موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تقع كنيسة مار إلياس قبالة حيّ الدويلعة جنوبي دمشق، وفيه غالبية مسيحية وخليط متعدّد من الطوائف كافّة. الحيّ شعبي بامتياز، بيوته من طابقين أو ثلاثة في معظمها، وفيه كثافة سكّانية كبيرة، يعمل معظم قاطنيه في القطاع الحكومي، وقدم سكّانه المسيحيون من مدينتَي درعا والسويداء قبل عقود طويلة، وإلى جواره حيّ الطبالة، بمواصفات مشابهة. فجّر الإرهابي (تفيد تحقيقات أولية بأنه ينتمي إلى تنظيم داعش) نفسه داخل الكنسية، بعد نفاد طلقات بندقيته، فكانت الحصيلة كارثيةً؛ 22 شهيداً وأكثر من 60 جريحاً، وضرر كبير في البناء والأيقونات والأثاث.
كانت العلاقات بين الطوائف في هذا الحي في أحسن أحوالها، تندُر فيه المشكلات الطائفية، وقد طرد شبابٌ من السُّنة قبل شهر سيّارةً كانت تدعو أهالي الحي إلى الإسلام، توقّفت أمام كنسية مار إلياس تحديداً، وهذا ينسجم مع تقاليد راسخة من التعايش القديم هنا، وكان ذلك رسالةً أهلية بالغة الأهمية، أن التغيّر في الحكم في سورية لا يغيّر من العلاقات بين الطوائف، وأن المسيحيين والسُّنة أبناء هذه البلاد، بغض النظر عن مفهومَي الأقلية والأكثرية، فيمكن للسُّنة أن يكونوا حماةً للمسيحيين وسواهم.
شعر السوريون المسيحيون، كما باقي الأقلّيات، بقلقٍ كثيرٍ على مستقبلهم، بعد أحداث الساحل والمجازر بحقّ السوريين العلويين، وكذلك المجازر بحقّ السوريين الدروز، لا سيّما في أشرفية صحنايا. سكّان صحنايا في الأصل مسيحيون، بينما سكن الدروز الأشرفية التي يسكنها اليوم خليط من الطوائف والقوميات السورية. ولم تشعر الأقليات فقط بالقلق والاستياء، بل كذلك السُّنة، فالأيديولوجيا السلفية للسلطة لا تتطابق مع الإسلام المعتدل، الذي يتبنّاه معظم السُّنة في سورية. الشعور بالقلق هو من طبيعة المراحل الانتقالية، فالنظام لم يستقرّ بعد. ولكن، حين ترتبط هذه المرحلة بالخوف من أيديولوجية الحكم ومن المستقبل، تصبح لدينا إشكالية عقائدية تتعلّق بالابتعاد عن الهُويَّة الوطنية، وبالتالي، على الحكم إعادة تعريف نفسه ممثلاً وطنياً. وتأتي هذه العملية الإجرامية تهديداً للسلم الأهلي. وبالتالي، رسالة إلى الداخل السوري بأكمله. من الصواب أن تعلن السلطة الحاكمة الحداد الوطني، لتكون رسالة إلى العالم، وإلى السوريين، وللتيّار السلفي الجهادي ذاته (ينتسب كثيرون من أتباعه إلى جهازَي الأمن والجيش، ويعملون في إدارات الدولة كافّة)، إن المسيحيين جزء من الشعب السوري، وإن التعايش السلمي الذي يتضمّن الاعتراف بهم مسألة غير قابلة للنقاش. كما هي رسالة إلى المسيحيين القلقين الخائفين أن ما حصل لا يمسّهم وحدهم، بل يهدّد السوريين كافّة.
لا يشعر السوريون المسيحيون بأن السلطة تحميهم، وحالهم هذا يشبه حال كثيرين من الأقلّيات، بل هو شعور السُّنة أيضاً وإن بدرجة أقلّ. هناك أسباب كثيرة للشعور بالقلق وعدم الاستقرار: غياب فرص العمل وتراجع مستويات المعيشة، وتأخّر البدء بإعادة الإعمار وبطء تدفّق الأموال إلى داخل البلاد، وطرد أعداد هائلة من العمل، وحلّ الجيش وجهاز الشرطة. أمّا أيديولوجية السلطة وتوجّهاتها السلفية فهي سبب مركزي للقلق العام؛ وقد صرّح رجال دين مسيحيون بعد التفجير إن الدولة لا تحميهم. ومع هذه العملية الإجرامية، سيتضاعف القلق، وسيكون هناك توجّه نحو الهجرة، وزادت الطين بِلّةً تصريحات غير مسؤولة من إعلاميي السلطة، إن منفّذي العملية (ومن خلفها)، هم "داعش" وفلول النظام وإيران، بدلاً من الاكتفاء بـ"داعش"، كما ذكرت تحقيقات وزارة الداخلية، التي أعلنت البدء بتحقيقات واسعة ودقيقة للوصول إلى الأطراف التي أعدّت للعملية ونفّذتها.
