موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥

"مصباح الحيّاة" بين كاتبي نبؤة اشعيا والإنجيل الأوّل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 35: 1- 10؛ مت 11: 2- 11)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 35: 1- 10؛ مت 11: 2- 11)

 

الأحد الثالث من زمن الـمجئ (أ)

 

الـمُقدّمة

 

في هذا الأسبوع الثالث من زمن الـمجئ نستكمل مسيرتنا من سلسلتنا الكتابيّة حيث نستلم مصباحًا جديداً بعد قبولنا لـ "مصباح التأهب ثمّ "مصباح الـملكوت" في الأسبوعين الأوليّن. حيث نتناول من خلال كلمات النبي أشعيا (35: 1- 10) ويسوع بحسب متّى (11: 2- 11)، بإرشاد من الحكمة الكتابيّة الّتي تنيرنا بـمصباح متميّز يخص نعمة الحيّاة وهو ما أعطيناه عنوانًا بأسم "مصباح الحياة". إخترنا هذا العنوان لسببين الأوّل وهو ما نجده في النص بحسب أشعيا يدعونا باستخدام أفعال الأمر الّتي تُهيئنا للتجاوب بشكل إيجابيّ مع الرسالة الإلهيّة. السبب الثانيّ هو الإجابة الّتي يُتمم فيها يسوع كلمات أشعيا كتوازيّ في حياته لـما تنبأ به مُسبقًا حيث سيتلألأ مصباح الحياة من خلال كلمة الله الـمانحة الحيّاة، من خلال الـمعمدان الّذي يرمز لكلّ منا حيث سيستلم حياة وقت أزمته. على هذا النطاق سيمنحنا أشعيا ومتّى طاقة حياة إلـهيّة خاصة وقت أزماتنا الحياتيّة فتأتي كلمة الله تنجدنا وتُحييّ ما فينا مِن كلّ ما هو مريض وميت وبلا حيّاة.       

 

 

1. رسالة رجاء (اش 35: 1- 10)

 

يفتتح النبيّ أشعيا في هذا الـمقطع داعيًا إيانّا ، مع معاصريّه، بالفرح والبهجة والإزدهار، بالرغم من الفقر والصحراء الّتي نعيشها بحياتنا اليوميّة ويعلن أيضًا السبب قائلاً: »لِتَفرَحِ البَرِّيَّةُ والقَفْر ولْتَبتَهِجَ الباديَةُ وتُزهِرْ كالنَّرجِس لِتُزهِرْ ازْهاراً وتَبتَهجِ إبتهاجاً مع هُتاف. قد أُتِيَت مَجدَ لبْنانّ وبَهاءَ الكَرمَلِ والشَّارون فهم يَرَونَ مَجدَ الرّبّ وبَهاءَ إِلهِنا« (اش 35: 1- 2). والسبب هو مجد الرّبّ الّذي سيظللّ شعبه هذا هو السبب في إزدهار صحرائنا وفي بثّ البهجة في نفوسنا كمؤمنين وكشعب ينتميّ له. وأيضًا تحمل رسالته النبويّة توجيه جديد لنا في هذا الزّمن الـمميّز لنسير نحو أُفق جديدة لنا في هذا الأسبوع الثالث من زمن المجيء. حيث أنّ كلمته الـمُوجهة اليّوم إلينا نحن الخائفين، والـمُحبطين، والـمُتألـميّن في حياتنا الأرضيّة الّتي هي ليست فقط سعادة وأفراح وورود دائمة. لذا تتغير نبرة صوت النبي حاملاً كلمة لقلبي وقلبك حيث يدعونا بأفعال الأمر الحركيّة، بالبدء في حمل رسالة الرجاء بأجسادنا من خلال أيدينا، رُكبنا وألسنتنا الصامتة قائلاً: »قَوُّوا الأَيدِيَ الـمُستَرخِيَة وشَدِّدوا الرُّكَبَ الواهِنَة. قولوا لِفَزِعي القُلوب: "تَقَوَّوا ولا تَخافوا هُوَذا إلهُكم [...] هو يَأتي فيُخَلِّصُكم"» (اش 35: 3-4). الرّبّ سيتدخل بقدرته ويأتي بذاته ليحررنا من كلّ فزع، ألم، ... ما علينا إلّا بالشجاعة والثقة في إنّه آتٍ ليحررنا ويدخل الفرح بحياتنا. هذا التدخل الإلهيّ يحمل مفاجأت غير متوقعة: «حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيانّ وآذانّ الصُّمِّ تَتَفَتَّح وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانّ الأَبكَم [...] ويَكونُ هُناكَ مَسلَكٌ وطَريق يُقالُ لَه الطَّريقُ الـمُقَدَّس لا يَعبُرُ فيه نَجِس بل أنّما هو لَهَم. مَن سَلَكَ هذا الطَّريق، حتَّى الجُهَّال لا يَضِلّ. [...] والّذينَ فَداهُمُ الرّبّ يَرجِعون ويَأتونَ إِلى صِهْيونَ بِهُتاف ويَكونُ على رُؤُوسِهم فَرَحٌ أَبَدِيّ وُيرافِقُهمُ السُّرورُ والفَرَح وتَنهَزِمُ عَنهمُ الحَسرَةُ والتَّاَوُّه« (اش 35: 5-10). في هذه الآيات، نجد إعلانًا موجهًا إلى الشعب الـمَنفي والـمُغرى بالإستسلام، ذي الأيدي والرّكب الهشّة. صحرائنا من الآن وصاعداً مدعوة للفرح، والسهوب أيضًا مدعوة للإزدهار. هذه هي رسالة الرجاء ففي قلب ظلام الـمنفى الــمُميت يأتي النبي حاملاً إعلان حياة حيث يبدو أنّ الموت يسود. وحيث يبدو إنّه لا أمل، وهناك يفاجئنا الرّبّ ويصنع شيئًا جديدًا وغير مسبوق، إذ يفتح لنا طريقًا يمكننا من خلاله العودة له. هنا لفظ العودةٌ يحمل معنيين، الأوّل: العودة الجسديّة إلى الأرض الـموعود (إسرائيل) بها من أرض الـمنفى (بابل)، والثاني: العودة الروحية بالتوبة إلى الرّبّ. هذه هي رسالة الرجاء الّتي يحملها النبي لقلوبنا بفضل تدخل الرّبّ إذ إنّ التوبة هي طريقنا للعودة للرّبّ بقلب حرّ. مهدت لنا الليتورجيّة بهذا النص للتوقف أمام حوار غير مباشر بين يوحنّا الّذي على وشك فقدان حياته، وفي إجابة يسوع الّذي سنحللها لاحقًا يسلمنا بذاته مصباح الحيّاة الّذي بدأه أشعيا من خلال رسالته الّتي تحمل الرجاء في رّبُّ الحيّاة.

