موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ أغسطس / آب ٢٠٢٥

جَاء يسوع ليُلقي النَّار والانْقِسَام على الأرْض

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد العِشْرون مِن زَمَن السَّنة: جَاء يسوع ليُلقي النَّار والانْقِسَام على الأرْض (لوقا 12: 49-53)

الأحَد العِشْرون مِن زَمَن السَّنة: جَاء يسوع ليُلقي النَّار والانْقِسَام على الأرْض (لوقا 12: 49-53)

 

النص الإنجيلي (لوقا 12: 49-53)

 

49 ((جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت! 50 وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ! 51 ((أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسام. 52 فيَكونُ بَعدَ اليَومِ خَمسَةٌ في بَيتٍ واحِدٍ مُنقَسمين، ثَلاثَةٌ مِنهُم على اثنَينِ واثنانِ على ثَلاثَة: 53 سيَنقَسِمُ النَّاسُ فيَكونُ الأَبُ على ابنِه والابنُ على أَبيه، والأُمُّ على بِنتِها والبِنتُ على أُمِّها، والحَماةُ على كَنَّتِها والكَنَّةُ على حَماتِها)).

 

 

المُقَدِّمَةُ
 

يَتَناوَلُ الإِنْجِيلِيُّ لوقا (12: 49-53) هَدَفَ رِسالَةِ يَسوعَ عَلَى الأَرْضِ، أَلَا وَهُوَ إِلْقاءُ النَّارِ وَإِحْداثُ الاِنْقِسامِ فِي العالَمِ. النَّارُ والانقِسامُ في رِسالَةِ يَسوع: تَنْقِيَةُ الإِيمَانِ وَحَسْمُ الخِيارِ. ولعلَّ بَعضَ المُؤْمِنينَ يَتَعَثَّرونَ عِندَ سَماعِ هٰذا الكَلامِ عَلى لِسانِ يَسوعَ. ولَكِنَّ الحَقيقَةَ أَنَّ رِسالَتَهُ إنَّما تَكمُنُ فِي إِلْقاءِ النَّارِ وَإِحْداثِ الاِنْقِسامِ مِن أَجْلِ الحِفاظِ عَلَى الإِيمَانِ، وَذٰلِكَ عَبْرَ تَنْقِيَةِ وَامْتِحانِ قِيمَةِ عَمَلِ كُلِّ واحِدٍ مِن أَتْباعِهِ. فَالمَوقِفُ الَّذي يَفْرِضُهُ يَسوعُ هُوَ خِيارٌ جِذْرِيٌّ: إِمَّا اتِّباعُهُ مَسيحًا وَسَيِّدًا وَمُخَلِّصًا، وَإِمَّا رَفْضُهُ، وَلا وُجودَ لِحَلٍّ وَسَطٍ. ومِن هُنا تَتَأَكَّدُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وِقائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبيقاتِهِ.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 12: 49-53)

 

49 جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!

 

تُشيرُ عِبارةُ "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ نارًا" إِلى الغايةِ الجوهريَّةِ من تجسُّدِ الرَّبِّ يسوعَ ومجيئِه إلى عالمِنا، ألا وهيَ إِشعالُ نارِ الرُّوحِ القُدُسِ في القلوب، لِتَطهُرَ وتُضيءَ، ولِتُحدِثَ فَصلًا وحَسمًا بَينَ الخَيرِ والشَّرِّ، وبَينَ ما هو صالِحٌ وَما هو فاسِدٌ، فتَنكَشِفُ المواقِفُ وتَظهَرُ النوايا، ويُدعَى الإنسانُ لِاختيارِ الحَياةِ مع الله أو رفضِها. ويُعَلِّقُ البَابا فِرَنْسيس قائلًا: "بِهٰذا المَعْنَى جاءَ الرَّبُّ لِيُحَلَّ الاِنْقِسامَ، وَيَخْلُقَ أَزْمَةً – بِطَرِيقَةٍ سَليمَةٍ – فِي حَياةِ التَّلامِيذِ، وَلِيَكْسِرَ أَوْهامَ مَن يَعْتَقِدونَ أَنَّهُم يُمْكِنُهُم التَّوْفيقُ بَيْنَ الحَياةِ المَسيحِيَّةِ وَالحَياةِ الدُّنْيويَّةِ وَشَتَّى أَنْواعِ المُساوَماتِ، بَيْنَ المُمارَساتِ الدِّينِيَّةِ وَالمَواقِفِ حِيالَ القَريبِ، بَيْنَ التَّدَيُّنِ وَاللُّجوءِ إِلى العَرَّافينَ وَالسَّحَرَةِ، وَهٰذا لَيْسَ مِن عِنْدِ الله" (صَلاةُ التَّبشيرِ المَلائِكِي). أمَّا عِبارةُ "جِئتُ" فَتُشيرُ أَكْثَرَ إِلى نَتائِجِ رِسالَةِ يَسوعَ مِن إِلى هَدَفِها. فَيَسوعُ لا يُريدُ أَنْ يَدَّعِي أَنَّه جاءَ لِيُدَمِّرَ الإِنسانَ أَو يُحْدِثَ الاِنْقِسامَ لِذَاتِهِ، بَل إِنَّه يُريدُ أَنْ يُطَهِّرَ بَواطِنَنا بِكَلِمَتِهِ، الَّتي سَتُظْهِرُ مَن هُوَ مَعَهُ وَمَن هُوَ ضِدَّهُ، كَما جاءَ في تَعْليمِ بولُسَ الرَّسولِ: "سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ الله سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 13). تُشيرُ عِبارةُ "نار" إِلى رَمْزِ تَطْهيرِ المُؤمِنينَ بِفِعْلِ الرُّوحِ القُدُس (متى 3: 11)، إِذ إِنَّ النَّارَ تُطَهِّرُ وَتُنَقِّي. وقِيلَ عن أَشَعْيا النَّبِيّ إِنَّ أَحَدَ المَلائِكَةِ طَهَّرَ شَفَتَيْهِ بِجَمْرَةٍ مِنَ النَّارِ (أشعيا 6: 6-7). وحَفِظَ التَّقليدُ الرُّوحِيُّ رَمْزَ النَّارِ كَأَفْصَحِ تَعبيرٍ عَنْ عَمَلِ الرُّوحِ القُدُس: "لا تُخمِدوا الرُّوح" (1 تسالونيقي 5: 19). تَرْمُزُ النَّارُ أَيْضًا إِلى الغَضَبِ وَالهَلاكِ المُرَافِقَيْنِ لِدَيْنُونَةِ الله فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ، كَما جاءَ في نُبُوءَةِ أَشَعْيا: "لِأَنَّ الرَّبَّ بِالنَّارِ والسَّيفِ يُحاكِمُ كُلَّ بَشَر" (أشعيا 66: 15)، وَيوضِّحُ بولُسُ الرَّسولُ: "في لَهَبِ نارٍ يَنتَقِمُ مِنَ الَّذينَ لا يَعرِفونَ اللهَ ولا يُطيعونَ بِشارةَ رَبِّنا يسوع" (2 تسالونيقي 1: 8). ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمبروسيوس قائلًا: "سَيَأْتِي الرَّبُّ في نارٍ لِيَحرِقَ كُلَّ الرَّذائِلِ في يَومِ القِيامةِ، وَيَمْلأَ بِوُجودِهِ تَمَنِّياتِ كُلِّ مُؤمِنِيهِ، وَيُشرِقَ بِنُورِهِ على الأَعمالِ وَالسَّرائِر". تَرْمُزُ النَّارُ أَيضًا إِلى الحُرُوبِ وَالمُقاوَماتِ: "لا تَستَغرِبوا الحَريقَ الَّذي أَصابَكم لامتِحانِكم، كَأَنَّهُ أَمرٌ غَريبٌ حَلَّ بِكُم" (1 بطرس 4: 12). يَفكِّرُ لوقا هنا خُصوصًا في مَعمُودِيَّةِ الرُّوحِ وَالنَّارِ الَّتي بَدَأَت في العَنصَرَةِ (لوقا 3: 16). فَالنَّارُ هُنا تَرْمُزُ إِلى عَمَلِ الرُّوحِ القُدُس في قَلبِ الإِنسانِ. وقد قالَ يوحنَّا المَعمَدَان عن السَّيِّدِ المَسيح: "إِنَّهُ سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّار" (لوقا 3: 16). ويَرْوي لوقا حُلولَ الرُّوحِ القُدُسِ بِهَيْئَةِ أَلْسِنَةٍ ناريَّةٍ (أعمال الرسل 2: 3)؛ هٰذهِ النَّارُ هي نارُ حُبِّه، نارُ الرُّوحِ القُدُسِ الَّتي أَضْرَمَت قُلُوبَ الرُّسُلِ بِالغَيْرَةِ المُقَدَّسَةِ فَخَرَجوا إِلى العالَمِ يُبَشِّرونَ بالبُشرى السَّارَّة. ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحنَّا الذَّهَبيُّ الفَمِّ: "أَرادَ يَسوعُ بِهٰذا أَنْ يُقَدِّمَ لَنا تِلميذًا مَمْلُوءَ حَرارَةً وَنارًا، مُسْتَعِدًّا لاحْتِمالِ كُلِّ خَطَرٍ". تَرْمُزُ النَّارُ أَيضًا إِلى كَلِمَةِ الله: "أَلَيسَت كَلِمَتي كالنَّار، يَقولُ الرَّبّ" (إرميا 23: 29)،"هاءَنَذا أَجعَلُ كَلِماتي في فَمِكَ نارًا، وَهٰذا الشَّعبَ حَطَبًا فَتَلتَهِمُه" (إرميا 5: 14). وقالَ إِرميا النَّبِيّ عن كَلِمَةِ الرَّبِّ إِلَيْهِ: "كانَ في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة" (إرميا 20: 9). ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس: "النَّارُ هُنا هي رِسالَةُ إِنجيلِ الخَلاصِ وَقُوَّةُ وَصاياه".  تَرْمُزُ النَّارُ أَخيرًا إِلى المَحَبَّةِ: "المِياهُ الغَزيرَةُ لا تَستَطيعُ أَن تُطفِئَ الحُبَّ" (نشيد الأناشيد 8: 7)، "ويَزْدادُ الإِثمُ، فتَفتُرُ المَحَبَّةُ في أَكثرِ النَّاس" (متى 24: 12). وهٰذِه النَّارُ هي حُبُّ الآبِ وإِرادَتُهُ لِخَيرِ كُلِّ إِنسان. تُشيرُ عِبارةُ "وَما أَشَدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" إِلى اشْتِياقِ يَسوعَ إِلى أَنْ يُعَمِّدَ العالَمَ بِنارِهِ، لِكَي تَنْتَشِرَ رِسالَتُهُ الَّتي جاءَ مِن أَجْلِها. فقد كانَ يَعلَمُ أَنَّ إِنجيلَهُ لا يَدخُلُ العالَمَ إِلَّا إِذا احْتَمَلَ هُوَ أَشَدَّ الآلامِ مِن جانِبٍ، وَأَنْ يَكونَ إِنجيلُهُ سَبَبًا فِي مُقاوَمَةِ تَلامِيذِه، وَاِنْقِسامٍ، واضطِهادٍ، وَإيقادِ نِيرانِ الحُروبِ مِن جانِبٍ آخَر. فَلا خَلاصَ، ولا اِنْتِصارَ، ولا تَطْهيرَ لِلعالَمِ مِن دَنَسِ الخَطيئَةِ إِلَّا بِهٰذِهِ النَّارِ. وهٰذا ما عَبَّرَ عَنهُ القِدِّيسُ يُوسْتينُس الشَّهِيد (القَرْنُ الثَّانِي) عِندَما استَخدَمَ صُورَةَ النَّارِ في وَصفِ مَعمُودِيَّةِ يَسوعَ، قائِلًا: "عِندَما نَزَلَ يَسوعُ إِلى الماءِ، اشتَعَلَت نارٌ في الأُرْدُنّ". وبَيْنَما يَتَحَدَّثُ يَسوعُ عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ يَذكُرُ تِلكَ الَّتي النَّارُ المُضْطَرِمَةُ في قَلْبِ يَسوع، والَّتي بِطَريقَةٍ ما تُؤَدِّي إِلى مَوتِهِ في النِّهايَةِ، وهو عَمَلٌ لا يَتَهَرَّبُ مِنهُ. وهٰذِهِ النَّارُ هِيَ حُبُّ الآبِ وَإِرادَتُهُ لِخَيْرِ كُلِّ إِنسانٍ.  تُشيرُ العِبارةُ أَيضًا إِلى النَّارِ الَّتي اضْطَرَمَت في قُلُوبِ التَّلامِيذ، فَعَبَّروا عَن ذٰلِكَ بقولِهِم: "أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنا مُلْتَهِبًا فِينا، إِذ كانَ يُكَلِّمُنا في الطَّريقِ وَيُوضِحُ لَنا الكُتُبَ؟" (لوقا 24: 32). وهِيَ ذاتُ النَّارِ الإِلهِيَّةِ الَّتي أَشْعَلَت عِظامَ الأَنبياءِ، كَما قالَ إِرميا النَّبِيّ: "كانَت في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة، قد حُبِسَت في عِظامي، فأَجهَدَني احتِمالُها ولَم أَقْوَ على ذٰلِك" (إِرميا 20: 9). يُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمبروسيوس: "رُبَّما لأَجْلِ هٰذا سَيَأْتِي الرَّبُّ في نارٍ (أشعيا 66: 15-16) لِيَحرِقَ كُلَّ الرَّذائِلِ في القِيامةِ، ويَمْلأَ بِوُجودِهِ اشتِياقَ كُلِّ أَحَدٍ مِن مُؤمِنِيهِ، ويُشرِقَ بِنورِهِ على الأَعمالِ وَالسَّرائِر". ويَصرِّحُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبيُّ الفَمِّ: "يُعلِنُ يَسوعُ عَنِ اِلْتِهابِ الحُبِّ وَحَرارَتِهِ الَّتي يَطلُبُها فينا. فَكما أَحَبَّنا كَثيرًا جِدًّا، كذلك يُريدُنا أَنْ نُحِبَّهُ نَحنُ أَيضًا". تُبرِزُ هذه الآيةُ البُعدَ الشَّخصيَّ لاشْتِياقِ يسوعَ، كما تُظهِرُ البُعدَ الإرساليَّ لانتشارِ النّارِ في قلوبِ المؤمنين، وتدعمهُ شَهاداتُ الآباءِ الَّتي تربطُ هذه النّارَ بالمحبّةِ الإلهيّةِ والتَّطهيرِ النّهائي.

