موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النشيد
1. أَيُّها الرَّبُّ العَلِيُّ، وَالكُلِّيُّ القُدْرَةِ، وَالصَّالِحُ،
لَكَ التَّسابيحُ، وَالمَجْدُ، وَالإِكرامُ، وَكُلُّ بَرَكَةٍ،
2. فَهيَ بِكَ وَحْدَكَ تَليقُ، أَيُّها العَلِيُّ،
وَما مِنْ إِنسانٍ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَدْعوَكَ.
3. كُنْ مُسَبَّحاً، يا رَبِّي، بِجَميعِ مَخْلوقاتِكَ،
وَلا سِيَّما السَّـيِّدةُ الأُخْتُ الشَّمْسُ،
الَّتي هيَ النَّهارُ، وَبِها أَنتَ تُنيرُنا.
4. وَهيَ جَميلَةٌ، وَمُشِعَّةٌ بِبَهاءٍ عَظيمٍ،
وَتَحْمِلُ إِشارَةً إِلَيْكَ، أَيُّها العَلِيّ.
5. كُنْ مُسَبَّحاً، يا رَبِّي، بالأَخِ القَمَرِ وَالنُّجومِ:
في السَّماءِ كَوَّنْـتَها نَيِّرَةً، ثَمينَةً، جميلة.
6. كُنْ مُسَبَّحاً، يا رَبِّي، بالأُخْتِ الرِّيح،
وَبالهَواءِ وَالسُّحُبِ، وَالسَّماءِ الصَّافِيَةِ،
وَبِجَميعِ الفُصولِ، الَّتي بِها تُسانِدُ مَخْلوقاتِك.
7. كُنْ مُسَبَّحاً، يا رَبِّي، بالأَخِ الماءِ،
الَّذي هوَ جَزيلُ الفائِدَةِ، وَوَضيعٌ، وَثَمينٌ، وَعَفيف.
8. كُنْ مُسَبَّحاً، يا رَبِّي، بالأُخْتِ النَّارِ،
الَّتي بِها تُنيرُ لَنا اللَّيْلَ،
فَهيَ جَميلَةٌ، فَرِحَةٌ، صَلْبَةٌ، قَوِيَّة.
9. كُنْ مُسَبَّحاً، يا رَبِّي، بِأُخْتِنا وَأُمِّنا الأَرْضِ،
الَّتي تُسانِدُنا، وَتُدَبِّرُنا، وَتُنْتِجُ الثِّمارَ المُتَنَوِّعَةَ، مَعَ الأَزهارِ المُلَوَّنَةِ، وَالأَعشاب.
10. كُنْ مُسَبَّحاً، يا رَبِّي، بِأُولَئِكَ الَّذيْنَ يَصْفَحونَ حُبّاً بِكَ،
وَيَحْتَمِلونَ الأَسْقامَ، وَالشَّدائِد.
11. طوبى للَّذيْنَ يَحْتَمِلونَها بِسَلامٍ،
لأِنَّهُم مِنْكَ، أَيُّها العَلِيُّ، سَيُكَلَّلون.
12. كُنْ مُسَبَّحاً، يا رَبِّي، بِأَخينا المَوْتِ الجَسَديِّ،
الَّذي لا يَقْدِرُ أَنْ يُفْلِتَ مِنْهُ إِنسانٌ حَيّ.
13. وَالوَيْلُ لِمَنْ يَموتونَ في الخَطايا المُميتَةِ،
وَطوبى لِمَنْ يَجِدُهُم في إِرادَتِكَ الكُلِّـيَّةِ القَداسَةِ،
لأِنَّ المَوْتَ الثَّاني لَنْ يُلْحِقَ بِهِم سوْءاً.
14. سَبِّحوا رَبِّي وَبارِكوهُ، وَاشكُروهُ، وَاخْدِموهُ، بِتَواضُعٍ كبير.
إنَّ نشيدَ المخلوقاتِ هوَ النَّصُّ الأَكثرُ أَصالةً في كتاباتِ القدِّيسِ فرنسيس. وهوَ النَّصُّ الوحيدُ الذي كُتِبَ باللُّغةِ العامِّيَّة. إنَّ رَمزيَّةَ النَّشيدِ تفتحُ عصرًا جديدًا للرُّوحانيَّةِ المسيحيَّة. هذه الكلماتُ (كلماتُ النَّشيدِ) نبتَتْ وخرجَتْ من قلبِ القدِّيسِ فرنسيس، في السَّنواتِ الأَكثرِ إيلامًا، حيثُ المرضُ قد اجتاحَ جسدَهُ كلَّه، واقتربَ من الموت.
