موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٢ مارس / آذار ٢٠٢٤
اللاهوت الخفي في الرسومات الجدارية في كنيسة الحبل بلا دنس في الحصن

الأب عبدالله دبابنه وأ. د. وائل ابوالشعر :

 

قد يبدو للبعض أن جدران الكنائس تُزيَّن بالرسومات والأيقونات كي تُضفي على المكان المقدّس نوعًا من القدسيّة والخشوع والهيبة، إلّا أن هذا ليس هو السبب الرئيس لتزيين جدران الكنائس. يُسمّي البابا القديس يوحنا بولس الثاني، الفنّ الكنسيّ، بـ"أداة هائلة للتعليم المسيحي"، وهذا لضرورة هذه الرسومات في عكس الإيمان ومحتوياته للمؤمنين. لذلك تزيّنت الكنائس منذ نشأة المسيحية بالأيقونات والرّسومات، لكي تكون كتابًا يَعرض لاهوت الكنيسة وإيمانها بطريقة صوْريّة.

 

في رسالة البابا يوحنا بولس الثاني للفنّانين (1999)، يلقّب البابا الفنانين بـ"صورة الله الخالق"، فهم يحملون في فنهم صورة الله الخالق، الذي لا ينفكّ من أن يُلهم البشريّة بأمور كثيرة. وهذا الأمر ينطبق بشكل كبير على الفنانين الكنسيين، الذي تتعدّى مهمّتهم أن يكونوا مُلهمين، بل لاهوتيين ومُعلّمين وفنّانين في آن واحد. ولا شكّ بأنّ أحد هؤلاء اللّاهوتيين، هو الفنان الهولندي بيت خيريتس، الذي زيّن جدران كنيسة الحصن برسوماته التي أذهلت، ولا زالت تُذّهِل، كلّ من ينظر إليها.

 

عبقرية بيت خريتس في اختيار الرسومات الحائطية والذي حضر الى الحصن من عام 1906م ولغاية 1909م وقام بتزيين جدران كنيسة الحبل بلا دنس اللاتين في الحصن مثيرة للاهتمام، ولا تزال ماثلة للعيان ليومنا هذا وتدلّ على فهم عميق للاهوت المسيحي.

 

وبعد التركيز على الرسومات وطريقة اختيارها وتوزيعها يتبيّن وجود نمط يدل على فهم لاهوتي عميق من قبل من اختار هذه الرسومات ووزعها، علمًا أن أول كاهن لرعية اللاتين في الحصن قد باشر عمله في أيار من عام 1885، وهو الأب تابولدو نيوفاني (إيطالي الجنسية)، ثم تلاه الأب ادريان سميتس (هولندي الجنسية) وهو الذي قام بدعوة الفنان الهولندي إلى الحصن لتزيين كنيسة رعية الحبل بلا دنس اللاتين في الحصن، علمًا بأنّ بناء الكنيسة ابتدأ عام 1892 واستمر لسنوات طويلة.

 

في صحن الكنيسة وعلى جهة اليسار نجد لوحة بشارة مريم العذراء من قبل رئيس الملائكة جبرائيل وهو يزفّ البُشرى الى أُمّنا مريم العذراء بإنها سَتَلِد لنا المخلص (لوقا 1: 26-35). وفي مقابلها تمامًا نَجِد جبرائيل قد عاد ليزفّ البُشرى للنسوة بقيامة السيد المسيح من بين الأموات (متى 28: 2-6 ، مرقس 16: 6-7)  فكان البعد اللاهوتي أن الملاك جبرائيل يظهر في المهام الكبيرة والمفصلية كبشارة الميلاد والقيامة.

 

وفي نفس الجهة هناك صورة رائعة تمثّل حِلم يعقوب والذي ببساطة يُظِّهِر أن هناك سُلَّما بين الأرض والسماء (تكوين 28: 12-14) ومقابلها هناك صورة الكاهن وهو يرفع القربان الأقدس (يوحنا 6: 55-56 ، متى 26: 26-29 ، مرقس 14: 22-25) والقربان هو طريقنا الحالي الى السماء أي سُلّم إلى السماء فكأن بيت خريتس يقول أن ما حَلِمَ بِهِ يعقوب يتحقق بالقربان الأقدس أو بمعنى آخر طريق السماء حاضرة في القربان.

وعلى الجانب الأيمن هناك صورتان جميلتان تبين الأولى الراعي الصالح (يوحنا 10: 11) وهو يرعى غنمه ويحميه، والأخرى الراعي الشرير أو الأجير كيف يهرب من الوحوش ويترك خِرافه وحدها في مواجهةِ الخطرَ (يوحنا 10: 12).

وفي نفس الجهة نجد صورة تمثل زيارة السيدة مريم العذراء إلى خالتها إليصابات حين علمت إنها حامل بيوحنا المعمدان (لوقا 1: 39-55)، ومقابلها صورة تمثل استشهاد القديس اسطفانوس بالرَّجِم (أعمال الرسل 7: 57-59). وبعد التفكير والإمعان فإن ما يجمع الصورتين أنهما تمثلان شهيدين في سبيل المسيح فالقديس يوحنا المعمدان استشهد قبل قيامة المسيح مُدافِعًا عن الحقّ، والقديس اسطفانوس كان أول شهيد في المسيحية بعد قيامة مخلصنا يسوع المسيح فإن ما يجمع اللوحتين هو الشهادة.

وعند مدخل الكنيسة على الجهة اليمنى نَجِد صورتين متضادتين تمثلان خروج آدم وحواء من الفردوس بسبب الخطيئة (تكوين 3: 17)، وبجانبها لوحة ظهور الملاك للمجوس (لوقا 2: 8-14) ليبشرهم بولادةِ المُخَّلِص الذي سيمسح خطيئة آدم وحواء بدمه فكأن الفنان يجيب على تسأل مهم وهو: لماذا حضر المسيح، واتخذ جسدًا مثلنا وفَدَانا بدمه من خطايانا؟.

وأما الصور الكبرى في صحن الكنيسة والتي تمثل العشاء الأخير، ويقابلها الكنيسة الجامعة، فإن ما يربط اللوحتين هو أن العشاء الأخير هو آخر وصيّة للسيد المسيح قبل أن يُسلّم لِيُصلَب (لوقا 22:19-20) وبعد قيامته فإن آخر وصية كانت للرسل وهي ان ينقلوا رسالة المسيحية إلى العالم أجمع (متى 28 : 19).

يتضح لنا مما تم عرضه بشكل جليّ أن الفنان، وهو على الأرجح من قام باختيار الرسومات وتوزيعها، يتمتّع بفهم عميق للاهوت، فاستطاع وبتميّز أن يُعبّر عن فهمه وإيمانه بهذه الرسومات، وأن يترك بصمته الفنيّة المميّزة التي لم نشهد لها بمثيل.