 

50   وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ!

 

تَرِدُ كَلِمَةُ "مَعمودِيَّةً" في الأَصْلِ اليونانِيّ βάπτισμα، وَمَعْناها التَّغْطيسُ وَالغَسيلُ وَالصَّبْغَة. وَعِندَ اليَهودِ، تُشيرُ إِلى الاغتِسالِ مِن أَجْلِ الطَّهارَةِ قَبْلَ الأَكْلِ أَوْ قَبْلَ الصَّلاةِ (يهوديت 12: 7؛ لوقا 11: 38). أَمَّا يَسوعُ المَسيحُ فَلا يُشيرُ هُنا إِلى المَعمُودِيَّةِ الَّتي تَقَبَّلَها في الأُرْدُنّ، بَل إِلى آلامِهِ وَمَوتِهِ على الصَّليبِ (متى 20: 22)، الَّذي كانَ حَدَثُ الأُرْدُنّ صُورَةً عَنهُ. فَالمَعمُودِيَّةُ هُنا تَعني الآلامَ الَّتي سَتَكْتَمِلُ في بُستانِ الجَسمانيَّةِ وَمَوتِهِ على الصَّليبِ مِن أَجْلِ خَطايا العالَم، كَما أَوضَحَ ذٰلِكَ لِلتِّلميذَيْنِ يُوحَنَّا وَيَعْقوب: "إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان. أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكَأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟" (مرقس 10: 38). يَتَوجَّبُ على الكَنيسةِ الآنَ مُشارَكَةُ المَسيحِ في صِبْغَةِ الآلام. ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبير قائِلًا: "يَقصِدُ يَسوعُ بِمَعمودِيَّتِهِ مَوتَهُ بِالجَسَد"، وَهِيَ دَيْنُونَةٌ لِتَطهيرِ شَعبِهِ أيضًا. إِنَّ الدَّيْنُونَةَ بِالماءِ مُرتَبِطَةٌ بِالدَّيْنُونَةِ بِالنَّار (لوقا 17: 26-29). وَمِنَ الأَرجَحِ أَنَّ لوقا البَشير يَنظُرُ إِلى هٰذِهِ المَعمودِيَّةِ كأَصلِ المَعمودِيَّةِ المَسيحيَّةِ لِغُفرانِ الخَطايا، كَما أَوضَحَ بُطرسُ الرَّسول: "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (أعمال الرسل 2: 38). هُنا تَعتَبِرُ المَعمودِيَّةُ عَمَلَ غَطْسِ الإِنسانِ في حَدَثِ الخَلاص، الغَطسَ في يَسوعَ، لأَنَّ الخَلاصَ الشَّامِلَ هُوَ في يَسوعَ المَسيحِ المائِتِ وَالقائِمِ مِن بَيْنِ الأَمْوات. أَمَّا العِبارةُ "وَما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ!" ففي الأَصْلِ اليونانِيّ πῶς συνέχομαι ἕως ὅτου τελεσθῇ، وَمَعْناها: "كَيْفَ أَتَشَوَّقُ إِلى أَنْ تُكْمَلَ". وَتُشيرُ إِلى المَعْنَى المَجازِيّ: أَيِ الآلامُ وَالفِداء. والواقِعُ أَنَّ يَسوعَ كانَ بَيْنَ أَمرَيْنِ مُتَضادَّيْنِ: فَهو مِن ناحِيَةٍ يَشتَهي أَنْ يُكَمِّلَ عَمَلَ الفِداءِ بِمَوتِهِ مِن أَجْلِ الخُطاة، وَمِن ناحِيَةٍ أُخرى، كانت طَبيعَتُهُ البَشَرِيَّةُ تَنْفِرُ مِن هٰذِهِ الآلام. هٰذا ما يُشْبِهُ ما قالَهُ بولُسُ الرَّسول: "وأَنا في نِزاعٍ بَينَ أَمرَين: فلِي رَغبَةٌ في الرَّحيل لأَكونَ مع المسيح وهذا هو الأَفضَلُ جِدًّا جِدًّا، غَيرَ أَنَّ بَقائي في الجَسَدِ أَشَدُّ ضَرورةً لَكم" (فيلبي 1: 23). يُعَلِّقُ القِدِّيسُ إيرونيموس: "هيَ مَعمودِيَّةُ الآلام" (شَرْحٌ لإِنجيلِ القِدِّيسِ متّى، 3). إِنَّ مَعمودِيَّةَ يَسوعَ هِيَ صُورَةُ مَعمودِيَّتِنا، الَّتي تَحمِلُنا لِنَدخُلَ في حَياةِ الله وَنَتَّحِدَ بِه، بِوَاسِطَةِ صَليبِ الآلامِ الجَسَدِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ مَعًا.

 

51  أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسام.

