موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عيدُ العائلة الـمُقدّسة (أ)
الـمُقدّمة
نحتفل في الطقس اللّاتيني كعادتنا، بعيد العائلة الـمقدّسة في الأحد التالي لـميلاد الرّبّ. حيث إننا بعد أنّ إستقبلنا السرّ الإلهي الّذي ظهر في الجسد والإنسانيّة بعالـمنا البشري، نبدأ بالإحتفال الحقيقي لهذا السرّ داخل الأسرة والّتي تتمثل في والديّ يسوع البشريّين مريم ويوسف وبحضور يسوع. هذه هي الأسرة الّتي رغب الله فيها منذ خلق الإنسان. فتأتي الليتورجيا لتنيرنا في هذا العيد بنصيّ من كلا العهدين. من العهد القديم سنتوقف أمام كلمات سيراخ الحكيم (3: 1-17) الّتي تأتي كلماته كشعاع يضوي على أسرنا فيشع بالجديد على شكل العلاقة بين الوالدين والأبناء. وبالتوازي لهذا النص سنتعمق معًا في كلمات متّى الإنجيليّ (2: 13-23) الّذي يقتصر على متّى مشاركًا إيانا بترحال أسرة يسوع لتحقيق النجاة للطفل الإلهي واللجوء إلى مصر بسبب هيرودس الطاغية. تأتينا كلمات كلا العهديّن مشيران على أهيمّة الوالدين البشرييّن في حياة الأبناء وأهميّة الأبناء في حياة الوالدين. فكلاً منهما كنز للآخر. نهدف من خلال هذا الـمقال بالتركيز اللّاهوتي بكشف مخطط الله بالنصيّين بأنّ الوالدين هم كنز الأبناء والأبناء كنوز لوالديهم.
1.إكرام الوالديّن (سي 3: 1-16)
يفتتح الحكيم ابن سيراخ هذا الإصحاح في الحوار مع بنيّه بتوصيتهم بالوالديّن قائلاً: «يا بَنِيَّ اسمَعوا لي أَنا أَبوكم واعمَلوا هكذا لِكَي تَخلُصوا فإن الرَبَ أَكرَمَ الأَبَ في أَولادِه وأًثبَتَ حَق الأمِّ على بَنيها» (سي 3: 1- 2). هذه التوصيّة تربط بين نعمة الرّبّ للأبناء الّتي تظهر في الوالديّن، لذا مدعويّن الأبناء بإكرام والديهم بل يصير الـمدخر لكنور إلهيّة لا ثمن لها بتشديده: «مَن أكرَمَ أَباه فإِنَّه يُكَفر خَطاياه ومَن عَظمَ أُمَّهَ فهو كَمُدَّخِرِ الكُنوز. مَن أَكرَمَ أَباه سر بِأَولادِه وفي يَومَ صَلاتِه يُستَجابُ لَه. مَن عَظَّمَ أَباه طالَت أيَامُه ومَن أَطاعَ الرَّبَّ أَراح أُمَّه. ويَخدُمُ والِدَيه كأنهما سَيِّدانِ لَه [...] فانَّ الإحسانَ إلى الأبِ لا يُنْسى وُيعوَضُ به عن خَطاياكَ. في يَومِ ضيقِكَ تُذكَر وكالجَليدِ في الصًّحْوِ تَذوب خَطاياكَ. مَن خَذَلَ أباه كانَ كالـمُجَدّف ومَن أَغاظَ أمَّه فلَعنَةُ الرَّبً علَيه» (سي 3: 3- 16). بعد أنّ عَدّد، الكاتب الحكيم، الكثير من النعم الّتي ينالها الأبناء الـمُكرميّن لوالديهم ضامنًا الخلاص لهم. ويختتم هذ الـمقطع بالتحذير لـمَن يخذلهم ومَن يغيظ والديّه يُصاب بلعنة إلهيّة. يهدف الحكيم بالتواصل البنويّ بين الأبناء وأبائهم يكون الدليل على كشف الرّبّ عن نعمه الإلهيّة لكليهما. مدعويّن على الحافظ بدون تجاهل لوالدينا فهم بمثابة نِعم الله علينا إذ أنّ هباته كثيرة ولا تُحصى من خلالهم.
