موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
إنَّ عيد الميلاد المجيد ليس مجرد ذكرى سنوية، بل هو نقطة تحوّل محورية في تاريخ الإنسانية والعهد الإلهي، يمثل تجسيد المحبة الإلهية في صورة طفل وُلد في مغارة متواضعة. إنه احتفال بتجسد كلمة الله، يسوع المسيح، الذي أتى ليُشرق النور في ظلمات عالم مضطرب، ويقدم للبشرية طريق الخلاص والسلام.
أولاً: تحقيق النبوءات وولادة النور
تبدأ قصة الميلاد بالانتظار الطويل لـ "مسيا" الموعود، الذي تنبأ عنه الأنبياء منذ قرون. فقد كانت ولادته إتمامًا دقيقًا لهذه الوعود القديمة، معلنة بداية عهد جديد. "لِذلِكَ يُعْطِيكُمُ الرَّبُّ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ" (إشعياء 7: 14).
عِمَّانُوئِيلَ" تعني "الله معنا"، وهذا هو جوهر الاحتفال: انتقال الله من سُمُوّه المطلق ليصير بين البشر، مشاركًا إياهم حياتهم ووجودهم. ولقد حددت النبوءات مكان ولادته، مؤكدة على أصالة الحدث الإلهي: " أما أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ." (ميخا 5: 2).
ثانياً: بساطة الحدث وعظمة الرسالة
تكمن المفارقة العظيمة للميلاد في التباين بين عظمة المولود وبساطة مكان ولادته. لم يولد الملك المنتظر في قصر فخم، بل في مغارة متواضعة بمدينة بيت لحم، ووُضع في مذود، وهي رسالة بحد ذاتها تؤكد على التواضع و التجرّد.
أول من بشّر بهذا الحدث العظيم لم يكونوا الملوك أو الأمراء، بل كانوا الرعاة الساهرين في الحقول، وهم الطبقة الأبسط في المجتمع. لقد أعلن لهم الملاك السر، مبددًا خوفهم "فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ." (لوقا 2: 10-11). ثم ارتفع صوت الملائكة بتسبيحة أزلية ترددها الكنائس حتى اليوم، وهي قمة إعلان السلام الإله "اَلْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ" (لوقا 2: 14).
ثالثاً: الميلاد كدعوة للتجسد في الحياة
إن الميلاد ليس مجرد قصة حدثت وانتهت، بل هو دعوة مستمرة لنا لنستقبل المسيح في حياتنا، وقلوبنا، وبيوتنا، لنتحول إلى قُدوة في المحبة والرجاء. كما أن الميلاد هو أساس رجائنا في الحياة الأبدية والخلاص من الخطية: "لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا 3: 16).
عيد الميلاد يدعونا للتأمل في هدايا المجوس (الذهب والبخور والمُر) كرموز لحياتنا:
• الذهب: اعتراف بملكه الأبدي وسلطانه.
• البخور: إشارة إلى لاهوته وكونه إلهاً يُعبد.
• المُر: نبوءة مبكرة عن آلامه ودفنه وقيامته، التي هي كمال رسالة التجسد.
رابعا : شجرة الميلاد والمغارة وبابا نويل والمعايدات والهدايا وسائل ام هدف!
سؤال عميق يلمس جوهر العيد. الإجابة المختصرة هي أنها وسائل وليست أهدافاً، لكن قيمتها تكمن في ما ترمز إليه وفي المشاعر التي توقظها فينا.
إليكم تحليل بسيط للفرق بين "الوسيلة" و"الهدف" في زينة وتقاليد الميلاد:
1. الهدف: الجوهر الروحي والإنساني
الهدف الحقيقي من الميلاد، بعيداً عن المظاهر، يتركز في قيم عليا:
• تجسد المحبة: الاحتفال بميلاد يسوع المسيح ورسالة السلام.
• التجدد الروحي: ولادة الأمل والرجاء في القلوب المتعصبة أو المتعبة.
• الترابط العائلي: جمع الشمل وتعميق الروابط بين الأهل والأصدقاء.
2. الوسائل: الرموز التي تقربنا من الهدف
تأتي المظاهر التي ذكرتها لخدمة هذا الهدف، ولكل منها دور:
• المغارة: وسيلة بصرية تذكرنا بالتواضع والبساطة وقصة الميلاد الأصلية.
• الشجرة: وسيلة رمزية تعبر عن الحياة الدائمة والنور الذي يبدد الظلمة.
• بابا نويل والهدايا: وسيلة اجتماعية لتعليم العطاء، وإدخال الفرح لقلوب الأطفال، وتجسيد قيمة الكرم (المستمدة من القديس نيقولاوس).
• المعايدات: وسيلة تواصل لكسر الجليد ونشر الكلمة الطيبة بين الناس.
3. يحدث الخلل عندما ننسى الغاية وننشغل بالمظهر، فتتحول الأمور إلى:
• استهلاك مادي: عندما يصبح همنا سعر الشجرة أو فخامة الهدية بدلاً من معناها.
• واجب اجتماعي ثقيل: عندما تصبح المعايدات مجرد "رفع عتب" بدلاً من مودة صادقة.
• تفريغ المحتوى: عندما تغيب "المغارة" (الجوهر) خلف صخب "بابا نويل" (الاحتفال).
هذه العادات هي "لغة" نعبر بها عن فرحنا. وكما أن الكلمات هي وسيلة لإيصال الفكرة، فإن هذه المظاهر هي وسيلة لإيصال "روح العيد". العيد الحقيقي ليس في ما نضعه على الشجرة، بل في ما نضعه في قلوبنا.
خامسًا: جوهر الميلاد الحقيقي
جوهر الميلاد الحقيقي يتجاوز المظاهر ليمسّ العمق الإنساني والروحي. وليس مجرد تمنيات، بل هو فلسفة عيش قائمة على التضامن والمشاركة.
• انه تذكير بأن الغنى ليس في التملك، بل في القدرة على سدّ حاجة الآخر.
• ودعوة لأن نكون البوصلة لمن فقدوا الطريق، ليس بالوعظ بل بالصلاة والقدوة
• والحب هو القوة الوحيدة القادرة على تفتيت التحجر وإعادة الحياة للقلوب الجافة.
• والعبور من الأنانية إلى الجماعية هو الجسر الوحيد الذي يوصلنا إلى مغارة الميلاد.
يظل عيد الميلاد المجيد رمزًا لتجديد، الرجاء، والمصالحة. إنه الوقت الذي تُنسى فيه الخصومات وتُمدّ جسور المحبة، إحياءً لروح الطفل المولود الذي جاء ليُوحِّد لا ليُفرِّق.
في كل عام، يذكرنا الميلاد بأن القوة الحقيقية تكمن في التواضع، وأن النور الأعظم يولد من أحلك الظروف. فليكن الميلاد مناسبة ليولد في كل قلب منا سلام جديد، فننطلق حاملين رسالة المحبة التي وُلد لأجلها: "الله معنا".
ولد المسيح … هللويا