 

تُشيرُ عِبارةُ "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرض؟" إِلى أَنَّ المَسيحَ هُوَ السَّلامُ بِذاتِهِ، وَقَد أَتى لِيُصالِحَ كُلَّ مَوجودٍ، "مِمَّا في الأَرضِ وَمِمَّا في السَّماوات" (قولسي 1: 20). فَكَيْفَ نَفْهَمُ إِذاً كَلامَهُ نَفْسَهُ: "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئتُ لأَحمِلَ السَّلامَ إِلى الأَرض"؟ يُعَلِّقُ أُوسابيوس القَيْصَرِيّ، اللاهوتيُّ وَالمُؤرِّخ، قائلًا: "هَل يُمكِنُ لِلسَّلامِ أَنْ يُعطِيَ غَيرَ السَّلامِ؟ عِندَما أَرسَلَ اللهُ ابنَهُ، كانَت مُهِمَّتُهُ مُرتَكِزَةً على إِحلالِ السَّلامِ، كَما في السَّماءِ كَذلكَ على الأَرض. إِذاً، لِماذا لَم يَحِلَّ السَّلامُ؟ بِسَبَبِ ضَعفِ أُولئِكَ الَّذينَ لَم يَستَطيعوا تَقبُّلَ إِشعاعِ النُّورِ الحَقيقي". عِبارةُ "أَتَظُنُّونَ" تَأْتي كَسُؤالٍ مِن يَسوعَ لِتَلاميذِه، لِيُزيلَ مِن أَذهانِهم التَّصوُّراتِ الخاطِئَة، وهي تَوَقُّعَ انتِصارِ مَلكوتِ المَسيحِ المَجيدِ دُونَ مُقاوَمَةٍ أَو آلام، وكأَنَّهُ يَقولُ: "لا تَظُنُّوا". أَمَّا كَلِمَةُ "السَّلامَ" فَتُشيرُ إِلى السَّلامِ البَشَرِيِّ السَّهلِ الَّذي كانَ يَحْلُمُ بِه الأَنبياءُ الكَذَّابون، كَما وَصَفَهُ إِرميا النَّبِيّ: "يُداوونَ كَسرَ شَعْبي باستخفافٍ قائلين: سَلامٌ سَلام، ولا سَلام" (إِرميا 6: 14). السَّلامُ الحَقيقيُّ الَّذي يَحمِلُهُ المَسيح لا يَعني غِيابَ الخَطَرِ فَقَط، بَل هُوَ مِثالٌ لِلعَلاقَةِ الصَّحيحَةِ مَعَ الله، الَّتي تُثمِرُ عَدالَةً اجتماعيَّةً وَازدهارًا فَرديًّا وَجَماعيًّا. هٰذا المِثالُ الأَعلى سَيُحَقِّقُهُ السَّيِّدُ المَسيحُ كَما جاءَ في نُبُوءَةِ زَكَرِيَّا النَّبِيّ: "فَقَد ظَهَرَ لِلمُقيمينَ في الظُّلْمَةِ وَظِلالِ الـمَوت لِيُسَدِّدَ خُطانا لِسَبيلِ السَّلام" (لوقا 1: 79). عِبارةُ "الانقسام" تُشيرُ إِلى التَّناقُضِ وَالخِصامِ وَالنِّزاعاتِ وبالتالي الانقِسامُ كخَيارٍ جِذريّ. وَيُعَلِّقُ أُوسابيوس القَيْصَرِيّ قائلًا: "آمَنَتْ تِلكَ الفَتاةُ وَبَقيَ والدُها غَيرَ مُؤمِن. فَإِنَّ مَجرَّدَ الدَّعوَةِ إِلى السَّلامِ تُؤَدِّي إِلى الانقِسام. فأَيُّ شَرِكَةٍ بَينَ المُؤمِنِ وَغَيرِ المُؤمِن؟ يُصبِحُ الاِبنُ مُؤمِنًا وَيَبقى الوالِدُ غَيرَ مُؤمِن. لا مَفرَّ مِنَ التَّناقُض. حَيثُ يُعلَنُ السَّلامُ، يَحلُّ الانقِسام. وَلَكِنَّهُ انقِسامٌ خَلاصيّ، لأَنَّ خَلاصَنا هُوَ مِن خِلالِ السَّلام. والسَّيفُ هو اِستِعارَةٍ لِلانقِسام. في إِنجيلِ متّى يَقولُ يسوعُ: "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئتُ لأَحمِلَ السَّلامَ إِلى الأَرض، ما جِئتُ لأَحمِلَ سَلامًا بل سَيفًا" (متى 10: 34). هُنا السَّيفُ مَجازٌ لِلتَّعبيرِ عَنِ الانقِسامِ مِن أَجلِ الإِيمانِ بِالمَسيحِ، وَعَنِ الصُّعوباتِ الَّتي سَيُواجِهُها كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه. وَقَد تَنَبَّأَ سِمعانُ الشَّيخُ قائِلًا: "ها إِنَّهُ جُعِلَ لِسُقوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ وَقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل، وَآيَةً مُعَرَّضَةً لِلرَّفْض" (لوقا 2: 35). انقَسَمَ اليَهودُ على المَسيحِ، لأَنَّهُم كانوا يُريدونَ مَلِكًا أَرضِيًّا يُنقِذُهُم مِن حُكمِ الرُّومان، أَمَّا هُوَ فَقَد قالَ: "لَيسَت مَملَكَتي مِن هٰذا العالَم" (يوحنا 18: 36). فَقَامَ ضِدَّهُ كَهَنَةُ اليَهودِ وَشُيوخُهُم وَالكَتَبَةُ وَالفِرِّيسِيُّونَ وَالصَّدوقِيُّون. فَالمَوقِفُ مِن أَجْلِ المَلكوتِ يَفرِضُ خِيارًا جِذريًّا يُوَجِّهُ حَياةَ المُؤمِن. وَقَد تَتمَزَّقُ أَواصِرُ العَلاقاتِ حينَ يَختارُ البَعضُ اتِّباعَ يَسوعَ، بَينَما يَرفُضُهُ آخَرون. فَلا وُجودَ لِحَلٍّ وَسَط. السَّيفُ هُنا هُوَ سَيفُ الفَصلِ بَينَ المُؤمِنِ وَغَيرِ المُؤمِن، وَبَينَ الحَقِّ وَالباطِل، وَلَيسَ سَيفَ الحَربِ وَالعِداوَةِ. فَقد قالَ يسوعُ لِبُطرُسَ: "إِغمِدْ سَيفَك، فَكُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيفِ بِالسَّيفِ يَهلِك" (متى 26: 52)، وَأَوصى: "أَحِبُّوا أَعداءَكم وَصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم" (متى 5: 44). إِذًا، لا يَقصِدُ يَسوعُ بِالسَّيفِ الغَزوَ أَوِ القَتلَ، بَل القَرارَ الحاسِمَ الَّذي يُميِّزُ بَينَ مَن يَقبَلُ المَسيحَ وَمَن يَرفُضُه. وَفِي الحَقيقَةِ، لَم يَكُنِ الانقِسامُ صادِرًا عَنِ المَسيحِ، بَل عَن رَفضِ الإِنسانِ لِلإِيمانِ الَّذي جاءَ لِيُبَشِّرَ بِه. وهٰكذا أَنذَرَ يسوعُ تَلاميذَهُ أَنَّ هٰذا الانقِسامَ لا بُدَّ مِن حُدوثِه.

 

52   فيَكونُ بَعدَ اليَومِ خَمسَةٌ في بَيتٍ واحِدٍ مُنقَسمين، ثَلاثَةٌ مِنهُم على اثنَينِ واثنانِ على ثَلاثَة:

 

تُشيرُ عِبارةُ "خَمسَةٌ" إِلى ثَلاثِ أَزواجٍ مِنَ القَرابَةِ الأُسَرِيَّةِ: الأَب وَالاِبْن، وَالأُم وَالاِبْنَة، وَالكَنَّةُ (زَوجَةُ الاِبْن) وَحَماةُ زَوجِها. وَمَع أَنَّهُ يَرِدُ في الآيَةِ اللاَّحِقَةِ (لوقا 12: 53) ذِكرُ سِتَّةِ أَشخاصٍ، فَإِنَّهُ يُحتَمَلُ أَنْ تَكونَ الأُمُّ وَالحَماةُ شَخصًا واحِدًا، لأَنَّ والِدَةَ الاِبْنِ هِيَ نَفسُها حَماةُ زَوجَتِهِ. أَمَّا عِبارةُ "مُنقَسمين" فَتُشيرُ إِلى الانقِسامِ في أَعمَقِ العَلاقاتِ الأُسَرِيَّةِ، وَأَوثَقِها رَوابِطًا، وَأَيْضًا إِلى الانقِسامِ في باطِنِ الإِنسانِ نَفسِه. وفي الانقِسامُ فِي التَّقليدِ اليَهودِي، يَذكُرُ التَّلمودُ اليَهودِي أَنَّهُ في زَمَنِ مَجيءِ المَسيحِ (حَسَبَ انتِظارِ اليَهود) سَيَكونُ جيلٌ تَنتَشِرُ فيهِ الاِنقِلاباتُ داخِلَ العائِلَةِ الواحِدَةِ: الاِبنُ ضِدَّ أَبيهِ، وَالأُمُّ ضِدَّ اِبنتِها، وَالكَنَّةُ أَي زَوجَةُ الاِبْنِ ضِدَّ حَماَتِها. وَهٰذا ما أَكَّدَهُ السَّيِّدُ المَسيحُ أَنَّهُ لَدى مَجيئِهِ، سَيُؤمِنُ بِه بَعضُ أَفرادِ العائِلَةِ الواحِدَةِ، بَينَما يَرفُضُهُ آخَرون. إِنَّ وُجودَ المَسيحِ يُلزِمُنا بِأَخذِ مَوقِفٍ واضِحٍ وَحاسِمٍ: إِمَّا أَنْ نَكونَ مَعَهُ، وَإِمَّا أَنْ نَرفُضَهُ. فَداخِلَ العائِلَةِ الواحِدَةِ يُمكِنُ أَنْ يَكونَ بَعضُها مَعَ المَسيح، وَبَعضُها لا مُبالِيًا، وَبَعضُها مُعاديًا لَهُ بِوُضوح.إِنَّ حُضورَ المَسيحِ يَعني حُضورَ اللهِ في وَسَطِنا كَالنَّارِ، وَهٰذا الحُضورُ يَفرِضُ على كُلِّ إِنسانٍ أَنْ يُحَدِّدَ مَوقِفَهُ إِزاءَه.

