موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٣ مارس / آذار ٢٠٢٠

أثمن من الطيور

بقلم :
د. رامي نفّاع - الأردن
لا تخافوا... أنتم أثمن من الطيور

لا تخافوا... أنتم أثمن من الطيور

 

ما الذي يجعل من كوكب الأرض مميزاً في هذا الكون؟ سؤال هيمن على تفكيري حين عرفت حجم الأرض نسبة إلى حجم الكون، صدمة كبيرة بل لربما خيبة أمل، إذ لا أجد ما يمكن أن أصف أو أشبه به هذه النسبة لأجعلها قابلة للتصور، لكنها على أحسن تقدير لا تتجاوز حجم جناح البعوضة أما الشمس، في تصور تقريبي يرمي لتقريب الصورة أو تمثلها. وأمام هذا الوعي الصادم أجد نفسي مرهوناً لسؤال القيمة، أين تكمن قيمة الأرض أمام هذا الكون الأخذ بالاتساع؟

 

شلت هماً في ظني مهما، يجب علينا كبشر أن نري حقيقة الأرض التي ما توقف النزاع على كل شبر منها، وما رافق هذه النزاعات من حروب ودمار وعذاب جسدي ونفسي. فكم من البشر مبتور الساق أو اليد؟ كم فاقدٍ لأب أو ولد؟ كم فقدنا من أهل وأصدقاء وجيران؟ كم شوهت أجسام وقلوب؟ أنه الموت... ذلك الظل الثقيل المظلم والدائم. أتعلم يا صديقي أن للموت رائحة يشتمها الأحياء، رائحة تشبه صوت الصمت، تحمل معها الأحياء من قاع الجهل إلى ناصية الوعي، الوعي يسهم في جعلنا نرى الأشياء على حقيقتها، والحقيقة أحياناً مخيفة، وهنا لا بد لي أن أقدم اعتذاري للسيد المسيح، لأنني وعلى الرغم من تكراره الدائم وتوصيته لي وللجميع "لا تخافوا"... إلا أنني خائف...

 

وجود الإنسان عليها، نعم هنا تكمن أهمية الأرض، بسبب وجود هذا المخلوق المُسمى "إنسان"، هو ما يعطي الأرض قيمة على الرغم من صغر حجمها. وهذا في حكم العاقل يعني أنه يجب علينا الاهتمام بالإنسان أيما اهتمام، والمحافظة عليه وعلى ديمومة وجودة، وهذا يكون بالسلام لا الحرب، وبتوزيع النعم والخيرات لا احتكارها، بنشر الحب والخير لا الكره والشر. إننا مدعون لبث ثقافة الحياة، لكن الناظر إلى الواقع الذي نعيشه لا بد وأن يشعر بالخوف الذي أشعر به، ذلك أن ثقافة الموت هي السائدة عوضا عن ثقافة الحياة، حتى باتت أرقام الموتى لا تعني شيئا أكثر من كونها رقمًا.

 

ليس للبشر أسماء، إنما أرقام. هم أرقام لا أكثر، حين يُعلن عن أي كارثة أو حادث ما، يذكر عددهم فقط، حتى باتت الأرقام لا قيمة لها، فلم يعد خبر وفات أو مقتل عشرات أو مئات الأشخاص يمثل حدثاً يستحق التوقف عنده. لا قيمة للإنسان في عالم الإنسان. ففي عالم السياسة القيمة للقوة، وفي عالم الاقتصاد القيمة للثروة. الحزن الممزوج بالخوف يؤطر تفكيري، إذا كان هذا حال الإنسان فعلى الدنيا السلام.

 

تخيل معي أني بت أحسد الموجودات غير العاقلة على حريتهم وبساطة عيشهم، فلا هم يهكلون هم الحياة ولا يخافون الموت، أو لا يفكرون فيه، لربما لأنهم لا يفكرون أصلاً ربما، لكن الأكيد أنهم يتنعمون في خير لم يتعبوا فيه، ومحيط يوفر احتياجاتهم وبيئة تناسبهم، فهنيئا لهم. أظن أنهم محظوظين، فالإنسان يرعاهم. أنا من يرعاني؟ وأين أسير في هذا العالم المتخبط؟

 

"الله يرعاني"، هذا ما تقوله إحدى التراتيل المفضلة لدي، ليس فقط يرعاني، إنما يرعاني كما يرعى الأب الأطفال، كم الحنو والعطف والقرب في هذه الرعاية، وهو يحميني أيضا إذا "ساءت بي الأحوال". هذا الأب أبي وربي وإلهي ومخلصي، يعرف همي ومخاوفي وسؤال قلبي، وأجابني على سؤالي قبل أكثر من ألفي عام وطمئنني، وطمئن جنس البشر كله، قال: "لا تخافوا"... "أنتم أثمن من الطيور" (لو 12: 24(.