موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 11: 1-13)
1 وكانَ يُصلِّي في بَعضِ الأَماكِن، فلَمَّا فَرَغَ قالَ لَه أَحَدُ تَلاميذِه: ((يا ربّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ كَما عَلَّمَ يوحنَّا تَلاميذَه)). 2 فقالَ لَهم: ((إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب لِيُقَدَّسِ اسمُكَ لِيأتِ مَلَكوتُكَ. 3 أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا 4 وأَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه ولا تَترُكْنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة)). 5 وقالَ لَهم: ((مَن مِنكم يَكونُ لَه صَديقٌ فيَمْضي إِلَيه عِندَ نِصفِ اللَّيل، ويَقولُ له: يا أَخي، أَقرِضني ثَلاثَةَ أَرغِفَة، 6 فقَد قَدِمَ عَلَيَّ صَديقٌ مِن سَفَر، ولَيسَ عِندي ما أُقَدِّمُ لَه، 7 فيُجيبُ ذاك مِنَ الدَّاخلِ: لا تُزعِجْني، فالبابُ مُقفَلٌ وأَولادي معي في الفِراش، فلا يُمكِنُني أَن أَقومَ فأُعطِيَكَ. 8 أَقولُ لَكم: وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه. 9 ((وإِنَّي أَقولُ لَكم. اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم. 10 لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له. 11 فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟ 12 أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً؟ 13 فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه)).
مُقَدِّمَةٌ
يَتَنَاوَلُ لُوقَا ٱلْإِنْجِيلِيُّ تَعْلِيمَ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِهِ حَوْلَ "ٱلصَّلَاةِ ٱلرَّبِّيَّةِ"، كَنَمُوذَجٍ لِصَلَاتِهِم، وَذٰلِكَ فِي إِطَارِ دَعْوَتِهِ لَهُمْ لِتَلَاوَتِهَا بِٱللَّجَاجَةِ وَٱلْمَحَبَّةِ وَٱلْإِيمَانِ، عَلْمًا أَنَّ هٰذَا ٱلتَّعْلِيمَ يَصْدُرُ عَنْ ٱخْتِبَارِهِ ٱلشَّخْصِيِّ. فَلَمْ يَكْتَفِ يَسُوعُ بِأَنْ يُعَلِّمَ تَلَامِيذَهُ كَيْفَ يُصَلُّونَ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ صَلَّى، كَمَا يُرْوِي لُوقَا: “وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ مَا، لَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ: يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّي” (لوقا 11: 1-13). فَصَارَتْ صَلَاتُهُ ٱلرَّبِّيَّةُ نَمُوذَجًا وَمِقْيَاسًا لِكُلِّ صَلَاةٍ، بَلْ إِنَّهَا تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا جَمِيعَ ٱلصَّلَوَاتِ، وَمَا أَوْفَرَ مَعَانِيَهَا وَأَرْوَعَهَا!
إِنَّهَا تَدْعُونَا لِنَرَى فِي ٱللَّهِ أَبَانَا، مِنْ دُونِ أَنْ نُغْفِلَ نَظَرَنَا عَنِ ٱلْقَرِيبِ وَٱلْآخَرِ. وَهِيَ تُدْخِلُنَا فِي قُطْبَيِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ: مَجْدُ ٱللَّهِ وَخَلَاصُ ٱلْبَشَرِ، إِذْ نَطْلُبُ مِنَ ٱللَّهِ، بَعْدَ ٱلْإِعْلَانِ عَنْ ٱسْمِهِ ٱلْقُدُّوسِ وَمَلَكُوتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، أَنْ يُعِينَنَا فِي حَاجَاتِنَا ٱلْيَوْمِيَّةِ إِلَى ٱلْخُبْزِ وَٱلْمَغْفِرَةِ وَٱلْخَلَاصِ مِنَ ٱلتَّجْرِبَةِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ تُوما ٱلأَكْوِينِيُّ: "ٱلصَّلَاةُ ٱلرَّبِّيَّةُ هِيَ أَكْمَلُ ٱلصَّلَوَاتِ"، وفي رأي تِرْتُلْيَانُس، معلم الككنيسة: "هِيَ حَقًّا خُلاصَةُ ٱلإِنْجِيلِ كُلِّهِ" (تِرْتُلْيَانُس، ٱلصَّلَاةُ 1، 6). إِنَّهَا صَلَاةُ ٱلِٱبْنِ ٱلْبِكْرِ، يَسُوعَ، ٱلَّتِي تَجْمَعُنَا بِٱلْآبِ كَأَبْنَاءٍ، وَتُوَحِّدُنَا فِي مَا بَيْنَنَا كَٱلْإِخْوَةِ، وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ ٱلتَّأَمُّلِ فِي وَقَائِعِ ٱلنَّصِّ ٱلْإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.
أولا: وَقَائِعِ ٱلنَّصِّ ٱلْإِنْجِيلِيِّ (لوقا 11: 1-13)
1 وكانَ يُصلِّي في بَعضِ الأَماكِن، فلَمَّا فَرَغَ قالَ لَه أَحَدُ تَلاميذِه: ((يا ربّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ كَما عَلَّمَ يوحنَّا تَلاميذَه)).
تُشِيرُ عِبَارَةُ "يُصَلِّي" إِلَى لِقَاءِ يَسُوعَ مَعَ الآبِ، كَمَا فِي (لوقا 10: 21). وَيُرَكِّزُ لُوقَا ٱلإِنْجِيلِيُّ كَثِيرًا عَلَى صَلَاةِ يَسُوعَ، إِذْ يَظْهَرُ جَلِيًّا أَنَّ يَسُوعَ قَدْ خَصَّصَ فِي حَيَاتِهِ وَقْتًا كَبِيرًا لِلصَّلَاةِ، لاِسِيَّمَا فِي مَحَطَّاتٍ مِفْصَلِيَّةٍ، مِنْهَا: عِنْدَ مَعْمُودِيَّتِهِ (لوقا 3: 21)، فِي ٱلتَّجْرِبَةِ (لوقا 5: 16)، قَبْلَ ٱخْتِيَارِهِ ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ (لوقا 6: 12)، فِي خَلْوَتِهِ (لوقا 9: 18)، عِنْدَ تَجَلِّيهِ (لوقا 9: 28–29)، وَفِي مَوَاقِفِهِ ٱلصَّعْبَةِ، كَمَا عِنْدَ ٱلصَّلْبِ (لوقا 23: 34). فَٱلْمَسِيحُ، كَإِنْسَانٍ حَقِيقِيٍّ، كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى ٱلصَّلَاةِ، وَكَـنَائِبٍ عَنِ ٱلْبَشَرِيَّةِ، كَانَ يَرْفَعُ ٱلصَّلَاةَ عَنَّا، وَيُقَدِّمُ لَنَا نَمُوذَجًا حَيًّا لِلصَّلَاةِ، وَمِرْآةً لِعَلَاقَةٍ حَيَّةٍ مَعَ ٱلآبِ، أَمَامَ تَلَامِيذِهِ، وَمِنْ خِلَالِهِمْ إِلَى ٱلْكَنِيسَةِ جَمْعَاءَ. تُشِيرُ عِبَارَةُ "فِي بَعْضِ ٱلْأَمَاكِنِ" إِلَى مِنْطَقَةِ بِيرِيَّةَ، فِي مَسِيرِ يَسُوعَ مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى أُورَشَلِيمَ، دُونَ تَحْدِيدٍ دَقِيقٍ لِلْمَكَانِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَلَمَّا فَرَغَ"، فَتُظْهِرُ أَنَّ ٱلتَّلَامِيذَ لَمْ يُقَاطِعُوا يَسُوعَ أَثْنَاءَ صَلَاتِهِ، ٱحْتِرَامًا لَهُ، وَإِدْرَاكًا مِنْهُمْ لِقُدْسِيَّةِ مَا يَقُومُ بِهِ. فَقَدْ فَهِمُوا أَنَّهُ لَا شَيْءَ مُسْتَعْجَلٌ أَوْ أَهَمُّ مِنَ ٱلصَّلَاةِ. وَعِبَارَةُ "قَالَ لَهُ أَحَدُ تَلَامِيذِهِ" تُشِيرُ إِلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِٱسْمِ ٱلْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ: "عَلِّمْنَا"، وَلَمْ يَقُلْ: "عَلِّمْنِي". إِنَّ عِبَارَةَ "عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ" تُعْتَبَرُ سُؤَالًا جَوْهَرِيًّا يَنْبَعُ مِنْ رَغْبَةٍ صَادِقَةٍ فِي بِنَاءِ عِلَاقَةٍ حَيَّةٍ مَعَ ٱللَّهِ. فَٱلتَّلَامِيذُ لَمْ يَطْلُبُوا مِنْ يَسُوعَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صُنْعَ ٱلْعَجَائِبِ، أَوِ ٱلْخِطَابَةَ، بَلْ بَعْدَمَا رَأَوْهُ يُصَلِّي، طَلَبُوا مِنْهُ: "يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ!" لَقَدْ تَعَلَّمُوا مِنْ مِثَالِهِ ٱلْحَيِّ (لوقا 9: 28)، وَمِنْ تَعْلِيمِهِ ٱلْوَاضِحِ (متى 6: 9–13). كَانَ ٱلرَّبَّانِيُّونَ يُعَلِّمُونَ ٱلْيَهُودَ أَنْ يُصَلُّوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ٱلنَّهَارِ، وَكَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ يُقِيمُونَ صَلَوَاتٍ طَوِيلَةً مُحَدَّدَةً. وَلَكِنَّ ٱلتَّلَامِيذَ لاحَظُوا أَنَّ صَلَاةَ يَسُوعَ مُخْتَلِفَةٌ: عَفْوِيَّةٌ، صَادِقَةٌ، مُمْتَلِئَةٌ بِحُضُورِ ٱلْآبِ، لَا تُقَالُ رِيَاءً فِي ٱلْأَزِقَّةِ وَٱلشَّوَارِعِ. وَحْدَهُ يَسُوعُ يَقْدِرُ أَنْ يُعَلِّمَنَا كَيْفَ نُصَلِّي، بَلْ يُعْطِينَا ٱلْقُدْرَةَ عَلَى ٱلصَّلَاةِ ذَاتِهَا، لِأَنَّهُ يُعْطِينَا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ، ٱلَّذِي يُنِيرُ أَعْمَاقَنَا، وَيُدْخِلُنَا فِي شَرَاكَةٍ حَيَّةٍ مَعَ ٱللَّهِ. ٱلصَّلَاةُ: لِقَاءٌ شَخْصِيٌّ مَعَ ٱللَّهِ. تُسَاعِدُنَا عَلَى ٱلْإِصْغَاءِ إِلَى أَعْمَاقِنَا، وَتُقَرِّبُنَا مِنَ ٱللَّهِ كَشَخْصٍ حَيٍّ. هِيَ ٱلْبَابُ لِفَهْمِ مَشِيئَتِهِ، وَٱلتَّنَعُّمِ بِحَيَاةِ ٱلشَّرَاكَةِ مَعَهُ. لِذَلِكَ، يُوصِي بُولُسُ ٱلرَّسُولُ تِلْمِيذَهُ طِيمُوثَاوُسَ، قَائِلًا: "أُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ ٱلرِّجَالُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، رَافِعِينَ أَيْدِيًا طَاهِرَةً، مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ وَلَا خِصَامٍ" (1 طيموتاوس 2: 8). " تُشِيرُ ْعِبَارَةُ "كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا تَلَامِيذَهُ" إِلَى مَا وَرَدَ فِي (لوقا 5: 33): "إِنَّ تَلَامِيذَ يُوحَنَّا يُكْثِرُونَ مِنَ ٱلصَّوْمِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوَاتِ." وَقَدْ ٱنْفَرَدَ لُوقَا بِذِكْرِ هَذَا ٱلْبُعْدِ، أَيْ أَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يُعَلِّمُ تَلَامِيذَهُ ٱلصَّلَا َ وَٱلصَّوْمَ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ. وَمِنْ هُنَا، جَاءَ طَلَبُ ٱلتَّلَامِيذِ مِنْ يَسُوعَ أَنْ يُعَلِّمَهُمُ ٱلصَّلَاةَ عَلَى مِثَالِهِ ٱلْحَيِّ وَٱلْفَرِيدِ.
2 فقالَ لَهم: ((إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب لِيُقَدَّسِ اسمُكَ لِيأتِ مَلَكوتُكَ.
تُشيرُ عِبارةُ "إِذا صَلَّيتُم فَقولوا" إِلى صَلَاةٍ نَمُوذَجِيَّةٍ يُوصِي بِهَا يَسُوعُ، يُرْفَعُ بِهَا ٱلدُّعَاءُ إِلَى ٱللَّهِ كَمَا هِيَ، وَهِيَ صَادِرَةٌ عَنْ صَلَاتِهِ هُوَ نَفْسِهِ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْمَرَّةُ ٱلثَّانِيَةُ ٱلَّتِي يُعَلِّمُ فِيهَا يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ ٱلصَّلَاةَ ٱلرَّبِّيَّةَ، فَٱلْمَرَّةُ ٱلْأُولَى كَانَتْ فِي ٱلْمَوْعِظَةِ عَلَى ٱلْجَبَلِ (متى 6: 9–13)، أَي بَعْدَ نَحْوِ سَنَتَيْنِ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَالَةِ. وَإِعَادَةُ تَعْلِيمِهَا تُؤَكِّدُ أَهَمِّيَّتَهَا وَدَوْرَهَا ٱلْمَرْكَزِيَّ فِي حَيَاةِ ٱلْمُؤْمِنِ. وَيُعَلِّقُ ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْمَسِيحِيُّ لِلْكَنِيسَةِ ٱلْكَاثُولِيكِيَّةِ عَلَى هٰذِهِ ٱلصَّلَاةِ بِٱلْقَوْلِ: "هٰذِهِ ٱلصَّلَاةُ ٱلَّتِي تَأْتِينَا مِنْ يَسُوعَ هِيَ حَقًّا وَحِيدَةٌ: إِنَّهَا مِنَ ٱلرَّبِّ، إِنَّهُ مُعَلِّمُ صَلَاتِنَا" (رَقْم 2765). فَهُوَ يُعَلِّمُ أَبْنَاءَ ٱللَّهِ أَنْ يُصَلُّوا إِلَى أَبِيهِمُ ٱلسَّمَاوِيِّ. تُشِيرُ عِبَارَةُ "ٱلآبُ" إِلَى ٱلآبِ ٱلسَّمَاوِيِّ (متى 11: 25)، إِلَى ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَيْسَ فَقَطْ عَظِيمًا وَقُدُّوسًا، بَلْ هُوَ إِلٰهٌ شَخْصِيٌّ وَمُحِبٌّ، ويَدْعُونَا يَسُوعُ أَنْ نَتَحَلَّى بِرُوحِ ٱلْبُنُوَّةِ نَحْوَهُ. فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ، لَعِبَ ٱللَّهُ دَوْرَ ٱلْأَبِ كَخَالِقٍ وَفَادٍ لِشَعْبِهِ: يُعَلِّمُهُمْ (يَسُوعُ بْنُ سِيرَاخ 30: 3)، يُبَارِكُهُمْ (ٱلتَّكْوِين 27: 27–30)، يُؤَدِّبُهُمْ (سِيرَاخ 30: 21)، يُحِبُّهُمْ (2 صَمُوئِيل 19: 1). أَمَّا فِي فَهْمِ يَسُوعَ، فَٱلآبُ هُوَ بِٱلْمَعْنَى ٱلْحَقِيقِيِّ (لوقا 1: 31)، وَقَدْ كَانَ يُنَادِيهِ: "أَبَّا، يَا أَبَتِ" (مرقس 14: 36)، فِي عِلَاقَةٍ حَمِيمَةٍ وَمُبَاشِرَةٍ (يوحنا 5: 19–20). وَبِذٰلِكَ أَصْبَحَ يَسُوعُ ٱلْوَسِيطَ بَيْنَ ٱللَّهِ وَٱلنَّاسِ (لوقا 10: 21–22). وَلَفْظَةُ "ٱلآبُ" تَدُلُّ عَلَى: ٱلْقُرْبِ، ٱلثِّقَةِ، ٱلْحَنَانِ، ٱلْعَطَاءِ. الله الآب يَسْتَجِيبُ لِأَبْنَائِهِ كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "مَن مِنكُم إِذا سَأَلَهُ ٱبْنُهُ رَغِيفًا أَعْطَاهُ حَجَرًا، أَوْ سَأَلَهُ سَمَكًا أَعْطَاهُ حَيَّة؟... فَإِنْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ أَشْرَارًا، تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا ٱلْعَطَايَا ٱلصَّالِحَةَ لِأَبْنَائِكُمْ، فَكَمْ بِٱلْأَحْرَى أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ؟" (متى 7: 9–11). وَهٰذَا ٱلدُّعَاءُ ٱلِافْتِتَاحِيُّ لِلصَّلَاةِ، نَجِدُهُ فِي مَطْلَعِ صَلَوَاتِ يَسُوعَ (لوقا 22: 42؛ 23: 34). وَبِهٰذَا ٱللَّقَبِ، عَلَّمَ تَلَامِيذَهُ أَنْ يُخَاطِبُوا أَبَاهُمُ ٱلْمُشْتَرَك، ٱلَّذِي هُوَ وَاحِدٌ وَقَرِيبٌ مِنهُمْ، قُرْبَ ٱلْأَبِ مِنْ أَبْنَائِهِ (متى 23: 9). فَٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُصَلِّي يُصْبِحُ كَٱبْنِ ٱللَّهِ وَصَدِيقِهِ، كَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَٱلْأَنْبِيَاءُ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ هٰذِهِ ٱلصَّلَاةَ بِٱلْحَقِّ، إِلَّا مَنْ وُلِدَ ثَانِيَةً مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعِبَارَةُ "لِيُقَدَّسِ ٱسْمُكَ" مَأْخُوذَةٌ مِنْ سِفْرِ حِزْقِيَال (20: 41)، وَتَعْنِي أَنَّ ٱللَّهَ يُظْهِرُ مَجْدَهُ بِتَطْهِيرِ شَعْبِهِ مِنْ خَطَايَاهُ وَتَخْلِيصِهِ. تُشيرُ عِبَارَةُ "لِيُقَدَّسِ" إِلَى ٱعْتِبَارِ ٱسْمِ ٱللَّهِ بِٱحْتِرَامٍ مُقَدَّسٍ. وَبِمَا أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمِثَالِيُّ، فَلَا تَعْنِي ٱلطَّلَبَةُ أَنَّهُ يُضَافُ شَيْءٌ إِلَى قَدَاسَتِهِ، بَلْ تُفِيدُ أَنَّ ٱلْإِنْسَانَ يَعْتَرِفُ بِقَدَاسَةِ ٱللَّهِ وَيُمَجِّدُ ٱسْمَهُ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ يَسُوعَ: "أَيُّهَا ٱلآبُ، مَجِّدِ ٱسْمَكَ" (يوحنا 12: 28). فَمَنْ يَجْرُؤُ عَلَى نُطْقِ ٱسْمِ ٱلآبِ ٱلْقُدُّوسِ بِشَفَاهٍ نَجِسَةٍ؟ كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ إِشَعْيَاء: "كانَ هٰذا يُنادِي ذاكَ وَيَقُول: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ ٱلْقُوَّاتِ، ٱلْأَرْضُ كُلُّهَا مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَجْدِهِ... فَقُلْتُ: وَيْلٌ لِي، قَدْ هَلَكْتُ، لِأَنِّي رَجُلٌ نَجِسُ ٱلشَّفَتَيْنِ" (إشعيا 6: 3–5). وَلِتَقْدِيسِ ٱسْمِ ٱللَّهِ طَرِيقَتَانِ: بِٱلطَّاعَةِ لِوَصَايَاهُ، بِٱلِاعْتِرَافِ بِسُلْطَانِهِ عَلَيْنَا (أحبار 22: 32). وَيُعْلِنُ ٱلْأَنْبِيَاءُ أَنَّ ٱللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ قَدَاسَتِهِ بِظُهُورِهِ كَٱلدَّيَّانِ ٱلْعَادِلِ وَٱلْمُخَلِّصِ فِي عُيُونِ جَمِيعِ ٱلْأُمَمِ: "يَتَعَالَى رَبُّ ٱلْقُوَّاتِ بِٱلْقَضَاءِ، وَيَتَقَدَّسُ ٱلْإِلٰهُ ٱلْقُدُّوسُ بِٱلْبِرِّ" (إشعيا 5: 16). وَأَمَّا صِيغَةُ ٱلْمَجْهُولِ "يُقَدَّسِ" فَتُفِيدُ فِي ٱلدِّيَانَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ ٱلتَّعْبِيرَ غَيْرَ ٱلْمُبَاشِرِ عَنْ عَمَلِ ٱللَّهِ، دُونَ ذِكْرِ ٱسْمِهِ صَرَاحَةً (راجع متى 5: 6). فَٱللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ ٱلَّذِي يَتَجَلَّى بِقُدْرَتِهِ وَمَجْدِهِ وَبِرِّهِ وَنِعْمَتِهِ أَمَامَ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، وَنَسْتَطِيعُ نَحْنُ أَنْ نُقَدِّسَ ٱسْمَ ٱللَّهِ مِنْ خِلَالِ ٱحْتِرَاسِنَا فِي ٱسْتِخْدَامِهِ، فَإِذَا نَطَقْنَاهُ بِٱسْتِخْفَافٍ، نَكُونُ قَدْ تَجَاهَلْنَا قَدَاسَتَهُ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "ٱسْمُكَ" فَتُشِيرُ إِلَى ٱسْمِ ٱللَّهِ، وَفِي ٱلْمَفْهُومِ ٱلْكِتَابِيِّ لَا فَرْقَ بَيْنَ ٱسْمِ ٱللَّهِ وَشَخْصِهِ، فَٱسْمُهُ هُوَ كِيَانُهُ، وَجَوْهَرُهُ، وَحَقِيقَتُهُ، وَهُوَ ٱلَّذِي يُعْبَدُ وَيُدْعَى بِٱجْلَالٍ خَاصٍّ، خُصُوصًا فِي ٱلنُّصُوصِ ٱلطَّقْسِيَّةِ. وعبارة "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ" تُشِيرُ هٰذِهِ ٱلطَّلَبَةُ إِلَى قُرْبِ ٱلْمَلَكُوتِ، ٱلَّذِي تَجَسَّدَ فِي: ٱلْكَلِمَةِ ٱلْمُتَجَسِّدِ، وَفِي ٱلْإِنْجِيلِ، وَفِي مَوْتِ ٱلْمَسِيحِ وَقِيَامَتِهِ، وَفِي ٱلْعَشَاءِ ٱلْمُقَدَّسِ وَسِرِّ ٱلإِفْخَارِسْتِيَّا. فَمَلَكُوتُ ٱللَّهِ فِي وَسْطِنَا، كَمَا قَالَ يَسُوعُ (لوقا 17: 21). وَيَأْتِي فِي ٱلْمَجْدِ عِنْدَمَا يُعِيدُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْمُلْك إِلَى ٱلآبِ ٱلسَّمَاوِيِّ (١ قورنتس ١٥: ٢٤–٢٨). "مَا أَجْمَلَ عَلَى ٱلْجِبَالِ قَدَمَيِ ٱلْمُبَشِّرِ، ٱلْمُخْبِرِ بِٱلسَّلَامِ، ٱلْمُبَشِّرِ بِٱلْخَيْرِ، ٱلْمُخْبِرِ بِٱلْخَلَاصِ، ٱلْقَائِلِ لِصِهْيَوْنَ: قَدْ مَلَكَ إِلٰهُكِ!" (إشعيا 52: 7). وَقَدْ أَعْلَنَ ٱللَّهُ مَلَكُوتَهُ فِي عَهْدِهِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ (لوقا 13: 28)، وَهُوَ قَائِمٌ فِي مُلْكِ ٱلْمَسِيحِ عَلَى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، وَسَيَتِمُّ كَمَالُهُ عِنْدَمَا يُقْضَى عَلَى كُلِّ شَرٍّ وَتَتَجَدَّدُ سَمَاءٌ جَدِيدَةٌ وَأَرْضٌ جَدِيدَةٌ (رؤيا 21: 1؛ لوقا 6: 10). فَمَجِيءُ ٱلْمَلَكُوتِ يَفْتَرِضُ: تَوْبَةَ ٱلْإِنْسَانِ، وَإِكْرَامَ ٱسْمِ ٱللَّهِ ٱلْقُدُّوسِ. فَنَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللَّهِ، مَلَكُوتِ ٱلسَّلَامِ وَٱلْحَيَاةِ، لِأَنَّ مَمَالِكَ ٱلْأَرْضِ تُنْتِجُ ٱلْعُنْفَ وَٱلْمَوْتَ. وَفِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ، تَرِدُ عِبَارَةُ "مَلَكُوتُكَ" بِلَفْظِ: βασιλεία σου، وَهِيَ تُفِيدُ: ٱلْمَلَكِيَّةَ (كٱسْمٍ مُجَرَّد)، أَو ٱلْمَمْلَكَةَ، أَو ٱلْمُلْك (كَفِعْلٍ وَسُلْطَةٍ). وَهِيَ تَشِيرُ، بِلُغَةِ ٱلرَّسُولِ بُولُس، إِلَى: "بِرٌّ وَسَلَامٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ" (رومة 14: 17)، وَتُحِيلُ إِلَى مَجِيءِ ٱلْمَلَكُوتِ ٱلنِّهَائِيِّ فِي ظُهُورِ ٱلْمَسِيحِ: "مُنْتَظِرِينَ ٱلسَّعَادَةَ ٱلْمَرْجُوَّةَ، وَتَجَلِّيَ مَجْدِ إِلٰهِنَا ٱلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ" (طيطس 2: 13).