إنَّ النَّشيدَ يُوضِّحُ كيفَ كانَ ينظرُ القدِّيسُ فرنسيس إلى الطَّبيعةِ، والحياةِ الإنسانيَّةِ، والموتِ. فهوَ لا يرفضُ شيئًا، حتَّى الموتَ، يراهُ أَخًا. وعلى الرُّوحِ أَلَّا تتوقَّفَ عن تسبيحِ اللهِ، خالقِ كلِّ شيءٍ، وفادي الإنسانِ، ومُخَلِّصِهِ، ومجدِهِ. إنَّ جميعَ الَّذينَ يصفحونَ حبًّا بكَ، ويحتملونَ الأمراضَ والشَّدائدَ بسلامٍ، هم منك، أيُّها العليُّ، سيُكَلَّلون. فَلنُسَبِّحِ اللهَ الَّذي حوَّلَ الموتَ إلى تسبيحٍ.
إنَّ الجزءَ الأوَّلَ من النَّشيدِ هو تقريبًا رؤيةٌ للإنسانِ الطَّاهِرِ في الملكوتِ: المكانِ الَّذي أَعدَّهُ اللهُ له؛ المكانِ الَّذي لا توجدُ فيه الخطيئةُ، ولا الأَلمُ، ولا الموتُ. في الملكوتِ، كلُّ شيءٍ طاهرٌ وجميلٌ وعذبٌ، والكلُّ يُسَبِّحُ بفرحٍ. وعندما نظرَ القدِّيسُ فرنسيس نظرةً مُباشرةً وعميقةً إلى الإنسانِ، رأى الجمالَ النَّقيَّ، لأنَّه ينتصرُ على الأَلمِ والخطايا. في الحياةِ الأرضيَّةِ الجميلةِ، تُحيطُ المخلوقاتُ بالإنسانِ وتخدمُه. إنَّ جمالَ الأولى لا يُضاهِي جمالَ الثَّانية، حيثُ يقتربُ اللهُ نفسُه من الإنسانِ، ويتوِّجُه، ويَصيرُ تركيزُ الإنسانِ كليًّا على الخالقِ.
واحدٌ مع الخليقة
يَقْبَلُ القدِّيسُ فرنسيسُ جميعَ الخلائقِ ويَحتويها بمحبَّتِهِ. حتَّى الموتَ لم يرفضْه، بل جعله أَخًا. ويريدُ من جميعِ البشرِ أَنْ يَحتَوُوا بِحُبِّهِم جميعَ الخلائقِ، وأيضًا الأَخَ الموتَ. يَجِبُ أَنْ يتصالحَ الإنسانُ مع الخليقةِ جمعاءَ، ومع كلِّ البشريَّةِ؛ عندها ستكونُ حياتُه تسبيحًا للهِ على كلِّ شيءٍ، وفي كلِّ شيءٍ.
بالانتقالِ إلى الحديثِ عن الأشخاصِ الَّذين يغفرونَ أَصلًا لمحبَّةِ الله، لا ينقسمُ النَّشيدُ إلى رؤيتينِ متعارضتينِ. إنَّ الخطيئةَ، بالنِّسبةِ للقدِّيسِ فرنسيس، لم تَقضِ على الانسجامِ الَّذي خُلِقَ عليه الإنسانُ، حتَّى ولو كانت قادرةً على تهديدِه. فالقدِّيسُ فرنسيس لا يعيشُ في عالمٍ أَصبحَ عبدًا للشرِّ، بل في عالمٍ فَداهُ الرَّبُّ يسوعُ، وأَصبحَ أَكثرَ إشراقًا من ذي قبل. وهذه الإشراقةُ تأتي من محبَّةِ اللهِ وغفرانِهِ للعالمِ. إنَّ الخليقةَ الَّتي يُشيدُ بها النَّشيدُ لا تَعرفُ الجبالَ ولا البحارَ فحسب، بل إنَّهُ منظرٌ طبيعيٌّ غنيٌّ بتنوُّعِه. وإِنَّهُ أيضًا منظرٌ بشريٌّ. إنَّ الإنسانَ لا يَتَغَلَّبُ على اتِّساعِ البحارِ، ولا على عَظَمَةِ الجبالِ. إِنَّها ليستْ طبيعةً مُتَطَرِّفَةً تُهَيْمِنُ على الإنسانِ، وليستْ طبيعةً يَشعُرُ فيها الإنسانُ بالغُربةِ والضَّياعِ، بل هُنا الإنسانُ هو حقًّا مَلِكُ الخليقةِ.