 

53 يَنقَسِمُ النَّاسُ فيَكونُ الأَبُ على ابنِه والابنُ على أَبيه، والأُمُّ على بِنتِها والبِنتُ على أُمِّها، والحَماةُ على كَنَّتِها والكَنَّةُ على حَماتِها.

 

تُشيرُ عِبارةُ "سيَنقَسِمُ النَّاسُ" إِلى الانقِسامِ في العائِلاتِ حَسَبَ التَّقليدِ النَّبويّ، وَهُوَ عَلامَةٌ مِن عَلاماتِ الضِّيقِ، وَصُورَةٌ مِن صُوَرِ الشِّدَّةِ في آخِرِ الأَزمِنَةِ، كَما تَنَبَّأَ ميخا النَّبِيّ: "فإِنَّ الاِبنَ يَستَخِفُّ بِأَبيه، وَالاِبنَةُ تَقومُ على أُمِّها، وَالكَنَّةُ على حَماتِها، فيَكونُ أَعداءُ الإِنسانِ أَهلَ بَيتِه" (ميخا 7: 6). هناك انقِسامُ بَينَ الإِيمانِ وَالرَّوابِطِ الأُسَرِيَّة. فالعِلاقَةُ مَعَ يَسوعَ وَالإِيمانُ بِه تَقسِمُ — إِذا دَعَتِ الحاجَةُ — بَينَ الوالِدَيْنِ وَأَولادِهِم، كَما جاءَ في تَعليمِ المَسيح: "فيَكونُ أَعداءُ الإِنسانِ أَهلَ بَيتِه. مَن كانَ أَبوهُ أَو أُمُّهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنّي، فَلَيسَ أَهْلاً لي. وَمَن كانَ ابنُهُ أَوِ ابنَتُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنّي، فَلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 36-37). فَحينَ يَستَعِدُّ المُؤمِنُ أَنْ يَخسَرَ كُلَّ شَيءٍ مِن أَجلِ إِيمانهِ بِالمَسيح، عِندَئِذٍ يَربَحُ كُلَّ شَيءٍ. فلا بد من الخِيارِ الحاسِم. يَنبَغي على كُلِّ إِنسانٍ أَنْ يَختارَ — حتَّى بَينَ أَقرَبِ المُقَرَّبينَ إِلَيهِ وَأَعَزِّهِم مِن جانِب، وَبَينَ المَسيحِ مِن جانِبٍ آخَر — أَيُّهُما أَوْلى بِالمَحبَّةِ وَالإِتِّباع. ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ قُبريانُس قائلًا:"إِن أَحْبَبْنا الرَّبَّ مِن كُلِّ قُلوبِنا، يَجْدُرُ بِنا أَلَّا نُفَضِّلَ عَلَيهِ حتَّى الآباءَ وَالأَبناء".  

 

 

ثانياً: تَطبيق النَّص الإنْجيلي (لوقا 12: 49-53)

 

اِنطِلاقًا مِن تَحليلِ وِقائِعِ النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ (لوقا 12: 49-53)، نَستَنتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحوَرُ حَولَ النَّارِ وَالاِنقِسامِ؛ وَمِن هُنا نَتَساءَلُ: ما هُوَ مَفهُومُ النَّارِ وَالاِنقِسامِ الَّذَينِ جاءَ بِهِما يَسُوعُ إِلى الأَرضِ؟ وَما هُوَ مَوقِفُنا تُجاهَ يَسُوعَ الَّذِي يُلقِي النَّارَ وَالاِنقِسامَ؟

 

1. ما مَعنى النَّارِ الَّتي يَرغَبُ المَسيحُ أَن يُلقِيَها على الأَرضِ؟

 

يُعلِنُ الكِتابُ المُقَدَّسُ: "إِنَّ إِلَهَنا نارٌ آكِلَة" (العِبرانيِّين 12: 29؛ التَّثنِيَة 4: 24). وقدِ استَخدَمَ يَسُوعُ صُورَةَ النَّارِ لِيُعبِّرَ عَن الحَياةِ الإِلَهِيَّةِ الَّتي يُرِيدُ إِشعالَها في قُلُوبِ البَشَرِ. فَقَد قالَ: "جِئتُ لأُلقِيَ على الأَرضِ نارًا، وما أَشَدَّ رَغبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49).

 

تَرمُزُ النَّارُ في العَهدِ الجَدِيدِ إِلى الرُّوحِ القُدُسِ الَّذي يُطهِّرُ وَيُنقِّي وَيُجدِّدُ القُلوبَ، وَإِلى الدَّينُونَةِ الإِلَهِيَّةِ الَّتي تَكشِفُ الحَقَّ وَتُميِّزُ بَينَ النُّورِ وَالظَّلامِ. هِيَ نَارُ المَحبَّةِ الَّتي تُحرِّرُ، وَنَارُ الحَقيقَةِ الَّتي تَفضَحُ الكَذِبَ وَتَفرِزُ المُؤمِنَ الأَمينَ مِنَ المُتَراخِي.

 

ا) النَّارُ رَمْزُ الرُّوحِ القُدُسِ

 

يَرْمُزُ الماءُ إِلى الوِلادَةِ وَخِصْبِ الحَياةِ الَّتي يَهَبُها الرُّوحُ القُدُسُ، أَمَّا النَّارُ فَتَرْمُزُ إِلى قُدْرَةِ أَعْمالِ الرُّوحِ القُدُسِ المُحَوِّلَةِ. فَالنَّبِيُّ إِيلِيَّا، الَّذي أَنْزَلَ نارَ السَّماءِ على ذَبِيحَةِ جَبَلِ الكَرْمَلِ (1ملوك 18: 38)، هُوَ صُورَةٌ لِنارِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذي يُحَوِّلُ كُلَّ ما يَلْمَسُه. وَيُوحَنَّا المَعْمَدَانُ بَشَّرَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ مُعْلِنًا أَنَّهُ هُوَ "مَن سَيُعَمِّدُكُم في الرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ" (لوقا 3: 16). وَهٰذَا الرُّوحُ نَفْسُه هُوَ الَّذي قالَ عَنْهُ الرَّبُّ يَسُوعُ: "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ نارًا، وَما أَشَدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49).

 

إِنَّها النَّارُ الَّتي تُشِيرُ إِلى حُضُورِ اللهِ وَسَطَ البَشَرِ، مُعْلِنَةً وَجْهَهُ العَلِيَّ كَمِثْلِ النَّارِ المُلتَحِفَةِ بِالعُلَّيقَةِ المُشتَعِلَةِ في سِيناء (خُرُوج 3: 6)، نَارٌ تَحتَرِقُ في داخِلِ الإِنسانِ دُونَ أَنْ تُدمِّرَه، بَل لِتُغَيِّرَه ليَنْفِتح على الحَياة الحَقِيقيَّة.  فَيَسُوعُ لا يُرِيدُ إِشعَالَ نَارٍ لِإِهلَاكِ الأشرار، كَمَا يَظُنُّ كَثِيرُون؛ فَهِيَ لَيسَتِ النَّارَ الَّتي تَحدَّثَ عَنهَا يُوحَنَّا المَعمَدَانُ قائلًا: "بِيَدِهِ المِذْرَى، يُنَقِّي بَيدَرَه، فيَجمَعُ القَمحَ في أَهرائِهِ، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بِنارٍ لا تُطفَأ" (لوقا 3: 17)، ولا هِيَ النَّارُ الَّتي تَصَوَّرَهَا يَعقُوبُ وَيُوحَنَّا عِندَمَا رَفَضَت إِحدَى قُرَى السَّامِريِّينَ استِقبَالَ يَسُوعَ، فَقَالا: "يا رَبّ، أَتُرِيدُ أَن نَأمُرَ النَّارَ فَتَنزِلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَأكُلَهُم؟" (لوقا 9: 54).

 

وَيَقْصِدُ لوقا الإِنجِيلِيُّ بِذٰلِكَ أَنَّ يَسُوعَ يُلقِي النَّارَ المُقَدَّسَةَ في القُلُوبِ فَتُطَهِّرُها وَتُشْعِلُها بِالغِيرَةِ المُقَدَّسَةِ لِبِنَاءِ مَلَكُوتِ اللهِ على الأَرضِ. وَيُعَلِّقُ البابا فِرَنسيس قائلًا: "إِنَّ النَّارَ الَّتي سَيُلقيها يَسُوعُ على الأَرضِ هِيَ نَارٌ تَطلُبُ مِنَّا التَّغْيِيرَ: أَنْ نُغَيِّرَ أُسلُوبَنا في التَّفكِيرِ، وَأُسلُوبَنا في الإِصغاءِ".  إِنَّها نَارٌ تَحرِقُ مَشاعِرَ القَلبِ الباطِلَةَ، وَتُنَقِّي الرَّوابِطَ العائِلِيَّةَ لِتَكونَ مُرْضِيَةً لَدَى اللهِ.