3 أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا
تُشيرُ عِبارةُ "أُرْزُقْنا" في الأصلِ اليونانيِّ δίδου (وتعني: "أَعطِ") إلى ثقةِ الأبناءِ الذينَ ينتظرونَ كُلَّ شيءٍ مِن أبيهم، كما جاءَ في تعليمِ يسوع: "لأَنَّهُ يُطْلِعُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشرارِ وَالأَخْيارِ، وَيُنْزِلُ المَطَرَ عَلَى الأَبْرارِ وَالفُجَّارِ" (متى 5: 45). ويُعلّقُ القدِّيس قِبْريانُس قائلاً: "لَمْ يَشَأْ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ أَنْ تَكُونَ ٱلصَّلَاةُ فَرْدِيَّةً وَخَاصَّةً، فَيُصَلِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ فَقَط، بَلْ جَعَلَهَا صَلَاةً مُشْتَرَكَةً وَجَمَاعِيَّةً، نَتَضَرَّعُ بِهَا لِلْجَمِيعِ، لأَنَّنَا كُلُّنَا وَاحِد" (عن "الصلاة الربّيّة"). وهكذا لا نَقُولُ: "أرزُقْني" بل "أُرْزُقْنا"، لأنَّ الصلواتِ المسيحيّةِ تنبعُ من روح الجماعة، وتعكسُ جوهرَ الكنيسة، شعبِ اللهِ الواحد. وقد وردَ في المزامير: "يُعْطِي الْبَهَائِمَ طَعَامَهَا، وَصِغَارَ الْغِرْبَانِ إِذَا صَرَخَتْ" (مزمور 147: 9)، و"يُعْطِيهِمْ طَعَامَهُمْ فِي حِينِهِ" (مزمور 104: 27). ويُعلّق التعليمُ المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: "أُرْزُقْنا" هِيَ تَعْبِيرٌ عَنْ ٱلْعَهْدِ: فَنَحْنُ لَهُ، وَهُوَ لَنَا، وَلِأَجْلِنَا" (بند 2828). "خُبْزَنا" تُشِيرُ هٰذِهِ الكلمةُ إِلَى هِبَةِ اللهِ لِلْإِنْسَانِ، فَٱلْخُبْزُ هُوَ: مَصْدَرُ قُوَّةٍ (مزمور 103: 14–15)، وَعَلَامَةُ بَرَكَةٍ (مزمور 132: 15)، وَوَسِيلَةٌ أَسَاسِيَّةٌ لِلْحَيَاةِ، إِلَى دَرَجَةِ أَنَّ العَوَزَ إِلَيْهِ يُعَادِلُ الحِرْمَانَ التَّامَّ (عاموس 4: 6). ولذلك، فَإِنَّ الخُبْزَ فِي هٰذِهِ الطَّلَبَةِ يُمَثِّلُ كُلَّ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْحَيَاةِ، جَسَدًا وَرُوحًا. كما جاء في تثنية الاشتراع: "لا بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱلرَّبِّ" (تثنية 8: 3). وفي عمق هذا المعنى، أصبح الخبز أيضًا رمزًا لِهبةِ المسيحِ العظمى في الإفخارستيا، حيثُ قال الربُّ: "هٰذَا هُوَ جَسَدِي" (مرقس 14: 22) "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ (يوحنا ٦: ٣٥). وتشير عبارة "كَفافَ يَومِنا" إِلَى طَلَبِ ٱلْخُبْزِ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِكَلِمَةِ "كَفَافَ" ٱلْوَارِدَةِ فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ ἐπιούσιον، وَتَعْنِي: مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ لِلْحَيَاةِ، أَوْ كُلُّ خَيْرٍ يَكْفِينَا لِلْعَيْشِ بِكَرَامَةٍ. وَتُعَبِّرُ هٰذِهِ ٱلطَّلَبَةُ عَنْ ثِقَةٍ يَوْمِيَّةٍ بِٱللَّهِ الَّذِي يُعْطِي كُلَّ شَيْءٍ فِي حِينِهِ. وَقَدْ قَالَ يَسُوعُ: "لَا تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، فَٱلْغَدُ يَهْتَمُّ لِنَفْسِهِ" (متى 6: 34). كما قالَ لوقا في إنجيله: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَنِي، فَلْيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَتْبَعْنِي" (لوقا ٩: ٢٣). ويُعَلِّقُ القدِّيس باسيليوس: "إِنَّ هٰذِهِ ٱلطَّلَبَةَ تُعَلِّمُنَا ٱلِٱلتِجَاءَ إِلَى ٱللَّهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، لِنُخْبِرَهُ بِٱحْتِيَاجَاتِنَا ٱلطَّبِيعِيَّةِ". فِي تَفْسِيرِ آبَاءِ ٱلْكَنِيسَةِ، هٰذِهِ ٱلطَّلَبَةُ تُشِيرُ أَيْضًا إِلَى: خُبْزِ ٱلْإِفْخَارِسْتِيَّا، كَلِمَةِ ٱللَّهِ، جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ، الَّذِي بِدُونِهِ لَا حَيَاةَ فِينَا (يوحنا 6: 53–56). وَقَدْ قَالَ ترتليانوس: "ٱلْمَسِيحُ هُوَ خُبْزُنَا، لِأَنَّهُ هُوَ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْخُبْزُ هُوَ ٱلْحَيَاةُ". بِهٰذِهِ ٱلطَّلَبَةِ، نُعْلِنُ: أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ مُعِينُنَا وَمُعِيلُنَا، أَنَّنَا نَتَّكِلُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَأَنَّهُ يُقَدِّمُ لَنَا كُلَّ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ: مَادِّيًا، وَرُوحِيًا، وَأَبَدِيًا. أَمَّا عِبَارَةُ "كَفافَ"، فَفِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ ἐπιούσιον، فَهِيَ كَلِمَةٌ نَادِرَةٌ وَتَرِدُ فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ مَرَّتَيْنِ فَقَط (متى 6: 11؛ لوقا 11: 3)، وَلَا نَظِيرَ لَهَا فِي ٱلْأَدَبِ ٱلْيُونَانِيِّ الْقَدِيمِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهَا وَعُمْقِهَا ٱللَّاهُوتِيِّ. وَقَدْ فُسِّرَتْ بِثَلَاثِ طُرُقٍ مُكَمِّلَةٍ بَعْضُهَا لِبَعْض:
مَعْنَاهَا ٱلْوَضْعِيُّ: أَيْ مَا يَكْفِي وَيَسُدُّ ٱلْحَاجَةَ لِلْيَوْمِ، كُلُّ خَيْرٍ مَادِّيٍّ ضَرُورِيٍّ لِلْعَيْشِ بِكَرَامَةٍ. وَهُوَ مَا يُرَكِّزُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ ٱلآبَاءِ فِي سِيَاقِ ٱلثِّقَةِ بِٱللَّهِ وَٱلِاتِّكَالِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ.
مَعْنَاهَا ٱلزَّمَنِيُّ: تَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِ "ٱلْيَوْمِ" لِلتَّشْدِيدِ عَلَى ٱلثِّقَةِ بِدُونِ تَحَفُّظٍ أَوِ ٱهْتِمَامٍ مُقْلِقٍ بِٱلْغَدِ، كَمَا قَالَ ٱلرَّبُّ: "لَا تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، فَٱلْغَدُ يَهْتَمُّ بِنَفْسِهِ" (متى 6: 34).
مَعْنَاهَا ٱلرُّوحِيُّ وَٱلْإِفْخَارِسْتِيّ: فَإِذَا أُخِذَتْ حَرْفِيًّا، فَإِنَّهَا تُشِيرُ إِلَى خُبْزِ ٱلْحَيَاةِ، جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ٱبْنِ ٱلْإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَتْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ حَيَاةٌ" (يوحنا 6: 53–56). وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ بَاسِيلْيُوس قَائِلًا: "إِنَّ هٰذِهِ ٱلصَّلَاةَ ٱلَّتِي عَلَّمَنَا إِيَّاهَا ٱلسَّيِّدُ تَعْنِي ٱلِٱلْتِجَاءَ إِلَى ٱللَّهِ، لِنُخْبِرَهُ كُلَّ يَوْمٍ عَنْ ٱحْتِيَاجَاتِ طَبِيعَتِنَا ٱلْيَوْمِيَّةِ." وَبِذٰلِكَ تُصْبِحُ هٰذِهِ ٱلطَّلَبَةُ صَرْخَةَ ٱبْنٍ مُتَّكِلٍ عَلَى أَبِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، سَوَاءٌ فِي مَا يَخُصُّ خُبْزَ ٱلْجَسَدِ، أَوْ خُبْزَ ٱلرُّوحِ، أَوْ خُبْزَ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ. وَفِي نَصِّ مَتَّى 6: 11 تَرِدُ ٱلطَّلَبَةُ كَذٰلِكَ: "أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ خُبْزَنَا كَفَافَ يَوْمِنَا"، وَهِيَ نَفْسُ ٱلْمَعْنَى ٱلْمُرَادِ فِي لُوقَا ١١: ٣، إِذْ تَتَرْجَمُ ثِقَةَ ٱلْمُؤْمِنِ فِي ٱلرِّبِّ وَطَلَبَهُ لِـمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ حَاضِرٍ، لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ، فَـ"كَفَافُ ٱلْيَوْمِ لِلْيَوْمِ". هذا الطَّلبُ بعينهِ هو ما يُحرِّكُ أحداثَ المَثَلِ الآتي، الّذي يَروي عن رجلٍ يَذهبُ إلى صَديقِه في مُنتصفِ اللّيلِ لِيَطلُبَ منهُ ثلاثةَ أَرغِفَةٍ (لوقا 11: 5).
4 وأَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه ولا تَترُكنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة.
