موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٧ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥
البابا: لا يولد الرجاء المسيحي في الضجيج بل في صمت الانتظار

أبونا :

 

في مقابلته العامة مع المؤمنين، اليوم الأربعاء، تكلّم البابا لاون الرابع عشر على سر يوم السبت المقدس، في إطار تعليمه في موضوع يسوع المسيح هو رجاؤنا. وقال: يوم السبت المقدس هو يوم الصمت الكبير، حيث وضع جسد المسيح في القبر، لكن هذا الصمت لم يكن فراغًا بل انتظارًا ووعدًا بالقيامة.

 

أضاف: دفن يسوع في بستان يذكرنا ببستان الخلق الأول، ووضع في قبر جديد، فالقبر عتبة وبداية لحياة جديدة. وهو يوم سبت، يوم الاستراحة. فكما استراح الله بعد الخلق، استراح الابن أيضًا بعد أن أتم عمل الخلاص. لذلك يوم السبت يعلمنا أن نتوقف ونتخلى عن هوس العمل والإنتاج لكي نستريح.

 

تابع: صمت يسوع في القبر هو بذرة حياة جديدة، وفيه يكشف الله أن الزمن المعلق والفراغات يمكن أن تصير مكانا للنعمة. بهذا السبت نكتشف إلها يصبر وينتظر. وإذا بدا لنا أن كل شيء قد انتهى، الرجاء المسيحي يقول لنا إن الحياة تظهر من الموت. والرجاء لا يولد في الضجيج، بل في صمت الانتظار والاستسلام الواثق، وفي صبر مثل صبر الله.

 

وفيما يلي النص الكامل للتعليم:

 

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

 

في مسيرتنا في التّعليم المسيحيّ في يسوع المسيح رجائنا، نتأمّل اليوم في سرّ يوم السّبت المقدّس. ابن الله وُضِعَ في القبر. لكنَّ ”غيابه“ هذا ليس فراغًا، بل هو انتظار، هو امتلاء مؤجّل، ووعد محفوظ في الظّلمة. إنّه يوم الصّمت الكبير، تبدو السّماء فيه صامتة والأرض ساكنة. وهنا بالتّحديد يتحقّق أعمق سرّ في الإيمان المسيحيّ. إنّه صمت مُثقَلٌ بالمعنى، مثل أحشاء الأمّ التي تحمل الابن الذي لم يولد بعد، لكنّه حيّ فعلًا.

 

بعد أن أُنزل جسد يسوع عن الصّليب، وضعوه بعناية في لفائف، كما يصنعون مع كلّ شيء ثمين. ويقول لنا يوحنّا الإنجيليّ إنّه دُفن في بستان، داخل "قَبرٍ جَديد لم يَكُنْ قد وُضِعَ فيهِ أَحَد" (يوحنّا 19، 41). لا شيء يُترك للصّدفة. هذا البستان يذكّرنا بالفردوس المفقود، المكان الذي فيه كان الله والإنسان متّحدَين. وذلك القبر الذي لم يُستعمل من قبل، يشير إلى أمر يجب أن يحدث: إنّه عتبة، وليس نهاية. في بدء الخليقة، غرس الله جنّة، والآن الخليقة الجديدة أيضًا تبدأ في بُسْتان: بقبر مغلق سينفتح قريبًا.

 

يوم السّبت المقدّس هو أيضًا يوم راحة. بحسب الشّريعة اليهوديّة، يجب ألّا يعمل الإنسان في اليوم السّابع: في الواقع، بعد ستّة أيّام من الخلق، استراح الله (راجع تكوين 2، 2). الآن، الابن أيضًا، بعد أن أتمّ عمله الخلاصيّ، يستريح. ليس لأنّه مُتعَب، بل لأنّه أكمل عمله. ليس لأنّه استسلم، بل لأنّه أحبّ حتّى النّهاية. لم يعد هناك شيء يُضاف. هذه الاستراحة هي ختم للعمل المُكتمل، وهي تأكيد على أنّ ما كان يجب أن نعمله، قد تمّ حقًّا تحقيقه. إنّها استراحة مملوءة بحضور الرّبّ يسوع الخفيّ.

 

نحن نجد صعوبة في أن نتوقّف ونستريح. نعيش وكأنّ الحياة لا تكفي أبدًا. نركض لنُنتج، ولنظهر، ولنلحق بالزّمن. والإنجيل يعلّمنا أنّه أن نعرف أن نتوقّف هو فعل ثقة يجب أن نتعلّم أن نقوم به. يوم السّبت المقدّس يدعونا إلى أن نكتشف أنّ الحياة لا تعتمد دائمًا على ما نقوم به، بل هي أيضًا أن نعرف أن نتخلّى عمّا أنجزناه.

 

في القبر، صمت يسوع، كلمة الآب الحيّ. وفي هذا الصّمت بالتّحديد تبدأ الحياة الجديدة تختمر. مثل البذرة في الأرض، والظّلام الذي يسبق الفجر. الله لا يخاف من الوقت الذي يمرّ، لأنّه الرّبّ الذي ينتظر أيضًا. وهكذا، حتّى وقتنا ”عديم الفائدة“، وقت الاستراحات، والفراغات، ولحظات العجز، يمكن أن تصير أحشاء للقيامة. كلّ صمت نتلقّاه يمكن أن يكون تمهيدًا لكلمة جديدة. وكلّ وقت معلَّق يمكن أن يصير زمن نعمة، إن قدّمناه لله.

 

يسوع، المدفون في الأرض، هو الوجه الوديع لإله لا يحتلّ كلّ المكان. إنّه الإله الذي يفسح لنا في المجال، وينتظر، ويتراجع ليمنحنا الحرّيّة. إنّه الإله الذي يثق، حتّى عندما يبدو أنّ كلّ شيء قد انتهى. ونحن، في ذلك السّبت المعلَّق، نتعلّم أنّنا يجب ألّا نستعجل القيامة: أوّلًا يجب علينا أن نبقى، ونتلقّى الصّمت، ونقبل بحدودنا. أحيانًا نبحث عن أجوبة سريعة، وعن حلول مباشرة. لكنّ الله يعمل في العمق، وفي وقت الثّقة البطيء. وهكذا، يصير سبت الدّفن زمن الأحشاء التي منها يمكن أن تنبثق قوّة النّور الذي لا يُقهَر، وهو نور القيامة.

 

أيّها الأصدقاء الأعزّاء، لا يُولد الرّجاء المسيحيّ في الضّجيج، بل في صمت الانتظار الذي تسكنه المحبّة. ليس وليد فرحٍ وهميّ، بل هو التّسليم الواثق. سيّدتنا مريم العذراء تعلّمنا ذلك: فهي تجسّد هذا الانتظار، وهذه الثّقة، وهذا الرّجاء. عندما يبدو لنا أنّ كلّ شيء قد توقّف، وأنّ الحياة أمام طريق مسدود، لنتذكّر يوم السّبت المقدّس. حتّى في القبر، الله يُعِدّ المفاجأة الكبرى. وإن عرفنا أن نقبل بشكر ما حدث، سنكتشف أنّ الله يحبّ أن يبدّل الواقع، في الصِّغَر والصّمت بالتّحديد، ويجعل كلّ شيء جديدًا بأمانة حبّه. الفرح الحقيقي يولد من الانتظار، ومن الإيمان الصّابر، ومن الرّجاء بأنّ ما عشناه في المحبّة، سيقوم حتمًا إلى الحياة الأبديّة.