موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥

"البيت الحيّ" بين كاتبي نبؤة حزقيال والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حز 47: 1-2. 8- 12؛ يو 2: 13- 22)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حز 47: 1-2. 8- 12؛ يو 2: 13- 22)

 

الأحد الثاني والثلاثيّن (ج)

 

مُقدّمة

 

الهيكل أم البيت؟ هما لفظين يتمحور حولهما مقالنا فيما بين العهدين. هل هناك علاقة بين البيت والهيكل؟ لـماذا يشير النص الأوّل مستخدمًا لفظ بيت وبالنص الثاني مستخدمًا لفظ هيكل؟ لهذا السبب جعلنا عنوان الـمقال "البيت الحي" باحثين عن حقيقة البيت والهيكل بكلا النصيّين. في النص الأوّل من نبؤة حزقيال (47: 1-2. 8- 12) يكشف عن رؤية النبيّ حزقيال الّتي يكشف عنها الرّبّ وهي تحمل الكثير من الـمعاني الرؤيويّة الغامضة. تتم هذه الرؤية في هيكل الرّبّ حيث سنتعرف عن رمزيّة الـمياه الّتي تملأ بيت الرّبّ. وبالنص الثاني بحسب الإنحيل اليوحنّاويّ 2: 13- 22، من خلال حدث وجود يسوع بالهيكل وطرده للباعة حيث نكتشف عن سرّه الإلهي وسبب وجود هذا الحدث في بدء البشارة اليوحنّاويّة. نهدف من خلال هذا الـمقال بالتعرّف على جوهريّة البيت والهيكل بحسب فكر الكتاب الـمقدس، لإعطاء إجابة هل يسوع هو هيكل الله الآب ليّ كمؤمن/ة اليّوم؟ 

 

 

1. مياه البيت الإلهيّ (حز 47: 1- 2. 8- 12)

 

في قرأتنا لنص العهد الأوّل بحسب نبؤة حزقيال النبيّ، وهو أحد الأنبياء الكبار، إذ تُعلن للنبي كلمة الرّبّ من خلال رؤيّة تحمل معنى رؤيا أخرى بسفر الرؤيا (22: 1-2). تشير تفاصيل الحوار بين الله والنبي حزقيال إلى أهميّة وعمق لّاهوتيّ كبير. يسبق هذا الحوار الّذي دار بينه وبين الرّبّ، وصف للرؤيا الّتي يراها فقط النبي، ويدونها لنا اليّوم، بينما هو في الهيكل. نقرأ بالنص لفظ "البيت" وهو ما يشير لهيكل كبيت الرّبّ الّذي أتمّ من خلاله إكرام داود للرّبّ حينما بيّن رغبته لناتان النبيّ ببناء بيت خاص للرّبّ ليضع فيها الكلمات العشر (راج 2 صم 7)، علامة لحضورهيشير لفظ بيت إلى الهيكل الّذي بناه لاحقًا سليمان ابن داود بحسب رغبة الرّبّ.

 

يعلن حزقيال في وصفه للرؤيا الإلهيّة قائلاً: «ورَجَعَ بي [الرّبّ] إِلى مَدخَلِ البَيت، فإذا بِمِياهٍ تَخرُجُ مِن تَحتِ البَيتِ نَحوَ الشَّرْق، لأَنَّ وَجهَ البَيتِ نَحوَ الشَّرق، والـمِياهَ تَنزِل مِن تَحتُ مِن جانِبِ البَيتِ الأَيمَنِ عن جَنوبِ الـمَذبَح. وخَرَجَ بي مِن طَريقِ بابِ الشَّمال، ودارَ بي في الطَّريقِ الخارِجِيِّ إِلى البابِ الخارِجِيِّ الـمُتَّجِهِ نَحوَ الشَّرْق، فإِذا بِالـمِياهِ تَجْري مِنَ الجانِب الأَيمَن» (حز 47: 1- 2). من خلال هذا الوصف النبويّ للـمياه رمزيًا وهي ما تشبه نهر الحياة الـمُتواجد بالهيكل أي بيت الرّبّ، وهو ما يشبه النهر الـمُوصوف بسفر التكوين (2: 10)، وبالتحديد بداخل العدّن. يوحي رمز المياه بالهيكل إلى الحياة الّتي تتدفق من مصدرها وهي الله. كثرة التدفقات الّتي تخرج من ذات النهر ما هي إلّا رمز للبركات الّتي تتدفق من العرش الإلهي. أهم صفات هذا النهر العمق والهدوء والأمان.

