موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٢ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥

سر المذود الحجري

بقلم :
مايكل عادل ماركو - المجر
سر المذود الحجري

سر المذود الحجري

 

في ليلة هادئة من ليالي الشتاء الباردة، حيث يغلف الصمت تلال بيت لحم (Bethlehem)، وُلد طفل في مذود متواضع. إن تفاصيل قصة الميلاد، كما وردت في إنجيل لوقا، لم تكن مجرد سرد لحدث عابر، بل كانت تحمل "شيفرة" خاصة موجهة لفئة محددة من الناس: الرعاة. هؤلاء الرعاة لم يكونوا مجرد شهودًا عشوائيين، بل كانوا جزءًا من خطة إلهية محبوكة بدقة، تربط بين التاريخ القديم والفداء الأبدي.

 

 

جغرافية الخلاص: "مجدل عدر"

 

دعونا نبدأ رحلتنا من قلب التاريخ القديم، حيث تتقاطع الجغرافيا مع النبوءات الإلهية. في بيت لحم، المدينة الصغيرة التي اختارها الله لتكون مسرحًا لأعظم حدث في الكون، توجد منطقة تُعرف باسم "مجدل عدر " (Migdal Eder)، أو "برج القطيع". ليس هذا المكان مجرد مرعى عشبي عادي، بل هو موقع مشحون بالرموز والتنبؤات. يقول النبي ميخا في سفره (ميخا 4: 8)، قبل الميلاد بسبعمائة عام تقريبًا: "وَأَنْتِ يَا بُرْجَ الْقَطِيعِ، يَا تَلَّ ابْنَةِ صِهْيُونَ، إِلَيْكِ يَأْتِي الْمُلْكُ الأَوَّلُ، مَلِكُ إِسْرَائِيلَ". هذه الكلمات ليست شعرًا قديمًا، بل إعلانًا نبويًا يشير بوضوح إلى مجيء المسيا، الملك الحقيقي، الذي سيبدأ ظهوره في هذا البرج بالتحديد.

 

تاريخيًا، وبحسب المصادر اليهودية القديمة مثل المشناة  (Mishnah)، كانت الأراضي الواقعة بين بيت لحم (Bethlehem) والقدس (Jerusalem) – والتي تبعد حوالي 8-10 كيلومترات – مخصصة لغرض واحد مقدس: تربية الأغنام للهيكل. هؤلاء الرعاة لم يكونوا عاديين يبيعون الصوف أو اللحم للطعام اليومي؛ بل كانوا رعاة كهنوتيين، يعملون في خدمة الهيكل في القدس (Jerusalem)، مسؤولين عن تربية "حملان التميد" – الذبائح اليومية الصباحية والمسائية – وذبائح الفصح السنوية.

 

هذه الحملان كانت تتطلب "قداسة" و"خلوًا من العيوب" منذ لحظة ولادتها، كما يفرض الشريعة في سفر الخروج (خروج 12: 5): "يَكُونُ لَكُمْ خَرُوفٌ صَحِيحٌ ذَكَرٌ ابْنُ سَنَةٍ، تَأْخُذُونَهُ مِنَ الْخِرَافِ أَوْ مِنَ الْمَعْزِ". الدراسات التاريخية، مدعومة بأدلة أثرية، تؤكد أن هذه الفلك كانت مخصصة للذبائح الهيكلية، مما يجعل الرعاة شهودًا مثاليين لمجيء "الحمل الحقيقي".

 

 

المذود الحجري: مهد الحملان

 

في هذا السياق التاريخي العميق، يأخذ وجود يسوع في المذود معنى لاهوتيًا مذهلاً. المذود في إسرائيل القديمة لم يكن سلة من القش أو صندوقًا خشبيًا، بل كان يُنحت غالبًا من الحجر الجيري الصخري، ليكون حوضًا قويًا وثابتًا، كما كشفت الحفريات الأثرية في منازل القرن الأول. في موسم الولادة، كان هؤلاء الرعاة الكهنوتيون يتعاملون مع الحملان المولودة حديثًا بحذر شديد. وفقًا لبعض التقاليد والتفسيرات التاريخية اليهودية، كانوا يلجأون إلى "تقميط" الحملان (لفها بشرائط من القماش) لمنعها من إيذاء نفسها، مثل كسر عظم أو خدش جلد، مما يجعلها مرفوضة للذبح.

 

ثم يضعونها في التجاويف الحجرية (المذود) لتكون بمأمن من الدوس أو الحركة العنيفة حتى يتم فحصها للتأكد من كمالها. هذا الإجراء، الذي يُنسب إلى ممارسات رعوية قديمة للحفاظ على الحملان المقدسة، يعكس الدقة في الالتزام بالشريعة.

 

 

العلامة التي لا تُخطئ

 

عندما ظهر الملاك للرعاة، قال لهم: "وَهَذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ" (لوقا 2: 12). لماذا اعتبر الملاك أن هذه "علامة"؟

 

لو كان يسوع طفلاً عاديًا في بيت عادي، لكان وجوده في سرير أمرًا طبيعيًا. ولو كان مجرد طفل فقير، لربما وُضع على الأرض. لكن الجمع بين "طفل بشري" و"مذود حجري" و"قماط" كان رسالة بصرية صاعقة لهؤلاء الرعاة المتخصصين. لقد فهموا الرسالة فورًا: "اذهبوا لتروا الحمل الحقيقي. لقد وُلد في نفس المكان الذي تولد فيه ذبائحكم، ووُضع في نفس المذود الذي تضعون فيه أثمن ما لديكم، ليكون هو الذبيحة الكاملة". هنا، يقدم الله رسالة مباشرة، تربط بين عملهم اليومي والفداء الإلهي.

