موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٩ يونيو / حزيران ٢٠٢٥
آفاق العنصرة وواقع الأرض المقدّسة "حيث يبدو أن كلّ شيء ينهار"
تصوير: إعلام البطريركية اللاتينية

تصوير: إعلام البطريركية اللاتينية

أبونا :

 

أشار الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا إلى أنّ العنصرة وما تحمله من دعوات للوحدة والمحبّة والسلام، وبين ما تشهده الأرض المقدّسة حاليًّا من "تناقض تام"، من كراهية واحتقار وانقسام، تضع المسيحيين أمام دعوة "لاتخاذ خيار" بأنّ يقدّموا "نموذجًا جديدًا" يسعى "لبناء علاقات تفتح معها آفاقًا جديدة"، ويثابر "على البناء حيث يبدو أن كلّ شيء ينهار".

 

وخلال ترؤسه قداس عيد العنصرة، الأحد 8 حزيران 2025، في دير رقاد السيّدة العذراء للآباء البندكتان، في القدس، أكد غبطته أنّ اتخاذ هذا الخيار لا يعني "أن نكون سذَّجًا أو حالمين بالسلام"، فالعنصرة تضعنا أمام "مسؤوليّة" كتلك التي حملها التلاميذ في نقل ومشاركة "نعمة السلام الثمينة" الساكنة في قلوبهم، لأنّه "لا ينبغي لنا أن ننتظر من الآخرين أن يصنعوا السلام أو يحققوه".

 

⮜ الروح ينبثق من الصليب

 

في مستهل عظته، أشار الكاردينال بيتسابالا إلى أنّ المقطع الإنجيلي (يو 20، 19–23) يربط "بشكلٍ وثيق بين عطيّة الروح وبين الآلام والفصح"، ويبيّن لنا "أن الروح ينبثق من الصليب، من جنب الرّب المفتوح الذي يهب الحياة. فلا يمكن أن يكون هناك روح دون بذل الذات الذي أتمّه يسوع من أجلنا على الصليب. ومن ناحية ثانية، لا يكتمل الفصح إلا حيث يُمنح الروح القدس للبشر".

 

وأكد بطريرك القدس للاتين أنّ "غاية الفصح هي أن تسكن فينا حياة القائم من بين الأموات، وأن نُجعَل شركاء في طريقته الخاصة في الحياة". ولهذا، "يستخدم يوحنا فعل ذا دلالة عميقة ونادرًا للغاية: ’نفخ‘ فيهم (يو 20، 22)؛ فالروح هو عطية لا تبقى خارج الإنسان، بل تدخل إلى داخله، وتصبح نفسه وروحه". وكما أنّ "الله نفخ في آدم الحياة، ليتمكن من العيش (تك 2، 7)، هكذا نفخ يسوع في تلاميذه نفس الحياة الجديدة، ليتمكنوا من أن يعيشوا كمن قاموا من بين الأموات".

⮜ زراعة الحياة حيثما وُجد الموت

 

وأوضح الكاردينال بيتسابالا أنّه "ومن خلال نفخة يسوع، يجعلنا الله خليقة جديدة، مدعوّة لتوحيد الحياة الإنسانيّة بالحياة الإلهيّة، الجسد بالروح، الأرض بالسماء. وفقط حينها يكتمل الإنسان". كما أشار إلى بُعدٍ آخر تحقّقه العنصرة لهذه الخليقة الجديدة؛ "ففي رواية التكوين، ينحصر عمل الله في خلق الإنسان الأول، الفرد. بينما نجد في العنصرة أن يسوع يمنح روحه لتلاميذه وهم مجتمعون معًا، ويُعيد تشكيلهم كجماعة من الإخوة. ومن هذا الحدث بالذات تولد الكنيسة".

 

وقال: "إنّ عمل الروح هو حدث شركة، يخلق أخوّة، يوحِّد التنوعات، يجعل الوحدة ممكنة. وهذا هو أصل الكنيسة"، "فالحياة الجديدة التي يُعطيها الروح ليست حياة تُعاش فرديًّا أو في اكتمالٍ ذاتيّ، بل في اللقاء مع الآخر. ولا يمكن عيش هذه الحياة ما لم تُشارك وتُعطى، لأنّها هي نفسها عطيّة في ذاتها. فإن احتفظنا بها وامتلكناها، ينطفئ الروح وتعود بنا الحال إلى الموت".

 

كما أشار الكاردينال بيتسابالا في عظته إلى "أنّ عطية غفران الخطايا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعطية الروح ’مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم‘ (يو 20، 23)، وهي بالتالي "القدرة على ألّا نسمح للشر بأن يتسلّط على الإنسان ويُفكّك علاقاته". فالرسل وقد امتلأوا من الروح القدس –قال الكاردينال- أُرسلوا لكي يواصلوا ما رأوه يتحقّق في شخص يسوع: أن يزرعوا الحياة حيثما وُجد الموت. هذا هو الروح الذي نالوه، وهذا هو العمل الذي دُعوا إليه.

⮜ العنصرة وواقع الأرض المقدّسة

 

وأكد أنّ العنصرة هي "دعوة إلى كنيسة الأرض المقدّسة"، لأنّ تمارس "الوحدة، التنوع، الشركة، العلاقة، المشاركة، البذل، المحبة، السلام... وهي الكلمات التي يتردّد صداها في هذا احتفال اليوم، إلا أنّها "تبدو بعيدة جدًا عمَّا نعيشه في هذه الأيام. فكل شيء يبدو نقيضًا تمامًا!".

 

وأشار في هذا السياق إلى المفردات التي يتردّد صداها حاليًّا في الأرض المقدّسة، وهي "كلمات كراهية، وعدم ثقة، واحتقار، وانقسام، وسوء فهم، والشعور بالهجران والوحدة"، كما لفت إلى أنّ "الكثيرين غاضبون من الله، وكأنّه هو المسؤول عمّا يحدث" من مآسي، مشيرًا إلى أنّ "المأساة التي تعيشها غزة أصبحت إلى حدٍّ ما صورة ورمزًا لهذه المأساة التي تضرب كلّ الأرض المقدّسة".

 

بالتالي، شدّد أنّ مسيحيي الأرض المقدّسة "مدعوون اليوم إلى اتخاذ خيار"، طارحًا عدّة أسئلة في هذا الشأن: "هل نسمح للروح القدس، الذي نلناه والذي يسكن فينا، أن يقودنا؟ هل نريد أن نصبح أولئك الذين يُظهرون حياة الله فينا، تلك النسمة التي وضعها يسوع في داخلنا؟ أم نترك للجسد أن يقرر اختياراتنا، فنعيش فقط كأناس مخلوقين من تراب الأرض، كآدم الأول؟".

 

وأوضح غبطته أنّ المقصود "ليس أن نكون سذَّجًا أو حالمين بالسلام، ولا أن نتوهّم عالمًا مثاليًا، وأن نهرب من الواقع المؤلم الذي نعيشه"، بل يتعلّق الأمر "بالقدرة، رغم كل شيء، على بذل الذات، والسعي إلى بناء علاقات تفتح آفاقًا جديدة، والمثابرة على البناء حيث يبدو أن كلّ شيء ينهار".

⮜ نموذج جديد للعيش في الأرض المقدّسة

 

وشدّد الكاردينال بيتسابالا على أنّه "لا ينبغي لنا أن ننتظر من الآخرين أن يصنعوا السلام أو يحققوه"، لافتًا إلى أنّه وبعدما التلاميذ هبة الروح القدس، "كان عليهم مسؤولية نقل ما يمتلكونه، وأن يبنوا عليه، وأن يحققوه في كل زمان ومكان، رغم كل الصعاب"، كما كان عليهم مسؤوليّة "أن يتعاونوا مع الجميع ليشاركوا نعمة السلام الثمينة، الساكنة في داخلهم وفي قلوبهم المتحدّة بالله".

 

وتساءل: "هل سنتمكن من حلّ المشاكل الكبرى التي تؤلم الأرض المقدّسة؟".

 

أجاب بطريرك القدس للاتين على هذا السؤال: "على الأرجح لا! لكن يمكننا ويجب علينا أن نكون صوتًا مختلفًا، وأسلوبًا مختلفًا، وأن نقدم نموذجًا جديدًا للعيش في الأرض المقدسة. ربما تكمن هنا الرسالة الأولى والأهم التي ترفعها الكنيسة في القدس اليوم".

⮜ يُبنى بأيدينا وباجتهادنا

 

وأكد أنّ العنصرة هي تذكير "بأن نصير نحن الذين يبنون الوحدة، والمشاركة، والمحبّة، والسلام، والتي، وإن كانت عطية من العُلى، إلا أنها يجب أن تُبنى بأيدينا، وباجتهادنا، وبصدق رغبتنا. حتى اليوم، وحتى هنا، في الأرض المقدسة. بل أقول: خاصة اليوم، وخاصة هنا. الروح هو القوة التي تعيننا وتدعمنا، لكنه لا يستطيع أن يحل مكان خيارنا الحر في أن نعيش كأبناء الله".

 

وخلص الكاردينال بيتسابالا في عظته رافعًا الصلاة إلى الرّب "أن يغفر لنا خياناتنا، وأن يجعلنا نحن أيضًا قادرين على الغفران المتبادل. كما نطلب منه أن يعيننا ويقوينا في رغبتنا المشتركة بأن نصبح أدوات حقيقية لعمل الروح في العالم، وبناة للوحدة والسلام".