موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١١ يوليو / تموز ٢٠٢٥

الذكاء الاستراتيجي كقوة استباقية لإعادة تشكيل القرار في عصر الذكاء الاصطناعي

د. لبنى حنا عماري

د. لبنى حنا عماري

د. لبنى حنا عماري :

 

علينا أن ندرك تماماً أن اتخاذ القرار لم يعد نشاطًا عقليًا محضًا ينحصر في حدود الإدراك البشري، بل غدا ثمرة تفاعل معقّد بين البصيرة الإنسانية والخوارزميات الذكية. لقد تجاوز الذكاء مفهومه التقليدي، ليتحوّل إلى بنية معرفية هجينة تتشابك فيها قدرات الإنسان التأويلية مع كفاءة الآلة التحليلية، في مشهد يعكس ولادة نمط جديد من التفكير "الذكاء الاستراتيجي". هذا الذكاء لا يُقاس بسرعة الاستجابة أو دقة التنبؤ فقط، بل بقدرته على استشراف التعقيد وتطويعه لصالح القرار الهادف، إذ باتت الخوارزميات قادرة على معالجة كميات هائلة من البيانات واستخلاص الأنماط الخفية، فيما لا تزال ملكة الإنسان الأخلاقية وقدرته على فهم السياقات الدقيقة هي التي تمنح القرار عمقه الإنساني ومشروعيته الأخلاقية. من هنا لا تُختزل العلاقة بين الإنسان والآلة في التنافس أو الإحلال، بل تُعاد صياغتها كشراكة معرفية واستراتيجية، تقود فيها البصيرةُ الإنسانَ ليكون العقل الأخلاقي الذي يوجّه الذكاء الاصطناعي نحو مستقبل أكثر عدلًا واتزانًا. فالعالم يتغير بسرعة مذهلة، غير أن الحكمة وحدها تظل العامل الثابت في معادلة القرار الرشيد.

 

وما نشهده اليوم من تسارع في تطور ما يعرف بـالأنظمة التنبؤية والذكاء التوليدي، جعل من الممكن معالجة كميات هائلة من البيانات لحظيًّا، والتنبؤ بتوجهات الأسواق أو سلوك المجتمعات أو احتمالات النزاع. إلا أن هذا الكم الهائل من المعلومات قد يتحول إلى عبء إذا لم يُصغ ضمن إطار استراتيجي يحدد الأولويات ويفرز المهم من الثانوي. وهنا تظهر أهمية الذكاء الاستراتيجي، ليس فقط بوصفه قدرة على الاستجابة الفورية، بل كمنظور شامل يُمكّن متخذ القرار من تحويل البيانات إلى رؤى، والرؤى إلى خطوات قابلة للتنفيذ.

 

الذكاء الاصطناعي الاستراتيجي لا يقتصر على أدوات الدعم التقني، بل يمتد ليصبح جزءًا من ثقافة القرار داخل المؤسسات والدول. فالمؤسسات الرائدة اليوم لا تكتفي بجمع البيانات أو الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، بل تسعى إلى بناء منظومات متكاملة توظف الذكاء الاصطناعي بطريقة تُمكّنها من التنبؤ بالتحديات واستباق الأزمات قبل وقوعها. ولعل هذا ما يفسر التوجه العالمي نحو إنشاء مراكز مخصصة للذكاء الاستراتيجي المدعوم بالذكاء الاصطناعي، سواء في ميادين الأمن القومي أو إدارة الأزمات أو الحوكمة العامة.

 

في هذا الإطار، يُنظر إلى الذكاء الاستراتيجي كأحد أركان الحوكمة المستقبلية، أي ذلك النموذج من القيادة القائم على الشفافية، والتكيف السريع، والتقييم المستمر للقرارات المتخذة. وقد بدأت حكومات وشركات عالمية تعتمد على منصات ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل التغيرات العالمية المعقدة من تقلبات المناخ، إلى الحروب السيبرانية، إلى تحولات القوى العاملة وتوليد توصيات قائمة على نماذج رياضية ومعرفية شديدة التعقيد. ومع ذلك، يبقى الإنسان هو الضامن لأخلاقيات القرار، والموجّه للآلة نحو حلول لا تفقد البعد الإنساني وسط سباق الأتمتة والتقنيات العالية.

 

إن مستقبل الذكاء الاستراتيجي في ظل الذكاء الاصطناعي لا يقوم على تقويض الدور البشري أو تجاوزه، بل على التكامل البنّاء. تكامل يعترف بتفوق الآلة في الحساب والمعالجة، وبتفرد الإنسان في الحكمة والحدس. وهذا التكامل هو ما يمنح القرار اليوم عمقًا جديدًا يتجاوز رد الفعل إلى الفعل الاستباقي، ويحوّل التحديات المعقدة إلى فرص قابلة للتحقيق. ومن هنا فإن الاستثمار في الذكاء الاستراتيجي لم يعد ترفًا فكريًا أو خيارًا إداريًا، بل ضرورة وجودية في عصر باتت فيه الخوارزميات تؤثر في القرارات الكبرى، من السياسة إلى الطب، ومن الأمن إلى الاقتصاد.

 

(خبرني)