2. الدور الأبويّ ليوسف (مت 2: 13-15)
بناء على كلمات الحكيم، يروي متّى الإنجيليّ بحدث فريد يقتصر عليه في بشارته وهو إنّه بعد زيارة الـملوك الغرباء للطفل الإلهيّ الّذين إكتشفوا سرّه من خلال دراساتهم وعلومهم الفلكيّة نجحوا في أنّ يتعرفوا بل يسجدوا للـملك الإلهي. وبتتابعنا الأحداث الجديدة الّتي تطرأ على الطفل الإلهيّ مع مريم ويوسف ويكشف لنا الإنجيليّ دور مميّز ليوسف ابن داود مُشيراً بأنّ رسائل الرّبّ له مستمرة من خلال الأحلام: «كان بَعدَ انصِرافِهم [الـمجوس] أَنْ تَراءَى مَلاكُ الرَّبِّ لِيوسُفَ في الحُلمِ وقالَ له: «قُم فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه واهرُبْ إِلى مِصْر وأَقِمْ هُناكَ حَتَّى أُعْلِمَك، لأَنَّ هيرودُسَ سَيَبْحَثُ عنِ الطِّفلِ لِيُهلِكَه». فقامَ فأَخَذَ الطِّفْلَ وأُمَّه لَيلاً ولَجَأَ إِلى مِصر. فأَقامَ هُناكَ إِلى وَفاةِ هيرودُس، لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ: "مِن مِصرَ دَعَوتُ ابني"» (مت 2: 13- 15). وهنا نُصدم بهذا الخبر إذ بعد مسيرة الحبّ الإلهيّ الّتي تكشف حبّ الله لنا كبشر هناك من البشريّين يبحثون عن ابنه ليهلكونه! ويفاجئنا متّى برعاية وحبّ يوسف كعادته الّذي إلتقي بالرّبّ في الحُلم ليكشف له عن الجديد في مخططه إذ على يوسف الآن، وهو بمثابة أب يسوع الأرضي أنّ يرعاه ويحرسه بل ويحافظ عليه ليُتمم مشيئة أبيه. وهنا يأتي الأمر الإلهي من جديد بأنّ يأخذ الطفل وأمه وينطلقوا معًا إلى مصر حتى يعلمهم من جديد ملاك الرّبّ بوقت العودة. يوسف رجل الصمت والطاعة يقوم بتنفيذ ما طلبه الرّبّ منه ليتم نجاة الطفل الإلهيّ.
لـماذا مصر؟ يبدأ الطفل مسيرته بربط العلاقات الـمفقودة وشعب مصر الّذي كان عدواً لبني إسرائيل بالـماضي (راج خر 3- 13) يصير اليّوم شعبًا صديقًا ويصبح البلد الّذي يستقبل يسوع ابن داود وملك العالم. وتبدأ صفحة جديدة من الإخوّة والصداقة بين بني إسرائيل والـمصريّين من خلال حماية مصر لابن الله. ولهذا بالرغم من حالة فزع يوسف وسرعة الـهروب الّذي تمّ بشكل مُفاجئ وسريع نجد أنّ الرّبّ يختار مكانًا جديداً ليحميّ ابنه وبمرافقة يوسف ومريم في أوّل رحلة خارج أرض فلسطين حفاظًا على حياته وهي مصر. ومن جديد نجد يوسف رجل الطاعة والإنتماء لله إذ يتبع هذه الإيحائات الإلهيّة مُنفذاً ما يخبره الرّبّ به من خلال الحُلم. الأبناء كنوز للوالديّن وأيضًا سيصران هكذا ليسوع عندما يكبر فيكون طائعًا وخاضعًا لهما (راج لو 2).