 

وَقَد حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ على التَّلامِيذِ في صَباحِ العِنصَرَةِ، وَمَلأَهُم مِنهُ (أَعمالُ الرُّسُلِ 2: 3-4) بِهَيئَةِ "أَلسِنَةٍ كأَنَّها مِن نارٍ".  وَقَد حَفِظَ التَّقْلِيدُ المَسِيحِيُّ رَمزَ النَّارِ هٰذَا كأَفصَحِ تَعبِيرٍ عَن عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ، كَما جاءَ في رِسَائِلِ بولسَ الرَّسُولِ: "لا تُخمِدوا الرُّوح" (1تسالونيقِي 5: 19).

 

جاءَ السَّيِّدُ المَسِيحُ لِيُلقِيَ نَارَ الرُّوحِ القُدُسِ عَلَينا، وَيُرِيدُ هٰذِهِ النَّارَ أَنْ تَكونَ مُضطَرِمَةً في دَاخِلِنَا. وَبِفَضلِ ذَبِيحَةِ المَسِيحِ، أُضرِمَتِ النَّارُ في العالَمِ، وَأَوقَدَت قَلبَي تِلميذَي عِمَّاوُسَ وَصَدرَهُما (لوقا 24: 32). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إِيرونيموس على ذٰلِكَ قائلًا: "هٰذِهِ هِيَ النَّارُ الَّتي اضطَرَمَت في قُلُوبِ التَّلامِيذِ، فَأَلزَمَتهُم بالقَولِ: أَمَا كانَ قَلبُنا مُتَّقِدًا في صَدرِنا، حِينَ كانَ يُحَدِّثُنا في الطَّريقِ وَيَشرَحُ لَنا الكُتُبَ؟"

 

وَلٰكِنَّ كَثِيرِينَ سَيُقاوِمُونَ هٰذِهِ النَّارَ، فَيَنقَسِمُونَ على ذَوَاتِهِم، حَيثُ يَقبَلُونَ كَلامَ يَسُوعَ في أَمرٍ ما، وَيَرفُضُونَهُ في أَمرٍ آخَر، وَيَعمَلُونَ بِهِ في مَوقِفٍ ما، وَيُهمِلُونَهُ في مَوقِفٍ آخَر، بَل وَيَنقَسِمُونَ على بَعضِهِم البَعضِ؛ فَمِنهُم مَن يُؤَيِّدُ تَعلِيمَهُ، وَمِنهُم مَن يَرفُضُه.

 

إِنَّ السَّيِّدَ المَسِيحَ سَيُلقي نارَ الرُّوحِ القُدُسِ في القُلُوبِ، فَتُطَهِّرُها، وَتُشعِلُها بِالغِيرَةِ المُقَدَّسَةِ لِبِنَاءِ مَلَكُوتِ اللهِ على الأَرضِ. وَقَد قابَلَت هٰذِهِ النَّارَ نَارٌ أُخرَى مِن أَعداءِ الإِيمانِ تُحاوِلُ إِبادَتَها، وَهٰكَذَا اشتَعَلَتِ الأَرضُ نارًا؛ نَارٌ في قُلُوبِ المُؤمِنِينَ مِنَ اللهِ، وَنارٌ مِن حَولِهِم مِن أَعدائِهِ. وَالمَسِيحُ نَفسُهُ تَعرَّضَ لِهٰذِهِ النَّارِ المُعَادِيَةِ، وَلِذٰلِكَ قالَ بَعدَ هٰذِهِ الآيَةِ مُباشَرَةً مُشِيرًا إِلى آلامِهِ المُستَقبَلِيَّةِ: "وَعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمُودِيَّةً، وَما أَشَدَّ ضِيقِي حتَّى تَتِمّ!" (لوقا 12: 50).

 

لاَ انتِشارَ لِمَلَكُوتِ يَسُوعَ دُونَ تَحَمُّلِ الآلامِ وَقَبُولِ المُقاوَمَةِ، سَواءً مِنَ الذَّاتِ أَو مِنَ الآخَرِينَ. وَلٰكِنَّ يَسُوعَ لَن يَتَراجَعَ عَن رِسالَتِهِ مَهما طَفَحَتِ الآلامُ، بَل تَحَمَّلَها مِن أَجلِ خَلاصِنا، وَقَد عَبَّرَ عَن ذٰلِكَ بِقَولِهِ: "وَعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمُودِيَّةً، وَما أَشَدَّ ضِيقِي حتَّى تَتِمّ!"(لوقا 12: 50). وَبِحَسَبِ قَولِ أُورِيجانوس: "مَنِ اقتَرَبَ مِن يَسُوعَ اقتَرَبَ مِنَ النَّارِ، وَمَنِ ابتَعَدَ عَن يَسُوعَ ابتَعَدَ عَنِ المَلَكُوتِ".

 

كَانَ يَسُوعُ يَرغَبُ أَنْ يَكونَ مَغمُورًا بِمِيَاهِ المَوتِ. وَمِن هُنا يُوصِينَا الرَّاهِبُ إِسحَاقُ السُّرْيَانِيُّ قائلًا لِكُلِّ مَسِيحِيٍّ: "جاهِدْ، وَابذُلْ جُهدَكَ لِلاِقتِداءِ بِتَواضُعِ الرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ، بُغيَةَ أَنْ تَشتَعِلَ أَكثَرَ فَأَكثَرَ النَّارُ الَّتي أَلقاها فيكَ، هٰذِهِ النَّارُ الَّتي بِها تَذُوبُ كُلُّ نَزَواتِ عالَمِنا هٰذا الَّتي تُدمِّرُ الإِنسانَ الجَدِيدَ، وَتُدَنِّسُ هَيَاكِلَ الرَّبِّ القُدُّوسِ وَالقَوِيِّ. إِنَّنِي أُؤكِّدُ مَعَ القِدِّيسِ بُولُسَ إِنَّنا "نَحنُ هَيكَلُ اللَّهِ الحَيّ" (2قورِنثُس 6: 16). فَلنُطَهِّرْ إِذًا هَيكلَهُ هٰذا، "كَمَا أَنَّهُ هُوَ طَاهِرٌ" (1يوحَنَّا 3: 3)".

 

يُعَلِّقُ البابا فِرَنسيس قائلًا: "بِالتَّشَبُّهِ بِالمُعَلِّمِ الإِلهِيِّ، أَنتُم مَدعُوُّونَ أَيضًا لِتَحمِلوا النَّارَ الصَّالِحَةَ وَالمُقَدَّسَةَ إِلى العالَمِ، نَارَ المَحبَّةِ الَّتي تُطَهِّرُ القُلُوبَ وَالَّتي اِنْبَثَقَت مِن صَليبِ المَسِيحِ. إِنَّها نَارُ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذي نَزَلَ بِقُوَّةٍ في العِنصَرَةِ. نَارُ مَن يُفصِلُ الذَّهَبَ عَنِ المَعادِنِ الأُخرَى، أَي مَن يُساعِدُ على تَميِيزِ ما يَصلُحُ لِلأَبدِ وَما لا قِيمَةَ لَهُ" (عِظَةُ البَابا 10/2/2018).

 

ب) النَّارُ رَمْزُ الدِّينُونَةِ

 

لا تَرمُزُ النَّارُ في العَهدِ الجَدِيدِ إِلى الرُّوحِ القُدُسِ فَحَسْب، بَل تَرمُزُ أَيْضًا إِلى الدِّينُونَةِ وَالنَّقَاءِ وَالحُكمِ. يَكفِي أَنْ نَتَذَكَّرَ قَولَ يَعقُوبَ وَيُوحَنَّا لِيَسُوعَ: "يَا رَبّ، أَتُرِيدُ أَن نَأمُرَ النَّارَ فَتَنزِلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَأكُلَهُم؟" (لوقا 9: 54)، وَهٰذَا الأَمرُ يُذَكِّرُنَا بِمَصِيرِ مَدينَتَي سَدُومَ وَعَمُورَةَ (التَّكوين 19: 24). وَمَعَ أَنَّ يَسُوعَ رَفَضَ أَنْ يَقُومَ بِدَورِ الدَّيَّانِ في مَعْنَاهُ البَشَرِيِّ الضِّيقِ، إِلَّا أَنَّهُ أَبْقَى سَامِعِيهِ فِي تَرَقُّبِ نَارِ الدِّينُونَةِ. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَن نَارِ جَهَنَّمَ (متى 5: 22)، وَعَنِ النَّارِ الَّتي تُحرِقُ الزُّؤانَ: "كَمَا أَنَّ الزُّؤانَ يُجمَعُ وَيُحرَقُ فِي النَّارِ، َكَذٰلِكَ يَكُونُ عِندَ نِهَايَةِ العَالَمِ" (متى 13: 40)، وَعَنِ النَّارِ الَّتي تُحرِقُ الأَغصَانَ: "مَن لا يَثبُتْ فِيَّ يُلقَ كالغُصنِ إِلى الخَارِجِ فَيَيْبَسْ، فَيَجمَعُونَهُ وَيُلقُونَهُ فِي النَّارِ فَيَحتَرِق" (يوحَنَّا 15: 6)، وَهِيَ نَارٌ لا تُطفَأُ (مرقس 9: 43-44)، وَأَتُّونُ النَّارِ (متى 13: 42).

 

وَلَيسَت تِلكَ الرُّمُوزُ إِلَّا صَدًى لِمَا جَاءَ فِي العَهدِ القَدِيمِ: "وَلٰكِن يَومَ خَرَجَ لُوطٌ مِن سَدُومَ، أَمطَرَ اللهُ نَارًا وَكِبْرِيتًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَهلَكَهُم أَجمَعِينَ" (لوقا 17: 29). وَتُمثِّلُ النَّارُ أَيْضًا دِينُونَةَ الآخِرَةِ (أَشَعْيَا 66: 15-16)، فَهِيَ تَمتَحِنُ الذَّهَبَ (زَكَرِيَّا 13: 9)، وَتُصهَرُ المَعَادِنَ (مَلَاخِي 3: 2)، وَتَضطَرِمُ كالتَّنُّورِ (مَلَاخِي 4: 1). وَقَد كَانَتِ النَّارُ الإِلَهِيَّةُ تَنزِلُ إِلى البَشَرِ إِمَّا لِلاِنتِقَامِ لِلقَدَاسَةِ الإِلَهِيَّةِ، كَمَا حَدَثَ فِي إِبَادَةِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ (تَكوين 19: 24)، وَإِمَّا لِلتَّطهِيرِ (عَامُوس 4: 11؛ أَشَعْيَا 6: 6)، وَإِمَّا لإِنزَالِ العِقَابِ (عَامُوس 1: 4).