تُشيرُ عِبَارَةُ "أَعْفِنا" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ ἄφες، وَفِي ٱلْعِبْرِيَّةِ סְלַח، إِلَى فِعْلٍ يَخْتَصُّ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ، وَيَعْنِي: غَفَرَ وَتَخَلَّى عَنْ ٱلْحُكْمِ أَوِ ٱلْعُقُوبَةِ. وَفِي ٱلسِّيَاقِ ٱلْقَانُونِيِّ وَٱلتِّجَارِيِّ لِلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ، يُشِيرُ ٱلدَّيْنُ إِلَى ٱلِالْتِزَامِ بِوَفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ، وَكَانَ هٰذَا ٱلِالْتِزَامُ فِي ٱلْعَالَمِ ٱلْقَدِيمِ ذَا شَأْنٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ يُفْقِدُ ٱلشَّخْصَ حُرِّيَّتَهُ. كَمَا فِي مَثَلِ يَسُوعَ: "فَإِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ ٱلْخَادِمِ مَا يُؤَدِّي بِهِ دَيْنَهُ، أَمَرَ مَوْلَاهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَٱمْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ وَجَمِيعَ مَا يَمْلِكُ، لِيُؤَدَّى ٱلدَّيْنُ" (متى 18: 23–35). وَقَدِ ٱسْتَخْدَمَ ٱلدِّينُ ٱلْيَهُودِيُّ هٰذِهِ ٱلِاسْتِعَارَةَ لِيُعَبِّرَ عَنْ مَوْقِفِ ٱلْإِنْسَانِ أَمَامَ ٱللَّهِ: فَهُوَ مَدِينٌ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ٱلْوَفَاءِ، فَـ"أَعْفِنا" تَصِيرُ طَلَبَ ٱلْمَغْفِرَةِ مِنَ ٱللَّهِ بِصِفَتِنَا خُطَاةً (لوقا 13: 2–4). إِنَّ ٱلطَّلَبَ مِنَ ٱللَّهِ أَنْ يُعْفِيَنَا مِنْ دُيُونِنَا هُوَ فِي ٱلْحَقِيقَةِ طَلَبٌ لِـغُفْرَانِ خَطَايَانَا. فَنَحْنُ عَاجِزُونَ عَنْ تَكْفِيرِهَا، وَغُفْرَانُ ٱللَّهِ لَهَا هُوَ نِعْمَةٌ مَجَّانِيَّةٌ، وَعَطِيَّةٌ خَالِصَةٌ مِنْ رَحْمَتِهِ وَصَلَاحِهِ. كَمَا يَصْلِّي صاحب المزامير: "أَمَّا مَعَاصِيَّ وَخَطَايَا شَبَابِي فَلَا تَذْكُرْ، بَلْ عَلَى حَسَبِ رَحْمَتِكَ ٱذْكُرْنِي، مِنْ أَجْلِ صَلَاحِكَ يَا رَبُّ" (مزمور 25: 7). وَفِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ، تُرْتَبَطُ مَغْفِرَةُ ٱلْخَطَايَا بِٱلسَّيِّدِ ٱلْمَسِيحِ: فَقَدْ غَفَرَ فِي حَيَاتِهِ (متى 9: 1–8)، وَغَفَرَ عَلَى ٱلصَّلِيبِ: "يَا أَبَتِ، ٱغْفِرْ لَهُمْ" (لوقا 23: 34). وَهٰذِهِ ٱلْمَغْفِرَةُ هِيَ قَلْبُ ٱلتَّبْشِيرِ فِي ٱلْكَنِيسَةِ، ٱلَّتِي ٱسْتَلَمَتْ مِنَ ٱلرَّبِّ سُلْطَةَ ٱلْحَلِّ وَٱلرَّبْطِ (متى 16: 19؛ يوحنا 20: 23). أمَّا عبارة "خَطَايَانَا" و"دُيُونُنَا" فِي نَصِّ لوقا تَرِدُ ٱلْكَلِمَةُ فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ: ἁμαρτίας ، وَهِيَ تُرْجِمَةٌ لِلْكَلِمَةِ ٱلْعِبْرِيَّةِ חַטָּאתֵנוּ، وَتَعْنِي "ٱلْخَطَايَا"، وَأَصْلُهَا: "عَدَمُ ٱلْإِصَابَةِ" أَوِ ٱلْخُطُوءُ عَنِ ٱلْهَدَفِ. فِي نَصِّ متى (6: 12) تَرِدُ بِٱلْيُونَانِيَّةِ: ὀφείλημα ، وَتُرْجِمَتْ مِنَ ٱلْعِبْرِيَّةِ חֲבוֹתֵינוּ، وَتَعْنِي: "دُيُونُنَا"، فَهِيَ ٱسْتِعَارَةٌ قَانُونِيَّةٌ تُظْهِرُ أَنَّ ٱلْخَطِيئَةَ هِيَ تَعَدٍّ عَلَى حَقِّ ٱللَّهِ، وَٱلتِزَامٌ لَا نَسْتَطِيعُ وَفَاءَهُ. فَـمتى يَسْتَعْمِلُ تَعْبِيرًا مُتَجَذِّرًا فِي ٱلتُّرَاثِ ٱلْيَهُودِيِّ، وَلوقا يَسْتَعْمِلُ تَعْبِيرًا مَأْلُوفًا لِدَى ٱلْأُمَمِ، وَكِلَا ٱلتَّعْبِيرَيْنِ يُؤَكِّدَانِ أَنَّ ٱلْإِنْسَانَ: مُخْطِئٌ، مَدِينٌ، وَيَحْتَاجُ إِلَى غُفْرَانٍ لا يَسْتَحِقُّهُ، بَلْ يَتَلَقَّاهُ نِعْمَةً. فِي هٰذِهِ ٱلطَّلَبَةِ، يُقِرُّ ٱلْمُصَلِّي بِأَنَّهُ خَاطِئٌ، وَمَدِينٌ، وَعَاجِزٌ، وَيَضَعُ نَفْسَهُ فِي مَوْقِفِ ٱلْاِبْنِ ٱلضَّالِّ ٱلْعَائِدِ إِلَى أَبِيهِ. وَكَمَا غَفَرَ ٱلْآبُ لِٱبْنِهِ فِي ٱلْمَثَلِ (لوقا ١٥)، هٰكَذَا يُغْفَرُ لَنَا بِفَضْلِ مَحَبَّةِ ٱلآبِ وَتَضْحِيَةِ ٱلِٱبْنِ. اما عبارة: "فَإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه" فتُشِيرُ إِلَى مَبْدَأِ ٱلْغُفْرَانِ، وَفِي ٱلسِّيَاقِ ٱلَّذِي يُقَدِّمُهُ ٱلإِنْجِيلُ ٱلثَّالِثُ، يُشَكِّلُ ٱلْغُفْرَانُ خَلْفِيَّةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ كَامِلَةً، وَيُرْفَقُ بِسُلُوكِ ٱلْمُؤْمِنِ فِي ٱلْعَالَمِ، فِي حِينِ أَنَّهُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى يَظْهَرُ فِي ٱلْلَّحْظَةِ ٱلَّتِي تَسْبِقُ ٱلصَّلَاةَ، كَشَرْطٍ لِـقَبُولِهَا (متى 6: 12). فَيَرْبِطُ يَسُوعُ رَبْطًا وَثِيقًا بَيْنَ غُفْرَانِ ٱللَّهِ لِخَطَايَانَا، وَوَاجِبِنَا فِي ٱلْمُبَادَرَةِ بِٱلْغُفْرَانِ لإِخْوَتِنَا. وَهٰذَا يَأْتِي وَفْقًا لِـمَبْدَأِ ٱلْعَهْدِ، أَنَّ: "ٱللَّهَ يُمْنِحُنَا غُفْرَانَهُ إِنْ غَفَرْنَا لِإِخْوَتِنَا"، كَمَا قَالَ: "طُوبى لِلرُّحَمَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُرْحَمُونَ" (متى 5: 7). الغفران الأخوي: شهادة لا شرط. لَا يَكُونُ ٱلْغُفْرَانُ الأَخَوِيُّ: ثَمَنًا نَدْفَعُهُ لِنَالَ غُفْرَانَ ٱللَّهِ، وَلَا شَرْطًا نَسْتَوْجِبُ بِهِ ٱلرَّحْمَةَ، بَلْ هُوَ شَهَادَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى طَلَبِنَا لِلرَّحْمَةِ، وَمِصْدَاقٌ عَلَى فَهْمِنَا لِـمَعْنَى ٱلْمَغْفِرَةِ. وَهٰذَا مَا يُفِيدُهُ ٱلْفِعْلُ فِي صِيغَةِ ٱلْمَاضِي فِي نَصِّ مَتَّى: "فَقَدْ أَعْفَيْنَا نَحْنُ أَيْضًا مَنْ لَنَا عَلَيْهِ" (متى 6: 12). والغفرانٌ مؤسَّسٌ على الصليب. قَبُولُنَا لِغُفْرَانِ ٱللَّهِ يَتَضَمَّنُ ٱلْإِقْرَارَ بِأَنَّ: ٱلْمَسِيحَ قَدِ احْتَمَلَ عُقُوبَةَ ٱلْخَطِيئَةِ عَنَّا عَلَى ٱلصَّلِيبِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْرَضَ عُقُوبَةٌ أُخْرَى بَعْدَ ذٰلِكَ. وَبِذٰلِكَ، فَإِنَّ ٱلْمَطْلُوبَ مِنَّا هُوَ أَنْ نُظْهِرَ نَفْسَ رُوحِ ٱلْمَغْفِرَةِ لِلْجَمِيعِ، كَمَا فِي تَعْلِيمِ يَسُوعَ: "أَفَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْتَ أَيْضًا أَنْ تَرْحَمَ صَاحِبَكَ، كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟" (متى 18: 32–35). فَـإِذَا أَبَيْنَا أَنْ نَغْفِرَ، يَكُونُ ذٰلِكَ إِنْكَارًا لِأَنَّنَا خُطَاةٌ نَحْتَاجُ إِلَى ٱلرَّحْمَةِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِـ حَجْبِ ٱلرَّحْمَةِ عَنَّا. وَيُؤَكِّدُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ نَفْسَ ٱلْفِكْرَةِ فِي ٱلرَّسَالَةِ إِلَى أَفَسُس: "لْيَصْفَحْ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، كَمَا صَفَحَ ٱللَّهُ عَنْكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ" (أفسس 4: 32). فَلَا حَقَّ لَنَا فِي ٱنْتِظَارِ مَغْفِرَةِ ٱللَّهِ، إِذَا كُنَّا نَحْمِلُ فِي قُلُوبِنَا رَفْضًا لِـمَنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا. لكن الفارق الجوهري هو أنَّ الله يغفر كخالق، ونحن كبشر. غُفْرَانُ ٱللَّهِ يَنزِعُ جُرْمَ ٱلْخَطِيئَةِ مِنْ قَلْبِ ٱلْإِنْسَان، أَمَّا غُفْرَانُ ٱلْإِنْسَانِ فَيَكُونُ بِـتَجَنُّبِ ٱلْبُغْضَةِ، و ٱلِٱمْتِنَاعِ عَنِ ٱلِٱنْتِقَام وٱلرَّغْبَةِ فِي خَيْرِ ٱلْمُسِيءِ. إِنَّهُ أُسْلُوبٌ جَدِيدٌ لِمُوَاجَهَةِ ٱلشَّرِّ بِـٱلْمَحَبَّةِ. لَا تُسْتَجَابُ طَلَبَتُنَا بِـ"ٱغْفِرْ لَنَا" إِلَّا إِذَا تَمَّ ٱلِٱفْتِرَاضُ الثَّانِي: "فَإِنَّنَا نُعْفِي نَحْنُ أَيْضًا". فَـٱلْمَحَبَّةُ لَا تَتَجَزَّأُ: "إِذَا قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ ٱللَّهَ، وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، كَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّ ٱلَّذِي لَا يُحِبُّ أَخَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِبَّ ٱللَّهَ وَهُوَ لَا يَرَاهُ" (1 يوحنا 4: 20). أَمَّا عِبَارَةُ "لا تَترُكْنا نَتَعرَّضُ لِلتَّجْرِبَةِ"، فَفِي ٱلأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ: εἰσενέγκῃς)، وَتَعْنِي: "لا تُدْخِلْنَا"، أَيْ: لا تَدَعْنَا نَدْخُلُ فِي ٱلتَّجْرِبَةِ، أَوْ نَسْقُطَ فِيهَا. إِنَّهَا طَلَبَةُ ضَعْفٍ بَشَرِيٍّ صَادِقٍ، تُعَبِّرُ عَنْ رَغْبَةِ ٱلْمُؤْمِنِ أَنْ يُعَانِدَ ٱلتَّجْرِبَةَ، لا بِقُوَّتِهِ، بَلْ بِقُوَّةِ ٱللَّهِ، وَأَنْ يَنْتَصِرَ عَلَيْهَا بِـنِعْمَتِهِ. ما هي التجربة؟ ليست ٱلتَّجْرِبَةُ هُنَا هِيَ ٱلِٱمْتِحَانُ الَّذِي خَضَعَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (التكوين 22: 1)، وَلا ٱلِٱخْتِبَارُ الَّذِي اجْتَازَ فِيهِ ٱلشَّعْبُ فِي ٱلْقَفْرِ (خروج 15: 25)، بَلْ هِيَ تَجْرِبَةُ ٱلشَّرِّيرِ، وَغَايَتُهَا ٱلْهَلَاكُ وَٱلْفَسَادُ. قَدْ خَضَعَ لَهَا يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ (متى 4: 1)، وَقَدْ أَرَانَا أَنَّهُ مُمْكِنٌ ٱلِٱنْتِصَارُ عَلَيْهَا بِكَلِمَةِ ٱللَّهِ وَثِقَةِ ٱلِابْنِ فِي ٱلآبِ. لا يُجَرِّبُ ٱللَّهُ أَحَدًا. يُؤَكِّدُ ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ: "ٱللَّهُ لَا يُجَرِّبُ أَحَدًا" (يعقوب 1: 13)، وَلٰكِنَّهُ يَسْمَحُ بِٱلتَّجْرِبَةِ كَمَجَالٍ لإخْتِيَارِ ٱلْخَيْرِ، وَتَثْبِيتِ ٱلْحُرِّيَّةِ. وَقَدْ وَعَدَ ٱللَّهُ أَنْ لَا يَدَعَنَا نُجَرَّبُ فَوْقَ مَا نُطِيقُ: "ٱللهُ أَمِينٌ، فَلَنْ يَدَعَكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ طَاقَتِكُمْ، بَلْ يُؤَتِّي ٱلتَّجْرِبَةَ مَعَ ٱلْمَنْفَذِ لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوهَا" (1 قورنتس 10: 13). جوهر الطلبة: لا تسمح لنا أن نسقط. فِي هٰذِهِ ٱلطَّلَبَةِ، نَقُولُ: "يَا رَبُّ، لَا تَدَعْنَا نَدْخُلُ فِي ٱلتَّجْرِبَةِ إِلَى ٱلنِّهَايَةِ، وَلَا تَسْمَحْ لَنَا أَنْ نَسْقُطَ، وَلَا تَجْعَلْنَا نُجَازِفُ بِقُرْبِنَا مِنَ ٱلْخَطَرِ، بَلْ نَجِّنَا." هٰذَا مَا عَبَّرَ عَنْهُ ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ فِي بُسْتَانِ جَثْسَيْمَانِي: "ٱسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَقَعُوا فِي ٱلتَّجْرِبَةِ" (متى 26: 41). أنواع التجربة ومخاطرها فِي نَظَرِ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ، لَا تَأْتِي فَقَطْ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ، بَلْ أَيْضًا مِنْ: شَهَوَاتِ ٱلْجَسَدِ، وَحُبِّ ٱلْغِنَى، وَٱلرَّغَبَاتِ ٱلْفَاسِدَةِ. "أَمَّا ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَ ٱلْغِنَى فَإِنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي ٱلتَّجْرِبَةِ وَٱلْفَخِّ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ ٱلشَّهَوَاتِ ٱلْعَمِيَاءِ ٱلْمَشْؤُومَةِ، ٱلَّتِي تُغْرِقُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلدَّمَارِ وَٱلْهَلَاكِ" (1 طيموتاوس 6: 9). فِي هٰذِهِ ٱلطَّلَبَةِ، نُعْلِنُ ضَعْفَنَا، وَنَتَوَسَّلُ إِلَى ٱللَّهِ:
أَنْ يُنْقِذَنَا مِنَ ٱلدُّخُولِ فِي ٱلتَّجْرِبَةِ،
وَأَنْ يُعِينَنَا عِنْدَ ٱلِاحْتِمَالِ،
وَأَنْ يُنَجِّيَنَا مِنَ ٱلسُّقُوطِ،
وَأَنْ يُقِيمَنَا إِنْ سَقَطْنَا.
إِنَّهَا طَلَبَةُ ٱلْقَلْبِ ٱلْمُتَّضِعِ ٱلَّذِي يَقُولُ: "يَا رَبُّ، نَحْنُ نَعْرِفُ ضَعْفَنَا، فَثَبِّتْنَا، لِئَلَّا نَسْقُطَ فِي ٱلتَّجْرِبَةِ، وَلِكَيْ نَظَلَّ لَكَ وَفِي حِمَاكَ.
5 وقالَ لَهم: ((مَن مِنكم يَكونُ لَه صَديقٌ فيَمْضي إِلَيه عِندَ نِصفِ اللَّيل، ويَقولُ له: يا أَخي، أَقرِضني ثَلاثَةَ أَرغِفَة،
تشيرُ عبارةُ: "مَن مِنكم يَكونُ لَهُ صَديقٌ" إلى أُسلوبِ يسوعَ في التَّعليم، وهو أُسلوبٌ تربويٌّ قائمٌ على استخدامِ السُّؤال، كما في قوله: "ماذا كُتِبَ في الشَّريعة؟ كَيفَ تَقرأ؟" (لوقا 10: 26). يُقارِنُ يسوعُ هنا الإنسانَ الّذي يُصلّي بمَن يلجأ إلى صديقه، ويتجرّأُ على الذَّهابِ إليه ليلًا لِيَطلبَ منه طعامًا يُقدّمهُ لِضَيفٍ غيرِ مُتوقَّع. أمّا عبارةُ "صَديقٌ" ففي الأصلِ اليونانيّ: φίλος وتدلُّ على الصَّاحبِ الصّادقِ الودود، كما قال الحكيم بن سيراخ: "الصَّديقُ الأَمينُ لا يُعادِلُهُ شَيءٌ، وقيمَتُهُ لا يُقَدَّرُ لها ثَمَن" (سيراخ 6: 15)، وكذلك في سفر الأمثال: "الصَّديقُ يُحِبُّ في كلِّ حين، والأخُ يُولَدُ لِلشِّدَّة" (أمثال 17: 17). فالصّداقةُ الحقيقيّة تُضفي بهجةً على الحياة، كما جاء أيضًا: "أَكلةٌ مِن البَقْلِ، وَالمَحَبّةُ معها، خَيْرٌ مِن ثَوْرٍ مُسمَّنٍ، وَالبُغْضَةُ معه" (أمثال ١٥: ١٧). وقد أعطى يسوعُ لهذه الصّداقة وجهًا إنسانيًّا جميلًا: فقد "أَحَبَّ" الشابَّ الغنيَّ (مرقس 10: 21). وأظهر عاطفتَه نحوَ لَعازَر، إذ قالت أختاه: "يا ربّ، هوذا الّذي تُحبُّهُ مريض" (يوحنّا 11: 3). "أمَّا عبارةُ "فَيَمْضي إِلَيْهِ عِندَ نِصفِ اللَّيْل" فتُشيرُ إلى ذَهابِ الرَّجلِ إلى صَديقِه في ساعةٍ غيرِ مُعتادة، دونَ تردُّدٍ أو خَجَل، طَلَبًا لِسَدِّ حاجتِه، لأنَّهُ يَعلَمُ أنَّ له صَديقًا يَثِقُ بِهِ وبجُودِه. أمّا عبارةُ "أَقرِضني"، فتشيرُ إلى طلبِ الحصولِ على خبز الجسد، أي الحاجات الجسديّة الضروريّة. ويُشيرُ هذا الطَّلبُ إلى أنَّ الصَّلاةَ ليست مجرّدَ تَردادٍ لكلماتٍ أو تِلاوةٍ لصِيغةٍ محدَّدة، بل هي مسيرةٌ روحيَّةٌ تتضمَّنُ تحدّياتٍ وتعقيداتٍ، وتستلزمُ جهدًا ومثابرةً في السَّير نحو الله. فالصلاةُ ليست استجابةً فوريَّةً أو تلقائيَّة، بل هي مسيرةُ إيمانٍ تحتاجُ إلى صبرٍ ومُثابرةٍ وثقةٍ ثابتةٍ بمواعيدِ الله. ويُعلّق القدّيس مقاريوس المصريّ قائلًا: "لا يَشعُرُ المُتسوِّلُ بأيّ إحراجٍ في أن يقرعَ البابَ ويَسألَ، وإن لم يُعطِهِ أحدٌ شيئًا، يدخلُ إلى المنزلِ ويطلُبُ بمزيدٍ من قلّةِ الإحراج: خبزًا أو لباسًا أو حذاءً، في سبيل راحةِ جسده. هو لا يَرحلُ إن لم يحصلْ على شيءٍ ما، حتّى لو تمَّ طرده" (العظة 16، المجموعة الثالثة). وأمَّا عبارةُ "ثَلاثَةَ أَرغِفَةٍ"، فلها أبعادٌ رمزيَّةٌ غنيَّة، نذكر منها:
يرى القدِّيسُ ثيوفلاكتيوس بطريركُ بلغاريا، أنَّها تُشيرُ إلى إشباعِ حاجاتِ الجسدِ، والنَّفسِ، والرُّوح.
ويعتبر القدِّيسُ أوغسطينوس أنَّها ترمزُ إلى الإيمانِ بالثالوثِ الأقدس.
ويرى بعضُ المفسِّرين أنَّ رقمَ (٣) يرمزُ إلى الثالوثِ الإلهي، الّذي به نَشبَع: إذ يُثبِّتنا الرُّوحُ في الابن، ويحملُنا الابنُ إلى أحضانِ الآب.
كما يُشيرُ آخرون إلى أنَّها تَحملُ دلالةً على القيامةِ في اليومِ الثالث، إذ نَشبَعُ بجسدِ المسيحِ القائمِ من بينِ الأموات.
تُبيِّنُ لنا هذِهِ الآيَةُ أنَّ الصَّلاةَ هِيَ أوَّلًا إدراكٌ لِأنَّ لنا أبًا في السَّماء، يُنعمُ علينا بالقُدرةِ على إبقاءِ أبوابِ قلوبِنا ومَنازِلِنا مفتوحةً، مُستعدِّينَ لاستقبالِ مَن يَلجَأُ إِلَينا في كُلِّ وقت، لأنَّنا نَعلَمُ أنَّ لنا نحنُ أيضًا مَن نَلجَأُ إليهِ بثقةٍ وأمانٍ.
6 فقَد قَدِمَ عَلَيَّ صَديقٌ مِن سَفَر، ولَيسَ عِندي ما أُقَدِّمُ لَه.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "صَدِيقٌ مِنْ سَفَرٍ" إِلَى الإِنْسَانِ الْمُتْعَبِ فِي مَسِيرَتِهِ الأَرْضِيَّةِ، الْبَاحِثِ عَنِ الْقُرْبِ وَالضِّيَافَةِ الرُّوحِيَّةِ. هُوَ صُورَةٌ لِكُلِّ مُحْتَاجٍ يَقْرَعُ بَابَ حَيَاتِنَا، فَيَطْلُبُ مِنَّا خُبْزَ الْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحَقِّ. أَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَيْسَ عِندِي مَا أُقَدِّمُ لَهُ"، فَهُوَ اعْتِرَافُ الْمُؤْمِنِ بِعَجْزِهِ الشَّخْصِيِّ عَنِ الإِشْبَاعِ، وَتَعْبِيرٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى نِعْمَةِ اللهِ، الَّتِي وَحْدَهَا تَمْلَأُ الْفَرَاغَ وَتُشْبِعُ الْجَائِعِينَ. فَالْخُبْزُ الْمَطْلُوبُ هُنَا لَيْسَ مَادَّةً، بَلْ رَمْزٌ إِلَى كَلِمَةِ اللهِ، وَجَسَدِ الْمَسِيحِ، وَحُضُورِ الرُّوحِ الْقُدُسِ فِي حَيَاتِنَا.
7 فيُجيبُ ذاك مِنَ الدَّاخلِ: لا تُزعِجْني، فالبابُ مُقفَلٌ وأَولادي معي في الفِراش، فلا يُمكِنُني أَن أَقومَ فأُعطِيَكَ.
