موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثلاثيّن (ج)
مُقدّمة
هناك طُرق كثيرة، تُعبر عن تواصلنا بالرّبّ وعلاقتنا به حينما نصلي فهناك صلاة بالدموع، أو برفع اليديّن، أو بالكلمات، بالسجود، بالإنحناء، بإستخدام النصوص الـمُقدسة، حتى بالصّمت؛ وهناك أشكال أخرى خاصة بكل مؤمن ليتواصل بها مع الرّبّ. بمقالنا هذا ستساعدنا كلمات الحكيم، ابن سيراخ (35: 15- 22) الّذي يرشدنا إلى طريقة جديدة وغير مزيفة لتقديم صلاتنا للرّبّ، مشيراً على ما يحمله أيضًا قلب الله تجاه صلاتنا. وعلى هذا الـمنوال يتوازى نص من الإنجيل الثالث (لو 18: 9- 14)، في آيات قليلة، حيث إنّنا وبعد أنّ ناقشنا صرخة الأرملة لقاضي مدينتها وهي تطالبه بالدفاع عنها أمام خصمها (راج لو 18: 1- 8). يأتينا لوقا في نص اليّوم بتقديم رجل يعرف حقيقة ذاته وحينما يقف أمام الرّبّ يجعل عالـمنا الروحيّ يتزلزل من خلال صلاته القصيرة الّتي هي بمثابة زلازال يجعلنا نتسأل ماذا أقول في صلاتي حينما أقف في حضور الرّبّ؟ نهدف من خلال مقالنا هذا بأنّ نفسح الـمجال لكلمات نصي العهديّن الأوّل والثاني بحياتنا فنتعلم بأنّه ليس بطول ساعات أو بقصرها الصّلاة بل بجوهريتها وبما نعيشه من علاقة حقيقيّة من الرّبّ وفي حضوره.
1. صلاة الدموع (سي 35: 15- 22)
يفتتح ابن سيراخ، كاتب إحدى الكتب الحكميّة، هذا النص الّذي يطرح قضية جديدة للتواصل مع الرّبّ وهي "دموع الأرملة" الّتي تحولت إلى صلاة للرّبّ في شكل تساؤل قائلاً: «ألَيسَت دُموعُ الأَرمَلَةِ تَسيلُ على خَدَّيها وصُراخُها على الَّذي أَسالَها؟» (سي 35: 15). هنا صلاة الأرملة ليست بالكلام بل بالبكاء وهذه الدموع تتحول إلى صلاة حقيقيّة حيث يتحول دعائها وطلبها ليس بالكلمات كما تعودنا بل بالدموع. فكثيراً ما تسيل دموعنا لأسباب ثانويّة. ولكن هذه الأرملة الّتي تحتاج لـمَن يواسيها حيث ترفع صراخها أمام الرّبّ بدموعها الـمستمرة مشيرة بأنّ مَن يلجأ للرّبّ بنوعيّة هذه الصّلاة كما يقول الحكيم فأنّ: «دُعاؤُه يَبلغٌ إِلى الغُيوم. صَلاةُ الـمُتَواضِعِ تَنفُذُ الغُيوم ولا يَتَعَزَّى حَتى تَصِل. ولا يَكُفُّ حَتَّى يَفتَقِدَه العَلِيّ وُينصِفَ الأَبْرارَ ويُجرِيَ القَضاء» (سي 35: 16- 18). يتضح في رد فعل الأرملة أمام الرّبّ الدور البشريّ للمؤمن أمام الرّبّ، اللجوء الـمستمر حتى بالدموع وعدم الكفاف عن الصّلاة حتى يفتقد الرّبّ مَن يلجأ إليه بدون كلمات، بل بالدموع، فيستجيب الرّبّ له ويمنحه طلبته. إذن لا تكفي الصّلاة بالكلمات فهناك الدموع والإستمرار لينصفنا الرّبّ من أي تجربة سمح بها في حياتنا. فالدموع أثناء الصًلاة هي أقصر صلاة حقيقة إلّا إنّها جبارة فهي تخترق قلب الله وتلمس رحمته.
وتأتي إجابة الرّبّ أمام دموع الـمُصلي بحسب وجهة نظر الحكيم فيقول بأنّ: «الرَّبّ لا يُبطئ ولا يُطيلُ أَناتَه علَيهم [...] حتَّى يُكافِئ الإنْسانَ على حَسَبِ أَفْعالِه ويُجازِيَ البَشَرَ بِأَعْمالِهم على حَسَبِ نِيَّاتِهم» (سي 35: 19- 22). التدخل الإلهي سيتم مُشيراً إلى بأنّ الرّبّ يأتي للقاء الإنسان بل يحارب معه ولا يتأنى للإصغاء له. فمتى لجأ الإنسان للرّبّ يجد الرّبّ بعظمته في إنتظاره. مدعوين لئلا نخجل مِن أنّ نذرف دموعنا، ليس فقط كلماتنا أو سجودنا، ... أمام الرّبّ الّذي يسمعنا في كلّ أوقاتنا وفي كلّ أوضاعنا، فقط علينا أنّ نلجأ إليه.