 

اِستَخدَمَ بُولُسُ الرَّسُولُ النَّارَ فِي وَصفِهِ لآخِرِ الأَزمِنَةِ: "يَومَ يَأتِي الرَّبُّ يَسُوعُ مِنَ السَّمَاءِ تُوَاكِبُهُ مَلائِكَةُ قُدرَتِهِ فِي لَهَبِ نَارٍ، وَيَنتَقِمُ مِنَ الَّذينَ لا يَعرِفُونَ اللهَ وَلا يُطيعُونَ بِشَارَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ" (2تسالُونِيكِي 1: 7-8). كَمَا تُظهِرُ الرِّسَالَةُ إِلى العِبرَانِيِّينَ مَشهَدَ النَّارِ المُرعِبَةِ الَّتي سَتَلتَهِمُ العُصَاةَ: "اِنتِظَارٌ رَهِيبٌ لِلدِّينُونَةِ وَنَارٌ مُستَعِرَةٌ تَلتَهِمُ العُصَاةَ" (عِبرَانِيِّين 10: 27).

 

اسْتَخدَمَ بُطرُسُ الرَّسُولُ النَّارَ فِي تَطهِيرِ الإِيمَانِ: "يُمَتَحَنُ بِهَا إِيمَانُكُم، وَهُوَ أَثمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الفَانِي الَّذي مَعَ ذٰلِكَ يُمتَحَنُ بِالنَّارِ، فَيَؤولُ إِلى الحَمدِ وَالمَجدِ وَالتَّكرِيمِ عِندَ ظُهُورِ يَسُوعَ المَسِيحِ" (1بُطرُس 1: 7)، كَمَا يَستَخدِمُهَا فِي تَجَارِبِ الِاضطِهَادِ: "لا تَستَغرِبُوا الحَرِيقَ الَّذي أَصَابَكُم لِامتِحَانِكُم، كَأَنَّهُ أَمرٌ غَرِيبٌ حَلَّ بِكُم" (1بُطرُس 4: 12). وَتَمحَصُ النَّارُ العَمَلَ الرَّسُولِيَّ كَمَا يَصرِّحُ بُولُسُ: "وَمَنِ احتَرَقَ عَمَلُهُ كَانَ مِنَ الخَاسِرِينَ، أَمَّا هُوَ فَسَيَخلُصُ، وَلٰكِن كَمَن يَخلُصُ مِن خِلالِ النَّارِ" (1قورنتس 3: 15).

 

إِنَّ النّارَ الَّتي جاءَ يَسوعُ لِيُلقيَها عَلَى الأَرضِ هِيَ دينونَةٌ إلهيَّةٌ تُمَحِّصُ البَشَريَّةَ وَتَكشِفُ حَقيقتَها، دينونَةٌ مَبنيَّةٌ لا عَلَى شَريعَةِ الانتِقامِ أَو الغَضَبِ، بَل عَلَى شَريعَةِ المَحبَّةِ الَّتي تُحَرِّرُ مَن يَقبَلُها وتُحَرِّقُ الخَطيئةَ في القُلوبِ.  فَالمَسِيحُ لَم تَكُن لَدَيهِ سِوَى الرَّغْبَةِ فِي أَنْ يُلهِبَ قَلبَ العَالَمِ بِتِلكَ النَّارِ الَّتي تُطَهِّرُ وَتُضِيءُ وَتَمنَحُ الدِّفءَ. وَلِهٰذَا قَالَ بِحُزنٍ عَمِيقٍ: "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئتُ لأُلقِيَ سَلامًا، لا، بَل سَيفَ الِانقِسَامِ" (متّى 10: 34)، لِكُلِّ إِنسانٍ فاسِدٍ يَرفُضُهُ، وَلِكُلِّ مَن يَعيِشُ فِي الظَّلامِ، وَلِكُلِّ مَن قَلبُهُ بَارِدٌ أَو فَاتِر.

 

2) مَعْنَى الِانقِسَامِ الَّذِي جَاءَ السَّيِّدُ المَسِيحُ لِيُحِلَّهُ فِي الأَرضِ

 

رَنَّمَ المَلائِكَةُ في مَولِدِ المَسِيحِ نَشِيدَ السَّلامِ في الأَرضِ (لوقا 2: 14). وَرَدَّدَ تَلامِيذُهُ رِسالَةَ السَّلامِ وَهُم يُواكِبُونَ المَسِيحَ عِندَ دُخُولِهِ مُنتَصِرًا إِلى أُورَشَلِيم (لوقا 19: 38)، وَبِتَحيَّتِهِ "اِذهَبي بِسَلام» أَعادَ يَسُوعُ الصِّحَّةَ إِلى المَرأَةِ نَازِفَةِ الدَّمِ (لوقا 8: 48)، وَغَفَرَ خَطايَا الخاطِئَةِ النَّادِمَةِ (لوقا 7: 50)، مُؤَكِّدًا اِنْتِصَارَهُ على قُوَّةِ المَرَضِ وَالخَطِيئَةِ. وَنَشَرَ التَّلامِيذُ إِلى أَقصَى العَالَمِ السَّلامَ المَوعُودَ بِهِ: «تُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وَغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم" (لوقا 24: 47)، لأَنَّ اللهَ قَد أَعلَنَ السَّلامَ بِيَسُوعَ المَسِيحِ إِذ جَعَلَهُ "رَبًّا لِلعَالَمِينَ "وَأَولاهُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ وَالأَرضِ (متى 28: 18).

 

هُنا يَأتِي تَصْرِيحُ يَسُوعَ وَكَأَنَّهُ يُنَاقِضُ رِسالَةَ السَّلامِ: " أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرضِ؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسَام" (لوقا 12: 51). جَاءَ هٰذَا التَّصْرِيحُ لِيَقلِبَ العَالَمَ رَأْسًا على عَقِبٍ، فَهُوَ يُثِيرُ الِانقِسَامَ حَتَّى دَاخِلَ الأُسَرِ (لوقا 12: 52-53)، بَيْنَ مَن هُوَ مَعَهُ وَمَن هُوَ عَلَيهِ. قَد أرْدف يسوع قائلًا: "سَيُسلِمُ الأَخُ أَخاهُ إِلى المَوتِ، وَالأَبُ ابنَهُ، وَيَثورُ الأَبناءُ على والِدِيهِم وَيُميتُونَهُم، وَيُبغِضُكُم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اِسمي. وَالَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهايَةِ فذاكَ الَّذي يَخلُص. وَإِذا طارَدوكُم في مَدينَةٍ فَاَهرُبوا إِلى غَيرِها. الحَقَّ أَقولُ لَكُم: لَن تُنهُوا التَّجوالَ في مُدُنِ إِسرائيلَ حتَّى يَأتِيَ ابنُ الإِنسانِ» (متى 10: 16-23). وَهُوَ الَّذي قِيلَ عَنهُ: "هٰذا جُعِلَ آيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفضِ" (لوقا 2: 34).

 

وَكَمَا حَدَثَ في العَهدِ القَدِيمِ، حَيْثُ تَحَمَّلَ إِرميا النَّبِيُّ الأَلَمَ وَالِاضطِهَادَ بِسَبَبِ أَمانَتِهِ لِلهِ وَكَثمَرَةٍ لِابتِعادِ الإِنسانِ عَن اللهِ (إرميا 38: 4-10)، كَذٰلِكَ فَإِنَّ مَا يَحدُثُ مِنِ الِانقِسَامِ وَالِاضطِهَادِ في العَهدِ الجَدِيدِ هُوَ بِسَبَبِ إِيمَانِ البَعضِ بِالمَسِيحِ وَرَفضِ البَعضِ الآخَرِ فِي البَيتِ أَوِ المُجتَمَعِ الوَاحِدِ. فَالسَّيفُ هُنا لَيسَ سَيفَ الحَربِ، بَل سَيفَ التَّميِيزِ بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ. وَلَم يَكُنِ الِانقِسَامُ صَادِرًا مِنَ المَسِيحِ، بَل مِن رَفضِ الإِنسانِ لِلإِيمَانِ الَّذي نَادَى بِهِ. كَلِمَةُ يَسُوعَ كَالسَّيفِ، تَشقُّ الإِنسانَ في داخِلِه، فَتُميِّزُ بَينَ مَا هُوَ لِلهِ وَمَا هُوَ لِلعالَمِ، وتُحدِثُ انقِسامًا خارِجِيًّا مَعَ مَن يَرفُضونَ الحَقَّ، حتّى يَتَحقَّقَ السَّلامُ المَسيحانِيُّ في حياتِه.

 

وَهٰكَذَا أَنذَرَ السَّيِّدُ المَسِيحُ تَلامِيذَهُ أَنَّ الِانقِسَامَ لا بُدَّ أَنْ يَحدُثَ. وَمِن أَجلِ المَسِيحِ تَقُومُ جَماعَةٌ على جَماعَةٍ، وَالأُسرَةُ على الأُسرَةِ، وَالإِنسانُ على أَخِيهِ الإِنسانِ، وَالإِنسانُ على ذَاتِهِ. وَقَد أَعلَنَ: " مَن لَم يَكُنْ مَعي كانَ عَلَيَّ" (لوقا 11: 23).