تشير عبارة "يُجِيبُ ذَاكَ مِنَ الدَّاخِلِ" إِلَى مَا يَبْدُو كَصَمْتٍ إِلَهِيٍّ أَوْ عَدَمِ اسْتِجَابَةٍ فَوْرِيَّةٍ لِلصَّلَاةِ، وَكَأَنَّ اللهَ مُخْتَفٍ عَنْ مَشْهَدِ الْعَطَاءِ، مَعَ أَنَّهُ حَاضِرٌ فِي عُمْقِ الْكِيَانِ. أمَّا عبارة “لا تُزْعِجْنِي " فلا تُعَبِّرُ عَنْ مَوْقِفِ اللهِ الْحَقِيقِيِّ، بَلْ تَمْثِيلٌ بَشَرِيٌّ لِعُذْرٍ يُبَرِّرُ التَّأْخِيرَ أَوِ التَّبَاطُؤَ الظَّاهِرَ. "أما عبارة " الْبَابُ مُقْفَلٌ " فتُرْمَزُ بِهِ إِلَى الْحَوَاجِزِ الظَّاهِرِيَّةِ الَّتِي يَظُنُّ الإِنْسَانُ أَنَّهَا تَمْنَعُهُ مِنْ نَيْلِ النِّعْمَةِ، مِثْلَ الْخَطَايَا، أَوْ ضَعْفِ الإِيمَانِ، أَوْ غِيَابِ الشُّعُورِ بِحُضُورِ اللهِ. وعبارة "أَوْلَادِي مَعِي فِي الْفِرَاشِ ": هو تَعْبِيرٌ عَنْ حَالَةِ الرَّاحَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ، قَدْ يَرْمُزُ إِلَى مَنْ هُمْ دَاخِلَ دَائِرَةِ النِّعْمَةِ وَالْبَيْتِ (أَيْ الْكَنِيسَةِ)، فِي مُقَابِلِ مَنْ هُوَ فِي الْخَارِجِ يَقْرَعُ. وعبارة "فَلا يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُومَ": لَيْسَتْ هذِهِ صُورَةً عَنِ اللهِ، بَلْ صُورَةُ الإِنْسَانِ الْمَحْدُودِ، وَتَأْتِي فِي سِيَاقِ الْمَثَلِ لِتُبْرِزَ عَظَمَةَ اللهِ، الَّذِي لَا يَنَامُ وَلَا يَكِلُّ، وَيَسْتَجِيبُ لِلْمُصَلِّينَ بِثِقَةٍ وَمُثَابَرَةٍ. ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَوغُسْطِينُوس قَائِلًا: "إِنْ بَدَا لَكَ أَنَّ اللهَ يَتَبَاطَأُ فِي الِاسْتِجَابَةِ، فَثِقْ أَنَّهُ يَخْتَبِرُ إِيمَانَكَ، وَيُهَيِّئُ لَكَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا تَطْلُبُ، شَرْطَ أَنْ تُثَابِرَ وَلَا تَيْأَسْ."
8 أَقولُ لَكم: وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه.
تشيرُ عبارةُ "يُعطِهِ لِكونِهِ صَديقَه" إلى يسوعَ الّذي يُقدِّم مَثَلَ الصّديقِ ليَكشِفَ وجهَ الآبِ الحقيقيّ. فالرّبُّ يُقارنُ بين استجابةِ الإنسانِ المحدودةِ والمشروطة، وبين استجابةِ اللهِ الكاملةِ والمجّانيّة، ليُبيِّن كم أنّ اللهَ أحنُّ وأكرم. أمَّا عبارةُ "يُعطِيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه"، فتُشيرُ إلى صَديقٍ لا يُلبِّي الطَّلبَ بدافعِ المودَّة، بل ليرتاحَ من الإلحاح، كما في مثلِ القاضي الظّالم (لوقا 18: 4–5)، الّذي قال: "وإِن كُنتُ لا أَخافُ اللهَ ولا أَهابُ أَحَدًا، فسَأُنصِفُها لِئَلّا تَجيءَ دائِمًا فَتُزعِجَني". لكنَّ هذا لا يعني أبدًا أنَّ اللهَ يتصرّفُ معنا على هذا النّحو، أو أنَّهُ يستجيبُ لنا تفاديًا لإزعاجنا. فاللهُ ليس كالقاضي الظّالم، ولا كالصّديقِ المُتضجِّر، بل كما يُعلّق القدّيس أوغسطينوس: "إنْ كانَ الشّخصُ النّائمُ التزمَ أن يُعطيَ قسرًا بعدَ إزعاجِهِ من نومِهِ لِذاكَ الّذي يسأله، فكمْ بالأَحرَى يُعطى أكثر ذاكَ الّذي لا ينام، بل يُوقظُنا من نومنا لكي نسألهُ أن يُعطينا؟". إذًا، الكلامُ لا يُظهِرُ تردُّدَ اللهِ أو تأخُّرَه في الاستجابة، بل يُبيِّنُ طيبتَهُ وسخاءَهُ، من بابِ الحُجَّةِ الأولى. كما قال يسوع: "فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ، تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصّالِحَةَ لأَبنائِكم، فَما أَولى أَباكُمُ السَّماويَّ أَن يُعطيَ الرّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يَسأَلونَه!" (لوقا 11: 13). ومن هذا المُنطَلَق، يُبرِزُ هذا المثلُ موقفَ اللهِ الّذي يَستجيب، لا لأنّه مُلزَم، بل لأنّه عادلٌ وصالحٌ وأبٌ مُحبّ. فهو لا يتصرّفُ بحسبِ منطقِ البشر، بل يفيضُ بالعطاءِ لأنَّهُ "أبو الرّحمةِ وإلهُ كُلِّ تعزية" (2 قورنتس 1: 3)، كما قال يعقوبُ الرّسول: "كُلُّ عَطِيَّةٍ صالِحَةٍ، وَكُلُّ مَوهِبَةٍ تامَّةٍ، هِيَ مِن فَوق، نازِلَةٌ مِن عِندِ أَبِي الأَنوَار" (يعقوب 1: 17). تُظْهِرُ هذِهِ الآيَةُ تَبَايُنًا وَاضِحًا بَيْنَ مَنْطِقِ الإِنْسَانِ الْمَحْدُودِ وَسَخَاءِ اللهِ الآبِ. فَفِي هذَا السِّيَاقِ، تُصْبِحُ الصَّلَاةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ تُقَالُ، بَلْ مَوْقِفًا دَاخِلِيًّا مِنَ الثِّقَةِ وَالْمَحَبَّةِ، كَمَا الطِّفْلِ الَّذِي يُنَادِي أَبَاهُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ يَسْمَعُهُ.
9 وإِنَّي أَقولُ لَكم. اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "اِسْأَلُوا، اُطْلُبُوا، اِقْرَعُوا" إِلَى أَنَّنَا لَا نَطْلُبُ مِنَ اللهِ بِأَفْكَارِنَا أَوْ بِنِيَّاتِنَا ٱلدَّاخِلِيَّةِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا بِشِفَاهِنَا وَأَعْمَالِنَا. فَٱلصَّلَاةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ دَعْوَةٍ إِلَى ٱلْكَلَامِ مَعَ اللهِ، بَلْ تَشْمَلُ ٱلْكِيَانَ ٱلْبَشَرِيَّ بِكَامِلِهِ: ٱلْفِكْرَ، وَٱلْقَلْبَ، وَٱلْجَسَدَ. وَتُلَمِّحُ هَذِهِ ٱلْعِبَارَةُ أَيْضًا إِلَى دَعْوَةِ يَسُوعَ لَنَا بِأَنْ نُثَابِرَ فِي صَلَاتِنَا، فَلَا نَكِلَّ وَلَا نَمَلَّ، بَلْ نُصِرَّ بِإِيمَانٍ وَثِقَةٍ عَلَى طَلَبِ نِعْمَةِ اللهِ. ٱلرَّبُّ لَا يَطْلُبُ مِنَّا أَنْ نُكَرِّرَ ٱلْكَلِمَاتِ، بَلْ أَنْ نَثْبُتَ فِي حَضْرَتِهِ بِإِيمَانٍ، عَالِمِينَ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَسْتَجِيبُ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُنَاسِبِ. عَلَيْنَا أَنْ نُصَلِّيَ لَا بِتِرْدَادٍ فَارِغٍ، بَلْ بِتَسْلِيمٍ وَاثِقٍ وَمَحَبَّةٍ عَمِيقَةٍ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس قَائِلًا: "يَبْدُو أَنَّ ٱلرَّبَّ أَرَادَ أَنْ يُثِيرَ فِينَا ٱلرَّغْبَةَ مِنْ خِلَالِ تَأْخِيرِ ٱلِٱسْتِجَابَةِ، لَا أَنْ يَرْفُضَ عَطَايَاهُ. فَإِنْ كَانَ ٱلَّذِي يَتَبَاطَأُ فِي ٱلْعَطَاءِ يَتَسَبَّبُ فِي أَنْ يَزْدَادَ ٱلتَّوَسُّلُ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ اللهُ ٱلَّذِي يَعْرِفُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَ وَمَتَى؟" وَيَكْتُبُ ٱلْقِدِّيسُ كِيرِلُّسُ ٱلْإِسْكَنْدَرِيُّ: "اللهُ لَا يَنْسَى ٱلطَّلَبَاتِ، بَلْ يُهَيِّئُ ٱلزَّمَانَ وَٱلْمَكَانَ ٱلْأَفْضَلَ لِيَهَبَ مَا هُوَ لِخَيْرِنَا، لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا نَكُفَّ عَنِ ٱلْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ بِثِقَةِ ٱلْبَنِينَ". أَمَّا عِبَارَتَا "تُعْطَوْا" وَ"يُفْتَحْ لَكُمْ" فَهُمَا بِصِيغَةِ ٱلْمَجْهُولِ فِي ٱللُّغَةِ ٱلْيُونَانِيَّةِ: δοθήσεται ὑμῖν، καὶ εὑρήσετε، وَهِيَ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَمَلِ اللهِ نَفْسِهِ دُونَ ذِكْرِ ٱسْمِهِ مُبَاشَرَةً. أَيْ إِنَّ ٱلْفَاعِلَ ٱلضِّمْنِيَّ هُوَ اللهُ. وَمِنْ خِلَالِ هَذَا ٱلْأُسْلُوبِ، "يُعلِنُ يَسوعُ، بِشَكلٍ رَسميٍّ وَواضِح، أَنَّ اللهَ يَستَجيبُ الصَّلاةَ، ويُكرِّرُ هذا التَّأكيدَ ثلاثَ مرّاتٍ، لِيُظهِرَ ثَباتَ وَعدِ اللهِ وسَخاءَه. فالأَمرُ لَيسَ مُجرَّدَ احتمالٍ أو رَجاءٍ ضَعيف، بَل هو وَعدٌ مُؤكَّدٌ يَخرُجُ مِن فَمِ السَّيِّدِ نَفسِه، لِمَن يُؤمِنُ بِعُمقِ الصَّداقةِ مَعَ الآب، وَلِمَن يَعرِفُ كيفَ يَنتَظِر، وَلِمَن يَعلَمُ أَنَّ اللهَ لا يُخيِّبُ الرَّجاء." كما يقول الكتاب: "ٱلَّذِينَ يَنتَظِرُونَ ٱلرَّبَّ يُجَدِّدُونَ قُوَّتَهُم، يَرفَعُونَ أَجنِحَةً كَالنُّسُور، يَركُضُونَ وَلا يَتعَبُونَ" (إشعيا 40: 31). ويُعلِّق القدّيس أوغسطينوس: "إنَّه يُبطِئُ في الاستجابةِ، لا لِيَرفُضَ العَطِيَّة، بَل لِيُوقِظَ فينا الرَّغبة، لأنَّ اللهَ لا يُعطينا ما نَطلُبُه فقط، بَل يُعطينا أن نَفهَمَ ما نَحتاجُه فعلًا." وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ٱلذَّهَبِيُّ ٱلْفَمِ قَائِلًا: "لَيْسَ فَقَطِ ٱلَّذِينَ يَسْأَلُونَ يُعْطَوْنَ، بَلْ ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَ وَيَقْرَعُونَ، لِأَنَّ ٱلصَّلَاةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِحَرَارَةٍ وَجِدٍّ؛ فَاللهُ لَا يَسْتَجِيبُ لِلْكَلِمَاتِ ٱلْبَارِدَةِ، بَلْ لِقَلْبٍ مُشْتَعِلٍ بِٱلْإِيمَانِ". اللهُ يَسْتَجِيبُ دَائِمًا، وَلَكِن لَيْسَ دَائِمًا كَمَا نُرِيدُ: أَحْيَانًا تَكُونُ ٱلْٱسْتِجَابَةُ: "نَعَمْ"، وَأَحْيَانًا: "لَا"، وَأَحْيَانًا: "ٱنْتَظِرْ"، وَلَكِنَّهَا دَائِمًا ٱسْتِجَابَةٌ نَابِعَةٌ مِنْ حِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ تَفُوقُ إِدْرَاكَنَا. فَٱلْمُثَابَرَةُ تُكَوِّنُ ٱلْعِلَاقَةَ. لَيْسَتِ ٱلصَّلَاةُ وَسِيلَةً لِلْحُصُولِ فَقَطْ، بَلْ هِيَ أَيْضًا وَسِيلَةٌ لِلتَّقَرُّبِ مِنَ ٱللَّهِ. فَكَمَا تَنْمُو ٱلصَّدَاقَةُ مِنْ خِلَالِ ٱللِّقَاءِ وَٱلْحِوَارِ، تَنْمُو عِلَاقَتُنَا بِٱللَّهِ مِنْ خِلَالِ مُثَابَرَتِنَا فِي ٱلصَّلَاةِ. لمن يؤمن بعمق الصداقة مع الآب، لمن يعرف كيف ينتظر، لمن يعلم أن الله لا يُخيّب الرجاء.
10 لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له.
"إِنَّ فِعْلَ "يَسْأَل، يَطْلُب، يَقْرَع" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ: ὁ αἰτῶν، هُوَ بِصِيغَةِ ٱلْمُضَارِعِ ٱلِٱسْتِمْرَارِيِّ، أَيْ إِنَّ ٱلْمَعْنَى ٱلْأَصِيلَ هُوَ: "كُلُّ مَنْ يُوَاصِلُ ٱلسُّؤَالَ يَنَال، وَمَنْ يُثَابِرُ عَلَى ٱلطَّلَبِ يَجِد، وَمَنْ يُدَاوِمُ عَلَى ٱلْقَرْعِ يُفْتَحْ لَهُ." وَهَذَا مَا يُبَيِّنُ أَنَّ ٱلصَّلَاةَ لَيْسَتْ رَدَّةَ فِعْلٍ عَابِرَةً، بَلْ هِيَ مَسِيرَةُ إِيمَانٍ وَمُثَابَرَةٍ وَثِقَةٍ، خُصُوصًا فِي وَجْهِ صَمْتِ اللهِ ٱلظَّاهِرِيِّ، حَيْثُ يَبْدُو أَنَّ ٱلسَّمَاءَ لَا تُجِيبُ، وَلَكِنَّهَا تُنْصِتُ وَتُصْغِي فِي ٱلْخَفَاءِ. إِنَّ ٱلصَّلَاةَ تَعْنِي ٱلِٱعْتِرَافَ بِعَجْزِ ٱلْإِنْسَانِ أَمَامَ اللهِ، وَٱنْفِتَاحَهُ ٱلْمُتَوَاضِعَ لِقُبُولِ ٱلنِّعْمَةِ، وَٱلتَّخَلِّي عَنِ ٱلسَّيْطَرَةِ وَٱلتَّخْطِيطِ ٱلْبَشَرِيِّ. وَكَمَا يُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أَفْرَامُ ٱلسُّرْيَانِيُّ: "كُلُّ صَلَاةٍ حَارَّةٍ هِيَ مِفْتَاحٌ لِبَابِ ٱلرَّحْمَةِ. وَمَنْ لَا يُثَابِرْ عَلَى ٱلطَّرْقِ، يَبْقَ ٱلْبَابُ مُغْلَقًا أَمَامَهُ، لَا لِأَنَّ اللهَ لَا يُرِيدُ، بَلْ لِأَنَّهُ يَنْتَظِرُ إِيمَانَهُ. يَدْعُونَا ٱلرَّبُّ إِلَى ٱلْإِلْحَاحِ، لَا لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ، بَلْ لِأَنَّهُ يُرَبِّينَا بِٱلْإِيمَانِ، وَيُهَيِّئُ لَنَا ٱلْخَيْرَ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُنَاسِبِ." فَٱلصَّلَاةُ لَيْسَتْ وَسِيلَةَ ضَغْطٍ عَلَى اللهِ، بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ لِنُغَيِّرَ نَحْنُ، لَا أَنْ نُغَيِّرَهُ هُوَ. اللهُ لَيْسَ آلَةً سِحْرِيَّةً تُعْطِي مَا نَطْلُبُ، بَلْ هُوَ آبٌ يَعْرِفُ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ (متى 6: 8)، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ نَثِقَ بِهِ، لَا أَنْ نُسَاوِمَهُ. تُشِيرُ هَذِهِ ٱلْآيَةُ، عَلَى ٱلصَّعِيدِ ٱلتَّفْسِيرِيِّ ٱللَّاهُوتِيِّ وَٱلتَّأَمُّلِيِّ، إِلَى أَنَّ عَطَايَا اللهِ لَا تُعْطَى بِلَا ٱسْتِعْدَادٍ دَاخِلِيٍّ، بَلْ مِنْ خِلَالِ ٱلْإِلْحَاحِ فِي ٱلصَّلَاةِ، ٱلَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ ثِقَةٍ حَقِيقِيَّةٍ بِحُضُورِ اللهِ وَكَرَمِهِ.
11 فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟
تُشِيرُ عِبَارَةُ "السَّمَكَةِ" إِلَى نَوْعٍ مِنَ ٱلْحَيَوَانَاتِ ٱلْمَائِيَّةِ ٱلْقِحْفِيَّةِ، خَيْشُومِيَّةِ ٱلتَّنَفُّسِ، عَدِيمَةِ ٱلْأَصَابِعِ فِي أَطْرَافِهَا. وَهِيَ رَمْزٌ لِلْخِصْبِ وَٱلْحَيَاةِ وَٱلسَّعَادَةِ، وَأَحْيَانًا لِلْحِكْمَةِ. وَأَمَّا ٱلْعَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس، فَيَرَى فِيهَا حُبَّ ٱلتَّعَلُّمِ. فِي ٱلْفَنِّ ٱلْيَهُودِيِّ، كَانَتِ ٱلسَّمَكَةُ رَمْزًا لِلْقِيَامَةِ وَلِلْمَاءِ ٱلْحَيِّ، وَقَدِ ٱسْتَمَرَّ هٰذَا ٱلرَّمْزُ مَعَ ٱلسَّيِّدِ ٱلْمَسِيحِ. وَأَقْدَمُ رَسْمٍ لِلسَّمَكَةِ يَعُودُ إِلَى عَامِ 192م فِي رُومَا. وَلَفْظَةُ "سَمَكَة" فِي ٱلْيُونَانِيَّةِ هِيَἰχθύς وَهِيَ ٱخْتِصَارٌ لإوَائِلِ خَمْسِ كَلِمَاتٍ تُلَخِّصُ ٱلْإِيمَانَ ٱلْمَسِيحِيَّ:
Ἰησοῦς = يَسُوعُ،
Χριστός = ٱلْمَسِيحُ،
Θεοῦ = ٱللهِ،
Υἱός = ٱلابْنُ،
Σωτήρ = ٱلْمُخَلِّصُ.