 

 

2. أأنت الآتي! (مت 11: 3)

 

نلتقى في هذا النص الإنجيليّ بشخصيّة يوحنا الـمعمدان، الّذي يعبر بأزمة إيمانيّة إذ يشك على مستواه البشري، في هويّة الـمسيح، أثناء تواجده بالسجن أي في نهاية حياته، مُرسلاً تلاميذه ليسوع ومنتظراً إجابة على تساؤله: «أَأنتَ الآتي، أَم آخَرَ نَنتَظِر؟» (مت 11: 3). الـمعمدان أثناء عبوره برّية السبيّ البشريّة، كانسان بشري يواجه أزمة فقدان الأمل في حياته، حيث تتجه حياته نحو الـموت، إلّا أنّ سؤاله حمل لنا مصباح جديد وهو مصباح الحيّاة في عصره وحتى اليّوم.

 

ثمّ تأتينا إجابة يسوع، بحسب السيّاق الـمتاويّ، على تساؤله غير الـمُتوقع، فنجد الإجابة مُطمئنة ومُقلقة في أنّ واحد. إلّا إنها تُتمم ما أعلنه أشعيا النبي فيما ذكرناه بالنص السابق. وهنا يُجلل صوت يسوع، الّذي يحمل رسالة لي ولك نحن الّذين نعبر بأزمات مثل الـمعمدان بقوله: «اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا [يمكننا أنّ نضع إسم كلاً منا] بِما تَسمَعونَ وتَرَون: العُميان يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، الـموتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون، وطوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة» (مت 11: 5- 6). نلاحظ أنّ يسوع لم يُجب مباشرةً على سؤال الـمعمدان، بل دعاه إلى التدقيق بالنظر إلى الأعمال الّتي يُتممها فهو آتى كسيّد الحيّاة بلّ مانحًا الحيّاة. أتمّ يسوع في حياتهالبشريّ’ ما أعلنه يوحنا قبل تجسده بثماني قرون تقريبًا. ففي كلمات يسوع نتلمس مصباح الحيّاة الحقّة الّتي يسلمها لنا الإنجيليّ هذا الأسبوع، من خلال هذا الحوار غير مباشر بين الـمعمدان ويسوع. وتكشف كلمات يسوع عن جوهر الحيّاة الّتي آتى خصيصًا ليمنحها لنا وما علينا إلّا أنّ نقوم بالتدقيق في تاريخنا اليوميّ لإيجاد إجابات عن أسئلتنا الّتي تخص هويّة يسوع لنقبل الحيّاة منه ونستنير في هذا الزّمن بمصباح الحيّاة ونقبله يُفاجئنا بالحيّاة في كلّ ما حولنا. نعم يوحنّا الـمعمدان، بحسب الفكر الـمتاويّ، اليّوم يُمثلنا بالرغم من أزماتنا الّتي تكثر فيها أسلتنا عن هويّة الله الحقيقيّة كآب وراعي وإله يعتني بنا. نجد إجابات يسوع تدعونا إلى أنّ نتعلم أنّ نُدقق ونُفاجأ بأعماله الإعجازيّة، الّتي لا تتوافق مع توقعاتنا، بل تتجاوزها وتفوقها وتُنقيها، مُحررًا إيانا من أي رؤية لإله مزيف يملأ ثغرات تاريخنا. من هنا تأتي قناعتنا بأنّه إلهنا وهو يسلمنا بذاته مصباح الحيّاة.