 

يستمر النبي في روايته للحوار بعد وصفه لهذه الرؤيا، بتحديد مزايا هذه الـمياه، من خلال قول الرّبّ له: «إِنَّ هذه الـمِياهَ تَخرُجُ نَحوَ المِنطَقَةِ الشَّرقِيَّة، وتَنزِلُ إِلى العَرَبَة وتتَجِهُ إِلى البَحْر. وحين تَنصَبُّ الـمِياهُ في البَحرِ تُصبِحُ مِياهُه طَيِّبَة. وكُلّ نَفْسٍ حيَةٍ تَدِبُّ حَيثُ يَبلُغُ مَجْرى النَّهرِ تَحْيا، ويَكونُ السَّمَكُ كَثيرًا جِدًّا، لأَنَّ هذه الـمِياهَ تَبلُغ إِلى هُناكَ وتُصبحُ طَيِّبَة، فكُلُّ ما يَبلُغ إِلَيه النَّهرُ يَحْيا. ويَقِفُ على الشَّاطِئ الصَّيَّادون مِن عَينَ جَدْيَ إِلى عَينَ عَجَلائيم، فيَكونُ مَنشرًا لِلشِّباك، ويَكون سَمَكُه على أَصْنافِه كسَمَكِ البَحرِ العَظيم كَثيرًا جدًّا. أَمَّا مُستَنقَعاتُه وبِرَكُه فلا تصبح طَيِّبَة،َ بل تُحفَظُ للملْح وعلى النَّهرِ على شاطِئِه من هُنا ومِن هُناكَ يَنبُتُ كُلُّ شجَرٍ يُؤكَل، ولا يَذبُلُ وَرَقُه ولا يَنقَطِع ثَمَرُه، بل كُلَّ شَهرٍ يُؤتى بَواكير، لأَنَّ مِياهَه تَخرُج مِنَ الـمَقدِس، فيَكونُ ثَمَرُه لِلطَّعامِ ووَرَقه لِلعِلاج» (حز 47: 8- 12). هذه الرؤيا تحمل وعود إلهيّة جديدة حيث أنّ بركة الرّبّ تستمر في السريان وتشمل جميع الشعوب دون تميّيز. من سمات هذه الـمياه العذوبة لدرجة أنّ مياهه إذ صُبت في البحر الـمالح يصير عذبًا بدوره. النهر يحمل الحياة لوفرة كثيرة من الأسماك وعلى شاطئيه ينبت الكثير من الأشجار الطيّبة الّتي لا تنتهي ثمرها ويعطي محصوله.

 

في الكتاب المقدس، سكنى الله في هيكله أو في بيته، هي صورة تنم عن الحضور الإلهيّ الّذي لا يُفني ولا يُلغي ولا يُهلك. ولكن الأهم من ذلك كله، أثناء العبور لقد سكن الله، من خلال لوحيّ الشريعة في خيمة كباقي شعب إسرائيل (راج خر 21). هذا مفهوم خاص جدًا لسكنى الله يُميز ديانة بني إسرائيل. في العهد القديم، سكن إله إسرائيل في بيت متنقل، ليتمكن من التنقل مع شعبه وتكون وسيلته لحضوره الإلهي وسط شعبه. لذلك، يسكن الله حيث يسكن الشعب، وإن كان الشعب تائهًا في الصحراء، فلله أيضًا مسكن مؤقت؛ فيصبح حاجًا ليتمكن من متابعة مسيرة شعبه نحو الأرض الموعودة. ولكن عندما يدخل الشعب الأرض ويستقر في مدينة أورشليم، يقبل الرّبّ أيضًا مسكنًا دائمًا له (راج 2صم 7). إنّه هيكل أورشليم الّذي بناه سليمان وهو بناء مهيب، بمثابة ربع مدينة أورشليم تقريبًا، ومع ذلك، لا يدل هذا على تغيير شيئًا ما في أسلوب الله من شعبه. إختار الله ذلك المكان ليحل اسمه فيه، لأنّ الشعب استقر فيه، وبنوا فيه الـمدن والبيوت. وهكذا رضي الله أيضًا بمكانًا لسكناه وسط شعبه. هذا التأكيد ذات أهميّة لاهوتيًة كبري، حيث ليس هناك سبب آخر لوجود الله في هيكل أورشليم سوى أنّ الله اختياره للبقاء وسط شعبه، واختاره لأنّه الآن يسكن مع شعبه. وعندما يُسبي الشعب إلى بابل، سيُخلّد مجد الله المدينة المقدسة، ويرتفع ويتجه شرقًا، ليكون هناك ملجأ، مؤقتًا مرة أخرى، حيث سُبّي الشعب. ومرة ​​أخرى، يُقيم الله بخيمة ويسكن حيث يسكن الشعب. هكذا يجدد الله في رؤيته لحزقيال النبي رغبته في السكنى وسط شعبه بل يصير هو مصدر للبركات الّتي تحلّ على كلّ مَن يتردد على الـمسكن الإلهيّ ليعترف به ربًا وإلهًا. لذا نتواصل في قرائتنا بحسب يوحنّا حيث يتواجد ابن الله، يسوع، في هيكل أورشليم ليُتمم ما بدأه الرّبّ بالـماضي.

