موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥

فنون الإلغاء والإلهاء للسيطرة على الإنسان وتسليعه

سارة طالب السهيل

سارة طالب السهيل

سارة طالب السهيل :

 

العقل من أكبر النعم التي أنعم الخالق العظيم بها على بني آدم وميزه به عن باقي مخلوقاته ليقوم بمهام عديدة ورئيسية على رأسها معرفة الخالق واكتشاف أدلة وجوده ودلائل قدرته، ثم مهام التفكير والتعلم والتدبر والتأمل وصنع الحضارة.

 

هذا العقل حر ذاتي يمنح صاحبه الاستقلال والقدرة على اتخاذ القرارات التي تنبع من أفكاره وملكاته العقلية الفطرية التي وهبها له الله دون أن أي مؤثر خارجي.

 

غير أن الإنسان على مختلف الحقب الزمنية والتاريخية قد خضع لمؤثرات ناعمة استلبت منه حرية الفكر والعقل والتدبير والاستقلال الذاتي، وتعاظمت هذه المثيرات الخارجية في ألفيتنا الثالثة للميلاد، عبر الخضوع بمحض إرادتنا لتقنيات العصر والقرية الكونية والذوبان فيها بحكم ما تموج به من أمواج متلاطمة في بحرها الهائج بالقناعات والأفكار والتصورات الذهنية البعيدة عن العقل البشري المستقل والفطري.

 

وعبر مختلف الأزمنة انتهجت الدول الحاكمة والممالك والإمبراطوريات عبر التاريخ، منهج الهاء الشعوب عن حقوقها وطموحاتها وتطلعاتها بسبل أكثر جاذبية وإثارة وفنون جاذبة من الرياضيات المختلفة ومسابقاتها كسباق الهجن والخيل وصراع الديكة والثيران، والفنون الموسيقية وغيرها من الوسائل الناعمة التي تستهوي الأنفس البشرية في التأثير علي الشعوب وصرفها عن إعمال العقل والانشغال بحقها الإنساني في التطور العلمي والعملي والنفسي والأخلاقي.

 

وهذا لا يعني أبدا إنكار أهمية الرياضة، و الفنون في تهذيب السلوك البشري والارتقاء بالوجدان، شريطة أن توضع في سياقاتها الحقيقية، وليس بهدف توظيفها لأغراض خبيثة.

 

فالتعاطي مع الفنون والآداب والرياضة وفنون المتع السمعية والبصرية تعد ضرورية في التنفيس عن الإنسان وتفريغ شحناته السالبة وتطهيره من آلامها وإمداده بطاقات إيجابية تنعش عقله وروحه وقلبه.

 

ولكن عندما تكون هذه المعطيات الفنية والرياضية والترفيهية مسيطرة سيطرة تامة على معطيات مفردات حياتنا اليومية تلاحقنا كما تلاحقنا أمواج البحر الهائج معظم أوقات يومنا، فلا يتبقى لنا من اليوم ما نعبد به الله، أو نطور صناعاتنا وأبحاثنا العلمية، أو نتبحر في العلوم المختلفة وأشغالنا التي تجلب لنا الأرزاق وتوسعها علينا.

 

ولما كنا أمة وسطا، فان هذه الوسطية تحمينا من الإفراط في استخدام الأشياء من متع الحياة واللهو الترفيه، لأنها قد تعود النفس البشرية على اشتهائها ليل نهار إلى حد الإدمان، فتوقف القدرات العقلية عن التزود بخبرات الحياة وعن اكتشاف العلوم وتوظيفها لخدمة بني الإنسان.

 

واللافت، أن الوسائل الترفيهية التي أخذت في التنوع بشكل مذهل، قد استخدمتها أنظمة الإمبراطوريات القديمة والممالك المختلفة للسيطرة على شعوبها والتحكم في مقدراتها، وهو نفس النهج المستخدم في عصرنا بطرق جديدة. اعتمدت سياسة الإلهاء على فنون الإغواء بوسائل الترفيه المختلفة، خاصة في عصرنا الراهن، والذي صارت فيه صناعة الترفيه صناعة رئيسية لكبريات الشركات العالمية العابرة للحدود والقارات في استلاب عقول الناس وصرفهم عن واقعهم المأزوم من حروب وصراعات وأزمات اقتصادية، وعن رؤية مستقبلهم وضمان تحقيق أمنهم الاقتصادي والديني والاجتماعي والروحي، وعن علاقاتهم بخالقهم، وبلغت صناعة الترفيه من الخطورة بمكان، قد أنست البشر حساب الآخرة.