إذًا، الخليقةُ في خدمةِ الإنسانِ، فالشمسُ تُضيئُها بنورِها، والماءُ نافِعٌ جدًّا، والفصولُ الأَربعةُ تُلبِّي احتياجاتِه، والأمُّ الأرضُ تُغذِّي وتُقوِّي. كلُّ هذه عطايا اللهِ في خدمةِ الإنسانِ. ولكن، لا يوجدُ في النشيدِ أيُّ إشارةٍ إلى الحيواناتِ. إنَّ غيابَ المملكةِ الحيوانيَّةِ غيرُ مُحبَّذٍ. يا تُرى، لماذا نَسِيَ القدِّيسُ فرنسيسُ الحَمَلَ، والصَّقْرَ، والعصافيرَ الَّتي تَحَدَّثَ معها؟! لم يَظهَرْ من الكائناتِ الحيَّةِ غيرُ الإنسانِ، مَلِكِ هذه الخليقةِ الَّتي خُلِقَتْ لأَجلِه. فهل هو على حقٍّ في تجاهُلِ ذِكرِ باقي المخلوقاتِ الحيَّةِ؟ أَمْ أَنَّ النشيدَ لم يكتبه كاملًا القدِّيسُ فرنسيس؟
على الأَرجَحِ، أنَّ القدِّيسَ فرنسيسَ عبَّرَ، من خلالِ النشيدِ، عن إيمانِه ونمطِ حياتِه، الَّتي يُلخِّصُ فيها الخليقةَ بأَكملِها، والحياةَ كلَّها، في الإنسانِ، الَّذي يُصبِحُ صوتَ الكونِ في تسبيحِ اللهِ. إنَّ كثيرًا من الدارسينَ لهذا النشيدِ كتبوا أبحاثًا هائلةً حولَه، وقالوا: إِنَّ النُّقطةَ المثيرةَ للجدلِ هي حرفُ الجرِّ (cum): "كُنْ مُسَبَّحًا، يا ربِّي، بِجميعِ مخلوقاتِكَ... كُنْ مُسَبَّحًا، يا ربِّي، بِالأخِ القمرِ والنجومِ... بِالأختِ الريحِ، وبِالهواءِ... بِالأخِ الماءِ... بِالأختِ النارِ... بِأُختِنا وأُمِّنا الأرضِ... بِأُولئكَ الذينَ يصفحونَ... بِأخينا الموتِ الجسديِّ".
فهل التسبيحُ الَّذي يَرفعهُ القدِّيسُ فرنسيسُ إلى اللهِ، يربطُ الخليقةَ مع خالقِها؟ ألم يكنْ من الأَوجبِ أن تتَّحدَ المخلوقاتُ مع الإنسانِ في تسبيحِ اللهِ الخالقِ، على عكسِ ما فعله القدِّيسُ فرنسيس؟
ومن ناحيةٍ أُخرى، أليسَ الإنسانُ هُنا هو صوتُ جميعِ الخلائقِ، الَّتي يُسبِّحُ بها اللهَ؟
أيُّ معنًى، إذًا، لحرفِ الجرِّ (cum)؟ إنَّ هذا الحرفَ يوحِّدُ مع الرَّبِّ ليس فقط الشمسَ، بل جميعَ الخلائقِ الَّتي ذَكَرَها القدِّيسُ فرنسيس.
نجدُ في الفقرةِ التَّاليةِ حرفَ الجرِّ الآخَرَ (per)، ويمكنُ ترجمتُهُ بطرُقٍ متنوِّعةٍ:
1. "مِنْ أَجْلِ"،
2. "مِنْ قِبَلِ"،
3. "بِوَاسِطَةِ" (أو: "بِ").
في هذه الترجمةِ، وفي كلِّ النشيدِ، اخترْنا الاحتمالَ الثَّالثَ، الَّذي يعني أنَّ المخلوقاتِ هي أدواتٌ لتسبيحِ اللهِ، وأنَّ التَّسبيحَ يشملُ حضورَ اللهِ في مخلوقاتِه. لا يمكنُ أنْ يُوجَدَ تَعارُضٌ بينَ ما عبَّرَ عنه القدِّيسُ فرنسيسُ في الفقرةِ الَّتي تبدأُ بالتسبيحِ بعدَ المقدمةِ. فالخليقةُ لا تُعارِضُ اللهَ الخالقَ: "اللهُ والخليقةُ هما اللهُ"، أي إنَّهما مُتَّحِدانِ يصعُبُ الفصلُ بينَهما. ولا يبدو هذا مقصودًا من قِبَلِ القدِّيسِ فرنسيس، لكنَّهُ موجودٌ فعليًّا في النصِّ. فإذا كان اللهُ يُسَبَّحُ بواسطةِ جميعِ خلائِقِهِ، فإنَّه يُسَبَّحُ أيضًا من أَجلِ عطيَّةِ كلِّ خليقةٍ للإنسانِ. فالخلائقُ مُتَّحِدَةٌ باللهِ في تسبيحِ الإنسانِ لله، لأنَّ الخلائقَ لا تنفصلُ عن ذاكَ الَّذي وَهَبَها الوجودَ؛ ولكن، اللهُ يُسَبَّحُ أيضًا من قِبَلِ كلِّ خليقةٍ: هذه العطيَّةُ من اللهِ (الخلائق) الَّتي بها، ومن خلالها، يُسبِّحُ الإنسانُ اللهَ العليَّ. وهكذا، يُعانقُ القدِّيسُ فرنسيسُ اللهَ والخليقةَ في نشيدِ تسبيحٍ واحدٍ. إنَّ نشيدَهُ يتميَّزُ باتِّساعٍ مذهلٍ، واندفاعٍ سامٍ، حيثُ يُرفَعُ فيه كلُّ شيءٍ (حَتَّى الأَلمِ والموتِ) إلى اللهِ في التَّسبيحِ.