 

وَالتَّلامِيذُ في حَملِهِم رِسالَةَ المَسِيحِ، لَم يَدعُهُم إِلى الرَّفَاهِيَةِ، بَل إِلى مُواجَهَةِ الصِّدامِ مَعَ الِانقِسَامِ، لِذٰلِكَ قَالَ لَهُم: "تُعانُونَ الشِّدَّةَ في العالَمِ" (يوحَنَّا 16: 33)، وَ"تَأتِي ساعَةٌ يَظُنُّ فيها كُلُّ مَن يَقتُلُكُم أَنَّهُ يُؤَدِّي للهِ عِبادةً" (يوحَنَّا 16: 2)، وَ"إِذا أَبغَضَكُمُ العالَمُ فَاعلَموا أَنَّهُ أَبغَضَني قَبلَ أَن يُبغِضَكُم" (يوحَنَّا 15: 18). فَسَيفُ الِانقِسَامِ قَد وُجِّهَ ضِدَّ المَسِيحِيَّةِ، لَم يَصدُرْ مِنها بَل عَلَيها.

 

في الحَقِيقَةِ، لَم يَكتَفِ يَسُوعُ بِتَوجِيهِ التَّهديدَاتِ الَّتي نَطَقَ بِها الأَنبِياءُ ضِدَّ كُلِّ أَمانٍ خادِعٍ (لوقا 17: 26-36)، بَل إِنَّهُ يُفَرِّقُ بَينَ أَعضَاءِ الأُسرَةِ الوَاحِدَةِ بَينَ المُؤمِنِ وَغَيرِ المُؤمِنِ. فَإِنَّ يَسُوعَ لَم يُعَكِّرْ هٰذَا السَّلامَ إِلَّا إِذَا كَانَ سَلامًا وَهمِيًّا أَو طَبيعِيًّا مَحضًا؛ لأَنَّهُ أَتَى "لِيَجمَعَ المُتَفَرِّقِينَ: "أَنَّ يَسُوعَ سَيَموتُ عَنِ الأُمَّةِ، وَلا عَنِ الأُمَّةِ فَقَط، بَل لِيَجمَعَ أَيضًا شَملَ أَبنَاءِ اللهِ المُشَتَّتِينَ" (يوحَنَّا 11: 52). وَهُوَ أَتَى لِيَقهَرَ البُغضَ، وَلِيُحَطِّمَ الحُدُودَ الَّتي تُفَرِّقُ، وَلِيُقِيمَ السَّلامَ الحَقِيقِيَّ بَينَ النَّاسِ، بِأَنْ يَجعَلَهُم أَبنَاءَ آبٍ وَاحِدٍ، وَأَعضَاءَ جَسَدٍ وَاحِدٍ، يُحْيِيهِم رُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا جَاءَ في تَعلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: «فَإِنَّهُ سَلامُنا، فَقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعَتَينِ جَماعَةً واحِدَةً، وَهَدَمَ في جَسَدِهِ الحَاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهُما، أَيِ العَداوَةَ" (أَفسُس 2: 14).

 

وَعَلى حَدِّ قَولِ أَحدِ شُعَراءِ المَسِيحِيِّينَ: "لَم يَأتِ المَسِيحُ لِيُلاشِيَ الحَربَ، بَل لِيُضِيفَ سَلامًا آخَر، أَلَا وَهُوَ السَّلامُ الفِصحِيُّ الَّذي يَعقُبُ الِانتصارَ النِّهائِيَّ".  وَقَد عَبَّرَ عَنهُ يَسُوعُ بَعدَ قِيَامَتِهِ بِقَولِهِ لِلرُّسُلِ: " بَينَما هُما يَتَكَلَّمانِ، إِذا بِه يَقُومُ بَينَهُم وَيَقولُ لَهُم: السَّلامُ عَلَيكُم"(لوقا 24: 36).

 

يَرَى يُوحَنَّا الإِنجِيلِيُّ سَلامَ يَسُوعَ فِي حُضُورِهِ بَينَ تَلامِيذِهِ: " السَّلامَ أَستَودِعُكُم، وَسَلامي أُعطِيكُم. لا أُعطِي أَنا كَما يُعطِي العالَمُ" (يوحَنَّا 14: 27). وَلَم يَعد هٰذَا السَّلامُ مُرتَبِطًا بِحُضُورِهِ الجَسَدِيِّ على الأَرضِ، بَل بِاِنتِصارِهِ على العالَمِ (يوحَنَّا 20: 19-23). فَسَلامُ المَسِيحِ هُوَ ثَمَرَةُ ذَبيحَتِهِ: "قُلتُ لَكُم هذِهِ الأَشيَاءَ لِيَكُونَ لَكُم بِيَ السَّلامُ. تُعانُونَ الشِّدَّةَ في العالَمِ، وَلٰكِن ثِقُوا: إِنِّي قَد غَلَبتُ العالَمَ" (يوحَنَّا 16: 33). وَسَلامُ المَسِيحِ هُوَ ثَمَرَةُ الرُّوحِ (غَلاطِيَّة 5: 22). فَكُلُّ مُؤمِنٍ بِيَسُوعَ المَسِيحِ يَحيا بِهِ في سَلامٍ مَعَ اللهِ: "فَكَمَا أَنَّهُ بِمَعصِيَةِ إِنسانٍ واحِدٍ جُعِلَت جَماعَةُ النَّاسِ خاطِئَةً، َكَذٰلِكَ بِطاعَةِ واحِدٍ تُجعَلُ جَماعَةُ النَّاسِ بارَّةً" (رومَا 5: 19). وَلَا يُمكِنُ لِلقَاءٍ حَقِيقِيٍّ مَعَ الرَّبِّ إِلَّا أَنْ يُغَيِّرَنا وَيَمنَحَنا سَلامَهُ.

 

3) مَوقِفُنا تُجاهَ يَسُوعَ الَّذي يُلقِي النَّارَ وَالِانقِسَامَ

 

جَاءَ يَسُوعُ لِيُلْقِيَ النَّارَ وَلِيُحِلَّ الِانقِسَامَ فِي الأَرْضِ. وَهُنَا تَرتَبِطُ النَّارُ بِالدِّينُونَةِ الَّتي تَمرُّ عَلَى أَعمَالِنَا فَتُنقِّيها كَمَا تُنقَّى المَعَادِنُ: «سَيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ وَاحِد، فَيَومُ اللهِ سَيُعلِنُهُ، لأَنَّهُ فِي النَّارِ سَيُكشَفُ ذلِكَ اليَوم، وَهذِهِ النَّارُ سَتَمتَحِنُ قِيمَةَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِد" (1 قورنتس 3: 13).

 

لَمْ يَكُنْ يَسُوعُ فِي قَولِهِ هٰذَا يُشَجِّعُ عِصْيَانَ الوَالِدَيْنِ أَوِ الصِّرَاعَ الأُسَرِيَّ، بَل أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ وُجُودَهُ يَسْتَلْزِمُ قَرَارًا حَاسِمًا. فَإِذَا كَانَ البَعْضُ سَيَتْبَعُونَهُ وَالبَعْضُ الآخَرُ سَيَرْفُضُونَهُ، فَلا بُدَّ أَنْ يَنْشَبَ صِرَاعٌ. وَقَدْ يُفَرِّقُ الِالْتِزَامُ المَسِيحِيُّ بَيْنَ الأَصْدِقَاءِ وَالأَحِبَّاءِ، لأَنَّ قِيَمَنَا وَأَهْدَافَنَا الإِيمَانِيَّةَ قَدْ تَفْصِلُنَا عَنِ الآخَرِينَ، لِكَيْ نَحْمِلَ صَلِيبَنَا وَنَتْبَعَهُ، جَاعِلِينَ اللهَ الأَوْلَوِيَّةَ المُطْلَقَةَ فِي حَيَاتِنَا.

 

لا يُمكِنُ قَبُولُ المَسِيحِ إِنْ لَمْ نَرْضَ بِأَعْمَالِهِ، وَهِيَ أَعْمَالُ النَّارِ الَّتي تُنَقِّي وَتُحْرِقُ جَمِيعَ مَشَاعِرِ التَّعَلُّقِ الأَرْضِيَّةِ، وَجَمِيعَ الكُنُوزِ البَاطِلَةِ. يُرِيدُ يَسُوعُ أَنْ يَكُونَ اللهُ فِي المَرْتَبَةِ الأُولَى، وَبَعْدَ ذٰلِكَ تَأْتِي مَحَبَّةُ الوَالِدَيْنِ، كَمَا قَالَ: "مَن كانَ أَبوهُ أَو أُمُّهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنِّي، فَلَيسَ أَهْلًا لِي" (متى 10: 37). فَاللهُ لا يَمْنَعُنَا عَنْ مَحَبَّةِ وَالِدَيْنَا، وَلٰكِنْ عَنْ تَفْضِيلِهِمَا عَلَى اللهِ، فَالعَطِيَّةُ مُبَارَكَةٌ، وَلٰكِنَّ الوَاهِبَ أَعْظَمُ مِنَ العَطِيَّةِ.

 

نَسْتَنتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّهُ حِينَ يَأْخُذُ أَحَدُ أَفْرَادِ العَائِلَةِ مَوقِفًا تِجَاهَ يَسُوعَ فِي الإِيمَانِ، فَهُوَ مَدْعُوٌّ لِاتِّبَاعِهِ فِي الضِّيقِ وَالِاضطِهَادِ، وَهٰذَا الِاضطِهَادُ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ يَسُوعُ الِانقِسَامَ. إِذْ يَنْقَسِمُ غَيْرُ المُؤمِنِينَ فِي البَيْتِ عَلَى الَّذي قَبِلَ الإِيمَانَ حَتَّى قَدْ يَبْلُغَ الأَمْرُ بِهِم إِلَى قَتْلِهِ، لأَنَّهُ قَبِلَ المَسِيحَ. فَأَتْبَاعُ المَسِيحِ يُعَانُونَ الضِّيقَاتِ كَمَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَا: «هؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الشِّدَّةِ الكُبْرَى، وَقَدْ غَسَلُوا حُلَلَهُمْ وَبَيَّضُوهَا بِدَمِ الحَمَلِ" (رؤيا 7: 14).

