيار عام 2022 أعلنه البابا فرنسيس قديسًا.

 

أعمل في الجامعة التي كان براندسما رئيسًا لها، والتي تنعم الآن بعد 80 عامًا من رحيل براندسما بالحرّية. هناك معهد في الجامعة باسمه، وجائزة للصحافة الاستقصائيّة باسمه منذ عام 1992 وهناك بعض الكهنة الهولنديين الذين يرون فيه شفيعًا للصحفيين.

أشعر بأن رسالة القديس تيتوس براندسما حاضرة بيننا، وبين قادتنا

رسالة حاضرة إلى اليوم

 

تابعت للتو المؤتمر الصحفي الذي عبّرت خلاله قادة كنائس فلسطين عن موقفها الذي يدين ويستنكر هجوم قوات الاحتلال على المستشفى الفرنسي في القدس، وتهجمهم غير المبرر على مراسم تشييع جثمان الشهيدة الصحفية شيرين أبو عاقلة. أتابع أيضًا بياناتهم الأخيرة حول ضرورة احترام حرية العبادة للجميع.

 

أشعر بأن رسالة القديس تيتوس براندسما حاضرة بيننا، وبين قادتنا، وربما تمنحنا بعض العزاء. سقط الاحتلال النازي في هولندا، ولم يعد هناك معسكرات اعتقال نازية، وبقيت سيرة الشهيد براندسما حاضرة في الأذهان، حتى بعد 80 عامًا من ارتقائه. تبيّن لنا مسيرته أنّ على الإنسان أحيانًا أن يتخذ قرارًا. إما أن يذعِن ويقف مع الظلم الذي يبتلع وجوده، أو أن يرفضه ويصر على مبادئه وحقه في العيش بحرية وكرامة وأمان وسلام.

 

لعلّ في مسيرة براندسما وإعلان قداسته في هذا التوقيت بالذات دلالات تعزينا بأن الأنظمة العنصرية المتطرّفة مصيرها الزوال. عاجلاً أم آجلاً، ستنهزم دبابات الجيوش العنصرية الجائرة التي تستهدف المدنيين. ستغلق المعتقلات السياسية، وستنتصر مبادئ براندسما التي تحلّت بها الصحفية شيرين أبو عاقلة أيضًا: اللطف وقول كلمة الحق والتضامن الإنسانيّ وحب الوطن.