3. الـملك الضعيف (مت 2: 14-18)
بدأت مسيرة ترحال أسرة يسوع بسبب إضطهاد هيرودس لابن الله وبدأت أيضًا مسيرة لإنقاذ ابن الله حيث يروي متّى الإنجيلي إتمام نبؤة بالـماضي بأنّ غضب هيرودس من الـمجوس الساخرين منه لجهله بالـملك الإلهي الـمولود في بلاده إذ إنّه: «استَشاطَ غَضَبًا وأَرسَلَ فقَتلَ كُلَّ طِفلٍ في بَيتَ لحمَ وجَميعِ أَراضيها، مِنِ ابنِ سَنَتَيْنِ فما دونَ ذلك، بِحَسَبِ الوَقْتِ الَّذي تَحقَّقَه مِنَ الـمجوس. فتَّم ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيِّ إِرْمِيا: "صوتٌ سُمِعَ في الرَّامة بُكاءٌ ونَحيبٌ شَديد راحيلُ تبكي على بَنيها وقَد أَبَتْ أَن تَتَعزَّى لأَنَّهم زالوا عنِ الوُجود"» (مت 2: 16- 18). تأتينا إتمّام النبؤة بحسب أرميا (راج ار 31: 15- 18) والّتي دُونت في القرن السابع قبل الـميلاد تقريبًا إذ أنّ حزن وبكاء الإمهات على أطفالهم الرضع، الّذين لا حول ولا قوة لهم، تمّ تحقّقها في وقت يسوع. بل تم فداء الابن الإلهيّ بدماء هولاء الأطفال الأبرياء بسبب الـملك الطاغيّة الّذي كان يسعى على الحفاظ على عرشه ومُلكه من خلال قتله لأطفال أبرياء.
نفذ هيرودس الطاغية جريمته في زمن الطفل الإلهيّ من خلال مذبحته للأطفال أبرياء، نقرأ هذا الحدث في سيّاق الزّمن الـميلاديّ مما يُثير دهشتنا كمؤمنيّن. إذ نجد أنّ صيحة حياة الطفل الإلهيّ الجديدة تُصاحبها صيحات الألم، وفرحة مريم الأمّ عند ولادتها الابن الإلهي تُصاحبها دموع الأمهات الحزانى على قتل أبنائهم ظلمًا. لكن في الحقيقة، نجد هنا رواية لـمملكتين تلتقين وتتشابكن، مملكة الخوف ومملكة الحبّ، مملكة الرعب ومملكة الحريّة. من خلال ملكان يعيشان في ذات الوقت وهما هيرودس والطفل يسوع. في هذا النص، ومن المفارقات بين هذين الملكيّن، تُنبئنا أحداث الـميلاد بما ستكون عليه رسالة الطفل الإلهيّ من خلال السيّاق الإنجيليّ بأكمله وهو يفتتح طريقًا جديداً لنا من خلال إتمام الخلاص الـمنتظر.
أولًا هيرودس الـملك وهو بمثابة رجلٌ الّذي استبدّ به الخوف من أنّ يُهدد أحدٌ سلطته، أمر بقتل جميع أفراد عائلته تقريبًا. هيردوس هو رجلٌ قوي، لكنه في الوقت نفسه ضعيفٌ للغاية، يبدو شجاعًا، لكنه في الحقيقة ممزقٌ بسبب خوفه وحالة الرعب الّتي بثّها فيه مَن حوله، قد سيطر الخوف على قلبه. هيرودس هو صورة مُصغرة لـمملكة الخوف والحزن. في مملكته، لا مفرّ من قتل الأطفال أي مستقبل البلاد، وزوال علامات الأمل. فشل هيرودس في أنّ يفرح بخير الآخرين؛ فهو لا يؤمن بوجود مكان لآخر سواه. بالنسبة له، فرح الآخرين ليس إلّا تهديدًا، ولذلك يجب استئصاله في مهده. يسوع ذلك الطفل الهشّ الّذي وُلد في بيت لحم، بالنسبة لهيرودس يهددٌ سلطته. كم من هيرودس بعالـمنا اليّوم يخاف ويؤمن مملكته من الـممتلكات الـماديّة ويخسر الكثير من العلاقات ويدمر آخرين!