 

 

من المذود إلى الصليب

 

عيد الميلاد ليس مجرد تذكار لولادة طفل، بل هو احتفال بتجسد الله نفسه في الجسد البشري. اللاهوت المسيحي يعلمنا أن يسوع، ككلمة الله الأزلية، أخلى ذاته وأخذ شكل عبد، ليصبح الذبيحة الكاملة التي تفوق كل الذبائح السابقة. في نظام الهيكل القديم، كانت الذبائح الحيوانية مؤقتة، تحتاج إلى تكرار يوميًا وسنويًا، لأنها لم تكن قادرة على إزالة الخطية بشكل نهائي.

 

أما يسوع، فهو "الحمل بلا عيب"، الذي وُلد في مكان مخصص للحملان المقدسة، ليعلن أن فداؤه سيكون كاملاً وأبديًا. كما يؤكد يوحنا المعمدان: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يوحنا 1: 29). هذا الرمز يدعونا إلى التأمل في كيفية اختيار الله للتواضع: لم يولد في قصر ملكي أو هيكل مزخرف، بل في مذود، ليعلن أن خلاصه متاح للجميع، خاصة المتواضعين والمهمشين مثل الرعاة.

 

من الناحية اللاهوتية، يرتبط هذا السر بمفهوم "الفداء" في المسيحية. يسوع، كحمل الفصح، يذكرنا بقصة خروج بني إسرائيل من مصر، حيث كان دم الحمل على الأبواب علامة للنجاة من الموت. اليوم، دم يسوع المسفوك على الصليب هو الذي يحمينا من موت الخطية الأبدي.

 

هنا يكتمل المعنى الروحي لعيد الميلاد: لم يكن يسوع مجرد طفل فقير اضطرت الظروف أهله لوضعه في مكان للحيوانات، بل كان هذا ترتيبًا إلهيًا ليعلن هويته منذ اللحظة الأولى. هو حمل الله: وُلد وسط الحملان ليعلن أنه "حمل الله الذي يرفع خطية العالم". هو بلا عيب: كما كانت الحملان تُحفظ في المذود لتظل بلا عيب، حُفظ يسوع "قدوسًا وبلا خطية" ليكون مؤهلاً للفداء. هو الذبيحة: المذود كان يشير إلى وجهته النهائية، من المذود إلى الصليب.

 

في بعض التقاليد، حتى إذا كان هناك خشب في المذود، فإنه يمهد للصليب الذي سيرفع عليه. لقد رأى الرعاة في هذا الطفل تحقيقًا لعملهم اليومي الشاق؛ كل تلك الدماء التي سُفكت من ملايين الحملان عبر القرون في هيكل القدس، كانت مجرد "ظلال" تشير إلى هذا الطفل. لم يكن المذود مجرد سرير طوارئ، بل كان المذبح الأول الذي قُدم عليه المسيح للعالم، قبل أن يُقدم على مذبح الصليب.

 

لنفكر أيضًا في الدروس الروحية التي يقدمها هذا الحدث لنا اليوم. الرعاة، الذين كانوا يُعتبرون في المجتمع اليهودي أدنى درجات، كانوا أول من تلقى البشرى السارة. هذا يعلمنا أن الله لا ينظر إلى المناصب أو الثراء، بل إلى القلب المفتوح.

 

في عيد الميلاد، نحن مدعوون لنكون مثل هؤلاء الرعاة: نترك مراعينا اليومية – سواء كانت أعمالنا أو همومنا – ونسارع إلى لقاء يسوع. تخيل إذا طبقنا هذا في حياتنا: بدلاً من الغرق في الروتين، نجعل العيد وقتًا للصلاة العميقة، لقراءة الكتاب المقدس، ولخدمة الآخرين كما خدم يسوع. كما أن رمزية الحمل تدعونا إلى فحص أنفسنا: هل نحن "خالون من العيوب" أمام الله؟ بالطبع لا، لكن خلاص يسوع يغطينا، يجعلنا مقبولين في حضرته.

 

 

ختاماً

 

أخيرًا، ونحن نختتم رحلتنا هذه، دعونا نتذكر أن عيد الميلاد هو احتفال بالأمل الذي لا ينتهي. في مذود بيت لحم بدأت قصة فداء تغير مجرى التاريخ، تحول الظلام إلى نور، والموت إلى حياة. في هذا الميلاد، عندما نتأمل في المغارة، دعونا لا نرى فقط طفلاً وديعًا، بل نرى "حمل الفصح" الحقيقي.

 

لقد تجسد الطفل يسوع ليُضجع في مذود حجري بارد، ليقول لكل واحد منا: "لقد ولدتُ لكي أموت من أجلك. أنا هو الحمل الذي سيغسلك من كل خطية، وأنا هو الراعي الذي سيقودك إلى الحياة الأبدية." إن دم هذا الحمل، الذي أُعلن عنه في المذود، هو وحده القادر أن يطهرنا، ويصالحنا مع الله بعهدٍ جديد وأبدي.

 

فهل ستسمح لهذا السر أن يغير قلبك هذا العيد؟ دعونا نرفع أصواتنا مع الملائكة: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة".