موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
صرّح البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ان البابا لاوون الرابع عشر "سيحمل في زيارته الى لبنان السلام والرجاء". اني اتفهّم الأهداف هذه، في زيارة رسميّة تلبية لدعوة من الدولة اللبنانيّة، وفي ظروف يطغى عليها هم الحروب والنزاعات الوطنيّة والإقليميّة.
لكن ما يحمله فعلاً البابا وما يميّز فكر الزائر المنتظر، هو ما جاء في الرسالة التي حرص على ان تكون الأولى في عهده، كرئيس للكنيسة الكاثوليكيّة، وكأنّه أراد ان تعرِّف عنه وعن توجهاته. ولأنها رسالة الى المسيحيين أولاً، على مسيحيي لبنان، وفي طليعتهم الشبيبة التي سيلتقي بها البابا، أن يطّلعوا عليها إذا أرادوا ان يتفاعلوا فكريًّا ودينيًّا مع الضيف الزائر، والا يكتفوا بالتصفيق له وبالتعويل على صلواته من أجلهم.
سأتوقّف عند أبرز ما جاء في رسالة البابا بعنوان "في محبة الفقراء". ولأن النص طويل، سأختار منه ما اعتقد انه يجيب على تساؤلات "البيئة المسيحيّة" حول الموضوع، والتي اعتدت ان استمع اليها وأتفاعل معها. ولحرصي على الدقّة في نقل مضمون الرسالة، سأكثر من الإستشهاد بما جاء فيها حرفيًّا.
إن محبّة الفقراء ليست واحدة من التعاليم المسيحيّة، بل هي "الخيار الأولي الذي يخلق تجديدًا استثنائيًّا في الكنيسة والمجتمع".
للأسف، تميل الكنائس المسيحية عندنا، كما الكثير من المسيحيين، الى التخفيف من جذريّة كلام يسوع عن الفقراء والمعوزين في الأناجيل، فيعتبرون ان ما قصده يسوع ليس الفقر المادي بقدر ما هو الفقر الروحي. تفسير البابا لمفهوم الفقر جاء شاملاً لكن يبدأ بالمفهوم المادي للفقر: "فقر من لا يملك وسائل العيش المادي، وفقر من هو مهمّش في المجتمع ولا يملك الوسيلة التي تمكّنه من التعبير عن كرامته، والفقر الأخلاقي والروحي، والفقر الثقافي، وفقر من هو في حالة ضعف أو هشاشة فرديّة واجتماعيّة، وفقر من لا حقوق له، ولا مكان ولا حريّة."
"لا يمكن لأي مسيحي أن يعدّ الفقراء مجرّد مشكلة مجتمعيّة؛ انها جزء من عائلتنا، انهم واحد منا". "لا تكون الكنيسة كنيسة المسيح ان لم تكن كنيسة الفقراء"، كما قال البابا فرنسيس، الذي حرص البابا لاوون على تأكيد سيره على نهجه في رسالته.
لكن كيف نقف الى جانب الفقراء، كيف نحبّهم؟ يختم البابا رسالته بتحديد النهج الاساسي الذي يجب اتباعه: "بعملكم وبالتزامكم لتغيير البنى الإجتماعيّة غير العادلة، وبلفتة لمساعدة بسيطة، شخصيّة جدًّا وقريبة من الآخر، سيكون من الممكن للفقير ان يشعر بأن كلمات يسوع هي له: "لقد أحببتك".
إذن لسنا هنا بصدد عمل إغاثي، كما عودتنا الكنائس، في المعيشة أو في التعليم أو في الصحة وإن كان هذا مطلوب أيضًا. إنما ما هو مطلوب أكثر وفي الاساس، فهو "تغيير البنى الإجتماعيّة غير العادلة".