وَمَعْنَاهَا: "يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱبْنُ ٱللهِ، ٱلْمُخَلِّصُ." وَرَمْزُ ٱلسَّمَكَةِ كَانَ مِنَ ٱلرُّمُوزِ ٱلْمُهِمَّةِ ٱلَّتِي ٱسْتَخْدَمَهَا ٱلْمَسِيحِيُّونَ فِي زَمَنِ ٱلِٱضْطِهَادِ لِلتَّعْرِيفِ ٱلسِّرِّيِّ عَنْ إِيمَانِهِم. وَيُعَلِّقُ تِرْتُلِيَانُوس قَائِلًا: "إِنَّنَا سَمَكٌ صَغِيرٌ، أَشْبَهُ بِسَمَكِتِنَا ٱلْكَبِيرَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ؛ وُلِدْنَا فِي ٱلْمَاءِ بِٱلْمَعْمُودِيَّةِ، وَلَنْ يَكُونَ خَلَاصُنَا إِلَّا بِبَقَائِنَا دَاخِلَ ٱلْمَاءِ." أَمَّا عِبَارَةُ "حَيَّةٌ"، فَفِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ: ὄφις، وَفِي ٱلْعِبْرِيَّةِ: נָחָשׁ، وَمَعْنَاهَا: "حَنَش". وَهِيَ حَيَوَانٌ يَزْحَفُ عَلَى بَطْنِهِ (رَاجِعْ: تَكْوِين 3: 1)، لَهُ رَأْسٌ وَذَنَبٌ (رَاجِعْ: تَكْوِين 3: 15)، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَطْرَافٌ. وَتُسْتَخْدَمُ كَلِمَةُ "ٱلْحَيَّةِ" ٱسْمًا شَامِلًا لِأَنَّ ٱلْحَيَّاتِ تَنْتَشِرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ ٱلْمَوَاضِعِ: ٱلْبَرِّيَّةِ، وَٱلطُّرُقِ، وَٱلْجُدْرَانِ، وَٱلصُّخُورِ (رَاجِعْ: عَدَد 21: 6، تَثْنِيَة 8: 15). وَفِي بَعْضِ ٱلثَّقَافَاتِ ٱلْمُجَاوِرَةِ، رَمَزَتِ ٱلْحَيَّةُ إِلَى ٱلْحَيَاةِ، وَٱلْخِصْبِ، وَٱلْحِكْمَةِ، وَكَانَتْ تُعَدُّ حَيَوَانًا مُقَدَّسًا. وَلَكِنَّ فِي ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ، ٱلْحَيَّةُ تَرْمُزُ إِلَى: ٱلشَّيْطَانِ ٱلْمُجَرِّبِ (تَكْوِين 3: 1)، مُقَاوَمَةِ اللهِ (تَثْنِيَة 8: 15)، سُمٍّ خَفِيٍّ (سِيرَاخ 25: 15)، ٱلْخَدِيعَةِ وَٱلْإِغْوَاءِ(َكْوِين 3: 1–5)، وَٱللَّعْنَةِ (َكْوِين 3: 14). فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ، يُشِيرُ يَسُوعُ إِلَى ٱلسُّلْطَانِ ٱلَّذِي يُعْطِيهِ لِتَلَامِيذِهِ عَلَى ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبِ: "رَأَيْتُ ٱلشَّيْطَانَ سَاقِطًا كَٱلْبَرْقِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ... هَا إِنِّي قَدْ وَهَبْتُكُمْ ٱلسُّلْطَانَ أَنْ تَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةٍ لِلْعَدُوِّ، وَلَا يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ" (لوقا 10: 18–19). وهناك ارتباط بين السَّمَكَةُ وَٱلْحَيَّةُ فِي ضَوْءِ مَعْمُودِيَّةِ يَسُوعَ وَتَجْرِبَتِهِ. فِي مَسِيرَةِ يَسُوعَ ٱلْعَلَنِيَّةِ، تَبْدَأُ بِـ ٱلْمَعْمُودِيَّةِ فِي نَهْرِ ٱلْأُرْدُنِّ، كَتَجَلٍّ لِهُوِيَّتِهِ ٱلْإِلَهِيَّةِ: "هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3: 17). ثُمَّ تَأْتِي ٱلتَّجْرِبَةُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ يُوَاجِهُ ٱلْحَيَّةَ ٱلْقَدِيمَةَ، أَيْ ٱلشَّيْطَانَ، فِي مُعْتَرَكٍ خَلَاصِيٍّ يُمَهِّدُ لِـٱنْتِصَارِهِ ٱلْكُلِّيِّ عَلَى ٱلصَّلِيبِ.
ٱلسَّمَكَةُ: رَمْزٌ لِلْمَعْمُودِيَّةِ وَٱلْحَيَاةِ ٱلْجَدِيدَةِ. ٱلْحَيَّةُ: رَمْزٌ لِلتَّجْرِبَةِ وَٱلْخَطِيئَةِ. كُلُّ مُؤْمِنٍ مَدْعُوٌّ أَنْ يَعِيشَ عَلَى مِثَالِ يَسُوعَ: يَبْدَأُ فِي ٱلْمِيَاهِ، حَيْثُ يُولَدُ مِنْ جَدِيدٍ فِي ٱلْمَسِيحِ، ثُمَّ يَمُرُّ بِٱلْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ يُجَرَّبُ، وَيُواجِهُ ٱلْحَيَّاتِ، وَيَنْتَصِرُ، لَا بِقُوَّتِهِ، بَلْ بِقُوَّةِ ٱلْكَلِمَةِ: "لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللهِ" (متى 4: 4). فِي يَسُوعَ، تَلْتَقِي ٱلسَّمَكَةُ وَٱلْحَيَّةُ فِي صِرَاعٍ رَمْزِيٍّ بَيْنَ: ٱلْحَيَاةِ وَٱلْمَوْتِ، ٱلطَّاعَةِ وَٱلْتَّجْرِبَةِ، ٱلْمَاءِ وَٱلنَّارِ. وَلَكِنَّ ٱلْغَلَبَةَ فِي ٱلنِّهَايَةِ للسَّمَكَةِ، أَيْ للمَعْمُودِيَّةِ، ٱلَّتِي تَمْنَحُ ٱلْحَيَاةَ ٱلْجَدِيدَةَ فِي ٱلْمَسِيحِ، ٱبْنِ ٱللهِ، ٱلْمُخَلِّصِ.
12 أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً؟
تَشِيرُ عِبَارَةُ "بَيْضَةً" إِلَى مَا تَضَعُهُ ٱلطُّيُورُ وَٱلدَّوَاجِنُ، وَهِيَ تَرْمُزُ إِلَى ٱلْحَيَاةِ، إِذْ يَخْرُجُ مِنْ جِسْمٍ يَبْدُو جَامِدًا طَائِرٌ حَيٌّ نَابِضٌ بِٱلْحَيَاةِ. فِي ٱلْمُقَابِلِ، تَأْتِي "ٱلْعَقْرَبُ" كَرَمْزٍ لِلْمَوْتِ، فَهِيَ دَابَّةٌ صَغِيرَةٌ سَامَّةٌ، كَثِيرَةُ ٱلْأَنْوَاعِ، تَلْسَعُ بِإِبْرَةٍ فِي ذَيْلِهَا، فَتُهَدِّدُ ٱلْحَيَاةَ وَتُحَطِّمُهَا. يُشِيرُ هٰذَا ٱلتَّبَايُنُ ٱلْحَادُّ بَيْنَ ٱلْبَيْضَةِ وَٱلْعَقْرَبِ إِلَى مُفَارَقَةٍ رَمْزِيَّةٍ قَوِيَّةٍ: فَٱلْبَيْضَةُ، ٱلَّتِي تَحْمِلُ ٱلْحَيَاةَ فِي سُكُونِهَا، تُقَابَلُ بِٱلْعَقْرَبِ، ٱلَّتِي تُنْذِرُ بِٱلْمَوْتِ فِي سُمِّهَا ٱلْمُتَحَرِّكِ. فِي ٱلتُّرَاثِ الحضاري، كَانَتِ ٱلْبَيْضَةُ رَمْزًا لِلْحَيَاةِ فِي حَضَارَاتٍ قَدِيمَةٍ، كَٱلْمِصْرِيَّةِ، وَٱلْكَلْدَانِيَّةِ، وَٱلْفَارِسِيَّةِ، إِذْ كَانَتْ تُعَبِّرُ عَنِ ٱلْوِلَادَةِ وَٱلْخَلْقِ وَٱلْبِدَايَةِ ٱلْجَدِيدَةِ. عبارة "أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَبًا؟" (لوقا 11: 12). تُشِيرُ إِلَى ٱلتَّعَارُضِ ٱلصَّارِخِ بَيْنَ ٱلْعَطَايَا ٱلصَّالِحَةِ ٱلَّتِي يُقَدِّمُهَا ٱلْآبُ ٱلسَّمَاوِيُّ (كَٱلْبَيْضَةِ)، وَٱلْعَطَايَا ٱلْمُمِيتَةِ ٱلَّتِي لَا تَلِيقُ بِٱلْبُنُوَّةِ (كَٱلْعَقْرَبِ). وَلَيْسَ مِنَ ٱلْمُصَادَفَةِ أَنْ يُدْرِجَ لُوقَا ٱلْإِنْجِيلِيُّ ذِكْرَ ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبِ، فَهُوَ يَسْتَوْحِي ذٰلِكَ مِنْ قَوْلِ يَسُوعَ: "وَهَا قَدْ أَوْلَيْتُكُمْ سُلْطَانًا تَدُوسُونَ بِهِ ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةٍ لِلْعَدُوِّ، وَلَنْ يَضُرَّكُمْ شَيْءٌ" (لوقا 10: 19). هٰذَا يُضْفِي عَلَى ٱلتَّعَارُضِ بَيْنَ "ٱلْبَيْضَةِ وَٱلْعَقْرَبِ" بُعْدًا رُوحِيًّا يَتَجَاوَزُ ٱلصُّورَةَ ٱلْحِسِّيَّةَ، لِيُظْهِرَ أَنَّ ٱللهَ لَا يُعْطِي أَبْنَاءَهُ مَا يُهْلِكُهُمْ، بَلْ يُعْطِيهِمْ قُوَّةً تَغْلِبُ ٱلْمَوْتَ وَٱلْخَوْفَ. يَرَى ٱلْقِدِّيسُ أَوْغُسْطِينُوس فِي رُمُوزِ "ٱلْخُبْزِ، وَٱلسَّمَكَةِ، وَٱلْبَيْضَةِ" أَبْعَادًا لَاهُوتِيَّةً ثُلَاثِيَّةً مُرْتَبِطَةً بِٱلْفَضَائِلِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ:
ٱلْخُبْزُ يَرْمُزُ إِلَى ٱلْمَحَبَّةِ، فِي حِينَ أَنَّ ٱلْحَجَرَ يَرْمُزُ إِلَى قَسَاوَةِ ٱلْقَلْبِ؛
ٱلسَّمَكَةُ تَرْمُزُ إِلَى ٱلْإِيمَانِ، فِي حِينَ أَنَّ ٱلْحَيَّةَ تَرْمُزُ إِلَى ٱلضَّلَالِ وَٱلْجُحُودِ؛
ٱلْبَيْضَةُ تَرْمُزُ إِلَى ٱلرَّجَاءِ، فِي حِينَ أَنَّ ٱلْعَقْرَبَ تَرْمُزُ إِلَى ٱلسُّمِّ وَٱلْيَأْسِ.
يُقَابِلُ كُلَّ فَضِيلَةٍ عَطِيَّةٌ سَلْبِيَّةٌ مُضَادَّةٌ، فَـٱلْبَيْضَةُ وَٱلرَّجَاءُ يَتَقَابَلَانِ مَعَ ٱلْعَقْرَبِ وَٱلْيَأْسِ، كَمَا أَنَّ ٱلْإِيمَانَ يَتَقَابَلُ مَعَ ٱلْحَيَّةِ ٱلَّتِي خَدَعَتْ حَوَّاءَ. ويقوم بُولُسُ ٱلرَّسُولُ بتَحْذِيرٍ رَسُولِيٍّ عَلَى هٰذَا ٱلْوَاقِعِ فِي رِسَالَتِهِ ٱلثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ قُورِنْتُسَ، قَائِلًا: "أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ يَكُونَ مَثَلُكُمْ مَثَلَ حَوَّاءَ ٱلَّتِي أَغْوَتْهَا ٱلْحَيَّةُ بِحِيلَتِهَا، فَتَفْسُدَ بَصَائِرُكُمْ وَتَتَحَوَّلَ عَنْ صَفَائِهَا لَدَى ٱلْمَسِيحِ" (2 قورنتس 11: 3). فَٱلْخَطَرُ لَا يَكْمُنُ فِي مَجَرَّدِ ٱلطَّلَبِ، بَلْ فِيمَا نَرْجُوهُ وَنَتَرَجَّاهُ. فَهَلْ نَطْلُبُ مِنَ ٱللهِ بَيْضَةً تُنِيرُ ٱلرَّجَاءَ؟ أَمْ نَطْلُبُ، بِجَهْلٍ أَوْ بُعْدٍ عَنْهُ، مَا يُشْبِهُ ٱلْعَقْرَبَ؟ فِي صَلَاتِنَا، لَا نَطْلُبُ أَشْيَاءَ مَادِّيَّةً فَقَطْ، بَلْ نَطْلُبُ عَطَايَا ٱللهِ ٱلثَّلَاثَ ٱلْكُبْرَى: أَنْ نُحِبَّ (ٱلْخُبْزُ)، أَنْ نُؤْمِنَ (ٱلسَّمَكَةُ)، أَنْ نَرْجُوَ (ٱلْبَيْضَةُ). الله، كَأَبٍ صَالِحٍ، لَا يُعْطِينَا حَجَرًا بَدَلَ ٱلْخُبْزِ، وَلَا حَيَّةً بَدَلَ ٱلسَّمَكَةِ، وَلَا عَقْرَبًا بَدَلَ ٱلْبَيْضَةِ، بَلْ يُعْطِينَا رُوحَهُ ٱلْقُدُّوسَ، عَطِيَّةَ ٱلْحَيَاةِ وَٱلْحَقِّ وَٱلنِّعْمَةِ.
13 فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه)).
تُشِيرُ عِبَارَةُ "الأَشْرَارَ" إِلَى صِفَةٍ بَشَرِيَّةٍ مُرْتَبِطَةٍ بِالتَّعَارُضِ القَائِمِ بَيْنَ صَلَاحِ الآبِ السَّمَاوِيِّ، مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ مَحْدُودِيَّةِ وَخَطَايَا البَشَرِ، حَتَّى الآبَاءِ الأَرْضِيِّينَ، مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. فَـ"الأَشْرَارُ" هُنَا لَيْسَتْ حُكْمًا أَخْلَاقِيًّا مُطْلَقًا عَلَى فَسَادِ الإِنْسَانِ، بَلْ تَعْبِيرًا نِسْبِيًّا يُظْهِرُ مَدَى تَفَوُّقِ اللهِ فِي صَلَاحِهِ وَمَحَبَّتِهِ، حَتَّى مُقَارَنَةً بِالآبَاءِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَوْلَادَهُمْ وَيُعْطُونَهُمْ عَطَايَا صَالِحَةً. تُشِيرُ عِبَارَةُ: "فَما أَوْلَى أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ" إِلَى إِعْلَانِ يَسُوعَ عَنْ أُبُوَّةِ اللهِ، الَّتِي تَتَجَاوَزُ كُلَّ أُبُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ، وَتَكْشِفُ عَنْ حَنَانٍ إِلَهِيٍّ مُطْلَقٍ، لَا يَقِيسُ العَطَاءَ بِمَعَايِيرِ الاسْتِحْقَاقِ، بَلْ يُفِيضُ بِالنِّعْمَةِ، وَيَهَبُ مَا هُوَ أَفْضَلُ: الرُّوحَ القُدُسَ. "الرُّوحُ القُدُسُ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيّ: πνεῦμα ἅγιον، هِو العَطِيَّةُ الإِلَهِيَّةُ المِثَالِيَّةُ العُظْمَى، وَذُرْوَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَهُ اللهُ لِلإِنْسَانِ، لِأَنَّهَا تَضُمُّ فِي ذَاتِهَا كُلَّ الخَيْرَاتِ وَالعَطَايَا الأُخْرَى. فَالرُّوحُ القُدُسُ هُوَ: المَانِحُ الحَيَاةَ (رُومَة 8: 2)، الضَّامِنُ لِلسَّلَامِ وَالسَّعَادَةِ (غَلاطِيَّة 5: 22)، السَّاكِنُ فِي الكَنِيسَةِ وَالمُؤْمِنِينَ، الرَّابِطُ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ وَالمُؤْمِنِ فِي شَرِكَةِ مَحَبَّةٍ خَلَاصِيَّةٍ. وَيُشِيرُ إِنْجِيلُ لُوقَا، كَمَا سِفْرُ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (حَيْثُ ذُكِرَ الرُّوحُ القُدُسُ 53 مَرَّةً)، إِلَى أَنَّ هذِهِ العَطِيَّةَ لَيْسَتْ عَرَضِيَّةً، بَلْ مَرْكَزِيَّةٌ فِي عَمَلِ اللهِ الخَلَاصِيِّ. وَعَدَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ بِالرُّوحِ القُدُسِ: "أَمَّا المُعَزِّي، الرُّوحُ القُدُسُ، الَّذِي سَيَبْعَثُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُم كُلَّ شَيْءٍ" (يُوحَنَّا 14: 26). سَلَّمَهُ لَهُم عَلَى الصَّلِيبِ فِي عَمَلٍ فِدَائِيّ: "وَأَمَالَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ" (يُوحَنَّا 19: 30). وَهَبَهُ لِلكنِيسَةِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ: "نَفَخَ فِيهِم وَقَالَ لَهُم: خُذُوا الرُّوحَ القُدُسَ" (يُوحَنَّا 20: 22). يُرَافِقُ الرُّسُلَ فِي التَّبْشِيرِ، وَيُمنَحُ بِوَضْعِ الأَيَادِي (أَعْمَال 6: 19). يُعْطَى لِلْمُؤْمِنِينَ كَـ: مَبْدَإِ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ (رُومَة 5: 5)، مُحَامٍ وَمُعَزٍّ (يُوحَنَّا 14: 16-26)، كَفِيلٍ لِلوَحْدَةِ المَسِيحِيَّةِ (أَعْمَال 9: 31). وَتُشِيرُ العِبَارَةُ: "لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ" إِلَى شَرْطِ العَطِيَّةِ، أَيْ أَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ لَا يُمْنَحُ إِلَّا لِلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ بِالصَّلَاةِ وَالتَّوْقِ، أَيْ لِلَّذِينَ يَعِيشُونَ فِي انْفِتَاحٍ حَقِيقِيٍّ عَلَى اللهِ. فَأَعْظَمُ اسْتِجَابَةٍ لِلصَّلَاةِ لَيْسَتْ أَمْرًا مَادِّيًّا، بَلْ أَنْ يُعْطِيَنَا اللهُ ذَاتَهُ، عَبْرَ رُوحِهِ، لِيَجْعَلَنَا قَادِرِينَ عَلَى: أَنْ نُحِبَّ عَلَى مِثَالِهِ، أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ بِمِلْءِ القَلْبِ وَالعَقْلِ، أَنْ نَتَرَجَّى الحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ بِثِقَةٍ. فَالرُّوحُ القُدُسُ هُوَ رُوحُ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُثَبِّتُنَا فِي الِابْنِ، وَيَقُودُنَا إِلَى حِضْنِ الآبِ، فِي عِلَاقَةٍ حَمِيمِيَّةٍ تُحْيِينَا فِي العُمْقِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ مَقَارِيُوس الرَّاهِبُ المِصْرِيُّ قَائِلًا: "نَحْنُ الَّذِينَ نَسْعَى لِنَيْلِ الخُبْزِ السَّمَاوِيِّ الحَقِّ، لِنُقَوِّيَ أَنْفُسَنَا، وَالَّذِينَ نَتُوقُ إِلَى لِبَاسِ النُّورِ السَّمَاوِيِّ، وَإِلَى انْتِعَالِ حِذَاءِ الرُّوحِ غَيْرِ المَادِّيِّ الَّذِي يُرِيحُ النَّفْسَ الخَالِدَةَ، كَمْ حَرِيٌّ بِنَا أَنْ نَنْتَظِرَ بِإِيمَانٍ وَمَحَبَّةٍ أَمَامَ بَابِ اللهِ الرُّوحِيِّ، نَقْرَعَ وَنَطْلُبَ بِإِصْرَارٍ أَنْ نَكُونَ أَهْلًا لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ" (العِظَة 16، المَجْمُوعَة الثَّالِثَة). باخْتِصَارٍ، رَبَطَ يَسُوعُ هذَا المَثَلَ بِعَطِيَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ، وَفِي ذَلِكَ دَعْوَةٌ وَاضِحَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرْفَعُوا مُسْتَوَى طَلَبِهِم، فَلَا يَقْتَصِرُوا عَلَى الأُمُورِ الزَّمَنِيَّةِ وَالفَانِيَةِ، بَلْ يَطْلُبُوا أَوَّلًا وَأَسَاسًا: الرُّوحَ القُدُسَ، خَالِقَ العَلَاقَةِ الحَيَّةِ مَعَ الآبِ وَالِابْنِ، وَمَصْدَرَ الخَلَاصِ وَالقَدَاسَةِ وَالوَحْدَةِ.