2. فخ برّارتنا! (لو 18: 9)
بشكل يتوازي مع النص الحكمي من سفر سيراخ الّذي ناقشناه سابقًا، سنتناول النص اللّوقاويّ حيث يفتتح الإنجيلي هذا الـمثل بتقديم السبب الجوهري الّذي دفع يسوع ليلقي بتعليمه قائلاً: «ضرَبَ [يسوع] أَيضاً هذا الـمثل لِقَومٍ كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار، ويَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس» (لو 18: 9). هذا هو الفخ الكبير الّذي يبدأ يسوع في تخليص سامعيه من الوقوع فيه. حيث يصف لوقا بأنهم أُناس مثلي ومثلك، نال منهم فخ التيّقن بأنّهم أبراراً لذلك يتعاملون مع الآخريّن برّوح التكبر والإزدراء حيث إنّهم يحتقرون سائر الناس الأخرى.
البرّارة الحقيقيّة هي حالة روحيّة ساميّة تساعد على التقرّب من الآخرين وقبولهم ومعاونتهم. إلّا أنّ هناك برارة مزيفة، وهي بمثابة فخ حيث تجعل الإنسان يتعاظم ويتكبر على الآخرين فيشعر بأنّه أفضلّهم وبهذا يقع بجهل كبير في فخ البرّارة الزائفة. لذلك تأتينا كلمات يسوع التعليميّة من خلال الـمثل الشهير ليحررنا من هذا الفخ الّذي قد نقع فيه دون أنّ نعلم بخطورته.
3. النموذجين! (لو 18: 10-14)
يبدأ يسوع في توجيه تعليمه لفئة خاصة وهي الّتي لا تعرف حقيقة ذاتها بل وقعت في أعماق فخ البرارة الزائفة. من خلال الـمثل التعليمي القليل في آياته حيث يعرض أمامنا نموذجين يمثلان إيانّا نحن البشر وهما الفريسي وجابي الضرائب أثناء وجودهما في الهيكل وهدفهما الصّلاة أي الـمكوث والحوار مع الرّبّ. وهنا يروي لوقا على لسان يسوع صفات الفريسي قائلاً: «فانتَصَبَ الفِرِّيسيُّ قائِماً يُصَلَّي فيَقولُ في نَفْسِه: "الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالـمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجابي. إِنَّي أَصومُ مَرَّتَيْنِ في الأُسبوع، وأُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ ما أَقتَني"» (لو 18: 11- 13). يتضح وقوع هذا الفريسيّ في فخ الكبرياء، فقد عَدّد أعماله الخيّرة أمام الرّبّ وهو نتصفًا ومنفوخًا في حضرة الرّبّ ذاته! ودون أنّ يشعر، قارن ذاته وأعماله الّتي يحفظ بها الشريعة بشخص آخر كان هو الآخر يصلي، وبجهل أدانه إذ وضع ذاته وأعماله في مركز الصّلاة ونسيّ إنّه يتحاور مع الرّبّ الإله. هنا قد يمثلنا هذا الفريسي في كبريائه الـمُتغطرس ولا يتواصل حقيقة مع الله. فهناك صلوات بمثابة فخ وخديعة لا تجعل الـمؤمن يصلي وبتواصل مع الرّبّ حقيقة! مدعوين للإنتباه، تعلّيم يسوع عن النموذج الأوّل، يحمل التحذير عن الوقوع في فخ الصّلاة الّتي بها إدانة الآخرين دون معرفة حقيقة الّذات. لذا فخ البرارة يحرم الإنسان من الصّلاة القصيرة والحقيقة ويستمر في الكلمات دون أنّ يدرك اخطائه حقًا.
عن النموذج الثاني، جابي الضرائب، يصفه يسوع صراحة بكلمات قليلة قائلاً: «أَمَّا الجابي فوَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، بل كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: "الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!"» (لو 18: 13). وضع الجابي هو الإنحناء، عينه في الأرض، قارعًا صدره، وهنا تأتي الجملة القصيرة الّتي تلفظ بها أمام الرّبّ كجوهر صلاته وهي رغبته في التوبة الحقّة. هذا الجابي وهو من الفئات الـمفروضة بالـمجتمع، كشف عن وجه الإنسان الـمؤمن حقيقة بالله والّذي حينما يلجأ إليه يعرف حقًا حقيقة ذاته دون أنّ يقع في الفخ. هذا النموذج يحمل لي ولك رسالة قوة عن صلاتنا وشكل وقوفنا أمام الرّبّ. إلهنا هو الّذي آتي للخطأة مثلي ومثلك، وليس للأبرار. فلا نخشى أنّ نرفع دموعنا وصلاتنا القصيرة الّتي تكشف توبتنا الحقيقة لأننا في حضور الرّبّ حياتنا تصير للأفضل. إختار الجابيّ الوضع الأقل والصّلاة القصيرة فإخترق قلب الله بتواضعه ومعرفته حقية ذاته.
