موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ يوليو / تموز ٢٠٢٢

مسيحيو الشرق وإسهاماتهم الحضارية.. ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً

صورة لعدد من المشاركين في اللقاء

صورة لعدد من المشاركين في اللقاء

الأب رفعت بدر :

 

دعاني منتدى الفكر العربي الرائد للحديث عن مسيحيي الشرق واسهاماتهم الحضارية، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. ولم يكن سهلا اختزال هذا الإسهام الدائم والمستمر، بدقائق قليلة، لكنّها كانت مناسبة لإبداء وجهة نظر، وبالأخص في ظل «المخاوف» التي يضعها المحللون على المستقبل. فقد بتنا نسمع أحيانا عن «قضية» مسيحيي الشرق، وبالأخص بعد تعرّض الكثير منهم لأعمال تضييق وخناق وتهجير قسري، كما جرى مع مسيحي الموصل في الأمس القريب... ودون أن ننسى ما للاحتلال الإسرائيليّ من إفراغ تدريجيّ للفلسطينيين، وبالأخص للقدس الشريف من المسيحيين فيها. ولقد أغنى اللقاء مداخلات لعدد من المفكرين، ابتداءً من مدير المنتدى الدكتور محمد ابو حمور، والشيخ د. محمد النقري من لبنان، والدكتور برنارد سابيلا من القدس، والدكتور هايل الداود والدكتور جمال الشلبي والدكتورة مارسيل جوينات والاستاذة رلى سماعين من الاردن.

 

وقد أهديت كلمتي لروح سيدتين فاضلتين: الاولى الباحثة الراحلة فدوى نصير التي توفيت العام الماضي، بعد أن ألفت قبل سنوات كتاب «المسيحيون العرب وفكرة القومية العربية، 1840-1918»، وبيّنت فيه بأن للمسيحيين العرب اسهامات جليّة في نهضة بلدانهم، ونمو الأفكار القوميّة، وتفعيلها في سياق الحياة العربيّة. والسيدة الثانية هي الشهيدة شيرين أبو عاقلة التي تمّت جنازتها في كنيسة داخل القدس الشريف، لتبين أنّ المسيحيين ما كانوا أبدًا متفرجين على قضايا أمتهم، بل كانوا مسهمين ومضحين بالغالي والرخيص في سبيلها.

 

نعم، لقد تعرّض المسيحيون، طوال العهود، للعديد من المضايقات، ومنها ما تعرضت له مجتمعاتهم كلها، وأصابهم من ورائها ويلات وإنحسار. لكن يبقى المسيحيون «نوّارة الشرق» و«ملح الأرض» على حد تعبير السيد المسيح. ويبقى لهم حضورهم المميّز ونكهته الانفتاحيّة والوديعة، وإسهاماتهم الجليّة والجليلة في الميادين كافة؛ فهم حاضرون، كما كانوا بالأمس، وأيضًا الآن، وغدًا، في الميادين الثقافيّة والعلميّة، وفي ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة والجيش، ويعملون بإخلاص في نهضة مجتمعاتهم.

 

فالماضي حافل باسهامات المسيحيين بنهضة مجتمعاتهم ونموها واستقرارها. أما حاضر المسيحيين، وبعيدًا عن قضية الأعداد والنسب المئوية للحضور، فإنه يسير على إيقاع البلاد التي يسكنون فيها، وهو أحيانًا يعيد بناء نفسه، كما الحال في بلدان ما يسمى «بالربيع العربي»، أو يرمم ما حدث من دمار من الحروب، مثل العراق وسوريا، أو يحاول ان يتحرّر من طائفية سياسيّة ضيقة، لم تعد صانعة للأمن والاستقرار كما في لبنان، أو في إكمال مسيرة العطاء والحضور المميّز كما في الأردن، حيث المسيحيون يسهمون إسهامات جليّة، عبر كنائسهم ومدارسهم وجمعياتهم الخيريّة التي تقدّم المساعدة لكل إنسان بغض النظر عن دينه، سواء كان مواطنًا أصيلًا أو وافدًا محتاجًا.

 

أما بالنسبة للمصير او المستقبل، فلا يعتمد على المسيحيين وحدهم، لانهم ليسوا جزرًا معزولة في هذا الشرق العزيز والمتألم والتائق إلى أيام أفضل، فهم ما زالوا يعيشون بشراكة حضاريّة مع إخوتهم المسلمين، ويقفون «معًا» أمام الله الواحد، في خدمة الإنسان. ويُبنى المستقبل بالحفاظ على التعدديّة، وبتعزيزٍ متواصل لقيم المساواة والمواطنة، وعلى مدّ جسور المودة والتعاون بين مسيحيي الشرق الذين بقوا هنا، وبين إخوتهم الذين هاجروا، سواء أكانت هجرة اختياريّة أم تهجيرًا قسريًّا. كما يُبنى المستقبل على تعزيز المجهود المسكونيّ (أو الوحدة بين الكنائس)، لكي تكون يدًا واحدة وقلبًا واحدًا، وعلى مواصلة الجهود في مختلف بلدان الشرق لإرساء القيم الثابتة والماكنة للديمقراطيّة، والمشاركة المفتوحة للجميع في مختلف الميادين.