ثانيًا: تطبيقُ النَّصِّ الإنجيليّ (لوقا 11: 1–13)
انطلاقًا من هذه الملاحظاتِ الوجيزةِ حولَ وَقائِعِ النَّصِّ الإنجيليِّ، نستنتجُ أنَّهُ يتمحورُ حولَ الصَّلاةِ الرَّبِّيَّة، مُبيِّنًا مضمونَها الرّوحيَّ العميق، وداعيًا المؤمنينَ إلى مُمارستِها بثقةٍ وتكرارٍ وبِلجاجةٍ وأمانةٍ، لأنَّ اللهَ الآبَ يستجيبُ صلاةَ أولادِهِ الذينَ يسألونه بإيمانٍ ومحبّة.إنَّه نداءٌ إلى كلِّ تلميذٍ كي يختبرَ حضورَ اللهِ في الصَّلاة، لا كواجبٍ روتينيٍّ، بل كعلاقةٍ حيّةٍ تنبعُ من الثقةِ بعطايا الآبِ الصالح، وأعظمِها: الرُّوحُ القُدُس.
1) مضمونُ الصَّلاةِ الرَّبِّيَّة (لوقا 11: 2–4)
لَمَّا طَلَبَ أَحَدُ التَّلَامِيذِ مِنْ يَسُوعَ أَنْ يُعَلِّمَهُم كَيْفَ يُصَلُّون، عَلَّمَهُم الصَّلَاةَ الرَّبِّيَّةَ، الَّتِي تُعْتَبَرُ قَلْبَ تَعْلِيمِ الإِنْجِيلِ، وَنَمُوذَجًا جَوْهَرِيًّا لِكُلِّ صَلَوَاتِ المُؤْمِنِينَ.
تَتَشَابَهُ الصَّلَاةُ الرَّبِّيَّةُ فِي مَضْمُونِهَا وَبِنْيَتِهَا مَعَ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ اليَهُودِيَّةِ، لَا سِيَّمَا مِنْ حَيْثُ التَّمْجِيدِ لِلَّهِ، وَالطَّلَبَةِ مِنْ أَجْلِ المَلَكُوتِ، وَالِاحْتِيَاجَاتِ اليَوْمِيَّةِ، وَالمَغْفِرَةِ، وَالخَلَاصِ. وَقَدْ وَرَدَتْ هذِهِ الصَّلَاةُ فِي إِنْجِيلَي مَتَّى ولُوقَا، لَكِنْ بِصِيغَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، بِحَسَبِ السِّيَاقِ اللِّيتُورْجِيِّ وَالرَّعَوِيِّ الخَاصِّ بِالجَمَاعَاتِ المَسِيحِيَّةِ الأُولَى، وَاسْتِعْمَالِهَا فِي كَنَائِسَ مُتَعَدِّدَةٍ. وَهذَا يُدَلُ لَا عَلَى مُجَرَّدِ حِفْظِ الكَلِمَاتِ، بَلْ عَلَى أَمَانَةٍ خَلَّاقَةٍ لِفِكْرِ يَسُوعَ وَرُوحِ تَعْلِيمِهِ.
أَمَّا صِيغَةُ الصَّلَاةِ الرَّبِّيَّةِ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (6: 9–13)، فَتَتَمَيَّزُ بِجَمَالِ الإِيقَاعِ وَبَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعِة طَلَبَاتٍ، وَتَحْمِلُ نَفْحَةً سَامِيَّةً وَاضِحَةً. بَيْنَمَا الصِّيغَةُ الوَارِدَةُ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا (11: 2–4)، فَهِيَ أَقْصَرُ وَأَقْدَمُ تَارِيخِيًّا، وَتَحْتَوِي عَلَى خَمْسِة طَلَبَاتٍ فَقَط، مُرَكَّزَةٍ عَلَى جَوْهَرِ العَلَاقَةِ بَيْنَ اللهِ وَالإِنْسَانِ، فِي إِطَارِ البُنُوَّةِ وَالثِّقَةِ وَالمَغْفِرَةِ وَالنَّجَاةِ. وَهكَذَا تُقَدَّمُ لَنَا الصَّلَاةُ الرَّبِّيَّةُ لَا كـ"نَصٍّ مَحْفُوظٍ" فَحَسْب، بَلْ كَنَمُوذَجٍ حَيٍّ يُلْهِمُنَا فِي صَلَاتِنَا، فَيُعَلِّمُنَا أَنْ نُوَجِّهَ قَلْبَنَا إِلَى الآبِ بِثِقَةِ الأَبْنَاءِ، طَالِبِينَ مَجِيءَ مَلَكُوتِهِ، وَخُبْزَنَا اليَوْمِيّ، وَغُفْرَانَ خَطَايَانَا، وَالخَلَاصَ مِنَ التَّجْرِبَةِ وَالشَّرِّ.
الطَّلَبَةُ الأُولَى: "أَيُّهَا الآب" (لوقا 11: 2)
عَلَّمَنا يسوعُ أَنْ نُخاطِبَ اللهَ قائلين: "أَبانا"، لِأَنَّهُ الخالِقُ والمُبْدِعُ لِكُلِّ ما صَنَع، وَهُوَ المَصْدَرُ الأَوَّلُ لِكُلِّ شَيْء، وَالسُّلْطَةُ الأَسْمَى، وَالأَبُ الأَزَلِيُّ فِي عَلاقَتِهِ بِابْنِهِ الوَحِيد، الَّذِي هُوَ ابْنٌ لا مِن جِهَةِ الخَلْق، بَلْ فِي العَلاقَةِ الأَبَدِيَّةِ المُتَبَادَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الآبِ فَقَط (متى 11: 27). وَيُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ هذَا البُعْدَ بِقَوْلِهِ: "لِذلِكَ أُحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى الآب، الَّذِي تَسْتَمِدُّ مِنْهُ كُلُّ أُبُوَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض" (أفسس 3: 14–15). وَيُعَلِّقُ ترتليانوس قائلًا: "إِنَّ تَعْبِيرَ اللهِ الآبِ لَمْ يُكْشَفْ قَطّ لأَحَد. وَعِنْدَمَا سَأَلَ مُوسَى اللهَ عَنْ اسْمِهِ، سَمِعَ اسْمًا آخَر. أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ كُشِفَ لَنَا هذَا الاسْمُ فِي الابْنِ، لِأَنَّ هذَا الاسْمَ يَقْتَضِي اسْمَ الآبِ الجَدِيد" (في الصلاة، 3).
وَبِهذَا الدُّعَاءِ، عَلَّمَ يَسُوعُ تَلامِيذَهُ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ الآب، وَإِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْض، يَعِيشُونَ مِنْ نِعْمَةِ التَّبَنِّي فِي المَسِيح.
وَيُؤَكِّدُ التَّعْلِيمُ المَسِيحِيُّ لِلكنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّة: "نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعْبُدَ الآبَ، لِأَنَّهُ جَعَلَنَا نُولَدُ وِلادَةً جَدِيدَةً لِحَيَاتِهِ، إِذْ تَبَنَّانَا كَأَوْلَادٍ لَهُ فِي ابْنِهِ الوَحِيد" (بند 2782).
فَنَحْنُ نُولَدُ فِي يَسُوعَ المَسِيحِ وِلادَةً ثَانِيَةً، وَنُصْبِحُ أَبْنَاءَ اللهِ بِالتَّبَنِّي (يوحنّا 1: 12–13؛ 3: 3). وَبِفَضْلِ مَوْتِ المَسِيحِ وَقِيَامَتِهِ، صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِثِقَةٍ إِلَى حَضْرَةِ الآب. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ بُطْرُسُ كَرِيزُولُوغ: "مَتَى يَتَجَاسَرُ ضَعْفُ كَائِنٍ قَابِلٍ لِلْمَوْتِ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ أَبًا، إِلَّا عِنْدَمَا تُنْعِشُ الإِنْسَانَ فِي صَمِيمِهِ القُدْرَةُ الَّتِي مِنَ العَلاءِ؟" (عِظَات، 71).
إِنَّ حَالَةَ المُصَلِّي تَسْتَمِدُّ مَعْنَاهَا مِنَ الابْتِهَالِ إِلَى اللهِ كآب. وَهذَا الابْتِهَالُ هُوَ فِعْلُ إِيمَانٍ، وَهِبَةُ ذَاتٍ، وَمُشَارَكَةٌ فِي المَحَبَّةِ الإِلَهِيَّة. فَلَا مَعْنَى لِلصَّلَاةِ مِنْ دُونِ الإِيمَان، وَلَا وُجُودَ لِلإِيمَانِ بِاللهِ الآبِ مِنْ دُونِ السَّعْيِ إِلَى لِقَائِهِ بِالصَّلَاة. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "أَبَانَا: هذَا الاسْمُ يُثِيرُ فِينَا، فِي آنٍ وَاحِدٍ، المَحَبَّةَ وَالتَّعَلُّقَ فِي الصَّلَاة، وَأَيْضًا الرَّجَاءَ بِالحُصُولِ عَلَى مَا سَنَطْلُبُه" (عِظَةُ الرَّبِّ عَلَى الجَبَل، 2، 4، 16).
الصَّلَاةُ الرَّبِّيَّةُ إِذًا وُضِعَت "لِلَّذِينَ قَبِلُوهُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ، فَقَدْ مَكَّنَهُمْ أَنْ يَصِيرُوا أَبْنَاءَ الله" (يوحنّا 1: 12). فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُصَلِّي كَمَا يَنْبَغِي، مَا لَمْ نُدْرِكْ أَوَّلًا مَرْكَزَنَا البُنُوِيَّ تِجَاهَ اللهِ الآب، فَقَدِ اخْتَارَنَا وَوَهَبَنَا البُنُوَّةَ كَهِبَةٍ مَجَّانِيَّةٍ فِي مِيَاهِ المَعْمُودِيَّة. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الأُورْشَلِيمِيّ: "يَا لَعَظَمَةِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْبَشَر! فَقَدْ مَنَحَ الَّذِينَ ابْتَعَدُوا عَنْهُ وَسَقَطُوا فِي هَاوِيَةِ الرَّذَائِل، غُفْرَانَ الخَطَايَا، وَنَصِيبًا وَافِرًا مِنَ النِّعْمَة، حَتَّى أَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ أَبًا".
فَجَوْهَرُ الصَّلَاةِ الرَّبِّيَّةِ هُوَ الاتِّصَالُ بِاللهِ الآب. مَنْ يُحِبُّ اللهَ، يَحْيَا مَعَه، وَيُصَلِّي إِلَيْهِ دَوْمًا كَأَبٍ، فِي عِلَاقَةٍ شَخْصِيَّةٍ حَيَّةٍ تُغَذِّي الحَيَاةَ الرُّوحِيَّة. وَيَقُولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "أَيُّ شَرَفٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَقِفَ الإِنْسَانُ أَمَامَ الله؟" وَيَحُثُّنَا القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس قَائِلًا: "ارْفَعْ نَظَرَكَ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي افْتَدَاكَ بِابْنِهِ، وَقُلْ: أَبَانَا" (الأسرار، 5، 19). وَيَدْعُونَا القِدِّيسُ غِرِيغُورْيُوس النَّصِيصِيّ أَنْ نَتَذَكَّرَ دَوْمًا: "عِنْدَمَا نَدْعُو اللهَ: أَبَانَا، يَنْبَغِي أَنْ نَسْلُكَ سُلُوكَ أَبْنَاءِ الله" (الصَّلَاةُ الرَّبِّيَّة، 2).
الطَّلبَةُ الثَّانية: "لِيُقَدَّسِ ٱسْمُكَ" – طَلَبَةُ ٱلْقَدَاسَةِ
فِي لُغَةِ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ، لا فَرْقَ بَيْنَ ٱسْمِ ٱللَّهِ وَشَخْصِهِ، أَوْ بِٱلْأَحْرَى بَيْنَ ٱسْمِهِ وَحُضُورِهِ ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي يَتَمَحْوَرُ حَوْلَهُ ٱلْإِيمَانُ وَٱلْعِبَادَةُ. فَـ"ٱسْمُ ٱللَّهِ" هُوَ تَجَلِّيهِ ٱلذَّاتِيُّ، وَوَسِيلَةُ إِعْلَانِهِ لِذَاتِهِ فِي ٱلتَّارِيخِ وَفِي عَلَاقَةِ ٱلْعَهْدِ مَعَ شَعْبِهِ.
حِينَ نُصَلِّي قَائِلِينَ: "لِيُقَدَّسِ ٱسْمُكَ"، فَإِنَّنَا نَطْلُبُ أَنْ يُظْهِرَ ٱللَّهُ مَجْدَهُ وَقَدَاسَتَهُ بِتَطْهِيرِنَا مِنْ خَطَايَانَا، وَبِتَخْلِيصِنَا، وَبِأَنْ نَعْتَرِفَ بِهِ إِلَهًا قُدُّوسًا، فَنُعَامِلَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنُخَاطِبَهُ بِطَرِيقَةٍ مُقَدَّسَةٍ، تَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ قُبْرِيَانُس: "مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقَدِّسَ ٱللَّهَ، مَا دَامَ هُوَ ٱلَّذِي يُقَدِّسُ؟ وَلٰكِنَّنَا نَسْتَوْحِي هٰذَا ٱلْكَلَامَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "كُونُوا قِدِّيسِينَ، فَإِنِّي أَنَا قُدُّوسٌ" (أَحْبَار 11: 44) (ٱلصَّلَاةُ ٱلرَّبِّيَّةُ، 12).
ٱسْمُ ٱللَّهِ هو َٱلدَّعْوَةُ إِلَى ٱلْقَدَاسَةِ. لَقَدْ كَشَفَ لَنَا يَسُوعُ ٱسْمَ ٱللَّهِ ٱلْقُدُّوسَ فِي صَلَاتِهِ ٱلْكَهَنُوتِيَّةِ: "يَا أَبَتِ ٱلْقُدُّوسُ" (يُوحنّا 17: 11)، وَدَعَانَا إِلَى ٱلْقَدَاسَةِ بِقُوَّةٍ، كَمَا يَقُولُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "فَإِنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ٱلنَّجَاسَةِ، بَلْ إِلَى ٱلْقَدَاسَةِ"(1 تِسَالُونِيقِي 4: 7). فَهٰكَذَا، يَبْدَأُ تَقْدِيسُ ٱسْمِ ٱللَّهِ فِينَا وَبِنَا، وَيَتَحَقَّقُ فِي حَيَاتِنَا وَصَلَاتِنَا. فَعِنْدَمَا نَحْيَا بِحَسَبِ ٱلْإِنْجِيلِ، نُمَجِّدُ ٱسْمَ ٱللَّهِ، وَنُقَدِّسُهُ بِأَعْمَالِنَا ٱلصَّالِحَةِ؛ وَلٰكِنْ، إِنْ أَسَأْنَا ٱلتَّصَرُّفَ، نَكُونُ سَبَبًا فِي ٱلتَّجْدِيفِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ بُولُسُ: "يُجَدَّفُ بِٱسْمِ ٱللَّهِ بَيْنَ ٱلْوَثَنِيِّينَ، وَأَنْتُمْ ٱلسَّبَبُ" (رُومَة 2: 24).
وَيَقُولُ ٱلْقِدِّيسُ كِيرِلُّسُ ٱلْأُورَشَلِيمِيُّ: "نَحْنُ نَطْلُبُ، مِنْ خِلَالِ هٰذِهِ ٱلطَّلَبَةِ، أَنْ يَتَقَدَّسَ ٱسْمُ ٱللَّهِ فِينَا". فَٱلصَّلَاةُ تُدْخِلُنَا فِي تَدْبِيرِ ٱللَّهِ ٱلْخَلَاصِيِّ، ٱلَّذِي يَقُولُ عَنْهُ بُولُسُ: "ذٰلِكَ بِأَنَّهُ ٱخْتَارَنَا فِيهِ، قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ فِي نَظَرِهِ قِدِّيسِينَ بِلاَ عَيْبٍ فِي ٱلْمَحَبَّةِ" (أَفَسُس 1: 4). إِنَّنَا نُصَلِّي كَيْ نَسْتَحِقَّ أَنْ يَسْكُنَ فِينَا مِنَ ٱلْقَدَاسَةِ، بِمِقْدَارِ مَا هُوَ ٱسْمُ إِلَهِنَا قُدُّوسٌ. وَيُعَلِّقُ ٱلْعَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس: "إِنَّ ٱلْوَثَنِيِّينَ يُجَدِّفُونَ عَلَى ٱسْمِ ٱللَّهِ، إِذْ يَنْسِبُونَهُ لِلْأَصْنَامِ، وَكَأَنَّ ٱلصَّلَاةَ هُنَا هِيَ صَرْخَةُ ٱلْكَنِيسَةِ إِلَى ٱللَّهِ، لِيَنْزَعَ ٱلْعِبَادَةَ ٱلْوَثَنِيَّةَ عَنِ ٱلْعَالَمِ، لِيُعْرَفَ ٱسْمُهُ مُقَدَّسًا فِي كُلِّ ٱلْبَشَرِيَّةِ".
خُلاصَةُ ٱلطَّلَبَةِ هو دُخُولٌ فِي صَمِيمِ ٱللَّهِ. عِنْدَمَا نَطْلُبُ: "لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ"، نَحْمِلُ فِي طَلَبَتِنَا كُلَّ شَوْقِ ٱلْكَنِيسَةِ وَرُؤْيَاهَا. فَنَحْنُ لَا نَرْفَعُ فَقَطْ دُعَاءً، بَلْ نَدْخُلُ فِي صَمِيمِ ٱللَّهِ نَفْسِهِ، فِي قَدَاسَتِهِ ٱلْمُعْلَنَةِ فِي ٱلتَّارِيخِ: كَمَا كَشَفَهَا لِمُوسَى: "أَنَا هُوَ ٱلَّذِي أَنَا هُوَ" (خُرُوج 3: 14)، وَكَمَا أَعْلَنَهَا يَسُوعُ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ، لِيُقَدِّسَ بِنَا وَفِينَا، كَمَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَفِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ.
الطَّلبَةُ الثّالثة: "لِيَأتِ مَلَكوتُكَ"
إِنَّ قَوْلَنَا: "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ" هُوَ دَعْوَةٌ مَمْلُوءَةٌ بِالشَّوْقِ وَالرَّجَاءِ، نَرْفَعُهَا إِلَى اللهِ، كَيْ يُسْرِعَ فِي مَجِيءِ مَلَكُوتِهِ، ذَاكَ المَلَكُوتِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ عَمَلِيًّا بِخَلَاصِ البَشَرِ. فَالمَزَامِيرُ تَقُولُ: "قُولُوا فِي الأُمَمِ: الرَّبُّ مَلَكَ" (مَزْمُور 96: 10)، مُعْلِنَةً أَنَّ مُلْكَ اللهِ لَا يَقُومُ عَلَى سُلْطَانٍ سِيَاسِيٍّ أَوْ دِينِيٍّ أَرْضِيٍّ، بَلْ عَلَى إِعْلَانِ خَلَاصِهِ لِجَمِيعِ الأُمَمِ.
وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ تِرْتُلْيَانُوس قَائِلًا: "رغْبَتُنَا هِيَ أَنْ يُسْرِعَ مَلِكُنَا فِي المَجِيءِ، فَلَا تَمْتَدَّ عُبُودِيَّتُنَا فِي هذَا العَالَمِ" (فِي الصَّلَاةِ، 5).