ينتقد أغلبية السوريين (ومنهم المسيحيون) السلطة لأنها لا تبدي حزماً جادّاً تجاه الفصائل والمجموعات المتطرّفة، وأن هناك عدة حوادث أمنية ضدّ الكنائس المسيحية في حمص وحماة وحلب ودمشق، وبلدة مشتى الحلو وسواها. ولم تعلن السلطة محاكمة أيّ فردٍ ارتكب انتهاكات، بل تُلاحَظ سرعة إطلاق سراح متهمين. مرّت ستّة أشهر، ولا يزال التهاون مستمرّاً. وتنبّه أوساط السلطة إلى أنها منعت عمليات انتحارية عديدة في الأشهر الماضية، وتؤكد تقارير أن تنظيم داعش أرسل أفراداً منه إلى داخل المدن السورية، والعملية في الدويلعة تأتي ضمن هذا المناخ. ضبط مسألة الأمن أحد المداخل للاستقرار، وكذلك تطبيق العدالة الانتقالية، وينبغي انتهاج سياسة إعلامية وطنية بعيداً من تسييس قضية الأقلّيات والأكثرية. السلطة معنية بشكل جادّ بالانتقال إلى سياسات وطنية، والكفّ عن تصوير نفسها ممثلةً للطائفة السُّنية، بينما يراها أغلبية السوريين ممثّلة لهيئة تحرير الشام وحلفائها، وتتحكّم بكل إدارات الدولة.
تخطئ السلطة كثيراً بتأخّرها في الانتقال إلى سياسات وطنية، وفي عدم تطبيق مبدأ فصل للسلطات والعمل المؤسّساتي، وفي عدم تفعيل القضاء والحفاظ على استقلاليته، وتُنتقد لغياب الشفافية في إدارة الدولة، وفي التوظيف، وفي الاتفاقات الاقتصادية مع الشركات الخارجية. تُخطئ كذلك في استمرار إقامة الدورات الشرعية داخل جهازّي الجيش والأمن، والتي تستبعد مباشرةً الأقلّيات أو غير المؤمنين من الجهازين، وتخطئ كذلك في الاعتماد على رجال الدين السلفيين المتشدّدين فيهما تاركة لهم القرار النهائي تجاه أيّ مشكلة تواجه المواطنين، بينما تقتضي المرحلة الانتقالية الاعتماد على شخصياتٍ وطنيةٍ وعلى تفعيل القضاء.
يتأكّد المُراقب لنقد السوريين في الداخل والخارج للشأن العام من رغبتهم في المشاركة بإنهاض الدولة، والحفاظ على وحدتها، ورفض التدخّل الخارجي، بل دعم السلطة لتتبنّى سياسات وطنية وممثّلة للجميع. المسيحيون الآن قلقون للغاية، والعلويون والدروز كذلك، وكثيرون من أبناء الطائفة السُّنية. على السلطة أن تقرأ هذا القلق الذي يستتبعه النقد دعماً لها، لا عدائيةً تجاهها. ولا بدّ من ضبط الأمن والإسراع في تطبيق العدالة الانتقالية، ولا غنى للسلطة عن الثقة بالشعب وإشراكه في تمثيل نفسه في مؤسّسات الدولة، والتخلّي عن سياسات التعيين، آخرها تعيين شخصيات تشكّل مجلساً للشعب. ولا بدّ من إطلاق الحريات العامة وحرية تشكيل الأحزاب والنقابات، والتخلّص من الأيديولوجية السلفية مرجعيةً للسلطة. إن الأخذ بهذه القضايا وتناولها إعلامياً، والتوقف عن تحويل الأعلام منصّةً تعادي منتقدي السلطة وسياساتها، سيساعد في إعادة الثقة بالسلطة، ويضمن نجاح المرحلة الانتقالية.
(العربي الجديد)