4. كنز أسرة يسوع (مت 2: 17- 23)
يتمّ رجوع مريم ويوسف والطفل من مصر والإقامة بمدينة الناصرة بحسب الحُلم الّذي أعلن فيه الرّبّ عن العودة إذ: «وما إن تُوُفِّيَ هيرودُس حتَّى تراءَى ملاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ لِيُوسُفَ في مِصرَ وقالَ له: "قُمْ فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه واذهَبْ إِلى أَرضِ إِسرائيل، فقد ماتَ مَن كانَ يُريدُ إِهلاكَ الطِّفْل". فقامَ فأَخذَ الطِّفْلَ وأُمَّه ودَخَلَ أَرضَ إِسرائيل. لَكِنَّه سَمِعَ أَنَّ أَرخِلاَّوُس خلَفَ أَباهُ هيرودُسَ على اليَهودِيَّة، فخافَ أَن يَذهَبَ إِليها. فأُوحِيَ إِليه في الحُلم، فلجَأَ إِلى ناحِيَةِ الجَليل. وجاءَ مَدينةً يُقالُ لها النَّاصِرة فسَكنَ فيها، لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ الأَنبِياء: "إِنَّه يُدعى ناصِريّاً"» (مت 2: 19- 23).
تُقارن مملكة هيرودس بمملكة الطفل المولود في بيت لحم. إنه قوي حقًا! هيرودس مغتصب، والطفل هو ابن داود. إنه رضيع أعزل، ومع ذلك يسيطر على المشهد ويسخر من المتنمر. ابن بار لأبيه داود، الذي هزم العملاق جليات بالمقلاع. يأتي إليه المجوس الحكماء من الشرق ليسجدوا له، بدون إكراههم بالقوة، فهم ينجذبون إلى نجمه. من خلال ظهور الملائكة للرعاة، كحراس ومنشدون للخير، يحمون حياته. يسوع، ذلك الطفل، هو القويّ في تاريخنا سيعرف كيف يفرح بخير الآخرين. عاشت أسرة الناصرة خبرة فريدة إذ جازفوا بالهروب مع طفل منذ مولده. مريم ويوسف حُراس وابويّ يسوع قاموا بالحفاظ على كنزهم وهو يسوع وفيما بعد سينمو يسوع في النعمة والقامة محافظًا ومُطيعًا لأبويّه البشريّين بالخضوع لمريم ويوسف محافظًا عليهما ككنوز لحياته البشريّة بالرغم من علمه بأنّ الله الآب هو أبيه. مريم ويوسف ويسوع مثال كلّ السر الـمسيحيّة الّتي تنتمي للرّبّ حيث يضع بفيضه كنوزاً لحياتنا كأبناء وفي هذا العيد الأُسري مدعويّن بالنظر لأبنائنا بأنّهم كنوز من قِبل الرّبّ لنا. فما علينا إلّا أنّ نقبل بشكر كنوزه ونحافظ عليها بأكرام وتقدير لأعضاء أسرتنا.
الخلّاصة
في هذا الـمقال الّذي أعطيناه عنوانًا بالـ "الكنز الأُسريّ" ناظريّن لطفل بيت لحم الـمُحاط بموكب من الأطفال الأبرياء، وبقلبيّن بشرييّن وهما قلبيّ مريم ويوسف والديه بحياته الأرضيّة. كما كشف لنا الحكيم سيراخ (3: 1- 17) بأنّ الأبناء مدعوين للحفاظ على الوالدين ككنوز وأوصى بالطاعة والإحترام. خكذا نجد حبّ مريم ويوسف للابن الإلهيّ الضعيف أمام تحربة صعبة من قِبل هيرودس بحسب بشارة الإنجيلي الأوّل (مت 2: 13- 23). حيث كشف عن رعاية مريم ويوسف الفائقة ليسوع الضعيف. في الألم وأمام التجارب تظهر قيمة وقوة الأسرة بل كنزها الحقيقيّ. ففي علاقة مريم ويوسف ويسوع مثال لُأسرنا اليّوم مدعوين للتعلم بالـمخاطرة والمجازفة للحفاظ على الكنز الأسريّ الّذي لا يماثله كنوز العالم بأجمعها. لنكون سعداء بأسرتنا الّتي إختارها الرّبّ لنا، ونطلب بركات أسرة الناصرة الـمباركة يسوع ومريم ويوسف ونبارك الآب على بذور ملكوته الّتي يزرعها بوفرة في تاريخنا الأسري يومًا بعد يوم. دُمتم كنوز لأسركم ومباكين من قِبل الرّبّ برفقة أسرة الناصرة الـمباركة.