فِي هذِهِ الطَّلَبَةِ، يُعَلِّمُنَا المَسِيحُ أَنْ نَطْلُبَ اعْتِرَافًا عَالَمِيًّا بِسُلْطَانِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَجْدِهِ، لَكِنَّ هذَا المَجْدَ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ خَلَاصِ الإِنْسَانِ، كَمَا يُؤَكِّدُ القِدِّيسُ إِيرِينِيُوس بِقَوْلِهِ: "مَجْدُ اللهِ هُوَ أَنْ يَحْيَا الإِنْسَانُ". وَهَكَذَا، فَإِنَّ الطَّلَبَاتِ الثَّلَاثَ الأُولَى مِنَ الصَّلَاةِ الرَّبِّيَّةِ تَطْلُبُ فِي آنٍ مَعًا: تَمْجِيدَ اسْمِ اللهِ، وَمَجِيءَ مَلَكُوتِهِ، وَبُلُوغَ مَشِيئَتِهِ، وَكُلُّهَا تُحَقَّقُ فِي خَلَاصِ البَشَرِ. فَلَا مَجْدَ لِلهِ دُونَ خَلَاصِ الإِنْسَانِ، وَلَا خَلَاصَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا فِي إِشْرَاقِ مَجْدِ اللهِ عَلَيْهِ. وَبَعْدَ هذِهِ الطَّلَبَاتِ الثَّلَاثِ الأَسَاسِيَّةِ، يُعَلِّمُنَا يَسُوعُ أَنْ نَرْفَعَ إِلَيْهِ بِثِقَةٍ طَلَبَاتِنَا البَشَرِيَّةَ المُرْتَبِطَةَ بِالحَيَاةِ اليَوْمِيَّةِ، وَلَكِنْ دَائِمًا مِنْ مَوْقِعِ البُنُوَّةِ، فَنَطْلُبُ إِلَيْهِ كَأَبٍ يُعْطِي الخُبْزَ، وَيَمْنَحُ المَغْفِرَةَ، وَيُنْقِذُ مِنَ الشَّرِّ. وَفِي الطَّلَبَةِ: "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ"، نَطْلُبُ بِشَكْلٍ خَاصٍّ: عَوْدَةَ المَسِيحِ فِي مَجْدِهِ، وَالمَجِيءَ الأَخِيرَ لِمِلْءِ مَلَكُوتِ اللهِ، كَمَا نُصَلِّي أَيْضًا لِنُمُوِّ هذَا المَلَكُوتِ تَدْرِيجِيًّا فِينَا، وَفِي الكَنِيسَةِ، وَفِي العَالَمِ. إِنَّهُ مَلَكُوتُ الحَقِّ وَالمَحَبَّةِ، وَالعَدْلِ وَالسَّلَامِ (رَاجِع رُومَة 14: 17)، مَلَكُوتُ النِّعْمَةِ وَالقَدَاسَةِ، مَلَكُوتٌ يَتَجَذَّرُ فِي القَلْبِ، وَيَظْهَرُ فِي شَهَادَةِ الحَيَاةِ اليَوْمِيَّةِ.
طَّلَبَةُ الرَّابِعَةُ: "أُرْزُقْنَا خُبْزَنَا كَفَافَ يَوْمِنَا" (لوقا 11: 3)
إِنَّ الإِنسَانَ كَائِنٌ مُحْتَاجٌ، وَجَوْهَرُ وُجُودِهِ قَائِمٌ عَلَى التَّلَقِّي. وَمِنْ هُنَا، يَدْعُونَا يَسُوعُ أَنْ نَطْلُبَ مِنَ اللهِ، الآبِ السَّمَاوِيِّ، "خُبْزَنَا كَفَافَ يَوْمِنَا"، أَيْ مَا نَحْتَاجُهُ يَوْمِيًّا مِنْ غِذَاءٍ مَادِّيٍّ وَرُوحِيٍّ، بِثِقَةِ الأَبْنَاءِ وَبَسَاطَةِ الْفُقَرَاءِ. فَالأَبُ الَّذِي أَعْطَانَا الْحَيَاةَ، لا يُمْكِنُهُ إِلَّا أَنْ يُعْطِيَنَا مَا يُحَافِظُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ صَالِحٌ وَأَمِينٌ فِي عَطَايَاهُ، وَقَدْ أَكَّدَ يَسُوعُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "مَن مِنْكُمْ يَسْأَلُهُ ٱبْنُهُ رَغِيفًا، أَفَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟" (مَتَّى 7: 9)
وَبِهَذَا، يُظْهِرُ يَسُوعُ الْفَرْقَ الْجَوْهَرِيَّ بَيْنَ الآبَاءِ الأَرْضِيِّينَ الْمَحْدُودِينَ، وَالآبِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي يَعْرِفُ حَاجَاتِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ (مَتَّى 6: 8)، وَيَمْنَحُنَا أَفْضَلَ مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَتَصَوَّرُ. وَتُسْتَعْمَلُ فِي هَذِهِ الطَّلَبَةِ صِيغَةُ الْمُتَكَلِّمِ الْجَمْعِيِّ: "أُرْزُقْنَا خُبْزَنَا"، وَذَلِكَ لِيَجْمَعَ يَسُوعُ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَضَامِنَةٍ، لا كَأَفْرَادٍ مُنْعَزِلِينَ، بَلْ كَأَبْنَاءٍ يَطْلُبُونَ مَعًا خُبْزَهُمُ الْمُشْتَرَكَ، فِي وَحْدَةِ الصَّلَاةِ وَالإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ.
إِنَّ تَدْبِيرَ اللهِ يَوْمِيٌّ وَمُسْتَمِرٌّ، لا يُعْطَى مَرَّةً وَاحِدَةً وَيُخْتَزَن، بَلْ يُطْلَبُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. فَلا يُمْكِنُنَا أَنْ نُخَزِّنَ نِعَمَ اللهِ، وَنَقْطَعَ التَّوَاصُلَ مَعَهُ، لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَحْمِلُ احْتِيَاجَاتٍ جَدِيدَةً، وَنِعْمَةً خَاصَّةً. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ قُبْرِيَانُس: "إِنَّ اللهَ يَعِدُ مَنْ يَطْلُبُونَ مَلَكُوتَهُ وَبِرَّهُ، بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ زِيَادَةً. فَكُلُّ شَيْءٍ هُوَ لِلَّهِ، وَمَنْ لَهُ اللهُ، لا يَنْقُصُهُ شَيْءٌ، إِنْ لَمْ يَبْتَعِدْ هُوَ عَنْ اللهِ" (ٱلصَّلَاةُ ٱلرَّبِّيَّةُ، 21). فِي هَذِهِ الطَّلَبَةِ، نُعَبِّرُ، بِٱلِاشْتِرَاكِ مَعَ إِخْوَتِنَا، عَنْ ثِقَتِنَا ٱلْبُنُوِيَّةِ بِٱللَّهِ ٱلآبِ، بِأَنْ يَمْنَحَنَا "خُبْزَنَا"، لا فَقَطْ بِمَعْنَاهُ ٱلْمَادِّيِّ، بَلْ أَيْضًا: خُبْزَ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ، أَيْ كَلِمَةَ اللهِ (رَاجِعْ مَتَّى ٤: ٤)، وَجَسَدَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ نَحْيَا وَنَنْمُو فِي ٱلْقَدَاسَةِ وَٱلشَّرَاكَةِ. فَٱلْخُبْزُ ٱلْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ ٱلطَّلَبَةِ هُوَ رَمْزٌ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا نَحْتَاجُهُ: لِنَعِيشَ كَأَبْنَاءِ ٱللَّهِ فِي ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ، وَلِنُوَاصِلَ ٱلْمَسِيرَةَ بِثَبَاتٍ فِي هَذَا ٱلْعَالَمِ، وَنَتَقَدَّمَ نَحْوَ مِلْءِ ٱلشَّرَاكَةِ مَعَ ٱللَّهِ فِي مَلَكُوتِهِ.
الطَّلَبَةُ الخَامِسَةُ: "وَأَعْفِنا مِن خَطايانا، فَإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيْضًا كُلَّ مَن لَنا عَلَيْهِ، وَلا تَتْرُكْنا نَتَعَرَّضُ لِلتَّجْرِبَةِ" (لوقا 11: 4)
لَيْسَ الإِنْسَانُ بِحَاجَةٍ إِلَى الْخُبْزِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا إِلَى مَغْفِرَةِ خَطَايَاهُ، فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ هِيَ الْعَقَبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْقَائِمَةُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَنَا. وَلِذَا جَعَلَ الرَّبُّ يَسُوعُ، مِنْ خِلَالِ طَلَبَةِ الْغُفْرَانِ، حَجَرَ الزَّاوِيَةِ فِي عَلَاقَتِنَا بِاللهِ. فَاللهُ، الَّذِي غَفَرَ لَنَا بِالْمَسِيحِ، يَطْلُبُ مِنَّا أَنْ نَغْفِرَ نَحْنُ أَيْضًا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا، وَإِلَّا فَإِنَّ طَلَبَنَا لِلْمَغْفِرَةِ يُصْبِحُ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ تَفْتَقِرُ إِلَى الْحَقِيقَةِ.
فَإِنْ أَرَدْنَا مَغْفِرَةَ خَطَايَانَا دُونَ مَسَاسٍ بِكَرَامَتِنَا، فَإِنَّ يَسُوعَ يُنَادِينَا أَنْ نَبْدَأَ نَحْنُ بِالْمَغْفِرَةِ. فَإِنْ لَمْ نَغْفِرْ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّنَا لَمْ نُدْرِكْ بَعْدُ أَنَّنَا نَحْنُ أَنْفُسَنَا بِحَاجَةٍ لِلرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَعَلَيْهِ، تَشْمَلُ صَلَاةُ يَسُوعَ بُعْدًا شَرْطِيًّا: "ٱغْفِرْ لَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ" (راجع متّى 6: 12)، فَنَطْلُبُ مِنَ اللهِ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا بِقَدْرِ مَا نَغْفِرُ لِلآخَرِينَ. إِذَنْ، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُسَامِحَ بَعْضُنَا بَعْضًا، حَتَّى نَسْتَحِقَّ أَنْ نَطْلُبَ مِنَ الآبِ غُفْرَانًا لِخَطَايَانَا الْكَثِيرَةِ.
الْإِنْسَانُ لَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى الْخُبْزِ وَمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا إِلَى الْمُسَاعَدَةِ فِي وَقْتِ التَّجْرِبَةِ. فَعِبَارَةُ: "لا تَتْرُكْنَا نَتَعَرَّضُ لِلتَّجْرِبَةِ" تُتَرْجَمُ مِنَ الْيُونَانِيَّةِ بِمَعْنًى دَقِيقٍ: "لا تَدَعْنَا نَدْخُلُ فِي التَّجْرِبَةِ"؛ وَهِيَ مُمَاثِلَةٌ لِقَوْلِ الرَّبِّ: "ٱسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَقَعُوا فِي التَّجْرِبَةِ (متّى 26: 41). وَيُؤَكِّدُ الرَّسُولُ يَعْقُوبُ: "إِذَا جُرِّبَ أَحَدٌ فَلَا يَقُلْ: إِنَّ اللهَ يُجَرِّبُنِي. إِنَّ اللهَ لَا يُجَرَّبُ بِالشَّرِّ، وَلَا يُجَرِّبُ أَحَدًا" (يعقوب 1: 13). فَاللهُ لَا يُجَرِّبُ، وَلَكِنَّهُ يُسَاعِدُنَا عَلَى تَخَطِّي التَّجْرِبَةِ، وَيَرْغَبُ فِي تَحْرِيرِنَا مِنْ سُقُوطِنَا فِيهَا.
يُعَلِّمُنَا يَسُوعُ أَنْ نُصَلِّيَ كَيْ لا نَدْخُلَ فِي تَجْرِبَةٍ. لَكِنْ، إِنْ دَخَلْنَا، فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَطْلُبَ مِنَ الرَّبِّ قُوَّةَ ٱحْتِمَالٍ حَتَّى: "الَّذِي يَثْبُتُ إِلَى النِّهَايَةِ فَذَاكَ الَّذِي يَخْلُصُ" (متّى 10: 22). فَالرَّبُّ لَا يُجَرِّبُنَا، بَلْ يَسْمَحُ أَنْ نُجَرَّبَ، كَمَا جُرِّبَ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ. وَيُمَيِّزُ ٱلْعَلَّامَةُ تِرْتُلْيَانُوس بَيْنَ التَّجْرِبَةِ الَّتِي يُسْمَحُ بِهَا كَامْتِحَانٍ لِتَزْكِيَتِنَا، وَبَيْنَ خُدَعِ إِبْلِيسَ الَّذِي: "يُجَرِّبُنَا لِيُسْقِطَنَا". وَعَلَيْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَيْ لَا نَدْخُلَ فِي تَجْرِبَةٍ بِمَعْنَى أَنْ يُسْنِدَنَا اللهُ ضِدَّ حِيَلِ ٱلشَّيْطَانِ وَخُدَعِهِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَإِنْ سَمَحَ بِالتَّجْرِبَةِ، فَلْيَكُنْ مَعَنَا لِيَحْفَظَنَا مِنَ الْيَأْسِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْعَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس: "ٱلتَّجْرِبَةُ تُعَلِّمُنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنْفُسَنَا، وَهَكَذَا تَكْشِفُ لَنَا بُؤْسَنَا، وَتُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ عَلَى الْخَيْرَاتِ الَّتِي أَظْهَرَتْهَا لَنَا ٱلتَّجْرِبَةُ" (في الصلاة 29، 15، 17). باختصار، يُؤَكِّدُ تِرْتُلْيَانُوس أَنَّ: "ٱلصَّلَاةَ ٱلرَّبِّيَّةَ هِيَ ٱلأَسَاسُ الَّذِي وَضَعَهُ ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ لِكُلِّ صَلَوَاتِنَا". وهيَ تَشْمَلُ: مَجْدَ اللهِ "أَبَانَا"، شَهَادَةَ ٱلْإِيمَانِ "يَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ"، الطَّاعَةَ "لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ"، ٱلرَّجَاءَ "خُبْزَنَا كَفَافَنَا"، وَٱلْمَعْرِفَةَ ٱلْكَامِلَةَ لِخَطَايَانَا "وَٱغْفِرْ لَنَا". وَفِي نِهَايَتِهَا، طَلَبٌ بِٱلرُّعْبِ وَٱلرَّجَاءِ: "وَلَا تَتْرُكْنَا نَتَعَرَّضُ لِلتَّجْرِبَةِ". فَهِيَ صَلَاةٌ تَتَّجِهُ نَحْوَ الآبِ، تَطْلُبُ تَمْجِيدَ ٱسْمِهِ، وَمَجِيءَ مَلَكُوتِهِ، وَتَحْقِيقَ مَشِيئَتِهِ. وَهِيَ تَطْلُبُ أَيْضًا: الْخُبْزَ الْيَوْمِيَّ (ٱلْإِفْخَارِسْتِيَّا)، وَٱلْمَغْفِرَةَ بَعْدَ ٱلْمُصَالَحَةِ، وَٱلنَّجَاةَ مِنْ ٱلتَّجَارِبِ وَٱلشَّرِّ. فَخُلاصَتُهَا: الاقْتِرَابُ مِنَ اللهِ أَبًا، وطلبُ: تَمْجِيدِ ٱسْمِهِ، مَجِيءِ مَلَكُوتِهِ، تَتِمَّةِ مَشِيئَتِهِ، طَعَامِنَا ٱلرُّوحِيِّ وَٱلْمَادِّيِّ، مَغْفِرَةِ خَطَايَانَا، وَٱلنَّجَاةِ مِنْ ٱلشَّرِّ. وَيَقْتَرِنُ بَعْضُهَا بِشَرْطٍ، وَهُوَ: أَنْ نَغْفِرَ لِلآخَرِينَ.
2) الدَّعْوَةُ إِلَى تَلَاوَةِ الصَّلَاةِ الرَّبِّيَّةِ بِإِلْحَاحٍ (لوقا 11: 5–8)
إِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ قَدَّمَ لَنَا نَمُوذَجًا حَيًّا لِلصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ، إِذْ يَطْلُبُ مِنَّا أَنْ نُصَلِّيَ بِلَجَاجَةٍ، فَلَيْسَ لِأَنَّهُ يَسْتَجِيبُ لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ، بَلْ لِنَتَعَلَّمَ كَيْفَ نَقِفُ أَمَامَهُ، وَنَدْخُلَ مَعَهُ فِي صِلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، حَتَّى تَتَغَيَّرَ طَبِيعَتُنَا. وَقَدْ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يُعَلِّمَ تَلَامِيذَهُ اللَّجَاجَةَ فِي الصَّلَاةِ، فَذَكَرَ لَهُم مَثَلَ "ٱلصَّدِيقِ اللَّجُوجِ" (لوقا 11: 5–8)، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ يَجِبُ تَمْيِيزُهُمْ:
ٱلْمُضِيفُ الَّذِي لَهُ صَدِيقٌ وَيَأْتِيهِ ضَيْفٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُقَدِّمُهُ.
ٱلصَّدِيقُ ٱلْمُجَاوِرُ الَّذِي لَدَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
ٱلضَّيْفُ ٱلْجَائِعُ الَّذِي جَاءَ فِي اللَّيْلِ يَطْلُبُ خُبْزًا.
إِنَّ غَايَةَ هَذَا الْمَثَلِ الأُولَى هِيَ الحَثُّ عَلَى الإِلْحَاحِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُسْتَجَابَ لَنَا. وَفِي هَذَا الْمَثَلِ، يُقَدِّمُ السَّيِّدُ اللهَ الآبَ صَدِيقًا لِلْبَشَرِيَّةِ، يَدْعُونَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، حَتَّى فِي نِصْفِ اللَّيْلِ، لِيَمْنَحَهُمْ الخُبْزَ السَّمَاوِيَّ الْمُشْبِعَ لِلنَّفْسِ وَالْجَسَدِ.
فَإِنْ كَانَ اللهُ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ صَدِيقًا لَنَا، نَسْأَلُهُ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ أَنْ يُعْطِيَنَا خُبْزًا سَمَاوِيًّا، لا لِذَوَاتِنَا فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا لِأَجْلِ ٱلْآخَرِينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ إِلَيْنَا فِي نِصْفِ اللَّيْلِ، فَيُصَبِحُونَ هُمْ أَيْضًا أَصْدِقَاءَنَا. وَبِذَلِكَ، نَتَعَلَّمُ أَنْ نُصَلِّيَ لِأَجْلِ غَيْرِنَا، فَهَذِهِ مِنْ دَوَافِعِ الْمَحَبَّةِ فِي الْمَسِيحِيَّةِ.
اللَّجَاجَةُ فِي الصَّلَاةِ تُغَيِّرُنَا. إِنَّ الرَّبَّ يُشَجِّعُنَا عَلَى الْمُثَابَرَةِ وَالإِلْحَاحِ فِي الصَّلَاةِ (لوقا 11: 5–10)، لَكِنَّهُ يُدِينُ التِّكْرَارَ السَّطْحِيَّ لِلْكَلِمَاتِ الَّتِي لا تَصْدُرُ عَنْ قَلْبٍ صَادِقٍ وَمُخْلِصٍ. فَالإِلْحَاحُ فِي الصَّلَاةِ يُحَقِّقُ تَغْيِيرًا فِي قُلُوبِنَا وَعُقُولِنَا وَأَذْهَانِنَا. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "إِنَّ ٱلْحَثَّ الَّذِي يُقَدِّمُهُ لَنَا، إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِنَا". فَمِنَ الْمُفِيدِ أَنْ نُصَلِّيَ كَمَنْ تَعْتَمِدُ ٱلْإِجَابَةُ عَلَى صَلَاتِنَا، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ ٱلِٱسْتِجَابَةَ تَعْتَمِدُ عَلَى ٱلرَّبِّ. وَيُعِينُنَا الإِلْحَاحُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنْ نُدْرِكَ عَمَلَ الرَّبِّ عِنْدَمَا نَرَاهُ.