من أين نبدأ؟ "من الضروري ان نواصل إدانة دكتاتوريّة الإقتصاد القاتل، وان ندرك بأنه في حين تتزايد مكاسب القلّة أضعافًا مضاعفة، فإن مكاسب الأغلبيّة تتباعد أكثر فأكثر عن رفاهيّة هذه الأقليّة السعيدة. ينبع ذلك من الإيديولوجيات التي تدافع عن الإستقلاليّة المطلقة للأسواق والمضاربات الماليّة، وبالتالي فهي تنكر حق مراقبة الدول للسوق وهي المسؤولة عن حماية الخير العام". انها دعوة للمسيحيين، المعروفين بشكل عام بدفاعهم عن "النظام الاقتصادي القائم"، لإنتقاد السياسة النيوليبرالية السائدة وإعادة النظر في مفهومهم لدور الدولة الاجتماعي ومراجعة حماستهم المفرطة لكل ما هو قطاع خاص وخصخصة وقيم رأسمالية مطلقة.
لكن كيف نعمل ميدانيا للجم دكتاتورية الاقتصاد القاتل والسماح للدولة بمراقبة السوق وحماية الخير العام؟ "وُجدت وما زالت موجودة، حركات شعبيّة مختلفة تناضل ضدّ الأسباب الهيكليّة للفقر، وعدم المساواة، وعدم وجود العمل والأرض والسكن وإنكار الحقوق الإجتماعيّة وحقوق العمل، انها مواجهة الآثار المدمّرة لإمبراطوريّة المال. فالحركات الإجتماعيّة، في الواقع تدعو الى تجاوز تلك الفكرة التي ترى السياسات الإجتماعيّة كسياسة تعمل من أجل الفقراء، ولكنّها لا تعمل مع الفقراء، ولا هي من الفقراء، ولا هي جزء من مشروع يجمع الشعوب... والشيء نفسه يقال في مؤسسات الكنيسة."
على الأحزاب المسيحية والمسيحيين بشكل عام، التأمل ملياً بما يقوله البابا عن الحركات الاجتماعية، والانخراط أكثر في النضال النقابي وفي كل حراك إجتماعي يهدف الى المزيد من العدالة الاجتماعية، بدل أن يبقوا مترددين في سلوك هذا الطريق بحجة انه "نهج يساري"، في حين انه ومنذ ولادة يسوع، وقبل نشوء اليسار بالفي سنة، نهج مسيحي.
ولا ينسى البابا ان يضيف، ما يميّز النضال الاجتماعي المسيحي، عن النضالات العنيفة التي تتوخى تحطيم الخصم أكثر مما تهدف الى تلبية احتياجات الفقراء :" المحبّة قوّة تغيِّر الواقع وقوّة تغيِّر تاريخيّة أصليّة. هذا هو الينبوع الذي يجب ان ينهل منه كل التزام لحل أسباب الفقر الهيكليّة."
في أكثر من مكان في رسالته، يحذّر البابا الكنائس، وبمثابة نقد ضمني لما اعتادت ان تقوم به: " كلمة الله التي أوحيت الينا هي رسالة واضحة، بسيطة وبليغة، ولا يحقّ لأي تفسير كنسي ان يخفف من معناها. تفكير الكنيسة في هذه النصوص يجب ألاّ يعتِّم أو يضعف معناها بل يجب ان يساعدنا على الإضطلاع بها بشجاعة وحرارة. لماذا تعقيد ما هو بسيط؟ يجب التأكيد صراحةً، بدون لفّ ودوران على وجود رابط لا ينفصم بين إيماننا والفقراء".
كيف سيستقبل المسيحيون في لبنان البابا لاوون بعد أن يطّلعوا على رسالته "في محبة الفقراء"، والتي حاولتُ مشاركتهم ببعض ما جاء فيها؟ بالترحاب ام على مضض؟
الأهم من كيفيّة استقباله، كيف يمكن تفعيل كلماته في الأوساط الكنسيّة والحزبيّة والنقابيّة، بعد إنتهاء الزيارة.
عندما نعلم ان اكثر من نصف اللبنانيين أصبحوا تحت خط الفقر، لا تعود المسألة قضية فئة اجتماعية بل قضية شعب بأكمله. بهذا المعنى، تكتسب رسالة البابا بعدا وطنياً، ووتتّحد الدعوة الى محبة الفقراء مع الدعوة الى "السلام والرجاء"، فالعدالة الاجتماعية هي قاعدة السلام الداخلية الأولى والسلام هو شرطها الخارجي الأول. اما الرجاء في قلوب اللبنانيين فهو محرك السلام والعدالة الاجتماعية على حد سواء.
(النهار اللبنانية)