 

 

2. عنف أم تحذير يسوع؟ (يو 2: 13- 15) 

 

يحدد الإنجيليّ في سرده أنّ سبب وجود يسوع بالهيكل الآن هو الإحتفال بعيد الفصح كعادة اليهود الّذين ينتمون للرّبّ. ويفتتح سرده بقوله: «وكانَ فِصحُ اليَهود قَريباً، فصَعِدَ يسوعُ إِلى أُورَشَليم، فوَجَدَ في الهَيكَلِ باعةَ البقَرِ والغَنَمِ والحَمامِ والصَّيارِفَةَ جالِسين. فَصَنَعَ مِجلَداً مِن حِبال، وطَرَدَهم جَميعاً مِنَ الهَيكَلِ مع الغَنَمِ والبَقَر، ونَثَرَ دَراهِمَ الصَّيارِفَةِ وقلَبَ طاوِلاتِهم» (يو 2: 13- 15). هذا هو ردّ فعل يسوع على مَن فهموا بالخطأ قيمة الهيكل الـمقدس وجعلوا منه مكانًا للتجارة والربح. بدلاً من التواصل والعبادة للرّبّ، إهتموا بمصالحهم وتحقيق الأرباح لهم. وهنا بعض من مُحلليّ الإنجيل اليوحنّاوي يصفوا ليسوع بالعنف في ردة فعله، فهل يصح ما فعله يسوع؟ لـماذا يقوم بعمل كهذا بداخل الهيكل أي بيت الله؟ هدف يسوع هو التحذير لـمن تركوا أنفسهم يسعون وراء الـمال تاركين العبادة والهدف الأساسيّ للوجود في الهيكل.

 

 

3. بيت الرّبّ للصّلاة أم للــ ...؟ (يو 2: 16- 18)

 

يبالغ يوحنّا في سرده في ردة فعل يسوع وثورته الغاضبة على التجار بالهيكل الّذين إعتقدوا أنّ كلّ شيء مُباح لهم في كلّ مكان ولم يراعوا قدسيّة الهيكل الّذي يسكن الله فيه لأجلهم. يضع الإنجيليّ على لسان يسوع في قوله لِباعَةِ الحَمام فعل الأمر: «اِرفَعوا هذا مِن ههُنا، ولا تَجعَلوا مِن بَيتِ أَبي بَيتَ تِجارَة» (يو 2: 16). يُذّكر يسوع الباعة الـمُتاحيّين لبيع بعض الحيوانات أو الطيور لتقدمات الصاعدين للهيكل كمُتدينيّن بأنّ قداسة البيت الإلهيّ تشير لقداسة ساكنه أي الله الآب. لذا يكشف يسوع زيفهم مُحذراً إياهم باليقظة وعدم الوقوع في الفخ وإستغلال كلّ الأماكن بما فيهم الـمكان الـمخصص فقط لعبادة الرّبّ. 

 

يروي أيضًا الإنجيلي تساؤل اليهود الحاضرين بالهيكل ليسوع قائلين: «أَيَّ آيةٍ تُرينا حتَّى تَعمَلَ هذه الأَعْمَال؟ [...] بُنِيَ هذا الهَيكَلُ في سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة، أوَأَنتَ تُقيمُه في ثَلاَثةِ أيَّام؟» (يو 2: 18). بحسب إنجيل يوحنّا، وُضع هذا المقطع الّذي يتناول موضوع علاقة يسوع بالهيكل، على عكس الأناجيل الإزائية الّتي تكشفه بعد دخوله الـمُنتصر إلى أورشليم، مباشرةً بعد في بدء يوحنّا سرده وفي بدء خدمة يسوع. هذا ليس مصادفةً، بل يُشير إلى الدور الخاص الّذي يحتله هذا الحدث بحسب الفكر اليوحنّاويّ.