يدعونا يسوع الى ٱلْمُثَابَرَةُ دُونَ كَلَلٍ. وَكَمْ يَجِبُ أَنْ نُصَلِّيَ حَتَّى يَتِمَّ ٱلٱسْتِمَاعُ إِلَيْنَا! فَيَجِبُ ٱلِٱلْتِجَاءُ إِلَى ٱلرَّبِّ بِذَاتِ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَوْ لِمُدَّةِ عَامٍ، أَوْ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ، أَوْ عِشْرِينَ، أَوْ خَمْسِينَ! وَعِنْدَمَا تَأْتِي ٱلنِّعْمَةُ ٱلْمَطْلُوبَةُ، حِينَئِذٍ يَكُونُ وَقْتُ ٱلتَّوَقُّفِ عَنْ طَلَبِهَا، وَيَبْدَأُ وَقْتُ طَلَبِ نِعَمٍ أُخْرَى. فَإِنَّ قُوَّةَ ٱلْإِصْرَارِ لا تَأْتِي مِنْ قُلُوبِنَا، بَلْ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلسَّاكِنِ فِينَا.
3) أَمَانَةُ اللهِ فِي ٱسْتِجَابَةِ صَلَاتِنَا (لوقا 11: 11–13)
إِنَّ ٱلرَّبَّ أَمِينٌ دَائِمًا، فَهُوَ يُعْطِينَا، لَيْسَ فَقَطْ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ، بَلْ أَيْضًا أَكْثَرَ مِمَّا نَتَوَقَّعُ بِكَثِيرٍ، لِأَنَّهُ آبٌ لَنَا. وَيُبَيِّنُ يَسُوعُ أَمَانَةَ اللهِ فِي ٱسْتِجَابَةِ صَلَاتِنَا، بِطَرْحِ سُؤَالٍ تَعْلِيمِيٍّ عَلَى تَلَامِيذِهِ: "فَأَيُّ أَبٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ٱبْنُهُ سَمَكَةً، أَيُعْطِيهِ بَدَلَ ٱلسَّمَكَةِ حَيَّةً؟ أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَيُعْطِيهِ عَقْرَبًا؟" (لوقا 11: 11–12). فَإِذَا كَانَ ٱلْآبَاءُ ٱلْأَرْضِيُّونَ، حَتَّى وَهُمْ يُخْطِئُونَ، يُعَامِلُونَ أَبْنَاءَهُمْ بِحُنُوٍّ وَصَلَاحٍ، فَكَمْ بِٱلْأَحْرَى ٱلآبُ ٱلسَّمَاوِيُّ، الَّذِي يَمْنَحُ أَبْنَاءَهُ ٱلْعَطَايَا ٱلصَّالِحَةَ، وَخُصُوصًا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ! "فَإِذَا كُنْتُمْ أَنْتُمْ ٱلْأَشْرَارَ، تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا ٱلْعَطَايَا ٱلصَّالِحَةَ لِأَبْنَائِكُمْ، فَمَا أَوْلَى أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ بِأَنْ يَهَبَ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!" (لوقا 11: 13).
ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ: أَعْظَمُ عَطِيَّةٍ. يُعْطِينَا ٱلرَّبُّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ دُونَ حِسَابٍ، لِكَيْ نُشَارِكَهُ فِي حَيَاتِهِ وَفَرَحِهِ. فَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ هُوَ أَعْظَمُ وَأَهَمُّ عَطِيَّةٍ يُقَدِّمُهَا ٱللهُ لَنَا. بِهِ وُلِدَتِ ٱلْكَنِيسَةُ فِي يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ (أَعْمَال ٱلرُّسُلِ 2: 1–4)، وَبِهِ نَتَجَدَّدُ وَنَتَقَدَّسُ وَنَدْخُلُ فِي ٱلشَّرَاكَةِ ٱلثَّالُوثِيَّةِ.
لِمَاذَا نَطْلُبُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ؟ يُرِيدُنَا ٱلرَّبُّ أَنْ نَطْلُبَ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ مِنَ ٱلآبِ، لِأَنَّهُ:
يَنْتَزِعُ ٱلرَّغَبَاتِ ٱلْبَشَرِيَّةَ وَٱلنَّزَوَاتِ مِنْ قُلُوبِنَا.
وَيَضَعُ مَكَانَهَا ٱلرَّغَبَاتِ ٱلْإِلَهِيَّةِ.
يُهَبُنَا سَلَامَ ٱلْقَلْبِ وَٱلْمَشَاعِرِ وَٱلْإِرَادَةِ.
يُعِينُنَا عَلَى أَنْ نَطْلُبَ مَشِيئَةَ ٱلآبِ فِي حَيَاتِنَا.
فَمَنْ يَسْكُنْ فِيهِ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، يَكُونُ فِي سَلَامِ ٱلرَّغَبَاتِ وَسَلَامِ ٱلْحَيَاةِ، وَلَا يَطْلُبُ إِلَّا أَنْ تَتِمَّ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ فِيهِ. وَهُنَا نَفْهَمُ كَلِمَاتِ ٱلسَّيِّدِ ٱلْمَسِيحِ: "فَلَا تَهْتَمُّوا فَتَقُولُوا: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَهَذَا كُلُّهُ يَسْعَى إِلَيْهِ ٱلْوَثَنِيُّونَ، وَأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ. فَٱطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَهُ وَبِرَّهُ، تُزَادُوا هَذَا كُلَّهُ" (متّى 6: 31–33).
صَلَاةُ ٱلرُّوحِ وَصَلَاةُ ٱلثِّقَةِ. فَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّي، فَلْيَقِفْ أَمَامَ ٱلآبِ بِرُوحِ ٱلْبُنُوَّةِ، وَيَدْعُوهُ أَبًا. فَقَدْ عَلَّمَنَا ٱلرَّبُّ كَيْفَ نُصَلِّي، وَعَلَّمَنَا أَيْضًا مَاذَا نَسْأَلُ. فَهُوَ يَعْلَمُ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ نَطْلُبَ، لَكِنَّهُ يُرِيدُنَا أَنْ: نَسْأَلَ، وَنَطْلُبَ، وَنَقْرَعَ، وَنَتَضَرَّعَ بِلَجَاجَةٍ. حَتَّى، عِنْدَمَا يُجِيبُنَا، نُقَدِّرَ قِيمَةَ عَطَايَاهُ، وَنَفْرَحَ بِهَا بِشُكْرٍ وَمَحَبَّةٍ. ٱسْتِجَابَةُ ٱللَّهِ: عَمَلُ ٱلرُّوحِ وَٱلْمَحَبَّةِ فَلْنَتَعَلَّمْ أَنْ نَطْلُبَ مِنَ ٱللَّهِ أَنْ يَعْمَلَ رُوحُهُ ٱلْقُدُوسُ فِينَا: لِيُقَدِّسَنَا، وَلِيَقُودَنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلِإِتْمَامِ مَشِيئَتِهِ فِي حَيَاتِنَا، وَلِتَقْدِيمِ نُفُوسِنَا وَأَجْسَادِنَا ذَبِيحَةَ حُبٍّ لِمَجْدِ ٱسْمِهِ وَٱنْتِشَارِ مَلَكُوتِهِ، وَلِمَحَبَّةِ إِخْوَتِنَا فِي ٱلْبَشَرِيَّةِ. "لِيَحُلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْنَا وَيُطَهِّرْنَا" (صَلَاةُ ٱلْقِدِّيسِ غِرِيغُورْيُوس أُسْقُفِ نَصِيص). فَهَلْ نَتَقَدَّمُ مِنَ ٱلآبِ ٱلسَّمَاوِيِّ، وَاثِقِينَ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَنِعْمَتِهِ؟
خُلاصَةٌ
أَوْدَعَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ "ٱلصَّلَاةَ ٱلرَّبِّيَّةَ"، جَوَابًا عَلَى طَلَبِهِمْ: "يَا رَبّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ" (لوقا 11: 1)، وَتُسَمَّى "ٱلصَّلَاةَ ٱلرَّبِّيَّةَ" لِأَنَّهَا آتِيَةٌ مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، مُعَلِّمِ صَلَاتِنَا وَمِثَالِهَا. وَتُعْتَبَرُ هَذِهِ ٱلصَّلَاةُ: ٱلصَّلَاةَ ٱلْمَسِيحِيَّةَ ٱلْأَسَاسِيَّةَ، وَمُلَخَّصَ ٱلْإِنْجِيلِ كُلِّهِ، وَصَلَاةً جَامِعَةً لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَمُسْتَوْفِيَةً لِجَمِيعِ شُرُوطِ ٱلصَّلَاةِ ٱلْمُسْتَجَابَةِ عِنْدَ ٱللَّهِ.
فَهِيَ صَلَاةُ دُعَاءٍ وَطَلَبٍ: دُعَاءٌ لِمَجْدِ ٱللَّهِ، وَطَلَبٌ لِكُلِّ وَسِيلَةٍ تُقَرِّبُنَا إِلَيْهِ. إِنَّهَا صَلَاةٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلِكُلِّ جِيلٍ وَمَوْقِفٍ وَظَرْفٍ. عَلَّمَتْهَا ٱلْكَنِيسَةُ مَعَ قَانُونِ ٱلْإِيمَانِ لِلدَّاخِلِينَ فِي ٱلدِّينِ ٱلْمَسِيحِيِّ بِٱلْمَعْمُودِيَّةِ مُنْذُ أَقْدَمِ ٱلْعُصُورِ. وَمُنْذُ ٱلْقَرْنِ ٱلرَّابِعِ، أُدْخِلَتْ فِي قَانُونِ ٱلْقُدَّاسِ ٱلْإِلَهِيِّ، عَلَى أَنَّهَا: أَرْوَعُ صَلَاةٍ يَسْتَعِدُّ بِهَا ٱلْكَاهِنُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ لِذَبِيحَةِ ٱلْمَسِيحِ وَلِمُنَاوَلَةِ ٱلْقُرْبَانِ ٱلأَقْدَسِ.
ومِنْ شُرُوطِ هَذِهِ ٱلصَّلَاةِ، أَنْ يُكَرِّرَهَا ٱلْمُؤْمِنُ عَلَى ٱللَّهِ: بِحُبٍّ وَإِيمَانٍ وَتَوَاضُعٍ، كَمَا فَعَلَ ٱلصَّدِيقُ ٱللَّجُوجُ فِي طَلَبِهِ لِلْخُبْزِ مِنْ صَدِيقِهِ فِي ٱللَّيْلِ.
وَبِٱخْتِصَار، نُصَلِّي ٱلصَّلَاةَ ٱلرَّبِّيَّةَ:
لِنُمَجِّدَ ٱللَّهَ فِي صَلَاتِنَا،
وَلِنَطْلُبَ حَاجَاتِنَا ٱلْيَوْمِيَّةَ،
وَلِنَلْتَمِسَ مَعُونَتَهُ فِي صِرَاعَاتِنَا ٱلْيَوْمِيَّةِ،
خُصُوصًا فِي وَقْتِ ٱلتَّجَارِبِ، كَمَا أَوْصَانَا يَسُوعُ: "صَلُّوا لِئَلَّا تَقَعُوا فِي ٱلتَّجْرِبَةِ"(لوقا 22: 40).
دعاء
يا رَبّ،
علِّمْنا أَنْ نُصَلِّي، كَمَا عَلَّمْتَ تَلَامِيذَكَ،
لا بِثَرْثَرَةِ ٱلْكَلَامِ، بَلْ بِثِقَةِ ٱلْبَنِينَ.
أَعْطِنَا قَلْبًا يُثَابِرُ فِي ٱلطَّرْقِ عَلَى بَابِكَ،
وَيُؤْمِنُ أَنَّكَ تَفْتَحُ فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمُنَاسِبِ.
وَإِنْ تَأَخَّرْتَ، فَٱمْنَحْنَا ٱلْإِيمَانَ أَنَّكَ تُهَيِّئُ لَنَا ٱلْأَفْضَلَ.
وَإِنْ صَمَتَّ، فَٱمْلَأْنَا يَقِينًا أَنَّكَ تُصْغِي فِي ٱلْعُمْقِ.
أَنْعِمْ عَلَيْنَا بِرُوحِكَ ٱلْقُدُّوسِ،
لِكَيْ تَكُونَ صَلَاتُنَا نَارًا مُتَّقِدَةً بِٱلْإِيمَانِ،
وَنَصِيرَ لَكَ أَصْدِقَاءَ، لا خُدَّامًا فَحَسْب،
وَأَبْنَاءً يَعْرِفُونَ قَلْبَ ٱلآبِ، وَيَثِقُونَ بِعَطَايَاهُ.
آمِينَ.
قِصَّةٌ وَاقِعِيَّةٌ أولى مِنْ وَحْيِ صَلَاةِ "أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"
بعدَ رِسَامَتِهِ الكَهَنُوتِيَّةِ فِي إِحْدَى مُدُنِ فَرَنْسَا، أَقَامَ ذَلِكَ الكَاهِنُ الشَّابُّ قُدَّاسَهُ الأَوَّلَ، وَهُوَ مُمْتَلِئٌ فَرَحًا وَرَهْبَةً، يُقَدِّمُ شُكْرَهُ لِلهِ، وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ عَلَى الشَّعْبِ مُصَلِّيًا "أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ".
بَعْدَ القُدَّاسِ، تَقَدَّمَتْ مِنْهُ سَيِّدَةٌ مُسِنَّةٌ، وَفِي عَيْنَيْهَا دُمُوعٌ صَامِتَةٌ تَتَلَأْلَأُ بِنُورٍ غَرِيبٍ.
قالت له: "يَا أَبِي، هَذِهِ أَوَّلُ مَرَّةٍ، مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أُكَمِّلُ فِيهَا صَلَاةَ 'أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ' حَتَّى النِّهَايَةِ".
تَعَجَّبَ الكَاهِنُ وَسَأَلَهَا بِهُدُوءٍ: "لِمَاذَا؟"
فأجابت بصوتٍ مُتهدّج: "أَمَامَ عَيْنَيَّ، قَتَلَ الأَلْمَانُ ٱبْنِي، وَمُنْذُ ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ، عَجَزْتُ عَنِ ٱلْمُضِيِّ فِي ٱلصَّلَاةِ... عِنْدَ ٱلْكَلِمَاتِ: «ٱغْفِرْ لَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ». كَانَ قَلْبِي يَخْتَنِقُ...
أَمَّا ٱلْيَوْمَ، فَفِي هَذَا ٱلْقُدَّاسِ، شَعَرْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ يُنَادِينِي بِلُطْفٍ: "هَلُمِّي، ٱغْفِرِي لِيَكُونَ لَكِ ٱلسَّلَامُ". فَغَفَرْتُ، وَصَلَّيْتُ أَخِيرًا كَامِلَةً: 'وَٱغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ. وَٱنْهَمَرَ ٱلسَّلَامُ عَلَيَّ كَنَهْرٍ.
إنها صلاةٌ بسيطة، تُتْلَى فِي كُلِّ قُدَّاسٍ وَكُلِّ لِسَان، وَلَكِنَّهَا، بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ، تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفُكَّ أَصْعَبَ قُيُودِ ٱلْكُرْهِ وَٱلْجُرْحِ، وَتُقِيمَ مَنْ سَقَطُوا فِي أَعْمَاقِ ٱلْحُزْنِ. "أَبَانَا" هِيَ صَلَاةُ ٱلْمُصَالَحَةِ الَّتِي تَبْدَأُ بِٱلثِّقَةِ وَتَنْتَهِي بِٱلسَّلَامِ.
قِصَّةٌ وَاقِعِيَّةٌ ثانية مِنْ وَحْيِ صَلَاةِ "أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"
فِي إِحْدَى القُرَى الأُورُوبِّيَّةِ خِلَالَ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ، كَانَتْ هُنَاكَ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ تُدْعَى مَارِيَّا، تَعِيشُ مَعَ طِفْلِهَا الوَحِيدِ فِي كُوخٍ صَغِيرٍ عَلَى أَطْرَافِ الغَابَةِ. كَانَتِ الحَرْبُ قَدْ خَطَفَتْ زَوْجَهَا، وَجَعَلَتْ حَيَاتَهَا مَلِيئَةً بِالجُوعِ وَالخَوْفِ وَالوَحْدَةِ. ذَاتَ مَسَاءٍ شِتْوِيٍّ قَارِسٍ، جَلَسَا أَمَامَ مِدْفَأَةٍ صَغِيرَةٍ بِالكَادِ تُشْعِلُ نَارًا، فَضَمَّتِ الأُمُّ طِفْلَهَا وَقَالَتْ لَهُ: "لَا تَخَفْ يَا صَغِيرِي، الرَّبُّ أَبُونَا، لَنْ يَتْرُكَنَا." وَأَمْسَكَتْ بِيَدِهِ، وَصَلَّتْ مَعَهُ بِصَوْتٍ مُرْتَجِفٍ: "أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ... أَعْطِنَا خُبْزَنَا كَفَافَ يَوْمِنَا..."
فِي اليَوْمِ التَّالِي، خَرَجَتْ مَارِيَّا إِلَى الغَابَةِ تَجْمَعُ الحَطَبَ لِتَدْفِئَةِ كُوخِهَا. فِي الطَّرِيقِ، صَادَفَتْ جُنْدِيًّا جَائِعًا مُصَابًا، مَلْقًى عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ. تَوَقَّفَتْ مُتَرَدِّدَةً، فَقَدْ كَانَتْ خَائِفَةً وَجَائِعَةً. لَكِنَّهَا تَذَكَّرَتْ صَلَاةَ "أَبَانَا"، وَلِسَيَّمَا العِبَارَةَ: "ٱغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا كَمَا نَحْنُ نَغْفِرُ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا." رَأَتْ فِي هذَا الجُنْدِيِّ وَجْهَ "العَدُوِّ"، لَكِنَّهَا رَأَتْ فِيهِ أَيْضًا إِنْسَانًا مُحْتَاجًا، فَقَامَتْ بِتَمْزِيقِ شَالِهَا لِتُضَمِّدَ جِرَاحَهُ، وَسَاعَدَتْهُ عَلَى القِيَامِ، ثُمَّ أَعْطَتْهُ مَا كَانَتْ تُخَبِّئُهُ مِنْ قِطْعَةِ خُبْزٍ لِطِفْلِهَا. نَظَرَ الجُنْدِيُّ إِلَيْهَا بِامْتِنَانٍ وَدُمُوعٍ، ثُمَّ قَالَ: "لَسْتُ جَدِيرًا بِمَا فَعَلْتِ، لَكِنَّكِ فَتَحْتِ بَابَ السَّمَاءِ لِي اليَوْمَ".
عَادَتْ مَارِيَّا إِلَى مَنْزِلِهَا، دَامِعَةَ العَيْنَيْنِ، لَكِنَّهَا تَشْعُرُ بِدِفْءٍ غَرِيبٍ فِي قَلْبِهَا. وَعِنْدَمَا دَخَلَتِ الكُوخَ، وَجَدَتْ سَلَّةَ خُبْزٍ عِنْدَ البَابِ، تَرَكَهَا أَحَدُ جِيرَانِهَا بِصَمْتٍ، وَقَدْ سَمِعَ عَنْ حَالِهَا. ابْتَسَمَتْ وَقَالَتْ لِابْنِهَا — "صَلَاتُنَا لَمْ تُهْمَلْ... أَبُونَا الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَدْ سَمِعَ."
صَلَاةُ "أَبَانَا" لَيْسَتْ فَقَطْ كَلِمَاتٍ نُرَدِّدُهَا، بَلْ أُسْلُوبُ حَيَاةٍ. حِينَ نَغْفِرُ، وَنُعْطِي، وَنَثِقُ، وَنَسْلُكُ كَأَبْنَاءٍ لِلهِ، نُدْخِلُ مَلَكُوتَهُ فِي قَلْبِنَا، وَنَصِيرُ خُبْزًا لِلآخَرِينَ. فَكُلُّ مَرَّةٍ نَعِيشُ فِيهَا هذِهِ الصَّلَاةَ، يَتَحَقَّقُ خَلَاصُ اللهِ فِي العَالَمِ.