 

 

3. مصباح الحيّاة (مت 11: 7- 11)

 

يستكمل يسوع حديثه بعد إنصراف تلاميذ الـمعمدان، مؤكداً بأنه بالرغم من أزمته عن هويّة يسوع، وسجنه إلّا أنّ يسوع بدأ في تعلّيم جديد للجموع عن الـمعمدان حيث بدأ بالأسئلة البلاغيّة، قائلاً: » اذا خَرَجتُم إِلى البَرِّيَّةِ تَنظُرون؟ أَقَصَبةً تَهُزُّها الرِّيح؟ بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أَرَجُلاً يَلبَسُ الثِّيابَ النَّاعِمَة؟ ها أنّ الّذينَ يلبَسونَ الثِّيابَ النَّاعِمَةَ هُم في قُصورِ الـملوك. بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أنّبِيّاً؟ أَقولُ لَكم: نَعَم، بل أَفضَلُ مِن نَبِيّ. فهذا الّذي كُتِبَ في شَأنّه: "هاءَنَذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ الطَّريقَ أَمامَكَ". الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا الـمعمدان، ولكنَّ الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه «(مت 11: 7- 11). في لّاهوت الكتاب الـمُقدّس الأسئلة البلّاغية الّتي يدمجها الكاتب في نصه هي ذاتها تحمل الإجابة ولا تحتاج لإجابة ولكن في اللّاهوت الـمتاويّ، يُتممّ يسوع بحواره عن إتمامّ نبؤة ملاخي (راج 3: 1) الّذي تنبأ فيها عن الـمرسل أمامه، وهذا يعزينا إذ بالرغم من أنّ الـمعمدان وهو الـمُهيأ للرّبّ إختبر أزمة الشك الإيمانيّة في هويّة يسوع، ومع ذلك يجيبه ليكشف لنا عن هويته الّتي تحمل الحيّاة. فالأزمات الإيمانيّة تُنقينا من كلّ ما هو زائف عن الرّبّ وتجعلنا أكثر نضجًا في إيماننا وأيضًا يرافقنا يسوع في هذا الأوقات ليكشف لنا بعمق عن ذاته. بكلّ هذا يُبدد يسوع كلّ تجاربنا ضد الحيّاة ويمنحها لنا بالكامل كاشفًا عن ملء الحيّاة.

 

 

الخُلّاصة

 

تُعلّمنا تجربتيّ أشعيا (35: 1- 10) من خلال نص العهد القديم ويوحنا الـمعمدان من خلال نص العهد الجديد بحسب متّى (11: 1- 11) أنّ الـمؤمن مُرسل، في صحاري التاريخ، ليتبنى نظرة التسامح والصّبر ويتمكن من فتح يديّه ليقبل من الرّبّ مصباح الحياة. كلّ منا مدعو من خلال كلا النصييّن للتمكّن من تمييّز الحيّاة الّتي تنبت بين أخاديد التاريخ. في روايته وتاريخه الّذي ببدو خالياً من المفاجآت، حيث تدعونا كلمة الله للبحث في الأخاديد عن البذرة الّتي تنبت! الله هو الّذي يفتح أعيننا، ويقيمنا من مرض التعرج ويلمس عيوننا ليزيل ما يعمي عيوننا، حتى نرى دربًا في صحارينا، ولنتعرّف حتى اليوم على أعمال الـمسيح فينا وبيننا، ولنميّز مصباخ الحيّاة الّذي ينيرنا فيؤهلنا لقبول ابن الله بمغارته ليلة ميلاده بإستعداد حامليّن مصابيحنا التأهب ومصباح الـملكوت ومصباح الحيّاة.