 

 لكن الموضوع الأساسي الّذي يجمع هذا النص الإنجيليّ مع فصح يسوع هو تحديد الهيكل، كمكان حضور الله ولقائه به في جسد يسوع ذاته (راج يو 2: 21). يكشف يوحنّا في مقدمة شارته بأنّ الكلمة "صار جسدًا" (راج يو 1: 14)، وأنّ الله الّذي لم يره أحد قط قد كُشف له بواسطة ابنه الوحيد (راج يو 1: 18). والآن، في رواية تطهير الهيكل، يذكر يوحنّا أنّ يسوع عندما يتحدث عن الهيكل، فإنّه يشير إلى جسده. يتحدث الله ويُظهر نفسه في جسد يسوع الابن، وهو جسد سيتم تدميره وإعادة بنائه في ثلاثة أيام. يكشف الله عن ذاته في فصح يسوع، في حياته الّتي بذلها من أجل الآخرين. لذا يختتم الإنجيلي هذا النص بتوضيح إضافي منه قائلاً: «أَمَّا هو [يسوع] فكانَ يَعْني هَيكَلَ جَسَدِه. فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات، تذكَّرَ تَلاميذُه أَنَّه قالَ ذلك، فآمنوا بِالكِتابِ وبِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها يسوع» (يو 2: 21- 22).  يسوع هو الهيكل الّذي يقيم الله فيه وللأبد، وهو يسوع إبنه في جسده الإفخارستي، وفي الكلمات الإلهيّة الّتي تكشف عن الحضور الحيّ لله اليّوم وكلّ الأيام.

 

 

4. يسوع هو البيّت الحيّ (يو 19-22)

 

يشير الإنجيلي بقول يسوع: «اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!» (يو 2: 19)، يشير بأنّ يجعل الله مسكنه في الهيكل الحيّ الآن وهو جسد يسوع. أشار الإنجيليّ سابقًا مُشيراً إلى الخيمة وأنّ الكلمة الـمُتجسد قد نَصب خيمته بيننا (راج يو 1: 18). أجلّ، لأنّه في جسد يسوع، اختار الله مرة أخرى أنّ يسكن بذاته حيث تسكن البشريّة خليقته. في جسد يسوع، بُني هيكلٌاً حيًا يُحقق تمامًا الخطة الّتي وضعها الله عبر التاريخ، أنّ يُقيم من خلاله حيث نسكن جميعًا في الابن كنساء وكرجال مؤمنين به. الإنسان كائنٌ في جسده ويسكن فيه، وقد "أعدّ الله لنفسه جسدًا" ليكون مسكنه. وكأنّ مسيرة الله في لقاء البشرية، منذ الخلق فصاعدًا، قد بلغت كمالها في إتخاذه جسدًا مسكنًا له. كما نصلي في الذبيحة الإلهيّة قائلين: "بمحبتك للبشريّة، إخترت أنّ تسكن حيث يجتمع شعبك للصّلاة، لتجعلنا هيكلًا للرّوح القدس". مدعويّن أنّ نحيا في داخل هذا الجسد الحيّ الّذي يغذينا ويصير لنا بمثابة بيتًا دائما، من خلال القربان والكلمة الإلهيّة.

 

 

الخلّاصة

 

ناقشنا بمقالنا هذا نصين، الأوّل بحسب نبؤة حزقيال (47: 1-2. 8-12). حيث تعرفنا على النهر النابع من الهيكل كرؤيا تحمل رسالة إلهيّة للنبي وتكشف عن بركات لا تتحصى تغمر حياة وقلوب الشعب الّذي ينتمي للرّبّ. بالنسبة للنص الثاني بحسب يوحنّا (2: 13-22)، ناقشنا حدث مُعاش وهو في بدء خدمة يسوع العلنيّة بحسب يوحنّا. حيث كشف يسوع عن زيف الباعة الساعيّين إلى تحقيق مصالحهم الشخصيّة من داخل هيكل الرّبّ الـمُكرس للعبادة والعلاقة بالرّبّ. توصلنا بنهاية مقالنا إلى التعرف بأنّ بيت الرّبّ الغني بالبركات بحسب رؤيا حزقيال النبي ما هي إلّا إستباق لنكتشف في شخص يسوع، ذروة البركات فهو الهيكل الحيّ الّذي يسكن فينا في كلّ مرة نفسح له الـمجال ليأتينا ويسكن فينا فيصير هو بذاته الهيكل الحقيقي والبيت الّذي يسكن الله للأبد فيه من خلال يسوع أبنه والهنا. دُمتم في حضور دائم في البيت الآب وهو يسوع ذاته.