 

وَإِذَا كَانَ الِاضطِهَادُ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ السَّلامِ الخَارِجِيِّ، فَإِنَّ المَسِيحَ يَمْلَأُ قُلُوبَ المُؤمِنِينَ بِسَلامِهِ الدَّاخِلِيِّ: «قُلتُ لَكُم هذِهِ الأَشْيَاءَ لِيَكُونَ لَكُم بِيَ السَّلامُ. تُعَانُونَ الشِّدَّةَ فِي العَالَمِ، وَلٰكِنْ ثِقُوا: إِنِّي قَدْ غَلَبْتُ العَالَمَ» (يوحنا 16: 33).

 

مِنْ هٰذَا المُنْطَلَقِ، يَتَطَلَّبُ الإِيمَانُ أَحْيَانًا الِانقِسَامَ، حِينَ يَخْتَارُ البَعْضُ إِتِّبَاعَ المَسِيحِ وَيَرْفُضُ الآخَرُونَ ذٰلِكَ. فَلَيْسَ هُنَاكَ حَلٌّ وَسَطٌ فِي المَوقِفِ تُجَاهَ المَسِيحِ: «إِمَّا أَنْ نَكُونَ مَعَ المَسِيحِ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ عَلَيْهِ» (لوقا 11: 23). فَهَلْ نَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ نَجْعَلَ أَنْظَارَنَا مُثَبَّتَةً عَلَى «مُبْدِئِ إِيمَانِنَا وَمُتَمِّمِهِ، يَسُوعَ الَّذِي، فِي سَبِيلِ الفَرَحِ المَعْرُوضِ عَلَيْهِ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَخِفًّا بِالْعَارِ» (عبرانيين 12: 2)؟

 

حَيَاةُ المَسِيحِيِّ هِيَ صُورَةٌ مِنْ حَيَاةِ المَسِيحِ، وَلِذٰلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاوِمَ مَكَايِدَ الشِّرِّيرِ وَالخَطِيئَةَ حَتَّى بَذْلِ الدَّمِ: «فَإِنَّكُمْ لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى بَذْلِ الدَّمِ فِي مُجَاهَدَةِ الخَطِيئَةِ» (عبرانيين 12: 4). وَلْيَكُنْ كُلُّ مَسِيحِيٍّ، عَلَى مِثَالِ مُعَلِّمِهِ، «آيَةً مُعَرَّضَةً لِلرَّفْضِ» (لوقا 2: 34)، وَلَا يَتَرَدَّدْ فِي أَنْ يَكُونَ نَارًا تُضِيءُ وَتُنَقِّي، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ النَّتَائِجِ.

 

وَقَدْ وَجَّهَ البَابَا فِرَنسيس لِلشَّبَابِ فِي القُدَّاسِ الخِتَامِيِّ لِلأَيَّامِ العَالَمِيَّةِ لِلشَّبِيبَةِ هٰذِهِ الكَلِمَاتِ: «اِذْهَبُوا بِدُونِ خَوْفٍ لِلْخِدْمَةِ، وَأَلْقُوا نَارًا عَلَى الأَرْضِ، تَكُونُ قَادِرَةً عَلَى إِشْعَالِ مَصَابِيحَ أُخْرَى". وَفِي هٰذَا السِّيَاقِ نَتَذَكَّرُ حِوَارَ إِرْمِيَا النَّبِيِّ مَعَ الرَّبِّ: «لا تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ، فَإِنَّكَ لِكُلِّ مَا أُرْسِلُكَ لَهُ تَذْهَبُ، وَكُلَّ مَا آمُرُكَ بِهِ تَقُولُ. لَا تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِم، فَإِنِّي مَعَكَ لِأُنْقِذَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ… قَدْ جَعَلْتُ كَلَامِي فِي فَمِكَ… أَقَمْتُكَ اليَومَ عَلَى الأُمَمِ وَعَلَى المَمَالِكِ لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ" (إرميا 1: 7-10). فَمَنْ يَقْبَلْ رِسَالَةَ الرَّبِّ اليَومَ، عَلَيْهِ أَنْ يَصْمُدَ وَيَقْبَلَ تَطْهِيرَ اللهِ فِي حَيَاتِهِ الخَاصَّةِ، لِيَكُونَ شَاهِدًا حَيًّا لِنَارِ المَحَبَّةِ وَالحَقِّ فِي العَالَمِ. إنَّنا مَدعُوّونَ ألّا نَخشى الانقِساماتِ الَّتي تُثيرُها حَتمًا دينونَةُ كَلِمَةِ الله، إذ تُصبِحُ هذِه الانقِساماتُ عَمَلِيّةً تَطهِيريَّةً تُهَيِّئُنا لِتَكونَ حَياتُنا مُطابِقَةً لِكَلِمَتِهِ.

 

 

الخلاصة


إِنَّ يَسوعَ الَّذي نَراهُ في هٰذا الإِنجيلِ يَختَلِفُ كَثيرًا عَن يَسوعَ المُسالِمِ الَّذي يُصَوِّرُهُ البَعضُ. فَالمَسيحُ لَم يَكُن باحِثًا عَنِ المُسالَمَةِ وَالتَّرْضِيَةِ بِأَيِّ ثَمَنٍ، بَل قالَ: "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشَدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49). والمُرادُ مِن هٰذا أَنَّهُ سَيُلقي النَّارَ المُقَدَّسَةَ في القُلوبِ لِتُطَهِّرَها، وَتُشعِلَها بِالغِيرَةِ المُقَدَّسَةِ لِبِناءِ مَلكوتِ اللهِ على الأَرضِ. فَكَمَا أَنَّ النَّارَ تُحَوِّلُ كُلَّ ما تَلمِسُهُ، كَذلِكَ الرُّوحُ القُدُسُ يُحَوِّلُ إِلى حَياةٍ إِلٰهِيَّةٍ كُلَّ ما يَلمِسُهُ.

 

ولٰكِن، قابَلَت هٰذِهِ النَّارَ الإِلٰهِيَّةَ نارُ العالَمِ المُعاديةُ مِن أَعداءِ الإِيمانِ الَّذينَ حاوَلوا إِبادَتَهُ. ولِذٰلكَ قالَ بَعدَ هٰذِهِ الآيَةِ مُباشَرَةً، مُشيرًا إِلى آلامِهِ المُستَقبَلِيَّةِ: "وعَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ!" (لوقا 12: 50)، وهٰذِهِ المَعمُودِيَّةُ هِيَ مَعمُودِيَّةُ آلامِهِ وَمَوتِهِ. فَالمَسيحُ لَن يَتَراجَعَ عَنِ الشَّهادَةِ لِنَفسِهِ مَهما صَبَغَتْهُ الآلامُ، بَل سَيَحتَمِلُها حَتّى يُكَمِّلَ فِداءَنا.

 

أَمَّا قَولُهُ: "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُعطيَ سَلامًا على الأَرضِ؟ كَلاَّ، أَقولُ لَكُم، بَلِ انقِسامًا" (لوقا 12: 51)، فَمع أَنَّ المَسيحَ هُوَ سَلامُنا (أَفسس 2: 14-15)، فَإِنَّ الانقِسامَ الَّذي جاءَ بِهِ يَصدُرُ عَنِ الإِيمانِ بِهِ، لِأَنَّ هٰذا الإِيمانَ يَتَطَلَّبُ أَن يَزهَدَ الإِنسانُ بِذَاتِهِ وَبِشَهَواتِ هٰذا العالَمِ وَشَهوَةِ الجَسَدِ وَشَهوَةِ العَينِ وَكِبرياءِ الغِنى (1 يوحنا 2: 16)، كَما يَتَطَلَّبُ أَيضًا أَن يَنقَطِعَ الإِنسانُ عَن أَخيهِ الإِنسانِ أو عَن عائِلَتِهِ إِذا صاروا عائِقًا لإِيمانهِ، وَهٰذا ما أَعلَنَهُ المَسيحُ: "مَن كانَ أَبوهُ أو أُمُّهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنّي، فَلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُهُ أَوِ ابنَتُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنّي، فَلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 37).

 

وبِعِبارَةٍ أُخرى، فَلَيسَ الانقِسامُ صادِرًا عَن يَسوعَ المَسيحِ، بَل عَنِ الإِنسانِ الَّذي يَرفُضُ الإِيمانَ بِهِ. فَبعدَ أَن جاءَ المَسيحُ، اِنقَسَمَ النّاسُ إِلى فِئتَينِ: الَّذينَ قَبِلوهُ مَسيحًا وَرَبًّا، وَالَّذينَ رَفَضوهُ. لِذٰلكَ يَجِبُ أَن نَلتَهِبَ بِنارِ مَحبَّةِ اللهِ لِنَكونَ مِن تَلاميذِ المَسيحِ الصّامِدينَ أَمامَ رَفضِ كَلِمَةِ اللهِ.

 

الدُّعاء


أَيُّها الآبُ السَّماوِيُّ، نَطلُبُ إِلَيكَ بِاسمِ يَسوعَ المَسيحِ الَّذي اشتاقَ إِلى تَغييرِ العالَمِ، أَن تَجعَلَ نارَ مَحبَّتِكَ تَشتَعِلُ في قُلوبِنا، لِنُكَرِّسَ ذَواتِنا لَكَ بِالكامِلِ وَفَوقَ كُلِّ شَيءٍ، وَنُشعِلَ العالَمَ مِن حَولِنا بِشُعلَةِ مَحبَّتِكَ. آمين.