 

ولا شك في أن صناعة الترفيه لها أهمية اقتصادية لا يمكن تجاهلها في دعم الاقتصاديات الوطنية، إلا أنها حولت الشعوب نحو الاستهلاك أكثر من الإنتاج، واستنفاذ مدخراتهم، ووجهت معظم تفكيرهم نحو ثقافة المتعة والتسلية علي حساب العلم الجاد والعمل المخلص، بل إن المتع والتسلية كنهج سلوكي، قد ألغي الكثير من مقومات العقول البشرية في رؤيتها لنفسها ومراجعة أخلاقياتها، والتي تدهورت خاصة خلال العشرين عاما الأخيرة، وذلك بفعل ما كرسته الميديا من نزاعات الحرية الفردية وتضخم الأنا وتحقيق الطموحات المادية علي حساب القيم الأخلاقية والروحية علي نحو برجماتي صرف يخلو من الرحمة بالآخر، وعلى حساب روح الجماعة.

 

فصناعة المتعة والترفيه امتزجت، للأسف الشديد، بألوان مختلفة من عناصر الإلهاء وتغييب العقول، مثل صناعات المخدرات والمسكرات المدمرة للشعوب والأفراد والمجتمعات، ولا يزال تأثيرها واسع الانتشار في بلاد العالم المختلفة، الأمر الذي ينذر بخراب الإنسانية، لأن المجتمع بلا عقل يصبح ضريرا كسيحا فاقدا للوعي.

 

أما عامة الشعوب وهم الأكثرية الغالبة على الكوكب الأرضي فهم مشغولون فقط بنجوم الفنون والرياضة والميديا والتفاهة والإسقاط الأخلاقي، حتى عمت التفاهات حياتنا، وانتشرت انتشار النار في الهشيم دون أدنى انزعاج من خطورتها على عقولنا ومستقبلنا.

 

كشفت صناعة الترفيه أيضا عن الأمراض النفسية المعقدة التي كانت خبيئة داخل الإنسان، مثل السادية والنرجسية، والتي صارت واضحة وضوح الشمس تعبر عن وجودها القوي في عصر صناعة المحتوى الرقمي، مثل مواقع الدرك ويب والتي يستمتع صانعوه بتعذيب الإنسان وتقطيعه بالسكين قطعة قطعة و تعذيب الحيوانات وتقطيعها بعد ذبحها.

 

واللافت للنظر أن عصرنا قد شهد ازدهار صناعة الألعاب الإلكترونية، خاصة بعد أن صارت صناعة الترفيه ميدانا للاستثمارات العالمية والصراعات الثقافية والاقتصادية.

 

وبموجب ذلك فقد زادت حدة التوقعات بارتفاع إيرادات أنشطة صناعة الترفيه ووسائل الإعلام بمتوسط 309% سنويا بفضل نمو الإعلانات المتوقع عبر الإنترنت من 2.96 تريليون عام 2024 إلى 3.4 تريليون عام 2028، وذلك بحسب تقديرات شركة برايس ووتر هاوس كوبرز. ورجحت الشركة نفسها وصول مبيعات الإعلانات عبر الإنترنت إلى تريليون دولار العام القادم 2026.

 

أخيرا، فان صناعة الترفيه تجري في وقت يموج فيه العالم بالعديد من الحروب في العالم، بل إن العالم يترقب اندلاع حرب عالمية ثالثة، والتي تؤدي إلى إفقار الشعوب وتجويع الشرائح الأكبر منها، ورغم ذلك تتبارى القوى العظمى في تعظيم صناعة الترفيه لإلهاء الشعوب بسموم الأفكار وتغييب العقول وتدمير المواهب والملكات بالمخدرات المصنوعة بما فيه من مخدرات الترفيه نفسها والمحبوكة باحترافية عالية للسيطرة على الإنسان وإحكام القبضة على عقله ووجدانه انتظارا لإعلان وفاته!!!

 

فهل تفيق الشعوب من المخدرات العقلية؟ وهل نجد من الشرفاء من يتبنى الحملات لكشف هذه المخططات الشيطانية اللعينة، والتي لن تبني حضارة، أو تحافظ على إنسانية الإنسان، بل إنها تدمره وتقهره وتظهر عجزه وفشله في حماية نفسه من أصحاب أجندات استلاب عقل الإنسان والسيطرة على مقدراته وخيراته.

 

(الرأي)