لذلك يختم يسوع تعليمه لنا اليّوم بقوله: «أَقولُ لَكم: "إِنَّ هذا نَزَلَ إِلى بَيتِه مَبروراً وأَمَّا ذاكَ فلا. فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع، فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع"» (لو 18: 14). التواضع، دون إدانّة والصّلاة للرّبّ الّتي نعرف فيها حقيقتنا دون الوقوع في فخ البرارة الكاذبة. مدح يسوع الجابي الّذي عاد مُبرراً ليس بحفظه للشريعة بل بحقيقة ما يحمله قلبه وهي طلب الرحمة الإلهيّة وإدراكه بأنّه، كحالنا، خاطئ وليس مُبرراً بما يعمله بل بوعيّه بحقيقته الخاطئة.
4. أقصر صلاة (سي 35: 15- 22؛ لو 18: 9-14)
تناولنا في نصيّيي هذا الـمقال، من خلال فئتنين لم يكن لهما قيمة في العهد الأوّل والثاني. الفئة الأولى تتمثل في أقصر صلاة تنبع من عيون وقلب الأرملة الّتي أبدعت في الصّلاة بدون كلمات ولكن من خلال دموعها حيث إخترقت دموعها الغيوم، وهذا هو من أهم مفاتيح لفهم هذا الـموضوع بحسب كاتب سفر سيراخ، الّتي تحدث عن الصّلاة الـمقبولة لدى الله. صورة الأرملة هي بمثابة صلاة الفقراء الّتي تخترق الغيوم وبقوة لأنّ الرّبّ يتدخل بشكل يفوق العادة ويبدع أمام دموعها. وعلى هذا الـمنوال نجد أنّ الفئة الثانيّة تتمثل في جابي الضرائب بالعهد الثاني حيث إستمرينا بهذا الـمقال على منوال الـمقال السابق لنقاش موضوع عزيز على كاتب الإنجيل الثالث وهو لوقا، حيث علمنا يسوع مثل جديد عن الصّلاة وله قيمة علائقيّة بالرّبّ. من جديد يروي يسوع مثلاً عن الصّلاة، ليساعدنا في الإستمرار في إختراق قلب الله الآب بعلاقتنا البنويّة البسيطة. وكعادته، يستعين بصور عصره وهي صور مؤثرة للغاية وتحاور عصرنا اليّوم. يُسهل يسوع من خلال هذا الـمثل فهم النص، يمكننا التركيز على سلوك الجابيّ الّذي يدخل الهيكل ولكنه يبقى بعيدًا. إنها صورة تُذكرنا بذاواتنا في كنائسنا، حيث يقف العديد من الرجال والنساء، مِمَن يعتقدون أنّهم مؤمنون إلى حد ما، في المؤخرة، أو في المقاعد الأخيرة، أو على جانب باب المدخل. فتصنيف الفقراء وصلاة الفقراء، كأقصر صلاة أساسي لفهم كلمات يسوع في الـمثل الإنجيليّ.
الخلّاصة
"أقصر صلاة" هو العنوان الّذي أعطيناه لمقالنا بهذا الأسبوع. حيث أنّ قيمة الصّلاة الحقة ليس بطول الـمدة وبلا بالكلمات. كما رأينا من جديد في كلا النصيّين، بالعهد الأوّل بحسب كاتب سفر ابن سيراخ (35: 15- 22) حيث وضع صلاة الأرملة الـمتجليّة في ذرف دموعها أمام الرّبّ كأقصر صلاة حقيقة وبدون الوقوع في فخ البرارة الزائفة. ورأينا التوازي صلاة الأرملة الّتي إخترقت السماء وبين صلاة جابيّ الضرائب بالعهد الثاني، بحسب لوقا الإنجيليّ (18: 9- 14). عن بُعد عرف قيمة ذاته الخاطئة ووقف بجملته القصيرة "اِرحمنى يارّبّ فانيّ خاطئ" حيث قال كلّ شئ مدركًا ربوبيّة الله الواقف أمامه ورافعًا طلبه بالرحمة دون أنّ يقع في فخ البرّارة الكاذبة فنال البرّ بحسب جوهر تعلّيم يسوع. نهدف من خلال مقالنا هذا أنّ نتواصل مع الرّبّ، بالدموع أو بالكلمات أو بغيرهما من وسائل حقيقيّة تُعرفنا على حقيقة ذواتنا أمام الرّبّ والإنتباه من الوقوع في فخ البرّ الزائف. دُمتم لصلاتكم القصيرة تخترقون السماء وتنالون البرّ بحسب قلب الله.